فوكوياما:متشكك بالديمقراطية وغاضب من الجمهوريين ومهتم بنشوء الدولة
نهاية التاريخ..لم يكن ضربة حظ
جلس فرانسيس فوكوياما الشاب الثلاثيني أمام المذيع المعروف براين لامب في حلقة مخصصة لنقاش كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» الذي أحدث حينها صدى كبيرا وشهرة تشبه شهرة الأفلام أو الألبومات الموسيقية، والتي نادرا ما تحدث في عالم الكتب الفكرية الجادة. لكن الحلقة التي كان يفترض بها أن تكون حوارا حول أفكار الكتاب وأصدائه، بدت وكأنها جلسة تحقيق صارمة. أخذ المذيع المتجهم يوجه أسئلته التي تستفسر عن بعض أسماء الكتاب والمفكرين الواردة في الكتاب في محاولة لاختبار فوكوياما في موضوع كتابه. لم تنجح كل هذه المحاولات لإحراج الشاب الصغير الودود الذي أجاب بصبر وإقناع. ولكن ربما كان هناك سبب مقنع جعل هذا المذيع يبدو متشككا بضيفه وهو: كيف يمكن لشاب في مطلع الثلاثينات أن ينشر كتابا فكريا من الطراز الرفيع لا يزال يثير الكثير من الصدام والجدل؟
فرانسيس فوكوياما
لو سرعنا شريط السنوات ثلاثين عاما إلى الأمام ندرك الآن أن الكتاب لم يكن مجرد موضة سريعة لأن النقاش حوله ما زال قائما، وبالتأكيد لم يكن ضربة حظ. لقد كان فقط البداية لمشروع كاتب ومفكر فريد تثير آراؤه الاهتمام ويصفه البعض بنجم الفكر السياسي الذي لم تغره الأضواء لتسطيح طروحاته كما يفعل عادة الكتاب المشاهير بحثا عن مزيد من الجماهير.
اليابان وطن غريب
نشر بعدها فوكوياما الكثير من الكتب الناجحة من بينها كتاب «الثقة» الذي ناقش فيه الدور الأساسي للثقافة في نجاح الاقتصاد وازدهار المجتمع، وكتابه الأخير «أصل النظام السياسي» يلقى، رغم حجمه الضخم، الكثير من الاهتمام. ولكن هذا الشاب الذكي ذا الأصل الياباني المولود في شيكاغو (لا يتحدث اليابانية ويعتبر اليابان بلدا غريبا عليه) بدأ بمراكمة الحصيلة المعرفية التي مكنته من تأليف كتابه بسن مبكرة عن طريق والده أستاذ علم الاجتماع الذي ورث عنه الابن كتب عمالقة السسيولوجي أمثال دوركهايم وماكس فيبر، كما أنه خريج جامعتي كورنيل وهارفاد العريقتين التي درس فيهما بتعمق العلوم الإنسانية (يوجه فوكوياما انتقادات متكررة سبب ضعف الإقبال على العلوم الإنسانية في الجامعات الأميركية، مشيرا إلى أهمية أن يفهم الطلاب العالم اليوم من خلال دراسة ما كتبه أشهر الفلاسفة). وكان قد أمضى عاما في فرنسا يدرس فلسفة رولان بارت وجاك دريدا التي قرر بعد التجربة أنها لا تلائم شخصيته فعاد لعالم السياسية.
فوكوياما بعد الستين
ولكن فوكوياما الآن في عمر الستين، وفي ندوة عقدتها له مجلة الـ«فورن أفيرز» سأله المقدم: «هل ما زلت تعتقد بفكرة نهاية التاريخ؟»، قهقه فوكوياما وأجاب بنبرة ساخرة: «مثل هذه الأفكار لا تقولها إلا إذا كنت شابا. أنا الآن أكبر بثلاثين عاما». هل يعني ذلك أنه تخلى تماما عن فكرته القديمة كما يزعم الكثير من مبغضيه الذين انتقدوه بعدائية، مؤكدين أن عمله هو مجرد مشروع دعائي للهيمنة الأميركية على المستقبل؟ الحقيقة لا، ففكرته الرئيسة ما زالت نفسها، ولكن الإشكالية التي أكدها بأحد اللقاءات التلفزيونية هو اعتقاده السابق أن الليبرالية الرأسمالية ستتحقق وتترسخ بسهولة. كما جاء في كتابه القديم الشهير، الديمقراطية تقلب الصفحة الأخيرة من كتاب التاريخ لأنها تحقق الاحترام الذاتي الذي يطلبه الإنسان من الآخرين، وكذلك تنهي التناقض السياسي لأن آليات تداول السلطة باتت واضحة. ولكن فوكوياما الذي ما زال يعتقد بصحة هذه الأفكار أصبح الآن أقل حماسا لها وأكثر اهتماما بقضايا أكثر تعقيدا مثل تشكل النظام السياسي بمؤسساته المختلفة. لا يمانع من أجل ذلك في العودة مئات السنوات إلى الوراء لفهم نشوء المجتمعات الإنسانية في مجتمعات الصيد البدائية.
