ما من عمل أدبيّ شعبيّ نال شهرة واسعة في آداب المجتمعات الإنسانيّة أكثر
من ألف ليلة وليلة. وكثيرة هي الدراسات التي تناولت هذا العمل في جوانبه
المتعدّدة، بوصفه نتاجاً معرفيّاً وحضاريّاً لكثير من الأمم والشعوب. ويمكن
القول: إنّ حكايات ألف ليلة وليلة تعبّر عن مخزون الذاكرة المعرفيّة
الجمعيّة للمجموع الإنسانيّ عبر رحلته التاريخيّة والحضاريّة، هذه الذاكرة
التي عايشت تاريخ المجتمعات، وعاداتها وأحوالها، والتحولات الفكريّة
والسياسيّة لهذه المجتمعات في تطوّرها الحضاريّ. ومن هنا فإنّ السرد
الحكائيّ في ليالي ألف ليلة وليلة ليس سرداً بعيداً عن الإيديولوجيا الّتي
تشكّل خلفيّة معرفيّة، يؤسّس عليها الرّواة مقولات أبطالهم الفكريّة، وحركة
هؤلاء الأبطال، وما يقومون به من أفعال، وليس هذا السرد بعيداً عن التاريخ
والسياسة. وكل محاولة لدراسة حكايات ألف ليلة وليلة بعيداً عن بنية
المجتمعات التي تتحدّث عنها اللّيالي ستفرض علينا اعتبارها عملاً تخيليّاً
صِرْفاً، وبالتالي ستفقدنا المتعة الكامنة في السرد الحكائيّ المرتحل في
مدن هذه المجتمعات، وفضاءاتها المتعددة، وعلاقاتها الإنسانيّة والطبقيّة
الّتي يمكن أن تكون علاقات قد قامت فعلاً، في زمان تاريخيّ معيّن، وفي فضاء
مكانيّ معروف.
وإذا كانت حكايات ألف ليلة وليلة تنهل من كثير من الأبعاد الأسطوريّة
والخرافيّة، والأحلام البشريّة الجمعيّة الجامحة للطبقات الوسطى والفقيرة،
فإنّ ذلك لا ينفي أن تكون هذه الحكايات قد نهلت من بنية الواقع بعلاقاته
وعاداته، ومكوّناته الفكريّة والرؤيويّة، ولا ينفي أن تكون هذه الحكايات
رصداً أنثروبولوجياً لحضارة الجماعات البشريّة بأزمنتها وأمكنتها، لأنّ هذه
الأزمنة والأمكنة ـ وإن كان من المحتمل أن تكون تخيّليّة ـ متشكّلة بفعل
الخبرات المعرفيّة للرّواة الذين قرأوا كثيراً من معارف عصورهم والعصور
التي سبقتهم أو حفظوها بعد أن سمعوها شفاهياً ـ قد تكون حقيقيّة، بل هي
أقرب إلى الحقيقة منها إلى التخيّل.
إنّ وضع اللمسات على الحدود الفاصلة بين ما هو واقعيّ وبين ما هو تخيّليّ
وحلمي في ألف ليلة وليلة من الصعوبة بمكان، إذ لا يمكننا أن نحدد بدقّة متى
ينتهي الواقعيّ ومتى يبدأ التخيّلي، لأنّ الواقعيّ في مدن ألف ليلة وليلة
يبدو أحياناً أغرب من التخيّلي نفسه، من حيث سحريّته وعجائبيّته.
وكذلك نجد أنّ السّرد التاريخي في حكايات ألف ليلة وليلة، وفي بعض الأحيان،
لا يعني مجرد ذكر الحادثة التاريخيّة بشخوصها و أفعال هذه الشخوص،
وعلاقاتهم في الزمان والمكان، بل هو يخرج عن إطار الحدث ومحدوديّته
ومصداقيّته، ليصبح سرداً مؤسطراً يتجاوز ما هو تاريخيّ إلى ما هو تخيّلي
وحلمي. فعلى سبيل المثال يُلاحظ ـ أحياناً ـ أن السّرد الذي يذكر الخليفة
العباسيّ هرون الرشيد يتخطّى حدود التاريخ، ليُدخل هذا الخليفة في دائرة
العجائبيّ الأسطوريّة، إذ يبدو مستهتراً ماجناً، وعاشقاً مغتلماً، لا همّ
له إلاّ إشباع لذائذه الجنسيّة، وباطشاً مستبدّاً بأقرب المقرّبين إليه،
وزيره جعفر البرمكي، وقادراً على إخضاع الجان لمشيئته.
