الخطاب وبعض مناهج تحليله
تقديم
شكّل "تحليل الخطاب
*" كمجموعة من الإجراءات، محور نقاش واسع منذ عقود، ولا زال مستمرا إلى وقتنا هذا، ويعود سبب ذلك إلى رغبة الباحثين والنقاد والمحللين في الوصول إلى علم ينظر في الأبعاد الحقيقية لما ينتجه الإنسان من خطابات مهما تنوعت واختلفت. وقد ارتبطت اللّسانيات بهذا الموضوع، باعتبارها تدرس اللّغة الّتي تشكل وعاء الإنتاج الفكري والأدبي والسياسي الإنساني.
كان اللّساني الأمريكي ز. هاريس Z.Harris أوّل من وضع مصطلح "تحليل الخطاب"، وغايته في ذلك السّعي نحو صياغة مجموعة من الإجراءات الشّكلية من أجل تحليل الإنتاج الكلامي: المكتوب منه والمنطوق، وذلك انطلاقا من إجراءات المنهجية التّوزيعية.
ثمّ ظهرت هناك توجّهات كبرى تسعى إلى تحليل الخطاب بمنطلقات مختلفة ومتباينة، منها ما يسمى بالمدرسة الفرنسية في تحليل الخطاب، ومنها أيضا المدرسة الأنجلوسكسونية. وتفرعت عن هاتين المدرستين توجهات كثيرة، تلتقي وتتباين أحيانا، وتختلف وتتناقض أحيانا أخرى
[1].
قبل أن نعرض باختصار لبعض التّوجهات النّظرية لتحليل الخطاب، ارتأينا أن نحدّد بعض المفاهيم الأساسية في هذا المجال:
-
الخطاب :
عرف هذا المصطلح اضطرابا نظرا لارتباطه بتصوّرات مختلفة للغة، انعكست على تحديده. إذ هناك من يربطه بالنّص، وهناك كذلك من يربطه بالملفوظ وهناك من يميزه عن اللّغة الّتي تشكل نظاما لمجموعة من القيم المفترضة، وهو بذلك استخدام للغة ضمن سياق خاص، وهو التّحديد الّذي يقترب من تمييز دوسوسير De Saussure بين اللّغة والكلام. وفي هذا يقول ج. ديبواJ.Dubois في تعريفه للخطاب على أنّه: "هو اللّغة أثناء استعمالها، إنّها اللّسان المسند إلى الذات المتكلمة"
[2] ، فهو بذلك مرادف للكلام "بالمفهوم السّوسيري".
هناك من يرى
[3]، في الخطاب نفسه، أنّه إذا كانت اللّغة هي نظام تشترك فيه مجموعة لغوية ما، فإنّ – على عكس ذلك – هو استعمال محصور لهذا التنظيم. كأن نتحدّث عن الخطاب الإسلاموي أو الاشتراكي…
قد نقصد به، في نفس هذا الإطار، نوع الخطاب "الصّحفي، الإداري…"، ونعني به أيضا الإنتاجات الكلامية الخاصّة بمجموعة من المتكلمين "خطاب الممرضات، خطاب الشّباب…"، أخيرا، نقصد به أيضا وظائف الكلام "الخطاب السّجالي، التّعاليمي…"
- تحليل الخطاب:يعرّف جورج مونان تحليل الخطاب بأنّه: "كلّ تقنية تسعى إلى التّأسيس العام والشكلي للرّوابط الموجودة بين الوحدات اللّغوية للخطاب المنطوق أو المكتوب، في مستوى أعلى من مستوى الجملة"
[4]. هذا الإقرار بوجود مستوى – من النّاحية الإجرائية – أعلى من مستوى الجملة، هو الّذي فتح المجال لتعريفات أخرى أخذت بعين الاعتبار العناصر الخارجية غير اللّغوية، وهو الأمر الّذي أحدث تذبذبا في المفهوم، كما أشرنا إلى ذلك سابقا، إلاّ أنه تمكن من أن يدرك الأبعاد الحقيقية للإنتاج الكلامي الّذي لا يخضع في الكثير من الأحايين إلى عراقيل النّظام اللّغوي كما حدّده دوسوسير.
