تاريخ التسجيل : 13/09/2010 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4
15072012
هل الفيروسات كائنات حية؟
هل الفيروسات كائنات حية؟
مع أن الڤيروسات تجعلنا نرتاب في مفهومنا لما تعنيه كلمة «حي»، فإنها تبقى أعضاء لا غنى عنها في شبكة الحياة.
في حلقة من حلقات المسلسل التلڤزيوني الهزلي الذي عُرض في الخمسينات من القرن الماضي، بالعنوان «عرسان شهر العسل» The Honeymooners، يشرح سائق الحافلة لزوجته <آليس> بصوت عال قائلا: «تعلمين أنني أعلم كم هو سهل أن تصابي بالڤيروس.» قبل نصف قرن من الزمن، كان حتى عامة الناس، مثل عائلة <كرامدت>، يملكون بعض المعرفة عن الڤيروسات كحاملات مجهرية للمرض. ومع هذا، فمن المؤكد أنهم لم يعرفوا بالضبط ما هو الڤيروس. لم يكونوا وحدهم الذين يملكون معلومات محدودة عن الڤيروسات.
وعلى مدى مئة عام تقريبا، غيَّر المجتمع العلمي مرارا وتكرارا رأيه الجماعي فيما يتعلق بماهية الڤيروسات، فلقد اعتُبرت في البداية سموما، ثم أحد أشكال الحياة، وفي ما بعد كيميائيات حيوية، وينظر إليها حاليا على أنها تقع في منطقة رمادية بين الكائنات الحية والأشياء غير الحية؛ فهي لا تتضاعف بقدراتها الذاتية، إنما تتمكن من القيام بذلك وهي داخل خلايا حية، كما أنها تؤثر تأثيرا عميقا في سلوك عائلها (ثَوِيّها). وكان لتصنيف الڤيروسات كأشياء غير حية خلال معظم العصر الحديث للعلوم البيولوجية عواقبه غير المقصودة؛ فقد جعل معظم الباحثين يتجاهلون الڤيروسات عند دراستهم التطور. لكن العلماء بدؤوا أخيرا يقدرون دور الڤيروسات كلاعبين أساسيين في تاريخ الحياة.
التوصل إلى تفاهم(**)
من السهل أن ندرك لماذا كان من الصعب تصنيف الڤيروسات. لقد كانت تبدو مختلفة باختلاف العدسات التي كانت تستعمل لفحصها. وانبثق الاهتمام الأولي بالڤيروسات من ترافقها مع الأمراض، وتعود جذور كلمة ڤيروس virus إلى تعبير من اللاتينية، يعني السُّمَّ poison. وفي أواخر القرن التاسع عشر أدرك الباحثون أن أمراضا معينة، بما في ذلك الكَلَب rabies والحُمى القلاعية foot-and-mouth، تسببها جُسيمات بدت وكأنها تسلك سلوك البكتيرات، بيد أنها كانت أصغر منها بكثير. وبالنظر إلى أنها كانت ذات هوية بيولوجية واضحة، ويمكنها أن تنتشر من ضحية إلى أخرى، محدثة تأثيرات بيولوجية جلية، فقد اعتُقد حينذاك أنها أبسط أشكال الحياة التي تحمل الجينات.
وحدث تخفيض مرتبة الڤيروسات إلى كيميائيات خاملة بعد العام 1935، عندما بلور لأول مرة وزملاؤه فيما أصبح الآن يعرف بجامعة روكفلر في مدينة نيويورك، ڤيروس فسيفساء التبغ. وتبين لهم أن الڤيروس عبارة عن رزمة من كيميائيات حيوية معقدة، لكنه كان مجردا من المنظومات الأساسية الضرورية للوظائف الاستقلابية (الأيضية)، أي: الفاعلية الكيميائية الحيوية الخاصة بالحياة. ولقد تقاسم <ستانلي>، مع آخرين، في عام 1946 لقاء هذا العمل جائزة نوبل في الكيمياء ـ وليس في الفيزيولوجيا أو الطب.