ويبدو أنّ الراوي سبق له وأن رأى كثيراً من أخطاء الدولة العباسيّة،
وتجاوزات خلفائها وسلطاتها لما هو شرعي ودينيّ وأخلاقي، فعمد إلى تبنّي
إيديولوجيا مضادة لإيديولوجيا هذه الدّولة، ومن خلال هذه الإيديولوجيا
المضادة أضفى على تاريخ خلفاء هذه الدولة ـ ومنهم الخليفة هرون الرشيد ـ
سرداً نأى عن الحدث التاريخيّ بواقعيّته، وحقيقة أبطاله، ومسيرتهم
التاريخيّة، على أنّ أيديولوجيا الرّاوي في نهاية المطاف ليست فردية، ولا
يمكن أن تكون كذلك، لأنّها تمثّل رغبة الجماعات المستضعَفَة ـ بفتح العين
ـ والفقيرة، والمحرومة، في الدولة العباسيّة وتطلّعاتها. ومن هنا يبدو
طبيعياً أن تشكّل نصوص ألف ليلة وليلة حقلاً مرجعيّاً، ووثيقة تاريخيّة
واجتماعيّة، يمكننا من خلالهما أن نفهم طبيعة الإنسان والمجتمع، والحضارات
الإنسانيّة، وقيمها وأعرافها، وأنظمتها الفكريّة والسياسيّة، إذ لا يمنع
التخيّليّ الخارق في ألف ليلة وليلة هذه الليالي من أن تكون هذا الحقل
المرجعي، لأنّ التخيّلي ـ ومهما كان خارقاً وعجائبيّاً ـ فإنّه في
نهاية المطاف يستمدّ كثيراً من عناصره التخيّليّة من الواقع وإشكالياته،
وحركته، وقبحه وجماله، وأحلام جماعاته، وهو بهذا يعمل على تخطي هذا الواقع،
ليؤسّس مكوّناته التخيّلية الجمالية المتجاوزة لهذا الواقع، والقادرة على
الدخول بالذات الإنسانيّة إلى عوالم سحريّة أخّاذة مليئة بالدهشة والغرابة.
وإذا كانت بعض العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة التي ظهرت مدن ألف ليلة
وليلة علاقات عجائبيّة سحريّة لا تتحقق إلاّ في الحلم والتخيّل، وأوهام
الذاكرة، و وفقاً لنسق ميثولوجي وسحريّ، فإنّ كثيراً من مدن ألف ليلة وليلة
كانت مدناً واقعيّة معروفة بتاريخها وحكّامها، وطبيعة الحياة فيها بمختلف
أشكالها، فلقد قامت هذه المدن منذ القديم، وعُرِفت، ولا تزال معروفة حتى
الآن، ومن هذه المدن: بغداد والبصرة والكوفة، و دمشق، وحلب، وصنعاء،
والقاهرة والإسكندريّة، وفاس و مكناس، وغيرها من المدن الكثيرة التي ذكرتها
نصوص الليالي، في حين أنّ مدناً وجزراً أخرى ذكرتها الليالي، كانت غاية في
العمران والهندسة المعماريّة الفائقة فنّاً وإبداعاً، وتخطيطاً جمالياً
مدهشاً، غير أنّ هذه المدن، إذا حاولنا أن نتتبّع معالمها على الخريطة
الجغرافيّة الحديثة ـ بعد أن تشكل العالم الحديث تشكُّلاً جغرافياً جديداً
ومعروفاً من حيث معالمه وحدوده وبحاره ومحيطاته، وعواصمه ودوله ـ فإنّنا لن
نجد أسماء لهذه المدن. فإمّا أن تكون قد اندثرت بفعل عوامل الطبيعة من
زلازل وبراكين، وسيول وأنهار، وإمّا أن تكون قد تغيّرت أسماؤها، بفعل
التحولات التاريخيّة والجغرافيّة التي تعرّضت لها قارات العالم وفق
تشكّلاتها الجديدة، وإمّا أن تكون مدناً قد تشكّلت مورفولوجيّاً وجمالياً
وفق رؤية الرّواة الجماليّة الخاصّة، ومن خلال عمليات التخيّل والحلم، أو
من خلال المثاقفة الفكريّة والحضاريّة بين ثقافة رواة ألف ليلة وليلة
وبقيّة الثقافات الأخرى، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ هؤلاء الرّواة
كانوا على قدر كبير من العلم والمعرفة، إذا اطّلعوا على ثقافات الشعوب
وعاداتها وتاريخها وأدبها، وعادات مدنها. وإمّا أن تكون هذه المدن قد
خُرّبت وتهدّمت بفعل صيرورة التاريخ نفسه، وحركات الاضطراب والفتن والثورات
المعارضة والحروب، وبالتالي تأسّست مدن جديدة بدلاً منها، وبأسماء جديدة،
وإمّا أنّها انتهت بزوال سلطتها السياسيّة وقوّة ملكها، لأنّ » الأمصار
التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانتقاضها (…)، [و] الدولة إذا
اختلّت وانتقضت فإنّ المصر الذي يكون كرسيّاً لسلطانها ينتقض عمرانه وربّما
ينتهي في انتقاضه إلى الخراب .. «(1).
