لا تزال الجهود المبذولة لإيجاد علاج دوائي للفيروس HIV تصيب نجاحا كبيرا، خلافا للمحاولات الفاشلة لتطوير لقاح مضاد له؛ إذ أجيز أكثر من 25
دواء حتى الآن. كما أن الجمع المناسب بين هذه الأدوية قد يخمد التضاعف
الفيروسي بما يجعل مستوياته في الدم منخفضة إلى درجة يتعذر كشفها
بالاستقصاءات المعيارية. لقد أطالت هذه الخلطات الدوائية الناجعة، التي
اصطلح على تسميتها مجتمعة المعالجة المضادة للفيروس القهقري العالية
التأثير (HAART)، فترة البقيا لدى
كثير من المرضى وحافظت على استقرار وضعهم الصحي. لكن الأمر المحير هنا أن
العلاجات الحالية غير شافية تماما. فإذا ما انقطعت المعالجة لأي سبب
كان، فسرعان ما ينفلت الفيروس ثانية من عقاله.
وحاليا،
يواجه الباحثون تحديا جسيما في استنباط كيفية تمكن الفيروس من التسكع
بصحبة هذه الأدوية الفعالة. فعلى امتداد العقد الأخير وضع الباحثون
أيديهم على مفاتيح ربما تجلي هذا اللغز، وكلنا أمل أن تميط الإجابة
اللثام في النهاية عما إذا كان الاستئصال النهائي للفيروس ليس ضربا من
الخيال.
لكي نفهم كنه مكامن الفيروس HIV وما يتطلبه الأمر لتصفيتها، ينبغي إعطاء نبذة عن السلوك النموذجي للفيروس داخل الجسم. فحتى يتمكن الفيروس HIV
من التضاعف، عليه كجميع الفيروسات أن يلج إلى داخل خلايا الجسم، ومن ثم
يعمل الغازي على تسخير الآليات الخلوية لإنتاج نسخ من جينوم الفيروس
ولترجمة جيناته إلى پروتينات. وهكذا تنتج نسخ فيروسية جديدة تسمى
الجسيمات الفيروسية (الفيريونات)
(1)، التي تنتشر إلى خلايا أخرى. ولكن الفيروسHIV
، بخلاف معظم الفيروسات البشرية، يُقحِم فعليا جينومه داخل الجينوم
الخاص بالخلية، وفي كل مرة تتكاثر فيها الخلية، فإن جينات الفيروس يجري
استنساخها وتمريرها إلى الخلايا البنات، ما يضمن استمرارية الفيروس طالما
بقيت الخلية وذريتها في الجسم.
ويتمكن
الجهاز المناعي نمطيا من القضاء على الفيروسات بإعطاب الخلايا المخموجة،
ويتعرّفها على الدوام من الشقف الپروتينية الفيروسية أو المستضدات التي
تعرضها الخلايا على سطحها للفت الانتباه إلى وجود متطفلين داخلها. ولكن
في حالة الفيروس HIV يواجه الجهاز
المناعي اوقاتا عصيبة وهو يدمر الخلايا المخموجة المحسوبة عليه، ذلك أن
الفيروس يكتسح بعض مكونات الجهاز المناعي نفسه. ويفلح الجسم لفترة في شن
هجوم مضاد، فيجهز خلايا جديدة تتمتع بمؤهلات كشف الفيروس وغيره من
العوامل الخامجة؛ إلا أن ميزان القوى في حال عدم العلاج يميل معظم الوقت
لصالح الفيروس، ما يفضي أخيرا إلى الإيدز AIDS.
إن المشاركات الدوائية المتوافرة حاليا تحمي الجهاز المناعي من خلال تثبيطها تضاعف الفيروس HIV
والحيلولة دون انتشاره إلى خلايا جديدة. لذلك ينبغي لهذه المعالجات أن
تمنح العناصر المناعية التي لا تزال سليمة، القدرة على تصفية الجيوب
المتبقية من الخلايا المخموجة. ومن نافلة القول أن يحصل الشفاء من الداء،
فلماذا يفشل الجهاز المناعي المدعوم دوائيا في أداء تلك المهمة؟
ينزوي
(**) يكمن
جزء كبير من الإجابة في الوجود المستمر للخلايا القادرة من الناحية
الجينية على إنتاج فيريونات جديدة من دون أن تقوم بذلك، فلا تثير انتباه
الجهاز المناعي إليها. إن الفيروس HIV
هو أصلا مولع بإصابة اللمفاويات التائية المساعدة، وهي خلايا مناعية
تغزر في العقد اللمفاوية للسبيل المعدي المعوي ونسيجه الضام؛ إضافة إلى
وجودها في عقد لمفاوية أخرى ودورانها مع الدم.
