الدادائية والسريالية في الشعر العربي القديم
يموت رديُِ الشعرِمن قبلِ اهله
وجيده يحيا وان ماتَ قائله
دعبل الخزاعي
قيل لابي تمام : لما لا تقول ما يفهم ؟
فأجاب : وانت ، لم لا تفهم ما يقال ؟
مدخل :
1 0 تطورت القصيدة العربية خلال مسيرتها الطويلة ، وكان لذلك التطور عوامل واسباب عديدة ، ربما اهمها ظهور الاسلام في حياة العربي البد وي القبلي ، وعلى الرغم من ان النقاد العرب القدامى قد جعلوا من هذا سبب سلب في تلك المسيرة ، الا انهم نسوا او تناسوا ، ان هذا الظهور قد مكّن الحياة العربية من الانتقال من حياة البداوة الى حياة المدنية ، بمختلف صور تلك الحياة واشكالها ومجالاتها ، وكان الشعر واحداً من ابداعات الحياة العربية التي هي الاخرى قد انتقلت من حال الى حال ، فظهر الشعر العذري ، اذ لم يكن له – قبل الاسلام – وجود مستقل ، ومن ثم راح الشعر ، خاصة في العصرالاموي المتأخر ، يتقد بأطراد ، خاصة على مستوى بناء القصيدة ، فتهيأة ذائقة شعرية جديدة ، جعلت من بعض شعراء العصر العباسي الى امتلاك تلك الذائقة التي نظرت لبناء القصيدة العربية نظرة جديدة ، كما ظهر ذلك في شعر مسلم بن الوليد وابي نواس ، اذ تحولت عندهم ( عمارة ) القصيدة العربية ذات الطوابق العديدة ، الى (عمارة ) جديدة ، فقدت بعض ( طوابقها ) ، وخاصة المقدمة الطللية 000 حتى اذا اذا جاءابو تمام ، راحت الذائقة الشعرية تلك تعمل عنده مهيا’ الى توليد ما سمي بشعر الفكرة ، ثم راحت القصيدة العربية تسير بشعاب وطرق عديدة ومتنوعة ، فحملت بيت طيات ابياتها الافكار الفلسفية ، والحِكَم ، مع استقلال تام لاغراض الشعر ، فتولدت عند ذاك قصائد المديح والغزل والوصف ذات الاستقلالية التامة 0
ان ما تريد ان تصل اليه السطور السابقة ، هو التأكيد على ان الذائقة الشعرية قد اصبحت حبلى بما هو مغاير لما كانت عليه 0
ان عوامل كثيرة دفعت النفسية العربية – بصورة عامة – والنفسية الشعرية ومن ثم الذائقة الشعرية ، بصورة خاصة ، الى البحث عما هو مغاير لم ألفته تلك النفسية ، اذ رافقت الانسان العربي حالات من القلق والحيرة والشك بما هو عليه الواقع المعاش ، فدفعت بها الى حالة البحث عما هو جديد ، أي الى التغيير نحو الاحسن ، أي الثورة على ذلك الواقع المرفوض ، او الهروب الى ماهو مضاد ، ومن ثم النكوص 0 وكان عالم الشعر ، والذائقة الشعرية ، عند بعض الشعراء الاكثر تحسساً ، اول المبادرين للثورة على ذلك الواقع ،او الهروب منه ، على الرغم من ان اكثر اصحاب الثورة على الذائقة الشعرية القديمة ، هم الاكثر ارتباطأ بالقيمين على الحياة المعاشة ـ بكل صورها واشكالها ،وتنوعاتها ـ والتي وجهت الثورةاليها ، من خلال شعر المديح والرثاء خاصة 00 أي بمعنى اخر ،ان الشاعر الثائر على الذائقة الشعرية القديمة ( المحافظة ) هو الشاعر نفسه الذي قدم المديح للخلفاء والامراء الذين كان من واجبهم المحافظة على حالة الحياة القديمة ، ومن ضمنها الشعر .. من مثل : مسلم وابي نواس وابي تمام والمتنبي …
واذا كنا لانريد في هذه السطور ان نستطرد في الحديث ،ونبحث عن الأسباب ،الاان سبباً واحداً يمكن ذكرة ، هو المال الذي يقف وراء ذلك، وهذا ماسنأتي على ذكره في السطور القادمه 0