وقد حدّد جان ديبوا
[5] هذا المفهوم في معجمه، معتبرا إياه جزءا من اللّسانيات يحدّد القواعد الّتي تقود إنتاج تتابع من الجمل المبنية.
انطلاقا من هذا التصور، اتّسع مجال البحث اللّساني ليشمل أبعدا عدة، لم تكن تؤخذ بعين الاعتبار في البحث اللّساني البنوي. فقد صارت شروط انتاج الملفوظ عناصر جديرة بالدراسة. وصارت الأنماط التعبيرية المختلفة للغة، كونها حوارا أو محادثة أو نصا مبنينا على شكل فقرات ومقاطع، مواضيع جديرة بالدراسة.وصار ينظر إلى اللّغة كونها أفعالا ذذات أبعاد ووظائف اجتماعية ومؤسساتية. وتمت معرفة القوانين الخطابية الّتي تتحكم في كلّ ما يتلفظ به الإنسان من ملفوظ. ولم يعد الحديث، بناء على ذلك، عن مستوى واحد للغة، وهو المستوى الشكلي والمصرح به، بل هناك المستوى الإضماري الّذي تتم معرفته بتوسل بعض عناصر اللّغة ممزوجة بعنصر من السياق المتعدد الأبعاد.
ظهر مصطلح "لسانيات الخطاب"، الّذي يشير إلى أسلوب آخر في إدراك اللّغة. لعبت التّداولية، باختلاف فروعها، دورا أساسا في تغيير النّظرة إلى اللّغة، وتدعّم هذا التوجّه بمجموعة من الأفكار
[6] منها:
إنّ الخطاب هو تنظيم مجاوز للجملة، معنى ذلك أنّه ليس تتابعا لمجموعة من الكلمات، بل هناك بنى يخضع لها، تتجاوز بنى الجملة، فعبارة "ممنوع التّدخين" تعتبر خطابا، رغم عدم استيفائها لشروط الجملة، فهو موجّه نحو غاية معينة ويحدث أن ينحرف عن تلك الغاية نحو غايات أخرى، ثمّ يعود إلى غايته الأصلية، مثل: كان عليّ أن أقول هذا…، أو سأعود إلى الحديث عن هذه النّقطة… وهو كلّ ما من شأنه أن يوجه كلام المتكلم. نجد ذاك كثيرا في الحوارات والمحادثات.
إنّه نمط من الأفعال: إذ هناك من يرى أن اللّغة هي أقوال تتحول إلى أفعال مختلفة باختلاف السّياقات الّتي ترد فيها. وقد تدعم هذا التوجّه بنظرية الأفعال الكلامية الّتي طوّرها أوستين وسيرل.
الخطاب تفاعل يتجلى في المحادثات الّتي يسعى فيها أصحابها إلى التّنسيق بين مختلف ملفوظاتهم أثناء تحاورهم. ويشمل هذا النّمط الخطابي كلّ ما يصدر عن المتكلم من خطاب، أحضر المستمع فيه أو لم يحضر، كالمحاضرات، والخطابات والسّياسة…
لا يكون الخطاب خطابا إلاّ إذا تبنته هيأة تشكل محور المعالم الزّمانية، والمكانية والشخصية، وتشير إلى موقفها تجاه ما تقوله، أو أن تسند مسؤولية هذا الأخير إلى الغير. ومن بين ما يتضمنه هذا التوجّه، الدّراسات الّتي أجريت على العناصر الذاتية الكامنة في اللّغة.
يخضع الخطاب لمجموعة من المعايير الاجتماعية والأخلاقية، تتكفل قوانين الخطاب بتبيانها، فالأفعال الكلامية كالأمر والوعد والنهي… لا يمكن لها أن تصدر دون الخضوع لمعايير حدّدتها الأخلاق والقيم الاجتماعية والثقافية والدينية.