وأثبتت البحوث التالية التي أجراها <ستانلي> وآخرون، أن الڤيروسات تتألف من حموض نووية (الدنا DNA أو الرنا RNA) مغلفة بغلالة پروتينية، يمكن أن تؤوي أيضا پروتينات ڤيروسية ضالعة في إحداث العدوى (الإخماج). وطبقا لهذا الوصف، بدت الڤيروسات وكأنها منظومات كيميائية أكثر منها كائنات حية. ولكن عندما يدخل الڤيروس الخلية (التي تعرف بعد العدوى بالعائل)، فإنه ينشط على نحو واضح: يطرح غلالته، ويكشف عن جيناته، ويحرض ماكينة تَضَاعُف الخلية لتُولِّد دنا أو رنا الڤيروس الغازي، وتصنع مزيدا من الپروتينات الڤيروسية بناء على التعليمات المحتواة في الحمض الڤيروسي. وتتجمع الكِسر الڤيروسية الحديثة التكوين، لتتشكل منها ڤيروسات جديدة؛ يمكن لها أن تعدي (تخمج) خلايا أخرى.
لقد قاد هذا السلوك الكثيرين إلى الاعتقاد أن الڤيروسات إنما تقع على الحدود بين الكيمياء والحياة. وما هو أكثر شاعرية أن المختصيْن بالڤيروسات ريگنمورتل> [من جامعة ستراسبورگ في فرنسا] و [من مراكز مراقبة الأمراض والوقاية منها] قد ذكرا مؤخرا أن الڤيروسات، نظرا لاعتمادها على الخلايا العائلة، تعيش «نوعا من الحياة المستعارة». ومع أن البيولوجيين حبذوا لوقت طويل الرأي القائل بأن الڤيروسات ما هي إلا علب من الكيميائيات، فقد استفادوا من الفاعلية الڤيروسية في الخلايا العائلة (الثوية) ليحددوا كيف تُكوِّد الحموضُ النووية للپروتينات. وبالفعل، فإن البيولوجيا الجزيئية المعاصرة إنما ترتكز على قاعدة من المعلومات، اكتسبت من خلال الڤيروسات.
توجد الڤيروسات على الحدود بين عالمي الأحياء واللاأحياء.
واصل البيولوجيون الجزيئيون جهودهم ليبلوروا معظم المكونات الأساسية للخلايا، وهم معتادون اليوم على التعامل مع المكونات الخلوية، كالريبوزومات والميتوكندرات (المتقدرات) والأغشية والدنا والپروتينات، إما كماكينة كيميائية أو كمواد تستعملها أو تنتجها هذه الماكينة. إن المنابلة اليومية لهذه البنى الكيميائية المعقدة والمتعددة، التي تنجز سيرورات الحياة، قد تكون السبب في أن معظم البيولوجيين الجزيئيين لا يكرسون وقتا كبيرا لحل اللغز المتمثل فيما إذا كانت الڤيروسات كائنات حية. إنهم يعتبرون أن هذا التدريب الذهني قد يبدو متكافئا مع التفكير فيما إذا كانت هذه المكونات الخلوية حية بذاتها. إن وجهة النظر القاصرة هذه تتيح لهم أن يفهموا فقط كيف تختار الڤيروسات الخلايا العائلة، أو كيف تسبب المرض. بيد أن السؤال الأكثر شمولية عن مدى إسهام الڤيروسات في تاريخ الحياة على الأرض، الذي سأعرض له بعد قليل، يبقى في معظمه دون إجابة، أو حتى غير مطروح أصلا.
تكون أوْ لا تكون(***)
ثمة سؤال يبدو بسيطا وغالبا ما يطرحه طلبتي، وهو ما إذا كانت الڤيروسات أحياء. ولعل هذا السؤال لم يجد ـ طوال هذه السنوات ـ جوابا بسيطا، لأنه يثير موضوعا جوهريا: ما الذي يُعرِّف «الحياة» بالضبط؟ إن تعريفا علميا دقيقا للحياة هو شيء مُحير، بيد أن معظم المراقبين قد يتفق على أن الحياة تنطوي، إضافة إلى المقدرة على التضاعف (التكاثر)، على خصائص معينة. فمثلا، تكون الكينونة الحية في حالة تحدُّها الولادة والموت. كما يعتقد أن الكائنات الحية تتطلب درجة من الاستقلالية الذاتية الكيميائية الحيوية، فتنجز الفاعليات الاستقلابية التي تنتج الجزيئات والطاقة اللازمة لمد الكائن الحي بأسباب الحياة. إن هذا المستوى من الاستقلال الذاتي أساسي لمعظم التعاريف.
