بين كفّيه زهرة الغرام
غادة نورالدين
(1)
أتوق إلى صباحٍ بعيد ، إلى نور يشعّ في مدينة الزهر والبحر والمراكب ، مدينتي المتروكة للذئاب ، المختبئة خلف موج البحر والقلعة ، حيث صدى أغنيات الثوار يصدح في أزقّتها القديمة والبلبل السجين خلف الأحجار الأثرية يمد برأسه يتلصص ويحني جناحه لحكايات بائدة يرويها العابرون ، عجوز أنهكه الدهر عمره من عمر القلاع يقف شاهد عصر تحت القنطرة القديمة ، روائح الصابون تنبعث من الخان القريب تحمل عبق الماضي فتتطاير روائح التاريخ كالأسهم النارية من الجدران العتيقة التي لا ينبت البنفسج في حناياها ، سرب حمام ينأى فوق الأسطح ، يترك للنوارس حريّة الإنبساط فوق ال�
�مال الذهبية المعتّقة في شفق متلاشي على شاطىء تعبٍ أنهكه الإنتظار يتأرجح مع كلّ تلوحية وداع وكلّ إختفاء أثر، فالغائبون لا يعودوا عادة إلاّ لإلتقاط الصور التذكاريّة ، وجوههم مرايا برونزيّة يحملونها في عدساتهم ، فقط خيالاتهم تبقى تحت الشمس لتتبادل الموت مع الأمواج .
(2)
أتوق إلى مساءٍ أليف ، يعيدني إلى شرفة لأضمّها لا لتضمّني ، يهطل النور فوق كتفيها وتتصارع الأقمار البيضاء مع وميض البرق لغوايتها ، تنكسر النجوم والغيوم الهشّة فوق شجرتها الوارفة التي تحكي حكاية العائلة بصمت جميل فلكل غصن حكاية جيل ولكل ورقة ذكرى لشقاوة طفل جديد ما أن يكبر تسقط الورقة حين يأتي الخريف ، شرفة تتفتّح الأغنيات الناعسة على جنباتها كصلاة فيتمدّد الربيع في دمي وتتماهى الكلمات مع الزنابق وأصص الزهر وشبابيك العمر فأطفح حنيناً كعاشق يشعله الليل كما الصباح كما حكايات الصغار وغبطتهم حين تحطّ الطيور بعيداً عن أعشاشها أو حين تتطاير نث�
�ات مياه الري على العابرين ، هناك ينتفض القلب القتيل يقف أمام مرآته ، يشرّع الحلم ويخرّ ساجداً لإله يصنع المعجزات ولا يأبه لآلة الزمن وبوصلة الفصول والأمكنة .
(3)
أتوق إلى وجه لا أعرفه قد يأتي ذات صباح يُضِلّ جميع اتجاهاته ويهتدي فقط إلى قلبي ، يستبدل هدأتي بقصص تشعل النفس بدءاً بتفاحة آدم المحرّمة وصولاً إلى الخطيئة التي لم ترتكب ، يترنّم مع الصلوات الصاعدة في فجر بهي و يتلألأ كالأحجار الكريمة مع انحناءات المساء ، يهدهد للّيل كي يغفو باكراً ، يبحث عن وسادة الريح يعبث بكلّ متحرّك وساكن ، يغيّر وجه الأيام يكسر رتابة العمر الضائع ويعيد الألق لوجهي ، يحمل بين كفّيه زهرة الغرام وفي عينيه سرّ الأبدية .