أخيرا، لا يؤول الخطاب إلاّ بإدراجه في خطابات أخرى، فلكل نوع خطابي أسلوبه في التّكفل بتسيير مختلف العلاقات التّخاطبية. إنّ تأويل أي خطاب من أي نوع كان، يقتضي ربطه أو مقابلته بخطابات لأنواع خطابية أخرى.
بعد تعرضنا لبعض الأفكار الأساس الّتي استمدت منها "لسانيات الخطاب" إجراءاتها النّظرية، سنعرض باختصار لبعض المقاربات في تحليل الخطاب، شكلت التّوجهات العصرية في تحليل الخطاب بكلّ أنواعه.
1 -1 – المقاربة التّلفظية: تعتمد هذه المقاربة ربط العديد من العناصر اللّغوية بعوامل خارجية، في إطار دراسة شروط إنتاج الخطاب وفهم آليات توظيف اللّغة. ويعد اللّساني الفرنسي إيميل بنفنيست
[7] هو مؤسس هذه المقاربة الّتي سميت بنظرية التّلفظ
[8]. ومن بين المواضيع الّتي تدرسها الآثار الّتي تشير إلى عنصر الذاتية في الخطاب. ويخضع هذا الأخير لوضعية تتشكل فيما اسماه بنفينست بالجهاز الشّكلاني للتّلفظ
[9]. فتتكفل هذه المقاربة بدراسة المبهمات (ضمائر الشّخص، الظّروف الزّمانية والظروف المكانية) وهي الوحدات اللّغوية الّتي تسمح للمتكلم بالارتباط بالواقع.
من بين الّذين أسهموا في تطوير هذه النّظرية، كاترين ك. أوركيوني الّتي قامت بإحصاء كلّ الوحدات اللّغوية الّتي يمكن أن يندرج فيها عنصر الذاتية، وقامت أيضا بدراسة عنصر التّضمين في اللّغة ، على اختلاف مظاهره. نجد أيضا كيليولي الّذي عمل على بناء نموذج شكلاني وصوري للتّلفظ انطلاقا من إجراءات المنطق الرّياضي بتحديده للعمليات الصّورية للخطاب. يُضاف إلى هؤلاء ديكرو بتطويره لنظرية قوانين الخطاب، وتأسيسه لنظرية الحجاج في اللّغة.
المقاربة التبليغية:يعدّ اللّساني رومان ياكبسون
* مؤسّس هذه المقاربة، وذلك بحصره مكوّنات العملية التبليغية في ستة عناصر: المرسِل، المتلقي، الوضع، المرجع، القناة والخطاب، وقد أسند لكلّ عنصر من هذه العناصر وظيفة: الوظيفة التعبيرية للمرسِل، الوظيفة التبليغية للمتلقي، الوظيفة الاصطلاحية للوضع، الوظيفة السياقية للمرجع، الوظيفة الاتصالية للقناة، وأخيرا، الوظيفة الاصطلاحية للخطاب.
لقد اعتبر الوظيفة التبليغية أهمّ وظيفة، وباقي الوظائف تتمحور حولها، لأنّ التّبليغ هو الماهية الأولى للّغة. يعترف ياكبسون نفسه أنّه من الصّعب إيجاد خطابات تنحصر، تماما، في وظيفة من هذه الوظائف الست، ومنه فإنّ الصّيغة الكلامية لأيّ خطاب تخضع للوظيفة المهيمنة.
أهمّ ما يؤخذ على هذا الشّكل هو الكيفية الّتي حدّد بها ياكبسون الوضع
**، فهو لا يختلف عن تحديد دوسوسير له، فاللّغة بهذا المنظور هي مجموعة من الرّموز المنتظمة وقائمة مغلقة من العلامات، والواقع أنّ اللّغة هي نمط معقّد من العناصر اللّغوية وغير اللّغوية، تتداخل فيما بينها وفق قواعد مضبوطة.