ما الذي تعنية الكلمة؟(****)
«إن "الحياة" و"الحي" كلمتان استعارهما العلمُ من الإنسان البسيط.، واستُعمِل هذا الاقتباس استعمالا مقبولا حتى وقت حديث نسبيا، ذلك أن العِلم نادرا ما اكترث بما عناه تماما بهاتين الكلمتين، وبالتأكيد لم يعرف ذلك قط، والأمر كذلك بالتأكيد بالنسبة للإنسان البسيط. بيد أنه يجري حاليا اكتشاف ودراسة نظم ليست حية بوضوح أو ميتة بوضوح. ومن الضروري أن نعيد تعريف هاتين الكلمتين، وإلا فعلينا أن نكف عن استعمالهما، ونبتكر ما يمكن أن يحل مكانهما.»
البريطاني المختص بالڤيروسات عام 1934
«تظن أن الحياة هي أي شيء عدا أن تكون ميتا تماما.»
<جورج برناردشو>، سان جوان، 1923
بيد أن الڤيروسات تتطفل بصورة أساسية على جميع المظاهر الجزيئية للحياة؛ أي إنها تعتمد على خلية العائل فيما يتعلق بالمواد الأولية والطاقة الضرورية لتكوين الحموض النووية، وتكوين الپروتينات، والمعالجة والنقل، وجميع الفاعليات الكيميائية الحيوية الأخرى، التي تتيح للڤيروس التضاعف والانتشار. يمكن عندئذ استنتاج ما يلي: مع أن هذه السيرورات تتم بتوجيه ڤيروسي، فإن الڤيروسات هي ببساطة طفيليات غير حية، لأنظمة استقلابية (أيضية) حية. بيد أنه قد يوجد طيف بين ما هو حي على نحو مؤكد وما هو غير ذلك.
فالصخر ليس حيا. والكيس الفعال استقلابيا، الخالي من المادة الوراثية ومن إمكانية التوالد والانتشار، ليس حيا هو الآخر. ولكن البكتيرة حية. ومع أنها خلية مفردة، فهي تستطيع توليد الطاقة والجزيئات اللازمة لمدها ذاتيا بأسباب الحياة، كما أن بوسعها أن تتكاثر. ولكن ماذا عن البذرة؟ قد لا تعتبر البذرة حية، ومع ذلك فإن لديها إمكانية الحياة؛ كما يمكن إتلافها. وفي هذا الخصوص، فإن الڤيروسات تشابه البذور أكثر من مشابهتها الخلايا الحية. إن للڤيروسات إمكانية معينة يمكن وضع حد لها، بيد أنها لا تبلغ حالة الاستقلال الذاتي التي تميز الحياة.
وثمة طريقة أخرى للنظر إلى الحياة كصفة بازغة لمجموعة معينة من الأشياء غير الحية. إن كلا من الحياة والوعي مثال لنُظم معقدة بازغة. ويتطلب كل نظام منها حدا حرجا من التعقيد أو التآثر ليحقق الحالة الخاصة به. إن العصبون سواء كان منفردا أو حتى ضمن شبكة من الأعصاب، ليس واعيًا؛ فالوعي يحتاج إلى تعقيد الدماغ بكامله. ولكن حتى الدماغ السليم للإنسان قد يكون حيا من الناحية البيولوجية ولكنه عاجز عن أن يكون واعيا، أي إنه «دماغ ميت». وبالمماثلة، فإن الجينات أو الپروتينات الخلوية أو الڤيروسية المفردة لا تعتبر حية. والخلية المنزوعة النواة تشابه حالة موت دماغي؛ أي يعوزها التعقيد الحاسم الكامل. ويخفق الڤيروس أيضا في الوصول إلى حالة التعقيد الحاسم. وهكذا، فالحياة بحد ذاتها حالة تعقيد بازغة، ولكنها صُنعت من لبنات البناء الفيزيائية الأساسية ذاتها التي يتألف منها الڤيروس. فإذا ما قاربناها من هذا المنظور، فقد تعتبر الڤيروسات، ولو أنها غير حية تماما، أكثر من مجرد مادة خاملة: إنها تتاخم الحياة.