تربص: حتى بعد أن يفرض العلاج على الفيروس HIV الهبوط إلى مستويات يتعذر كشفها، فإن الفيروس يبقى متربصا في مكان آخر ليعاود الهجوم متى سنحت له الفرصة. |
وأثناء
التصدي لمعظم أنواع الفيروسات يفنى عدد هائل من الخلايا اللمفاوية
التائية المنخرطة في القتال عندما لا توجد حاجة إليها. ومع ذلك فثمة
مجموعة جزئية يكتب لها البقاء على شكل خلايا تائية ذاكرة معمرة
(2)، تكون جاهزة للتضاعف والانقضاض حالما تستشعر عودة الخمج
(3). وعلى ما يبدو، فتلك اللمفاويات التائية الذاكرة عينها من ينشر معظم كمية الفيروس لدى المصاب بالفيروس HIV؛ إذ إنها حين تستعد للانقسام من أجل التصدي لعامل ممرض سبق أن واجهته، تُضاعف الدنا DNA
والپروتين الخاص بها، ويتمخض عن ذلك فيريونات جديدة. وتنتهي حياة معظم
الخلايا الذاكرة المخموجة على يد الفيروس نفسه أو نتيجة غارة مناعية، غير
أن بعضها يغط في السبات كرة أخرى. وحتى هذه المرحلة، يقتصر وجود الفيروس
HIV على هيئة دنا فيروسي قابع
بسكون ضمن الجينوم الخلوي من دون انتساخ أو توليد پروتينات فيروسية
جديدة، فلا تطفو شقف پروتينية على سطح الخلية، ما يجعل الأدوية المضادة
للفيروس HIV غير ذات جدوى ويبقى الجهاز المناعي في غفلة عنها.
وقد تم التوصل إلى هذه النتيجة من خلال الدراسات المنشورة عام 1997. فقد وجد ثلاثة فرقاء أبحاث ـ كل على حدة، يرأسهم
[من جامعة جون هوبكينز] و [من المعهد القومي للصحة (NIH)] و [من جامعة كاليفورنيا في سان ديگو] ـ أن ثمة عزوفا من اللمفاويات التائية الخاملة المعزولة من المصابين بالفيروس HIV عن تصنيع الفيروس؛ ولكن تحريضهم لها جعل الفيروس النائم يعاود التضاعف. إن هذه المقدرة على الكمون ليست حكرا على الفيروس HIV، فثمة صفيف(4) من الفيروسات (كفيروسات الحلأ) ينتج پروتينات تشجع بالفعل الفيروس على الكمون(5). ويستغرق النفاد التلقائي لخزان الخلايا المصابة بالفيروس HIV ـ كما تشير التقديرات المستمدة من فسحة عمر الخلايا اللمفاوية التائية الذاكرة ـ ما يزيد على خمسة عقود.
كما بدأ يستقر في خلد الباحثين أن التائيات المساعدة الكامنة ليست المسؤولة عن إحياء الفيروس HIV
بعد توقف العلاج. فمن الواضح ـ على الرغم من اختفاء الفيروس من الدم ـ
أن بعض الخلايا التائية المساعدة وخلايا غيرها تواصل إنتاج فيروسات جديدة
بكميات زهيدة، حتى عندما يبدو أن المعالجة تؤتي أكلها. وهذا نشاط يندرج
تحت اختبارات الرادار radar، لأن
الفيروس إما أن ينجح في الاختفاء في الخلايا، أو عندما يُطلق، يبقى
مُحتجزا ضمن الأنسجة ولا يجد طريقه إلى الدم. وعلى سبيل المثال، في إحدى
الدراسات التي أجريت سنة 2007، تلاشت ـ خلال أسابيع من إصابة الشخص بالفيروس HIV
ـ الخلايا اللمفاوية التائية، وحتى قبل أن يكتشف الفيروس في الدم، ما
ولد انطباعا أنه في خضم المعالجة غالبا ما يتواصل التضاعف الفيروسي في
بعض الأنسجة، كما هو حال الأمعاء ـ وهو فعالية ربما لا تلحظ بعض الوقت
ريثما ينقذف الفيروس إلى الدم.