تدخل أيضا، في إطار هذه المقاربة، أعمال هايمز D. H. Hymes
*** الرّائدة في هذا المجال، من بين أهمّ المفاهيم الّتي لخّصت بوضوح هذه الأعمال، مفهوم الملكة التبليغية، إذ يرى هايمز أنّ الملكة اللّغوية للمتكلّم (بمفهوم تشومسكي) لا تكفي وحدها لتأويل وفهم ملفوظات الآخرين، بل هناك مجموعة من القدرات، يكتسبها الإنسان في محيطه الاجتماعي، تسمح له بالتواصل بفاعلية وفق مقامات خاصة. هذه القدرات الّتي يدعوها هايمز: الملكة التبليغية، هي مجموع الوسائل الكلامية وغير الكلامية، يتمّ توظيفها لضمان نجاح العملية التبليغية
[10]، ويُشترط في اكتسابها التحكّم في الأدوات والوسائل شبه الكلامية وغير الكلامية، إضافة إلى قواعد الاحتياز السياقي للملفوظات المنتجة
*.
يأتي هذا المفهوم معارضا لمفهوم تشومسكي للملكة الكلامية، باعتبار أنّ الأهمّ في هذه العملية هو قدرة المتكلّم على الاستعمال المتجانس لعدد قليل من الجمل في عدد غير محصور من السياقات، وليس إنتاج عدد غير محدود من الجمل المتماسكة نحويا. من هنا، فالمتكلّم قادر على التحكّم في قواعد المحادثة الّتي تسمح بتبادل الكلام وتوزيع الأدوار.
مقاربة تحليل المحادثة:تدخل هذه المقاربة ضمن الأعمال الّتي تعتبر اللّغة نشاطا اجتماعيا تفاعليا، والتي نشأت في الولايات المتّحدة الأمريكية في نهاية الثّمانينات؛ وقد جاء في معجم تحليل الخطاب أنّه ليس من السّهل بما كان الحديث عن تحديد مصطلح المحادثة، فهو يستخدم بالمعنى العام ليُقصد به التبادلات الكلامية الحقيقية authentiques في المجتمع، وبمعنى أخصّ أنماط معيّنة من الأحاديث، بغضّ النّظر عن المقامات والأزمنة الّتي صدرت عنها
[11].
تشكّلت هذه المقاربة من مجموعة من الأعمال، نذكر منها:
- التفاعلية الرّمزية:
تشمل أعمال غوفمان E. Goffman
** الّتي تتناول بالدّراسة المحادثات اليومية الّتي تخضع للاحترام المتبادل بين المتحادثين، مع الحفاظ على السّير الحسن للمحادثة
***، إذ ينطلق غوفمان من مبدأين تأسّست عليهما مختلف المقامات والوضعيات الّتي تتمّ بها المحادثات، أوّلهما: يحقّ لأيّ فرد في المجتمع أن يطالب الآخرين، وذلك من الناحية الأخلاقية، معاملته بما يتناسب ومقامه، وهذا عملا بمبدأ المشاركة الّذي تحدث عنه جرايس، مطوّلا، والّذي يتحكّم في كلّ تبادل كلامي ناجح.
من هذا المبدأ، يطالب المجتمع من ذلك الفرد أن يتحلّى بالمكانة الّتي طالب بها الآخرين الاعتراف بها
[12].
نتيجة لذلك، تعدّ الأعراف الاجتماعية أهمّ القواعد الّتي تخضع لها محادثات الأشخاص. تتشكّل هذه الأخيرة من تبادلات تأكيدية وأخرى تصحيحية، تحيل الأولى على مقاطع استهلال وإنهاء المحادثة مثل صيغ التحية، أمّا الثّانية فتسمح باستمرار التوازن التفاعلي للمحادثة، أي بإنهاء المحادثة دون أن تترك أثرا سلبيا على المتحادثين، وبخاصة إذا أصيبت المحادثة في فترة ما بخلل.