وفي الواقع، أعلن باحثون فرنسيون في الشهر 10/2004 نتائج توضح من جديد مدى قرب بعض الڤيروسات من الحياة. فلقد أعلن وزملاؤه [من جامعة البحر المتوسط في مرسيليا] أنهم سلسلوا جينوم أضخم الڤيروسات المعروفة وهو ميميڤيروس Mimivirus، الذي اكتشف عام 1992. ويعدي هذا الڤيروس، الذي يقارب حجمه حجم بكتيرة صغيرة، الأميبات. وأظهر تحليل تسلسل جينوم الڤيروس وجود جينات عديدة كان يعتقد سابقا أنها لا توجد إلا في الكائنات الحية العديدة الخلايا. إن بعض هذه الجينات ضالع في صنع الپروتينات التي يكودها الدنا الڤيروسي، وقد تجعل من السهل على ميميڤيروس أن يختار نظم تضاعف خلايا العائل. وكما أورد فريق البحث في تقريره الذي نُشر في مجلة ساينس Science، فإن التعقيد الهائل للطاقم الجيني العائد لميميڤيروس «يتحدى الحدود الراسخة بين الڤيروسات والكائنات الحية الخلوية الطفيلية.»
نظرة إجمالية/ كسرة صغيرة من الحياة(*****)
■ الڤيروسات طفيليات تطوف الحدود بين الحياة والمادة الخاملة. ومع أنها تحوي أنواع الجزيئات الپروتينية والحموض النووية نفسها، التي تشكل الخلايا الحية، فإنها تحتاج إلى مساعدة هذه الخلايا كي تتضاعف وتنتشر.
■ ولعقود من الزمن، تجادل الباحثون فيما إذا كانت الڤيروسات أحياء أو غير أحياء. لقد شكل هذا الخلاف نوعا من الإلهاء عن موضوع أكثر أهمية، يتمثل في أن الڤيروسات تؤدي من حيث الأساس دورا مهما في التطور.
■ إن عددا هائلا من الڤيروسات يتضاعف ويطفر باستمرار. وتُنتج هذه السيرورة الكثير من الجينات الجديدة. ويمكن لجينة تجديدية ذات وظيفة مفيدة أن تندمج بين الفينة والأخرى في جينوم خلية العائل (الثوي)، لتصبح جزءا دائما من جينوم تلك الخلية.
التأثير في التطور(******)
إن مناقشة ما إذا كان وسم الڤيروسات بأنها أحياء، تقود بصورة طبيعية إلى سؤال آخر: هل التفكر في وضع الڤيروسات على أنها أحياء أو غير أحياء أمر لا يعدو كونه تمرينا فلسفيا، يستحق أن يكون أساسا لنقاش منمق وحام ومثير، دون تداعيات حقيقية مهمة؟ أعتقد شخصيا أن الموضوع مهم، ذلك أن الكيفية التي ينظر وفقا لها العلماء إلى هذا السؤال، تؤثر في تفكيرهم المرتبط بآليات التطور.
إن للڤيروسات تاريخها التطوري القديم الخاص بها، الذي يعاصر في قدمه منشأ الحياة الخلوية نفسها. فمثلا، بعض إنزيمات الإصلاح (الترميم) الڤيروسية ـ التي تستأصل الدنا المعطوب وتعيد تكوينه، وتُصلح الأذى الذي يصيب الجذور الأكسجينية، وهلم جرا (انظر الإطار في الصفحة تتفرد بها ڤيروسات معينة، ووجدت دون أي تغيير تقريبا، ربما منذ بلايين السنين.