2ـ من المستحيل ان ندرج شاعر من شعراء العربية ولد قبل اكثر من الف سنة تحت لافتة الشعر الدادائي اوالسريالي ، ليس لأن هذا الشعر عربي المولد واللسان والثقافة 000الخ فحسب ، وانما لسبب بسيط ، هو اننا لا يمكننا احياءالموتى بعد هذه الفترة الطويلة لنتركهم يعيشون اجواءاوربا الحرب العالمية الاولى ، مع شعراء من مثل : تزارا ، واراغون ، وبريتون ، وسوبو 000الخ ، ليأخذوا باسباب حضارتهم وثقافتهم ، ويتأثرون – او يؤثرون – بما كتبو من شعر ينضوي تحت هذه المدرسة او تلك 0
اذا كان هذا منطقاً سليماُ ، فما الذي يجعلنا ان نصنف بعضصور هذا الشاعر او ذاك ، بأنها صور دادائية ، او ان نقول ان هذا الشاعر او ذاك يندرج فيما يكتب تحت لواء السريالية ، كما لو كان هذا الشاعر تزارا الروماني ، او اراغون الفرنسي ! ؟
هذا ما ستجيب عنه السطور القادمة 0
*** ***
الدادائية ودادائية ابي العبر:
الدادائية ، مدرسة ادبية / فنية ، ظهرت ابان وبعد الحرب العالمية الاولى فياوربا ، وحمل لواءها مجموعة من الادباء والفنانين ، وهي ذات منازع ومشارب متنوعة ومتعددة 0
ولما كنا لا نريد – هنا – ان نؤرخ لهذه المدرسة ، الا اننا يمكن ان نعرّف بها ، فنقول : ان تسمية هذه المدرسة بـ ( الدادائية ) قد جاء مصادفة عام 1916 ، من خلال فتح معجم لاروس(1) اذ كلمة دادا قد ظهرت (( مطبوعة اول مرة في المقدمة التي كتبها " هيوكوبول " للعدد الاول من مجلة " كاباريه فولتير " الذي ظهر في حزيران 1916 0 لقد استعملت هذه الكلمة في لغات متعددة لتعطي معاني مختلفة ومتعددة 0 فهي تعني " التأك المتحمس " باللغة السلافية ، وتعني " الاستغراق " بالفرنسية ، وتعني " الحصان الخشبي " بلغة الاطفال ، بذلك كانت احدى الكلمات المناسبة لأثارة غضب البرجوازية 0 لقد كانت هذه الكلمة " بياناً " بحد ذاته )) 0 (2 )
ويقول عنها احد اقطابها ، الشاعر ( تزارا ) الروماني ،انها ولدت من ((تمرد كان مشتركأ بين المراهقين ،تمرد كان يطالب الفرد بتبن كامل لضروريات طيعتة العميقة ، من دون اكتراث للعلوم السائدة من تاريخ ومنطق أو علم اخلاق . ان الشرف والوطن وعلم الأخلاق والعائلة والغن والدين والحرية والاخاء وما إلى ذلك من المفهومات التي تستجيب لضرورات انسانية ،لم يبق منها غير هيا كل تقليدية اخرغت من محتواها الجوهري )) (3)
انها دعوه لتحرير من كل قيد ،مهما كان منشآن ،ورفض للواقع ولما هو معيش ،لهذا نجد (جيد) يقول : (( اني افكر بتناسقات جديدة ،نجن كلمات اكثر دقة وحرامة ، من بلا بلاغه ولايجث عن برهنة شىْ (……)
آه من سيحرر ذهني من سلاسل المنطق الثقيلة ؟ آني أحس بزور اكثر انفعالات صراحة حالما يتاح لي التعبير عنه )) (4)
ومن خلال قراءة الفقرتين السابقتين وقراءة ادبيات هذة المدرسة يمكنه القول ان (الدادائية ) كانت موجة من التمرد والثورة ضد كل قيم الاخلاق والأعراف ، وابتعادأ عما توصلت الية البشرية ـ على مدى تاريخها الانسانى الطويل من قيم واخلاق ومفاهيم ، وتاريغ وعلوم …. الخ لان كل ذلك قد زلزلت بها الحرب الكويتة الاولى في نفوس البشرية ، وخاصة في نفوس اولئك الشياب الذين تبنوا مااسموة بعد ذلك بـــ (الدادائية )