ومن هذه المدن التي ذكرتها حكايات ألف ليلة وليلة، والتي تبدو مجهولة، أو
التي لم تعد محتفظة بأسمائها في خارطة التسميات الجغرافية المعاصرة: مدينة
النحاس(2)، ومدينة اختيان الختن(3)، والطيران،(4) وجوهر تكني(5)، وواق
الواق(6)، والمدن والجزر الكثيرة التي كان يصل إليها السندباد البحري،
كمدينة الملك المهرجان(7)، ومدينة القرود(8)، وإقليم الملوك(9)، وجزيرة
السلاهطة(10)، وتلك التي لا تأخذ اسماً، وهي معظم الجزر التي وصل إليها في
رحلاته السبع، ومدينة أخرى، يبدو أنّ الرّاوي لا يعرف اسماً لها، إذ يقول
عنها:
» والله لا أعرف للمدينة (…) اسماً ولا طريقاً «(11). يُضاف إلى ذلك مجموعة
كبيرة أخرى من المدن المتخيّلة التي تتوزّع على حكايات ألف ليلة وليلة،
والتي شكّلها الرّواة من خلال قراءاتهم الكثيرة في الأساطير والخرافات
والحكايات الشعبيّة، ويبدو أنّ جميع مدن ألف ليلة وليلة الواقعيّة
والمتخيّلة غير المعروفة، باختلاف تشكيلاتها الاجتماعيّة وتوجهاتها
الدينيّة، هي مدن موشّاة بالسحر والأسطورة والغرابة، وقلّما نجد مدينة في
ألف ليلة وليلة إلاّ ولها سحرتها الخاصّون، ومنجّموّها الذين يستشعرون
الخطر قبل قدومه، ونساؤها الخبيرات في جميع فنون المكايد والحيل والمكر،
ورجالها السلطويّون الذين أفنوا أعمارهم في مجالس الشراب والطرب، والتمتع
بأجساد الجواري، والحروب الطاحنة، رغبة في تعزيز بطشهم وسلطاتهم، بعيداً عن
أيّة قوانين أو شرائع إنسانيّة أو أخلاقيّة، من شأنها أن تحمي مواطنيهم
البسطاء من شرورهم واستبدادهم.
إنّ قسماً من مدن ألف ليلة وليلة مدن واقعيّة معروفة عبر منها رجال التاريخ
السلطويون فارضين رؤيتهم وقسوتهم، واستبدادهم المطلق بشعوبهم، والقسم
الآخر مدن متخيّلية شكّلها عدة رواة متشعّبو الثقافات، وينتمون إلى حضارات
متعددة، متعاقبة، ومتجاورة زمنيّاً وتاريخيّاً.
و تعدّ حكايات ألف ليلة و ليلة من بين أكثر النصوص الأدبية الإسلامية
والعربية تأثّراً بالمجتمعات العربية و الإسلامية، و بخاصة في عهد الدولتين
الأموية و العباسية، بعلاقاتها السياسية و الاجتماعية، فقد صوّرت هذه
الحكايات عادات المجتمعات العربية و الإسلامية، و أنماط معيشتها، و عرّجت
على تركيبتها الطبقية و السياسية، و وقفت طويلاً عند مظاهر الترف و اللهو و
الفجور التي انغمس بها كبار رجال السلطة ونساؤهم و أبناؤهم، و عرّجت على
هموم الفقراء و المهمشين و مآسيهم في هذه المجتمعات، و أشارت بشكل جريء
إلى فساد الرجال والنساء في هذه المجتمعات المنفتحة حضارياً و معرفياً على
ثقافات الحضارات الأخرى المجاورة.
الخميس يونيو 10, 2010 4:14 pm من طرف سبينوزا