شريك ساذج آخر(***)
لقد
انصب معظم الاهتمام في أبحاث الإيدز على الخلايا التائية المساعدة التي
تدور في الدم، ومن اليسير اقتفاء أثرها لدراستها. ولكن الباحثين خلصوا في
الآونة الأخيرة إلى قناعة مفادها أن ثمة خلايا مناعية أخرى (وهي
البالعات الكبيرة والخلايا التغصنية) مصابة بالفيروس HIV
ربما تدلي بدلوها في بعث هذا الفيروس بعد إيقاف العلاج أو عندما يصير
الفيروس عصيا على الأدوية. إن معرفتنا المتواضعة عن البالعات الكبيرة
والخلايا التغصنية مردها إلى اقتصار وجودها على الأنسجة، ومع ذلك تشير
الاكتشافات الحديثة إلى أن المعالجة الدوائية ربما لا تمنع كليا هذه
الخلايا من إنتاج الفيروس HIV.
فربما تخفق الاستقصاءات في كشف المستويات المنخفضة من الفيروس. ومع ذلك،
قد تكون هذه المستويات مرتفعة بما يكفي لتصل إلى الخلايا اللمفاوية
المجاورة وتواصل إمداد خزان الخلايا التائية الذاكرة الهاجعة. كذلك يبدو
أن بعض البالعات الكبيرة المخموجة تنجو من الإجهاز عليها من الفيروس الذي
في داخلها أو من بقية العناصر المناعية؛ ومن ثم تبقى من دون حراك، على
أهبة الاستعداد لتشغيل عنفة التكاثر حالما تتوقف المعالجة الدوائية.
[معضلة الشفاء] إيجاد مخبأ(****) يأتي معظم الفيروس HIV الموجود في الدم ـ على ما يبدو ـ من خلايا مناعية، تسمى اللمفاويات التائية الذاكرة، سبق أن أصيبت بالفيروس. وهذه الخلايا (التي تعرض على سطحها شقفا من الفيروسHIV) تلقى حتفها على يد الفيروس نفسه أو نتيجة غارة مناعية تستهدف الشقف المعروضة. ولكن بعضها يكتب له البقاء ويدخل في حالة هجوع (أقصى اليسار). وفي هذه الحالة، فإنها تحمل جينوم الفيروس في الدّنا الخاص بها، ويمكنها تصنيع نسخ فيروسية جديدة في حال تم إيقاظها، غير أنها تميل لأن تبقى سنوات من دون حراك.
|
حقائق سريعة في عام 2007 تم توثيق 33 مليون إصابة بالفيروس HIV على مستوى العالم يموت كل يوم حوالي 6000 شخص بسبب الفيروس HIV، ويصاب به 6800 آخرون. لقد أتيح علاج الفيروس HIV لأقل من ثلث عدد من يحتاجون إليه. تزيد المعالجة المضادة للفيروس القهقري العالية التأثير (HAART) بقيا المرضى بمعدل 13.3 سنة. |
مثلا، أفاد وزملاؤه [من المعهد القومي للصحة] سنة 2001، أنه على الرغم من فقدان القردة المخموجة بفيروس عوز المناعة للرئيسات (SIV) ـ وهو قريب وثيق للفيروس HIV
ـ معظم لمفاوياتها التائية المساعدة خلال أسابيع قليلة من إصابتها، فقد
ظلت كميات معتبرة من الفيروس تتولد لديها. وتبين أن البالعات الكبيرة
كانت وراء إنتاج الفيروس. ولقد فشلت المعالجة المتوالية للقردة بدواء
يثبط التضاعف الفيروسي ـ ومن ثم يمنع إصابة خلايا جديدة ـ إلى حد كبير في
تقليل كمية الفيروس في دم الحيوانات، فكان ذلك دلالة على أن البالعات
الكبيرة لم تقض، وهي تطرح نسخا جديدة من الفيروس.