تقول ((سوزان بيرنار )) : (( وقد أمكن القول ان حركة دادا حينما اتخذت اللغة هدفأ لها كانت تقصد النضام الاجتماعي في الوقت عينة )) (5) الاان الدادائية لم تعمر طويلأ ، اذا اكتسبتها السريالية ، كأ ي مدرسة أدبية اوفنية اخرى على مدى تاريغ الابداع الانساني 0
ولو عدنا الى العصر العباسي ، الى زمن الخليفة ( المتوكل ) ، والى مدينة سر من رأى ، لالتقينا بشاعر كان له دور الريادة - بوعي او دون وعي – في كتابة قصيدة تمتثل لبعض شروط القصيدة الدادائية ، هذا الشاعر هو : ابو العباس بن محمد بن احمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، الذي ولد (( بعد خمس سنين خات من خلافة الرشيد )) ( 6) وقد لقب بحمدون الحامض ، وكني بأبي العباس ، وابي العبر ، وقد كان يزيد على هذه الكنية (( في كل سنة حرفا ً حتى مات ، وهي ابو العبر طرد طيل طليري بك بك بك )) 0(7)
وبعد ان عرف في محيط مدينته شاعراً ، ترك (( الجد وعدل الى الحمق والشهرة به 0 وقد نيف على الخمسين ، ورأى ان شعره مع توسطه لا يتفق مع مشاهته ابا تمام والبحتري وابا السمط ابن ابي حفصة ، ونظراءهم )) 0 (8 ) وقد (( كسب بالحمق اضعاف ما كسبه كل شاعر كان في عصره بالجد )) 0(9 )
وقد وصفه البعض على انه : (( ليس بجاهل وانما يتجاهل ، وان له لأدبا ً صالحا ً وشعرا ً طيبا ً )) 0 (10 )
ومن اخباره ، ان والده كان لا يكلمه 0 وعندما سئل عن ذلك ، قال : (( فضحني كما تعلمون بما يفعله بنفسه ثم لا يرضى بذلك حتى يهجنني ويؤذيني ويُضحك الناس مني ! فقالوا له : واي شيء من ذاك وبما هجنك ؟ قال : اجتاز علي منذ ايام ومعه سلم فقلت له : ولأي شيء هذا معك ؟ فقال : لا اقول لك فأخجلني واضحك بي كل من كان عندي 0 فلما ان كان بعد ايام اجتاز بي ومعه سمكة ، فقلت له : ايش تعمل بهذه ؟ فقال : اني000 ، فحلفت لا اكلمه ابدا ً )) 0(11)
ومن اخباره ايضا ً ، انه كان (( يجلس على سلم وبين يديه بلاعة فيها ماء وحمأة ، وقد سد مجراها ، وبين يديه قصبة طويلة وعلى رأسه خف ٌ وفي رجليه قلنسيتان ومستمليه في جوف بئر ، وحوله ثلاثة نفر يدقون بالهواوين حتى تكثر الجلبة ، ويقل السماع ويصيح مستمليه من جوف البئر : من يكتب عذبك الله ! ثم يملي عليهم فأن ضحك احد ممن حضر قاموا فصبوا على رأسه من ماء البلاعة ان كان وضيعا ً ، وان كان ذا مروءة رش عليه بالقصبة من مائها ن ثم يُحبس في الكنيف الى ان ينفض المجلس ، ولا يخرج منه حتى يغرم درهمين )) 0(12 )
زقد استخدم ابو العبر الفاظ القاذورات كثيراً في ما وصلنا من شعره ، وارى انه سبق الكثير من الشعراء في هذا الجانب ، خاصة شعراء الفكاهة ، كالفضل بن هاشم البصري الذي عده محمد بن داود الجراح في كتابه ( الورقة ) اول من ذكر مثل تلك الالفاظ في الشعر 0 (13)
قال ابو العبر :
في أي سلح ٍ ترتَطم وبأيّ كفّ ٍ تلتطم
ادخلتَ رأسك في الرَّحـِم وعلمتَ انكَ تنهزم
وقال لاحدهم : (( اذا حدثك انسان بحيث لا تشتهي ان تسمعه فأشتغل عنه بنتف ابطك حتى يكون هو في عمل وانت في عمل )) 0(14 )