كيف يتضاعف الڤيروس(*******)
بصرف النظر عما إذا كانت الڤيروسات «أحياء» من الناحية التقنية، فهي تُبدي بالتأكيد إحدى خاصيات الحياة وهي المقدرة على التضاعف، وإن كان ذلك يتم بمساعدة الخلية العائل (الثوي). ويمثل هذا الرسم التوضيحي شكلا من أشكال التوالد الڤيروسي، حيث تتمثل المادة الوراثية للڤيروس بشريطة مزدوجة من الدنا. ومع أن سيرورات تضاعف العَاثِيات (الفاجات) phages [ڤيروسات تعدي (تخمج) البكتيرات، وهذه لا تحوي نواة]، وڤيروسات الرنا، والڤيروسات القهقرية retroviruses، تختلف في بعض تفاصيلها، إلا أنها تبقى مجرد سيناريوهات متباينة لهذه السيرورة الرئيسية.
ومع هذا، فإن معظم البيولوجيين التطوريين، يؤمن أنه نظرا لأن الڤيروسات ليست أحياء، فهي لا تستحق الاهتمام الجدي عندما نحاول أن نفهم التطور. كما أنهم ينظرون أيضا إلى الڤيروسات وكأنها أتت من جينات العائل، التي أفلتت بشكل ما من هذا العائل، واكتسبت غِلالة پروتينية. وبهذا المنظور، فإن الڤيروسات هي جينات عائلٍ شاردة تفسخت وصارت مجرد طفيليات. وباستبعادها على هذا النحو من شبكة الحياة، فإن الإسهامات المهمة، التي يحتمل أن تكون قد قدمتها الڤيروسات فيما يتعلق بأصول الأنواع، وبالحفاظ على الحياة، قد تمضي دون أي تقدير. وبالفعل فإن أربع صفحات فقط من أصل 1205 من مجلد عام 2002 لموسوعة التطور Encyclopedia of Evolution، قد خصصت للڤيروسات.
وبالطبع، فإن البيولوجيين التطوريين لا ينكرون أنه كان للڤيروسات دور ما في التطور. ولكن بنظرتهم إلى الڤيروسات على أنها أشياء غير حية، فإن هؤلاء الباحثين يضعون الڤيروسات، من حيث التأثير، في الفئة نفسها التي يضعون فيها تغيرات المناخ مثلا. إن مثل هذه المؤثرات الخارجية، تَنْتقي دائما من بين أفراد لهم خِلال متباينة ومحكومة وراثيا؛ وهكذا فإن أولئك الأفراد الأكثر مقدرة على البُقيا والازدهار حينما تواجهها مثل هذه التحديات تستمر في التكاثر بنجاح، ومن ثم تنشر جيناتها إلى الأجيال التالية.
الخلايا تصرف انتباه العلماء عن الڤيروسات(********)
«لقد صُرف انتباه البيولوجيين قرابة قرن من الزمن إلى الجدل فيما إذا كانت الڤيروسات كائنات حية. ونشأ التعارض في الرأي بصورة أساسية عن المبدأ الذي اعتُمد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بأن الخلايا هي لبنات بناء أشكال الحياة جميعها. فالڤيروسات أبسط من الخلايا. وهكذا، فالمنطق يحملنا على القول إنه لا يمكن للڤيروسات أن تكون كائنات حية.»
عالم البيولوجيا التطورية الأمريكية ، 2000
بيد أن الڤيروسات تتبادل مباشرة المعلومات الوراثية مع الكائنات الحية، أي داخل شبكة الحياة نفسها. وثمة حقيقة قد تشكل مفاجأة لمعظم الأطباء، وربما أيضا لمعظم البيولوجيين التطوريين، وهي أن معظم الڤيروسات المعروفة تواصل بقاءها بإصرار persistent، وأنها غير ضارة وغير ممرضة. إنها تسكن الخلايا، حيث يمكن أن تبقى هاجعة مددًا طويلة، أو تستفيد من جهاز التضاعف في الخلية، لتتوالد بمعدل بطيء، إنما مطرد. لقد طورت هذه الڤيروسات طرائق عديدة حاذقة كي تتملص من كشف جهاز العائل المناعي لها. ومن حيث الجوهر، فإن كل مرحلة من مراحل السيرورة المناعية يمكن أن يتم تعديلها أو التحكم فيها من قبل جينات مختلفة توجد في هذا الڤيروس أو ذاك.