نشير، في الأخير، إلى أنّ غوفمان يؤكّد بشدّة على احترام القواعد النحوية واللّسانية، على اعتبار أنّ القواعد العرفية تتوقّف على هذه القواعد* لتتحقّق.
- إثنوغرافيا التّواصل:تنطلق هذه المقاربة من اعتبار موضوع اللّغة ظاهرة ثقافية اجتماعية تتحكّم فيه مجموعة من الوظائف، وقد ساهمت أعمال هايمز وجمبرز
* في تطوير هذه الأعمال الّتي أسّست لمفاهيم، مثل السجل الكلامي، أفعال الكلام وألعاب اللّغة، وهذا ضمن الوضعيات التفاعلية الاجتماعية، وكذا الملكة التبليغية (لهايمز).
لقد تأسّس التحليل التفاعلي للعملية التبليغية على بعض عناصر نظرية تشومسكي، في مفهوم الملكة اللّـغوية، وذلك بالـقيام بتحلـيل بالقسمة analyse componentielle لسلسلة من القواعد النّحوية ومن المفردات الّتي تتشكّل عليها العلاقات بين مكوّنات العملية التبليغية، إضافة إلى النّظام الّذي تخضع له هذه الأخيرة، "هذا الإجراء سيسمح بتوضيح خصوصية ومحتوى لسانيات مؤسَّسَة اجتماعيا"
[13].
في الأخير، فإنّ أيّ تحليل ينطلق من هذه المقاربة، لا بدّ أن يخضع للمعطيات التّالية:
- الإطار التّفاعلي والتواصلي الّذي تندرج فيه الأبعاد الزّمانية والمكانية، أي الجو النّفسي للمحادثة والمشاركون فيها، إضافة إلى العلاقات الرّابطة بينهم…
- الغاية من النّشاط الكلامي والقناة الّتي تسمح بهذه العملية، وهي – القناة – مكتوبة أو منطوقة، مباشرة أو غير مباشرة.
- معايير التّفاعل الّتي تسمح بسير التّفاعل، وهي معايير غير لغوية.
- قواعد التّأويل الّتي تضفي دلالات على السّلوكات التّواصلية، في السّياقات الّتي يتحقق فيها الخطاب.
- إثنوميثودولوجيا المحادثات اليومية:يشمل أساس هذه المقاربة الذات الاجتماعية، المنشئة للفعل التّواصلي للحقيقة الاجتماعية اليومية، عن طريق معارفه وتمثّلاته واستراتيجياته الخطابية لغرض بلوغ غايات محدّدة. يتأسس البحث لا على فعل كلامي منعزل، بل يشمل سلسلة التّفاعلات عن طريق الملكات والقدرات في سبيل تحقيق نشاطات المحادثات الّتي تجري بين أعضاء المجتمع الواحد ضمن الحياة اليومية. ومن بين روّاد هذه المقاربة، شغلوف وساكس
[14] الّذي يفترض أن التّنظيم والفعل الاجتماعيين قابلان للتّحليل باعتبارهما تنظيمات منظمة ومحدّدة بأعراف ومؤسسات. فالتفاعل هو تمشهد للمتخاطبين يتم وفق النّمط التّالي: تأثر سلوكات أحدهما في الآخر بأسلوب متبادل. وفي إطار هذه العلاقة المنسقة لقطبي المحادثة، يضع المتكلم إجراء تفاعليا، ضمن اللّعبة التّخاطبية تحدّده أدوار محدّدة مسبقا وقواعد دقيقة مصدرها الملكة التّبليغية…
انطلاقا من هذا، حدّد ساكس وزميله هيريتاج أربع مسلّمات لتحليل هذا الخطاب:
- أن يكون التّفاعل منظما بأسلوب مبنين.
- توجه مساهمات المتدخلين وفقا للسّياق.
- تخضع حيثيات التّفاعل للنقطتين السّابقتين.