*** ***
شعره:
قليلة هي القصائد التي وصلتنا من شعره ، اذ لا تعدعلى اصابع اليد الواحدة ، وهي من المقطوعات القصيرة جدا ً ، قالها الشاعر هاجيا ً او مستهزء بالاخرين ، اذ احجمت كتب نقادنا وكتابنا القدامى من ذكره او ذكر شعره خاصة وان الاغاني – وهو الكتاب الوحيد الذي ذكره على حد علمي – لا يذكر لنا ما كتبه الشاعر من قصائد غير هذه المقطوعات القليلة ، ان كان ذلك قبل ان يتحول من الجد الى الحمق او بعد ذلك 0
عندما سئل عن سبب كتابته لمثل تلك الاشعار ، قال لسائله : (( ياكشخان اتريد ان اكسد انا ، وتنفق انت ، وايضا ً اتتكلم ؟ تركت العلم وصنعت في الرقاعة نيفا ً وثلاثين كتابا ً ، احب ان تخبرني لو نفق العقل اكنت تُقـدًّمُ على البحتري )) 0(15)
ومن اشعاره : (16)
باضَ الحبُّ في قلبي فواويلي إذا فــــــــرّخْ
ومــــــا ينفعني حبي اذا لــــــم اكنس البربخ
وان لـم يطرح الاصـ ـعُ خَرجَيهِ على المطبخ
وقال هاجياً قاضيين : ( 17 )
رأيتُ مــــنَ العجائبِ قاضيين هما احدوثةٌ فــــي الخافقين
هما اقتسما العمى نصفين فذا كما اقتسما قضاءَ الجانبين
هما فالُ الـــزمانِ بِهَلكِ يحيى اذا افتتح القضاء بأعورين
وتحسبُ منهما من هــزَّ رأسا لينظر في مواريثٍ وديــــن
كأنك قد جعلت عليه دنــــــــــاً فتحت بِزالهُ من فردِ عــين
*** ***
دادائية ابي العبر :
لم تذكر لنا المصادر قصائد هذا الشاعر ذات الاتجاه الدادائي ، وربما كان ذلك لنفرة الناس من مثل تلك القصائد ، خاصة وانه قد وصِف بالحمق ، ولما لسلوكه المشين من تأثير على ذلك 0
وعندما سئلأ عن تلك الحلات التي كان يكتب فيها شعره ، قال : (( ابكر فأجلس على الجسر ومعي دواة ودرج ، فأكتب كل شيء اسمعه من كلام الذاهب والجائي والملاحين والمكارين ، حتى املأ الدرج من الوجهين ، ثم اقطعه عرضا ً وطولا ً والصقه مخالفا ً فيجيء منه كلام ليس في الدنيا احمق منه )) 0 (18 )
ولو تقدمن الف سنة الى امام ، أي الى زمن ولادة القصيدة الدادائية ، الى حيث نجد واحدة من قصائد الدادائيين ، وهي قصيدة (corset mystere) (( مؤلفة من قصاصات صحفية مأخوذة ومجمعة على نحو تعسفي والاستخدام " الشعري " الذي يزعم الدادائيون عمله من المواضيع المبتذلة والامثلة الجاهزة تصب في الاتجاه نفسه الذي سبق ان اشار اليه لوتريامون )) 0 (19)
كتب : تريستان تزارا " قصيدة (( القصيدة )) التي يقول فيها :
(( من اجل كتابة قصيدة دادائية ))
(( خذ صحيفة
خذ مقص
اختر من تلك الصحيفة مقالا ً له الطول الذي تنوي اعطاءه لقصيدتك
قطع المقال
ثم قطع بعناية كل واحدة من الكلمات التي تشكل هذا المقال وضعها في كيس
حرك بهدوء
ثم اخرج كل قصاصة الواحدة تلو الاخرى حسب النظام الذي خرجت فيه من الكيس
انقل بعناية
وسوف تشبهك القصيدة )) (20 )
لو لا قلة معلوماتنا عن قراءات " تزارا " للعربي العربي ، لقلنا ان هذا الشاعر قد نفذ تعليمات ابو العبر في كتابة القصيدة ، اذ ان الخطتين متطابقتان 0 (21 )
الم تكن كنية ابي العبر لوحدها قصيدة دادائية ؟ اذ بعد ان قام الشاعر بعملية انحلال للغة وتفكيك لها ، قال :