وإضافة إلى ذلك، فإن بوسع جينوم الڤيروس (المجموعة الكاملة من الدنا أو الرنا)، أن يستعمر على نحو دائم عائله، فيضيف جينات ڤيروسية إلى سُلالة العائل، وتصبح في النهاية جزءا حاسما من جينوم النوع الذي ينتسب إليه العائل. لذلك، فإن للڤيروسات من غير ريب تأثيرات سريعة ومباشرة أكثر من تأثيرات القوى الخارجية، التي تنتقي ببساطة من بين الاختلافات الوراثية الداخلية تلك السلالات التي تتولد ببطء أكبر. إن العدد الهائل للأنواع الڤيروسية، إضافة إلى معدل تضاعفها وطفرها السريعين، يجعلها المصدر الأغنى في الطبيعة للابتكارات الوراثية، فهي «تخترع» باستمرار جينات جديدة. ويمكن لجينات فريدة ذات أصل ڤيروسي أن ترتحل، لتجد طريقها إلى كائنات حية أخرى، مسهمة في إحداث تغيرات تطورية.
الانبعاث من الموتى وخدع أخرى(*********)
بالنظر إلى أن الڤيروسات تقع في عالم سفلي بين الحياة واللاحياة، فإنها تستطيع أن تنجز بنجاح بعض الأعمال الاستثنائية الفذة. فمثلا، لا تتضاعف الڤيروسات عادة إلا في الخلايا الحية، ومع هذا فهي تمتلك المقدرة على أن تتضاعف، أو أن «تنمو» في خلايا ميتة، بل إنها تعيد هذه الخلايا إلى الحياة. ومن المذهل حقا، أن يستطيع بعض الڤيروسات، حتى بعد إتلافه، أن ينبعث من جديد إلى «حياته المستعارة».
إن خلية تم إتلاف دنا نواتها هي خلية ميتة، إنها تفتقر إلى التعليمات الجينية كي تصنع الپروتينات الضرورية للبُقيا وللتوالد. ولكن قد يستخدم الڤيروس الآلة الخلوية للسيتوپلازم المتبقي كي يتضاعف؛ أي إنه يحرض الآلة كي تستعمل الجينات الڤيروسية كمرشد لتجميع الپروتينات الڤيروسية، ولتنسخ (تكرر) الجينوم الڤيروسي. إن هذه القدرة للڤيروسات على النمو في عائل (ثوي) ميت، تبدو واضحة جدا في عوائلها الوحيدة الخلية التي يعيش الكثير منها في المحيطات. (وبالفعل، فإن عددا يصعب تصوره من الڤيروسات يوجد على كوكب الأرض. وتعتبر التقديرات الحالية أن المحيطات تؤوي ما يقرب من 3010 جسيما ڤيروسيا، إما داخل عوائلها الخلوية، أو طافية بصورة حرة).
ڤيروس فسيفساء التبغ
وفي حالات البكتيرات، وكذلك البكتيرات الزرقاء القادرة على البناء الضوئي، والطحالب، غالبا ما يُقتل العائل عندما تُتلِف الأشعة فوق البنفسجية الصادرة عن الشمس دنا النواة. ولكن بعض الڤيروسات يحتوي على إنزيمات، أو يكوّد هذه الإنزيمات، التي تُصلح أنواعا متباينة من جزيئات العائل، باعثة الحياة فيه. فمثلا، تحتوي البكتيرات الزرقاء إنزيما، يعمل كمركز لعملية البناء الضوئي، لكن الكثير من الضوء يتلفه. فعندما يحدث ذلك، تموت الخلية لعدم قدرتها على مواصلة البناء لعملية البناء الضوئي والاستقلاب الخلوي المرتبط بهذه السيرورة. لكن ڤيروسات، تعرف بعاثيات البكتيرات الزرق (السيانوفاجات)، تكود نسخة محورة خاصة بها من إنزيم البناء الضوئي البكتيري. كما أن هذه النسخة الڤيروسية تكون مقاومة للأشعة فوق البنفسجية أكثر بكثير من إنزيم البناء الضوئي البكتيري. فإذا ما أعدت (أخمجت) هذه الڤيروسات خلية ماتت حديثا، فإن إنزيم البناء الضوئي الڤيروسي يتولى مهمة الإنزيم المفقود الخاص بالعائل. ويمكن التفكير بهذه الظاهرة على أنها نوع من المعالجة الجينية المنقذة لحياة الخلية.