غلاف نهاية التاريخ
يقول في مقدمة كتابه الأخير: «ليس صحيحا أن الشعوب متورطة بتاريخها القديم ولكن عدم فهم هذا التاريخ جيدا سيتسبب لها بالكثير من المشكلات». يقول في إحدى مقابلاته الصحافية: «هفوتي الأساسية أني اعتقدت أن حكم القانون وقوة الدولة والبرلمان الفاعل تأتي كلها مرة واحدة». يشرح بعدها كيف بدأت الدولة في المعنى الحديث في الصين وكيف ترعرعت في أوروبا فكرة حكم القانون التي بدت فكرة غريبة في حينها، وكيف استطاع البرلمان الإنجليزي أن ينجو بنفسه في الوقت الذي سحقت البرلمانات الأوروبية الأخرى.
ديمقراطية الأحلام السعيدة
الديمقراطية التي تشبه الأحلام السعيدة التي ستحقق لمجرد أن الناس يكتبون الأشعار بها لا تبدو فكرة متماسكة حتى لدى أكثر من روج لها. في الواقع أن فوكوياما صب انتقادات غاضبة على إدارة الرئيس جورج بوش الابن في كتاب كامل بعنوان «أميركا على مفترق طرق» بعد حربها على العراق، مؤكدا أن الشوق للحرية لا يعني تحققها على أرض الواقع «إن الجهود الطموحة التي تبذل في السعي للوصول إلى العدالة الاجتماعية، تركت المجتمعات في الأغلب أسوأ مما كانت عليه من قبل». فوكوياما كان من المؤيدين للإطاحة بنظام صدام حسين، ولكن حماسه تراجع بعد الحرب والإدارة الأميركية المتخبطة وطالب حينها باستقالة وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد.
بعد عام تقريبا من الحرب العراقية حضر فوكوياما حفلة عشاء حضرها نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني ورامسفيلد وعدد من المناصرين للرئيس بوش. في الوقت الذي كان العراق ينزلق تدريجيا نحو الفوضى كان الحاضرون يحتفلون بالانتصار. نظر فوكوياما لزوجته ومن ثم قال لنفسه: «هل هؤلاء مجموعة من المجانين؟!». ولهذا صوت فوكوياما الجمهوري في انتخابات 2008 للرئيس باراك أوباما متعللا بأنه لا يريد أن يكافئ الإدارة الجمهورية على أخطائها. سأله أحد الصحافيين إذا ما كان قد تخلى عن أصدقائه القدماء أم أنهم اختاروا الابتعاد عنه، فأجاب: «لا، ولكن كل أحد مضى في طريق مختلف».
الإحساس بالخيبة من تحقق الديمقراطية بسهولة جعل فوكوياما الذي لا يتردد بنقد أفكاره، ينغمس بمشروع «بناء الأمم» الذي يبدو أقل جذبا وإثارة ولكنه أكثر واقعية وعملية. مشروع «بناء الأمم» تعني العمل الطويل المضني والشاق المعاكس للأفكار السريعة النهائية في الوصول إلى محطة التاريخ الأخيرة. لهذا عمل في الكثير من المشروعات وحضر الكثير من المؤتمرات وسافر إلى الكثير من البلدان الفقيرة التي يملك بعضها نظاما ديمقراطيا، ولكن تعيش في أوضاع اقتصادية متردية وظروف اجتماعية متمزقة. زار في إحدى المرات الرئيس الليبي السابق معمر القذافي الذي زعم أن قرأ مؤلفه «نهاية التاريخ» وأراد الالتقاء به.
يقول فوكوياما إنه كان هناك اعتقادا متزايدا أن ليبيا تمر بمرحلة تحول وانفتاح يقودها سيف الإسلام، ولكن بعد لقائه الزعيم الليبي – على الأرجح أن القذافي لم يقرأ الكتاب، بل سمع عنه فقط – عرف أنه لا يوجد أمل في القذافي وأن عليه أن يعود للجامعة لكي يتعلم بعض الدروس المهمة في السياسة.
سيرة فوكوياما تكشف كيف يمكن أن تنحرف الديمقراطية عن مسارها إذا لم تفهم جذور تطور الأشياء بطريقة عميقة ومضيئة. من السهولة أن تتحول بعدها إلى شعارات براقة وصناديق اقتراع ومن ثم أداة للسيطرة والإخضاع. نظرة سريعة على ما يجري في عدد من البلدان العربية تجعلنا نفكر أكثر بما يقوله فوكوياما بعد سنوات التجربة والنضج.