(( ابو العبر
طرد طيل
طليري
بك000بك000بك ))
فيما تقول احدى قصائد الدادائيين ، والتي اصطلحوا عليا تسمية (( قصائد صوتية )) : (22)
(( آ ، أو ، اويو يو يو
يو يو يو
دررر دررر دررر غ رررر غ ررر
قطع من مدة زمنية خضراء تحوم في غرفتي
أ أو أو أي أي أي أي أو آ او أي أي أي جوف ))
ويقول ابو العبر: (23)
ويأمــــــــر بي الملك فيطرحني فـــي البرك
ويصطادني بـــالشبك كأني مــــــــن السمك
ويضحك كك كك ككك ككك كك ككك كك ككك
ان الصوتية ، من اهم ما كتبه شعراء الدادائيةفي اوربا ، وانا على يقسين تام ان هنالك قصائد قد انشأها ابو العبر حسب مخططه في كتابة الشعر والذي هو شبيه لمخطط " تزارا " (( من اجل كتابة قصيدة دادائية )) والى ان نجد في كتب تراثنا العربي القديم مثل هذه القصائد يحق لنا ان نقول ان ابا العبر هو اول شاعر دادائي عربي ، ان لم يكن اول شاعر دادائي 0
*** ***
السريالية :
اذا كنا في القسم الاول من هذه الدراسة ، قد قرأنا ما وصلنا من كتابات الشاعر العباسي ابو العبر ، على انه كتابات دادائية ، ان كان ذلك في الشكل او في المضمون ، في اللغة او في الافكار التي حملتها ، او وقفت خلفها ، فأننا في هذا القسم سنقرأ بعض قصائد شعرنا العربي القديم التي يمكن ان نضعها في خانة الشعر السريالي بالمفهوم العام للكلمة 0
والسريالية (surrealism) (24 ) والتي يمكن ترجمتها بـ ( ما فوق الواقع ) 0 ومن هذا المعنى ، يمكن القول ، ان ما كتب تحت هذه اللافتة يعبر عن رفض للواقع او الهروب منه ، وان هذا الرفض ، وذاك الهروب يستدعي اللاعقلانية واللاوعي في التعامل مع الاشياء ، خاصة اذا عرفنا ان الشاعر ، كما يعبر عنه سقراط : (( ضوء ، شيء مجنح مقدس ، وهو لايبدع ما لم يلهم ويفقد وعيه ، ويبطل فيه عمل العقل )) 0 (25 )
يقول احد مؤسسي السريالية ، واهم اقطابها في فرنسا ، الشاعر بريتون ، بأن السريالية : (( اسم مؤنث ، آلية نفسية ذاتية خالصة تستهدف بواسطتها التعبير ، ان قولا ً ، وان كتابة ، وان بأية طريقة اخرى ، عن السير الحقيقي للفكر ، هي املاء من الذهن في غياب كل رقابة من العقل ، وخارج اهتمام جمالي او اخلاقي )) 0 (26)
وهذا لايعني الطلاق الكلي والنهائي من الواقع والعيش في عالم اللاوعي واللاعقل ، ذلك لأن السرياليين ، ومن قبلهم الدادائيين ، كانوا ك (( واقعيون في تفصيلاتهم ، لكنهم لا يجمعون صورهم ابدا ً في كل ٍ واقعي ، بل هم – كما الحال في احلامنا – يترجمون هواجس وتضمينات اللاوعي مشغوفين بالاعتباطية والرؤى المرعبة )) 0 (27)
ولم يكن الشعر العربي ، طيلة عمره المديد من الشعر الجاهلي حتى ىخر قصيدة كتبت في زمننا الحاضر ن شعرا ً عقليا ً ن ينبع من الوعي ، ويتحرك في حدود الواقع والمنطق ، بل طان وما يزال يأخذ من هذا ومن ذاك ، وما يزل اساسه المتين الذي ينبع منه - على الرغم من تحولاته وتبدلاته – هو وادي عبقر ، وجنياته ، ومن ثم الالهام 000الخ ، انه - أي الشعر العربي – خارج الواقع وخارج العقل ، وفي الوقت نفسه ، هو ينبع من داخلهما ويتحرك بين آثاثهما ، انه ليس ببعيد عنهما ، ولا هو بالقريب منهما 0