- يخضع تحليل التّفاعلات انطلاقا من المعطيات الطّبيعية.
تنتظم المحادثة، حسب شغلوف E. Schegloff وساكس، وفق النّمط التّالي:
- الإجراء الافتتاحي: يشمل ملفوظات السّلام، أو النّداء والاستجابة مثلما يحدث في المكالمة الهاتفية.
- الإجراء الاختتامي: ويشمل مرحلة تحضيرية يستخدم فيها المتكلم أشكال الختام ليعلم المستمع بانتهاء التّبادل، مرحلة الاختتام وتحتوي على الأشكال الثّنائية الدّالة على الاختتام.
- المقاربة السوسيولغوية :بإخضاعه نحو المتكلّم المثالي (بمفهوم تشومسكي) لنحو الجماعة اللّغوية، استطاع أن يحدّد التنوّع اللّغوي المتجلي في مجموعة لغوية ما باختلاف فئاتها من حيث السنّن الجنس، مستوى التكوين، المستوى الاقتصادي، الأصل، العرق… ويكون هذا قد أسّس لعلم اجتماعي لغوي للمستمع المؤول الّذي يولي اهتمامه لكل خلل يحدث في أيّة محادثة. باعتبار أنّ التأويل هو أهمّ عنصر من نظرية جمبرز، فقد حدّد الأسباب الّتي تعيق عملية الفهم المتبادل، حيث يرجع البعض منها إلى عناصر تنغيمية تظهر وجود تنوّع في الاستعمال اللّغوي، ويرجع البعض الآخر إلى العالم الرّمزي ورؤية العالم لدى المتخاطبين الّتي تصبغ خطاباتهم باقتضاءات ثقافية مختلفة
[15].
المقاربة التباينية :يعتقد لايبوف
* أنّ أيّ إنتاج لساني يتّسم بالانتظام هو إنتاج كفيل بأن يشكّل موضوعا للدّراسة، هو موضوع يمكن تناوله كنشاط اجتماعي ضمن دراسة ميدانية، ويعود ذلك، حسبه، إلى أنّ التغييرات الّتي تُصيب اللّغة مصدرها تغييرات في المجتمع، وتشمل هذه التغييرات المستوى الأسلوبي الفردي بتجليها في أسلوب كلّ متكلّم في الحديث، وعلى المستوى الاجتماعي الّذي يُظهِر مختلف استخدامات المتكلّمين على مستوى المجموعة اللّغوية الواحدة.
لقد تجلّت هذه المقاربة، بوضوح، في محاضرة
[16] ألقاها لايبوف بمدينة بولونيا بإيطاليا عام 1972، حينما أثبت أنّ الاختلاف في نطق بعض الأصوات في اللّغة الإنجليزية، على غرار الكسرة الطويلة "ea" في كلمات مثل: meat (لحم) وmeal (الغذاء)، وأصوات كثيرة في اللّغة الإنجليزية، مصدرها تطوّر حدث في المجتمع الإنجليزي منذ القرن السّادس عشر
[17].
لقد فتح ذلك آفاقا جديدة على البحث اللّساني الاجتماعي، فقد سمحت بدراسة العلاقات المتبادلة بين التنوّعات المختلفة على مستوى البنى النّحوية، ومحيطها اللّغوي، من جهة، وبين العوامل الاجتماعية الّتي تستخدمها، من جهة ثانية.
تمكّن لايبوف من حصر السّلوكات الإيمانية والعادات الكلامية والصّوتية الخاضعة للتغييرات طبقا للمحيط الاجتماعي.
المقاربة التّفاعلية بفرنسا وسويسرا: تأسّست هذه المقاربة بسوسيرا وفرنسا على أيدي إ. رولي
[18]E.Roulet (بجنيف) وك. ك. أوركيوني
[19] C.K.Orecchioniبمدينة ليون وبعض اللّسانيين أمثال ج. موشلر
[20]J.Moeschler والثنائي سبيرير وويلسونWilson et Sperber .