كما أن ضوءا فوق بنفسجي كافيا يمكنه أيضا أن يتلف عاثيات البكتيرات الزرق (السيانوفاجات). وفي الحقيقة، فإن التعطيل بالأشعة فوق البنفسجية طريقة مختبرية شائعة تستعمل لإتلاف الڤيروسات. بيد أن هذه الڤيروسات تستطيع أحيانا أن تسترد شكلها ووظيفتها. ويتأتى هذا النشور (البعث) عبر سيرورة تعرف بالتنشيط التعددي multiplicity reactivation. فإذا كانت الخلية الواحدة تؤوي أكثر من ڤيروس واحد معاق، فإن بوسع الجينوم الڤيروسي أن يعيد عمليا تجميع نفسه بدءا من أجزاء متفرقة. إن القدرة على إعادة التجميع هذه هي بالضبط السيرورة التي تتيح لنا أن ننشئ في المختبر ڤيروسات مأشوبة (مولفة) صنعية. ويمكن أحيانا للأجزاء المختلفة من الجينوم الڤيروسي أن تزودنا أيضا بجينات إفرادية، تعمل على نحو متناسق (وهذا ما يعرف بالتتامة)(1)، لتسترد كامل الوظيفة، دون أن تعيد بالضرورة تشكيل ڤيروس كامل أو مستقل. والڤيروسات هي الكينونات البيولوجية الوحيدة المعروفة التي تمتلك هذا «النمط الشكلي العنقائي»(2) phoenix phenotype؛ أي تمتلك القدرة على الانبعاث من رمادها الذاتي.
حياة على الحافة(**********)
«تتمثل الماهية الحقيقية للڤيروس في تشابكه الأساسي مع الآلة الوراثية والاستقلابية للعائل (الثوي).
الباحث الأمريكي الحائز جائزة نوبل ، 1993
«إن اعتبار الڤيروسات كائنات حية أو عدم اعتبارها كذلك هي مسألة ذوق.»الباحث الفرنسي الحائز جائزة نوبل ، 1962
«الڤيروس هو ڤيروس!»
، 1959
وتشير البيانات، التي نشرها الاتحاد الدولي لسَلْسلة الجينوم البشري، أن عددا يراوح ما بين 113 و 223 جينة، يوجد في البكتيرات وفي الجينوم البشري، غير موجود في الكائنات الحية التي دُرست دراسة وافية [كالخميرة Saccharomyces cerevisiae، وذبابة الفاكهة (دروسوفيلا ميلانوگاستر Drosophila melanogaster)، والدودة الخيطية سينورابديتس إليگانس Caenorhabtidis elegans]، والتي تقع بين هذين الحدين المتطرفين تطوريا (البكتيرة والإنسان). وظن بعض الباحثين أن هذه الكائنات الحية، التي ظهرت بعد البكتيرات وقبل الفقاريات، إنما فقدت الجينات المعنية في مرحلة ما من تاريخها التطوري. واقترح آخرون أن هذه الجينات قد نُقلت مباشرة إلى السُّلالة البشرية بوساطة بكتيرات غازية.
لقد اقترحتُ وزميلي [من معهد اللقاحات والمعالجة الجينية في جامعة أوريگون للعلوم والصحة] بديلا ثالثا، يتمثل في أن الڤيروسات قد تُنشئ الجينات ثم تستعمر سُلالتين مختلفتين، البكتيرات والفقاريات مثلا. إن جينة يبدو ظاهريا أن البكتيرات وهبتها للبشرية، قد تكون مُنحت لكلتيهما من أحد الڤيروسات.