يقول الفنان ( بول كلي ) : (( اعتدنا في الماضي ، ان نمثل الاشياء المرئية على الارض ، اشياء اما يستهوينا النظر اليها ، او تلك التي نرغب في ان نراها ، نحن اليوم نكشف عن الحقيقة الكامنة وراء الاشياء المرئية ، وبذا نبرهن على ان ما يُرى ان هو الا حالة منفصلة في علاقتها بالكون ، وان هناك حقائق اخرى مجهولة كثيرة )) 0(28)
لم يكن هذا القول سوى ترديد لما جاء به الجرجاني قبل اكثر من الف سنة عن(( معنى المعنى ))
، وما يفيض به هذا المصطلح مما سودت له المقالات والكتب عن الايحاء ، وان الشعر لا يقرر وانمكا يوحي ، وهذا هو ما هدفت اليه الدادائية ومن بعدها السريالية ، اذ انها ركزت على (( الايحاءات النفسية اكثر من الاهتمام بخلق اعمال فنية )) 0 (29 )
وقد اشتغل اغلب فحول الشعراء العرب بما له علاقة بقضية التلقي ، وفي منطقة التأثير النفسي والذهني ، ولم يكن ذلك بعيداً عن مؤسسي الدادائية والسريالية بعد ان رفضوا الواقع ، وما كتب عنه ومنه من شعر ، لأن المهم بالنسبة اليهم (( لم يكن العمل الفني ذاته ، بل الهزة التي يستطيعون خلقها ، والارتباك الذي يسببونه في الذهن )) 0 (30 )
ولما كان الابداع ، فعل انساني لا يقف الزمان ولا المكان عائقا ً في طريقه ، فأن اشتغال شاعر عربي قبل اكثر من الف عام في منطقة اشتغل فيها شعراء آخرين وفي لغة ومن حضارة وثقافة مغايرة لما عند وحول ذلك الشاعر ، لم يكن من الامور العسيرة ، او من ( سابع المستحيلات ) – كما يقال – اذا اخذنا بنظر الاعتبار فحولة ذلك الشاعر ، حسب المفهوم السابق للفحولة ، وعبقريته وقوة ابداعه ، انه الشاعر المتنبي ، الذي قال عن شعره :
انام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
وقال مفتخراً بشعره :
وما الدهر الا من رواة قصائدي اذا قلت شعراً اصبح الدهر منشدا
ويقول كذلك :
امط عنك تشبيهي بما وكأنه فما احد فوقي وما احد مثلي
وقال عنه الشاعر ادونيس : (31)
(( اتعجب ، لا بالريشة
يكتب، لا بيديه ،
بل بالكون ))
واذا كان هدف الدادائية ، هدم الواقع ورفضه رفضاً نهائياً ، فأن السريالية جاءت لتفصل الحياة عن ذلك الواقع ، و (( لجأت الى طريقة ايحائية في التعامل مع الواقع المرفوض ، كانت في البداية تعمل بغية التهرب من شروطه الى النقيض ، ثم صارت تعمل في النهاية كما تبلور ذلك في كتابات بروتون على اقامة معادلة حاذقة بين الواقع واللاواقع ، بين الوعي واللاوعي ، بين الحلم الفردي والحلم الجماعي ، لتصير وسيلة خلاص انسانية في المعنى الفعال )) 0 (32 )
*** ***
سريالية ابي الطيب المتنبي :
سوف تكون قراءتي لبعض ابيات المتنبي ذاتها القراءة التي قرأت من خلالها بعض شعر ابي العبر ، عندما وجدته قد اشتغل في منطقة قد اشتغل فيها وعليها شعراء الدادائية والسريالية 0
وعندما قال المتنبي وهو يصف ركباً من الجمال يسير في الصحراء : (33)
نحن ركب ملجن فـــــي زي ناس فوق طير لها شخوص الجمال
من نبات الجديل تمشي بنا في الـ بيد مشي الايام فـــــــي الآجال