ويبدو أيضا أن الفيروس HIV
يسلك بتضاعفه في البالعات الكبيرة سبيلا يجانف قليلا سبيله في الخلايا
التائية، ما يحقق للفيروس مكاسب إضافية. ففي حين تتضام المكونات
الفيروسية في الخلايا التائية على مقربة من سطح الخلية (ومن ثم تنفصل
عنها)، فإنها في البالعات الكبيرة تستقل حجيرات داخل الخلايا تسمى
الفجوات. وفي نهاية المطاف، قد تهاجر الفجوات باتجاه السطح لإطلاق جزيئات
الفيروس المختزنة. إن تجميع الفيروس HIV
داخل حجيرات مسيجة معزولة ربما يساعده على تفادي الانكشاف المناعي
بالحيلولة دون ظهور المستضدات على سطح الخلية، فلا يفطن الجهاز المناعي
لوجود دخيل.
وأخيرا، تقترح الدراسات
أن تثبيط التضاعف الفيروسي في البالعات الكبيرة يتطلب جرعات دوائية أعلى
مقارنة بحالة الخلايا التائية. ولا نعرف على وجه الدقة ما هو سبب ذلك،
إلا أننا نعرف أن بعض الپروتينات الخلوية التي تتولى مهمة إطراح المواد
البيولوجية من الخلية قد تتداخل مع المعالجة الدوائية بإعاقة امتصاص
الدواء واحتجازه (داخل الخلية). وهكذا، فقد تتحرض هذه الپروتينات ضمن
البالعات الكبيرة إلى درجة تحول دون توافر مستويات كافية من الدواء داخل
الخلايا. وربما ينطبق الأمر نفسه على الخلايا التغصنية، على الرغم من شح
معرفتنا عن كيفية استجابة هذه الخلايا للفيروس HIV.
ملاذات تشريحية(*****)
ليست المزايا المتأصلة في الخلايا التائية المساعدة والبالعات الكبيرة هي وحدها التي تخول الفيروس HIV
القدرة على الصمود في وجه المعالجة المكثفة، فبعض هذه الخلايا تقيم أيضا
في حجيرات تشريحية قد توفر لها الحماية من مختلف الأدوية أو الدفاعات
المناعية أو من الاثنين معا. وربما يتطلب تخليص الجسم من الفيروس HIV الوصول إلى تلك الأمكنة.
والجملة (الجهاز) العصبية المركزية (CNS) هي إحدى هذه الحجيرات. ولقد لاحظ الباحثون قبل أمد بعيد أن الفيروس HIV مرحب به في الجملة CNS، وأن ما يرشح من مشكلات عصبية في الفصول الختامية للإيدز AIDS
تنجم بشكل كبير عن سموم عصبية تطلقها البالعات الكبيرة المخموجة
الموجودة في الدماغ. وينبغي لأي جزيء أو خلية تبتغي الدخول إلى الدماغ
اجتياز الحاجز الدموي الدماغي (وهو أساسا غشاء نفوذ بشكل اصطفائي ينظم
مرور الخلايا والمواد الأخرى من الدم إلى الجملة CNS). وعلى ما يبدو فإنه بإمكان البالعات الكبيرة التي تصاب بالفيروس HIV في الأنسجة خارج الجملة CNS، أن تتخطى الحاجز الدموي الدماغي وأن تستقر في الجملة CNS، حيث يستطيع الفيروس مواصلة إصابة بالعات متخصصة تسمى الأدباق العصبية الصغيرة والتي تقيم بشكل دائم ضمن الجملة CNS.