وفي الواقع، فإن [من جامعة ماكاري في سيدني بأستراليا] وباحثين آخرين، بمن فيهم أنا، يعتبرون أن لنواة الخلية نفسها أصلا ڤيروسيا. ولا يمكن تفسير ظهور النواة ـ التي تميز حقيقيات النوى (الكائنات الحية التي تحوي خلاياها نواة حقيقية)، بما في ذلك الإنسان، من بدائيات النوى، كالبكتيرات ـ تفسيرا مقبولا بأنه مجرد تكيف تدريجي للخلايا بدائيات النوى حتى أصبحت حقيقيات النوى؛ بل على الأصح، ربما تكون النواة قد نشأت عن ڤيروس دناوي ضخم متشبث persistent، استوطن على نحو دائم داخل بدائيات النوى. ويأتي بعض الدعم لهذا الرأي من بيانات السَّلْسلة، التي تبين أن الجينة الخاصة بإنزيم پلمرة الدنا (إنزيم ينسخ الدنا) في الڤيروس المسمى T4، الذي يُعدي البكتيرات، ذات علاقة وثيقة بجينات پلمرة الدنا الأخرى في كل من حقيقيات النوى والڤيروسات التي تعديها. كما أن [من جامعة پاريس ـ سود] حلل هو الآخر الإنزيمات المسؤولة عن تنسخ الدنا، واستنتج أن الجينات الخاصة بهذه الإنزيمات في حقيقيات النوى، يحتمل أن تكون ذات أصل ڤيروسي.
وبدءا من الكائنات الحية الوحيدة الخلية حتى المجتمعات البشرية، تؤثر الڤيروسات في جميع أنماط الحياة الموجودة على الأرض، وغالبا ما تقرر من سيبقى حيا. بيد أن الڤيروسات نفسها تتطور. وقد تشكل الڤيروسات الجديدة، كڤيروس عوز المناعة البشري 1(HIV-1)المسبب للإيدز، الكينونات البيولوجية الوحيدة التي يمكن للباحثين أن يشهدوا فعلا نشوءها، مُشَكلة مثالا لممارسة تطورية.
إن الڤيروسات مهمة للحياة. إنها الحدود المتبدلة باستمرار بين عالمي البيولوجيا والكيمياء الحيوية. ومع تقدمنا في حل ألغاز الجينومات لعدد متزايد من الكائنات الحية، ستتضح بالتأكيد الإسهامات التي يوفرها ذلك المعين الجيني القديم والدينامي. في عام 1959، كتب [الحائز جائزة نوبل] متأملا دور الڤيروسات في التطور : «ألا يجب أن نشعر ـ من خلال الڤيروسات واندماجها في جينوم الخلية، ثم انبثاقها منه من جديد ـ أننا نرصد الوحدات والسيرورة التي أبدعت ـ عبر مسيرة التطور ـ الأنماط الجينية الناجحة التي تشكل أساس الخلايا الحية جميعها؟ وسواء اعتبرنا الڤيروسات أحياء أو غير أحياء، فقد حان الوقت للاعتراف بها ودراستها في سياقها الطبيعي ضمن شبكة الحياة.
مدير مركز أبحاث الڤيروسات في جامعة كاليفورنيا بإيرڤين. ولد في لوس أنجلوس، وحصل على الدكتوراه في البيولوجيا من جامعة كاليفورنيا في سان دييگو، وبعد الدكتوراه أجرى أبحاثا في علم الڤيروسات بجامعة ستانفورد مع الحائز جائزة نوبل. له نشاط واسع في تعليم العلوم، كما حاز الجائزة الرئاسية لمؤسسة العلوم الوطنية كمعلم متميز. وقد أعدّ ڤيلاريل ـ من خلال منصبه الحالي ـ برامج للتطوير السريع للدفاعات ضد تهديدات الإرهاب البيولوجي.
(2) العنقاء (الفونيكس): طائر خُرافي، اعتقد فراعنة مصر أنه يعمر قرونا تزيد على أصابع اليد. ينبعث من رماده الذاتي بعد أن يحرق نفسه، فيغدو أتم ما يكون شبابا وجمالا. (التحرير)