فأنه كان يعرف بحسه الابداعي ، انه ليس ناقلا ً لما يراه ، ولا ينبغي له ان يكون كذلك ، على الرغم مما قيل عن الشاعر بأنه رائيا ً ، او نبيا ً ، وانما عليه ان يكون كما قيل عن امثاله من فحول الشعراء ، هادما ً للواقع ومعيدا ً بنائه من جديد ، وهذا ما دعت اليه السريالية في ان (( تمر في شرطين لتأكيد نفسها : الهدم الكلي للواقع الراهن ، ثم اعادة ترتيب عناصره بالطريقة الاقرب الى تحريره في الداخل كما في الخارج )) 0(34 )
الم تفيض قصائد المتنبي بما يحمل القاريء للتيقن بأن هذا الشاعر كان همه تدمير الواقع من خلال تدمير الانظمة المنطقية التي تحكمه ، فأي منطق يجعل من المشبه به مشبها ً ، وبالعكس ؟ واي منطق يجعل من ( الجـِمال ) مشخصة بالطيور ؟
لقد كان الشاعر في هذا البيت مدهشاً ، وهذا ما كان عليه الشعراء المجددين ، وهذا ما ارادت السريالية ان تصل اليه ، أي في قدرة الاثنين الشاعر المجدد ، والسريالية الى الوصول اليه من عملية الادهاش التي تأتي من تداخل الصور الشعرية ، وتفكيك العلاقات التي تربط عناصر النص ، وكذلم ، وهو الاهم تفكيك البنية اللغوية 0
في هذا البيت ، يرسم المتنبي لوحة تشكياية واقعية ، وفي الآن نفسه تخييلية لموكب يضم راكبي الجـِمال وهو يسير في الصحراء 0
فالموكب – كما هو في الصحراء – حدث واقعي ، حسي ، والراكبون يرتدون الزي العربي ، ويغطون اجسادهم بالعباءة العربية ، ووجوههم مغطاة باللثام ، الا ان المتنبي لا يرى ما هو مرأي من قبل الاخرين ، وانما كما يقول رامبوعنه ، انه يقوم بـ (( رؤية ملا يرى ، وسماع ما لا يسمع )) (35) وفي الوقت نفسه ، يعيننا على ان نرى تلك الرؤية التخييلية لذلك الموكب 0
اذن ، فالشاعر يقوم بتحويل الواقع الى خيال ، والخيال الى واقع ، أي يحول الصورة الواقعية ، المنطقية ، الى صورة متخيلة ، غير واقعية ، يجمع بين عناصرها اللامنطق ، فيصبح ( الخداع البصري ) الذي تقوم به حواسه - و بالتفاعل مع المحيط - ، هو الفاعل الوحيد في تلك الرؤية ، فضلا ً عن دور المخيلة ،وما يضفيه جو الصحراء في النهار ، وما يضفيه السراب الخادع للعين من كسر للرؤية ، يدفع بالمخيلة الى ان ترى ما هو واقعي بلباس غير واقعي ، ذلك لأن الخيال (( بأعتباره الرباط الذي يصل عالم الانسان الداخلي النفسي بعالم الواقع الخارجي )) 0 (36 )
اما اذا كان مسير الركب ليلاً ، فأن اجواء ليل الصحراء يجعل المكان اكثر ( خرافية ) واسطورية ، بما يتجسد فيه – بفعل عامل التخيل – من رؤىشبحية ، لتصورات سابقة عن الجن والاشباح والطناطل 000الخ 0
ومن الطريف ، ان ناقدا ً عربيا ً كالجاحظ ، قد انتبه لهذا الامر ، وسبق رامبو بألف عام عندما فسر هذه العملية بكل عقلانية وعلمية ، وجاء بالعبارة ذاتها التي استشهد بها رامبو في ان الشاعر يقوم بـ (( رؤية ولا يرى وسماع ما لايسمع )) 0 قال الجاحظ وهو يكذب ما اشيع حول شياطين الشعر : (( واذا استوحش الانسان تمثل له الشيء الصغير في صورة الكبير وارتاب وتفرق ذهنه وانتقصت اخلاطه فرأى ما لايرى وسمع ما لايسمعوتوهم على الشيء اليسير الحقير انه عظيم جليل )) 0 (37)
ان الصورة الواقعية للركب كما يمكنها ان تكون ، وفي مرلأى الانسان ، يمكن رسمها هكذا :
نحن ركب من الانس في زي جن فوق جمال لها شخوص الطير