كما تشير البيانات إلى أن الفيروس يكتسب درجة من الحماية ضد الأدوية من خلال إصابته الخلايا الموجودة في الجملة CNS،
ذلك أن بعض هذه الأدوية (خصوصا مثبطات الپروتياز المهم في التعاطي مع
پروتينات الفيروس الجديد بالصورة الأجدى) ضعيفة في عبورها الحاجز الدموي
الدماغي. وفضلا على ذلك، تبقى معظم الخلايا المناعية الجوالة الأخرى خارج
الدماغ. وإنه لأمر مجهول فيما إذا كانت الخلايا المخموجة في الدماغ
قادرة على إيصال الفيروس HIV خارجه
إلى أجزاء أخرى من الجسم. ولكن مادامت البالعات الكبيرة المخموجة
بالفيروس تتمكن من جواز الحاجز الدموي الدماغي والولوج إلى الجملة CNS، فقد تتمكن كذلك من الانسلال عبره إلى الخارج.
ويبدو
أن هناك مواقع أخرى تعيق تغلغل بعض الأدوية، كما هو الحال في جدران
السبيل المعدي المعوي والسبيل التناسلي؛ فالمني عادة ما يحتوي رنا
الفيروس HIV، وحتى إن بدا الدم خلوا من الفيروس.
قد تتطلب التصفية التامة للفيروس HIV من مصاب به إزالة جميع الخلايا التائية المخموجة الكامنة. | |
[أين يختبئ الفيروس] خزانات الفيروس HIV العديدة(******) إضافة إلى تربصه داخل الخلايا التائية الذاكرة، فمن الممكن للفيروسHIV أن يتولد بكميات بسيطة في خلايا معينة أخرى ضمن الجهاز المناعي ـ خصوصا البالعات الكبيرة والخلايا التغصنية ـ يبدو أنها قادرة بالفطرة على تفادي الدفاعات المناعية والأدوية المضادة للفيروسHIV، وذلك حتى حدود معينة. وفضلا على ذلك، يمكن للخلايا المخموجة بالفيروس HIV أن تكون في أمكنة قليلة من الجسم في حرز فيزيولوجي لا بأس به من الجهاز المناعي وبعض الأدوية. وليس من اليسير على الفيروس HIV المصنّع في مخازن خلوية أو تشريحية الخلوصَ إلى الدم في حال العلاج المكثف، إلا أنه قد يطلق خمجا شديدا إذا توقف العلاج.
|
خطط هجومية جديدة(*******)
يتطلب
استئصال شأفة الفيروس من المصابين به أن نتخلص على الأقل من جميع
الخلايا التائية المخموجة الكامنة. وإحدى الطرق التي يرودها الباحثون
حاليا حتى يسموا المخازن الكامنة، هي معالجة المرضى بمركبات تحرض
الانقسام في اللمفاويات التائية المخموجة على أمل أن تقوم الخلايا بإنتاج
الفيروس، ما يجعلها عرضة لسطوة العلاج المضاد للفيروس القهقري. ولقد تم
استقصاء هذه المقاربة في دراستين بشريتين محدودتين من خلال استعمال أدوية
سبق المصادقة عليها لعلاج حالات أخرى، فكانت النتائج مشوشة.
سيثير
الدواء المثالي الخلايا التائية إلى درجة يشتعل فيها فتيل توليد
پروتينات فيروسية، فتظهر على سطح الخلية من دون أن يصل الأمر إلى حدود
قدح الآلية الخلوية لتصنيع نسخ فيروسية جديدة. ولغاية هذه المرحلة
فالباحثون حاليا عاكفون على سبر فعالية الأدوية المحفزة على تكوين
پروتينات الفيروس HIV من خلال
العبث بتوليفة الكروماتين (معقد من الدّنا والپروتين يشكل الصبغيات) في
الخلايا التائية المخموجة. ولكن ما يؤخذ على هذه المعدِّلات الكروماتينية
أن مجال توظيفها سيكون محدودا إذا ما اقتصر عملها على الخلايا التائية من
دون البالعات الكبيرة التي تحتضن الفيروس.
[أفكار جديدة] مقاربات العلاج الواعدة(********) إن إبادة الفيروس HIVمن الجسم تقتضي على الأقل أن نحفز الخلايا التائية المخموجة الكامنة على إنتاج فيروسات جديدة أو پروتينات فيروسية ـ وهذا من شأنه أن يستجلب الهجوم من جهة الأدوية أو الجهاز المناعي. وستُعطى مثل هذه العلاجات بصحبة الأدوية المعيارية التي تحول دون انتشار الفيروس من خلية إلى أخرى. وتقترح أدلة جديدة أن الضبط الصارم لتكاثر الفيروسHIV (بمهاجمة أهداف فيروسية أو خلوية جديدة) ربما يكون نافعا كذلك. ولقد وُصفت بعض الأهداف العلاجية المحتملة لتحقيق ذلك (اللون البرتقالي) في اليسار. وتستهدف الأدوية الموجودة حاليا في الأسواق پروتين الغلاف الفيروسي والمستقبلة CCR5 للخلية التائية (ما يعيق الولوج الفيروسي داخل الخلايا) وتسعى إلى تثبيط إنزيم الانتساخ العكسي في الفيروس HIV وإنزيم الإنتگراز وإنزيم الپروتياز (ليتوقف على التوالي تنسخ جينوم الفيروس HIV، وإقحامه ضمن دنا الخلية، وإنضاج پروتيناته).
|
وقد يتضمن الشق الآخر للهجوم بغرض تصفية وجود الفيروس HIV من الجسم، حصرَ التضاعف الفيروسي بشكل تام، بحيث لا يختفي الفيروس HIV
من الدم فحسب، وإنما من جميع الأنسجة وكافة الأنماط الخلوية التي تحتضن
الفيروس. إن الأدوية المستخدمة حاليا تتداخل نموذجيا مع أحد إنزيمين:
إنزيم الانتساخ العكسي reverse transcriptase، الذي يحول المادة الجينية الفيروسية من الرنا RNA
إلى الدنا لإقحامها في الجينوم الخلوي؛ أو الپروتياز الذي يساعد
الجزيئات الفيروسية الناشئة على النضج. وخلال أسابيع، عقب بدء تطبيق
المعالجة المعيارية، تنخفض كمية الفيروس في دم الشخص وصولا إلى مستويات
يتعذر كشفها. وليس ثمة تباين كبير في المنحنى التنازلي بين مريض وآخر،
وهذا الأمر فسره الباحثون بأن المعالجات أثبتت قدرتها على تثبيط تضاعف
الفيروس. ومع ذلك، فقد أوضحت الدراسات الحديثة أن تعزيز النظم العلاجية
بِ«رالتيگرفير» raltegravir، وهو دواء جديد يستهدف إنزيما فيروسيا لم تُهاجمه الأدوية السابقة (إنزيم الإنتگراز الفيروسي الذي يرتق دنا الفيروس HIV
في دنا الخلايا نفسها)، سرّع فعلا تلف الفيروس. لقد أنبأ هذا النجاح أنه
يمكن استهداف الخلايا المخموجة بوتيرة أسرع وبكفاءة أكبر مما هو عليه
الحال الآن. وإذا كان هذا التصور صحيحا، فذلك يقتضي أن تكثيف معالجة
الفيروس HIV على نحو أكبر قد يحد من
حجم الخزان الكامن الأصلي ويعيق إعادة ملئه لاحقا، ويتمكن ـ كما نأمل ـ
من تقليل التضاعف، بحيث يستطيع الجهاز المناعي فعلا سحق أي مستودع متبق
مولد للفيروس، عندما لا تبقى أي خلية ذاكرة مخموجة كامنة
أهداف دوائية محتملة Vif (عامل الإخماج الفيروسيviral infectivity factor)
يخفض A3G ـ وهو بروتين خلوي ـ حيويةالفيروسHIV بإحداث طفرات جذرية في جيناته (مورثاته)، غير أن الپروتين Vif الخاص بالفيروس HIV يحول دون ذلك. وتثبيط الپروتينVif أو وقاية الپروتينA3G بطريقة ما يسمح للپروتينA3G بتنفيذ مهامه المضادة للفيروس.
LEDGF (عامل النمو المستمد من الظهارة العدسية lens epithelium-derivedgrowth factor)
في الخلايا المخموجة بالفيروس HIV يقدمLEDGF (أحد الپروتينات الخلوية) يد العون لإنزيم الإنتگراز ليقوم بإيثاق دنا الفيروسHIV داخل الجينوم الخلوي. و تدل بعض الموجودات على أن تثبيطالپروتينLEDGF يقلل من تضاعف الفيروسHIV.