هنا تلعب الاستعارة ، والتشبيه دوراً كبيراً في رسم هذه الصورة السريالية في بيت لبمتنبي الذي يشبه ناس الركب بالجن ، وفي الوقت نفسه يستعير للصورة الانسية ، الصورة ( الجنية ) ، اذ تحول العباءة المتطايرة في هواء المسير ، واللثام ، الانسي الى ( جني ) وفي الوقت نفسه يشبه المتنبي واسطة النقل ( الجـِمال ) بالطير في سرعة حركته وتقلبه في الهواء ، اذ تتراءى له ( الجـِمال ) وكأنها تطير في اجواء الصحراء لخفتها ، ولما يفعله المكان من تأثير على الرؤية 0
لكن المتنبي ، هذا الشاعر العظيم الذي يرى ما لا يرى ، المجدد الدائم ، يستعير الخيال السريالي قبل السرياليين بألف عام ، ليقدم من خلاله ما يحس به وما يراه ، لأنه لا يرتضي بما تراه عيناه من صور ( واقعية ) ، وانما يجعل من مخيلته ( المعمل ) الابداعي لانتاج صور مغايرة للواقع دون ان تبتعد عنه 0
ان السريالية كنزعة انسانية ، ما هي الا عملية (( تحطيم جميع الحواجز التي تحدد الفرد ، جاعلة منه غريبا ً عن ذاته 0 فالسريالية ترفض الموانع ، والتعارضات الثنائية ( عقل – جنون ، واقع – استيهام ، طفل – بالغ ، يقظة حلم 000 ) انها تفترض اوليا ً انسانا ً استعاد وحدته ، في حالة ابتكار وخلق ٍ دائمين )) 0 (38 )
لنتساءل ، هل كان المتنبي قد زهد بالواقع فطلقه وطلق معه ما كان ينظمه العقل له ، وكذلك حالات الوعي التي كانت تنظم له شاعريته ؟ فراحت الرغبات الدفينة تفعل فعلها في نظم الشعر بعيدا ً عن الواقع والعقل والوعي ، وقريبا ً من عالم الاحلام ، وما هو خارق ، مع العلم ان من معاني السريالية هو (( الواقعية الخارقة )) 0 (39)
ان قلق المبدع الحقيقي لا يرتكن للخمول والسكينة والدعة ، واستقبال كل شيء بحيادية 0 وشاعر مثل المتنبي ، صاحب الروح القلقة ، والطموح الى شيء كان يريد الوصول اليه ، والكثير الاسفار ، والذي حاول ان يجعل من نفسه نبيا ًُ ، ان كان ذلك حقيقة ام كان من خلال تفسير شعره (40 ) مثل هذا الانسان المغامر ، انسان غير منسجم ن ليس مع محيطه فحسب ، بل ومع ذاته ايضا ً0 مما يدفعه الى رؤية ما لا يرى وسماع ما لا يسمع ، ومن ثم قول ما لا يقال 0
ان اول ما فعله المتنبي في بيته الشعري اعلاه ، هو انه نحت كلمة ( ملجن ) من حرف الجر ( من ) ومن الاسم المجرور ( جن ) ، فأضاف بذلك الى المعجم العربي لفظة جديدة ، اضافت غرابة فوق غرابة بناء عناصر هذا البيت ، فأعطى للصورة الشعرية بعداً سرياليا ً 0
وثانيا ً ، عكس المتنبي المألوف الذي تعودنا عليه في التشبيه ، فجعل المشبه بدلا ً من المشبه به مع حذف اداة التشبيه 0
وثالثا ً ، ان قاريء هذا البيت ، يفترض ان ما يصوره الشاعر ، هو موكب للجن ، وليس موكبا ً انسيا ً ، فعكس الواقع الى خيال ، والخيال الى واقع ، ومن هذا جاء دفاع السرياليين عن الخيال (IMAGINATION) وعن دوره في الذائقة الشعرية ، فـ (( بدأت السريالية بالدفاع عن استسلام الانسان للخيال من اجل غاية صريحة هي اكتشاف ابعاد جديدة لعقل الانسان وحساسيته وانفعالاته)) 0(41 ) وان الخيال هو : (( الرباط الذي يصل عالم الانسان الداخلي النفسي بعالم الواقع الخارجي )) 0 (42 )
*** ***