الكروماتين [الصبغين] (معقد الدّنا والپروتين الذي يشكل الصبغياتcomplexed DNAand proteinthat composeschromosomes)
تبدل الأدوية المسماة معدلات الكروماتين التوليفة الكروماتينية في الخلايا التائية المخموجة الهاجعة بطريقة يتفعل من خلالها تركيب پروتينات الفيروسHIV ـ وهي خطوة تفتح عيون الجهاز المناعي على هذه الخلايا وتجعلها عرضة للإغارة.
Vpu (پروتين الفيروسviral proteinU)
يُشد وثاق الفيروس الوليد إلى سطح الخلايا المصابة بالفيروسHIV، غير أن الپروتينVpu الخاص بالفيروسHIV يطلق سراحه. لذلك ينبغي لمثبط الپروتينVpu أن يمنع الفيروس من الانتشار إلى الخلايا الأخرى.
|
لقد دخلت أدوية جديدة سنة 2007
حيز الاختبار السريري، حيث تتداخل مع خطوات لم تستهدف سابقا في دورة
التضاعف الفيروسي. فإضافة إلى مثبط الإنتگراز، ثمة دواء آخر يحد من الخمج
عبر تداخله مع القدرة الالتصاقية للفيروس بمستقبلة جزيئية تعرف بCCR5، وهي كائنة على سطح الخلية. وتقترح الأبحاث أنه ربما تكون پروتينات خلوية محددة أهدافا علاجية حسنة. ففي حين يجبر الفيروس HIV بعض هذه الپروتينات على أن تساعده على التضاعف (مثل المستقبلة CCR5)، فمن الواضح حاليا أن هناك پروتينات خلوية أخرى (أو معيقات خلوية كما اصطلح على تسميتها) تقوم حقا بعرقلة التضاعف الفيروسي.
قبل ست سنوات، حدد وفريقه البحثي [في جامعة كينجز بلندن] أول هذه المعيقات الخلوية ويسمى A3G، وهو پروتين يوجد بوفرة في البالعات الكبيرة واللمفاويات. ولكن الفيروس لسوء الطالع طور إجراءات مضادة للپروتين A3G؛ وأما الجانب الإيجابي في الموضوع فهو أن كلا من الپروتين A3G والپروتين Vif الفيروسي سيكون هدفا علاجيا واعدا؛ إذ ربما تجعل الأدوية المثبطة للپروتين Vif أو تلك التي تحمي الپروتين A3G من التدرك، الخلايا البشرية ـ ولو نظريا ـ عصية على الإصابة بالفيروس HIV.
وفقط في عام2008 ، تعرف [من مركز أبحاث آرون في مدينة نيويورك] و [من جامعة كاليفورنيا في سان ديگو (UCSC)] وفريقاهما (كل على حدة) معيقًا خلويا ثانيا يسمى تيذيرين tetherin وهو الذي يلجم إطلاق نسخ فيروسية جديدة من الخلايا المخموجة. ومرة أخرى طور الفيروس إجراء دفاعيا مضادا للتيذيرين هو الپروتين Vpu الفيروسي. لذلك فالأدوية المثبطة للپروتين Vpu بمقدورها أن تمنع انتشار الفيروس HIV إلى خلايا جديدة.
وربما
يتواصل البحث في إطاره العام إلى أن تنجلي أهداف علاجية قد تفضي بنا إلى
تطوير عوامل جديدة مضادة للفيروس تقضي عليه بطرق متعددة. وفي حال تمكنا
من تصميم أدوية تشد أزر بعضها وتعزز تأثيرات العلاجات الحالية، فلربما
نستطيع ـ أخيرا ـ استنزاف كافة المخازن الكامنة المهمة والقضاء على
الفيروس. ولهذه الغاية، فثمة دراسات تجرى على نطاق أوسع تستكشف أثر
المعالجة المكثفة الطويلة الأمد في الفيروس، ونترقب نتائجها في غضون
السنتين القادمتين. و ينبغي لهذه النتائج أن تبين لنا إن كان القضاء على
الفيروس HIV في مصاب هو هدفا واقعيا، وإنا لنتطلع إلى ذلك بتلهف كبير.
من الممكن القضاء على الخلايا المخموجة بوتيرة أسرع وبزخم أكبر مما هو عليه الوضع حاليا. | |