يرى إ. رولي أن تحليل المحادثة ينطلق من نمطين من الدّراسة:
- الدّراسة التّراتبية، وهي تشمل مستويات أساسية:
- الفعل الكلامي، وهو أصغر وحدة ينتجها المتكلم، ويرتبط بدورة الكلام.
- التّبادل: أصغر وحدة يتشكل منها التّفاعل. ويتشكل على الأقل من فعلين كلاميين. ويسمى كلّ مكون للتّفاعل تدخلا، قد يكون التّدخل بسيطا (يتكون من فعل كلامي واحد)، أو معقدا وذلك بحضور العديد من المتحاورين.
- الدّراسة الوظيفية: الّتي تسعى إلى إثبات الوظيفة الإنجازية لكلّ عنصر في التّبادل، زد على ذلك تجسيد الوظائف الّتي تربط بين مختلف مكونات التّدخل.
طوّر المقاربة الّتي تعتمد على مفهومي التّجانس والحصافة في تناول المحادثات، موشلر والثّاني سبيربر وولسون. فالتّجانس في هذا الإطار لا يعني به البناء السّوي لمختلف العناصر اللّغوية للمحادثة، فهو النّاتج من مجموعة من الغايات التّفاعلية… أمّا ما أضافته أوركيوني ومن تشتغل معهم في هذا الميدان، في مجال تحليل المحادثة، فهو إضافتها في التّحليل للمظاهر الأكوستيكية والحركية والإيمائية، الّتي أهملتها المقاربات الأخرى.
الحوارية وتعدّد الأصوات لدى باختين:أثّرت أعمال باختين في الحوارية على التّصور اللّساني للّغة حديثا، حيث صار التّفاعل الكلامي محور أي نظرية تتناول اللّغة كموضوع للدّراسة. يكمن سر نجاح هذه النّظرية في نظرتها إلى اللّغة على أساس وظائفها التّواصلية والمبنينة للواقع. إذ يرى باختين بأن التّعبير ليس فعلا فرديا، لكنه نشاط اجتماعي حدّدته مجموعة من العلاقات الحوارية. فالحوار إذن، لا يمكن حصره فيما يجري بين شخصين في المحادثة اليومية، إنّه يشمل أيضا كلّ إنتاج كلامي صادر عن الإنسان. ويدخل المونولوج ضمن أنواع الحوار بكونه كلاما صادرا من شخص نحو شخص آخر، ولو كان غائبا، ويخضع لنفس مكونات الحوار، وهو الأمر الّذي جعل باختين يضفي عليه بعدا تفاعليا، بنفس درجة الحوار، فهذا البعد التّفاعلي للمونولوج أثبتته حوارية النّشاط الكلامي
[21].
اللّغة، إذن، ليست هي الأشكال المجردة، ولا التّلفظ المونولوجي ولا الفعل النّفسي الفيزيولوجي لإنتاجه، بل هو الظّاهرة الاجتماعية للتّفاعل الكلامي، المتحقق بالتّلفظ والمتلفظين فالتّفاعل الكلامي يشكل إذن الحقيقة الأساسية للغة.
بناءً على ذلك، لا يشكّل الحوار العملية الكلامية الدائرة بين شخصين أو أكثر، إنّ الإنتاج الكلامي الإنساني كله يدخل ضمن الحوار، نظرا لما يحيل عليه هذا الأخير من إعادة صياغة وتحوير وتكرار لخطابات سابقة. إن الخطاب المكتوب، حسب باختين هو "جزء من حديث أيديولوجي على مستوى أعلى: فهو يجيب ( على سؤال) ويدحض (فكرة ما) ويؤكد (حقائق معينة) ويستبق إجابات واعتراضات افتراضية ويبحث عن مساندة… فكل تلفظ مهما كانت درجة دلالته وتمامه، لا يشكل سوى جزءا من تواصل كلامي غير منقطع للحياة اليومية والأدب والمعرفة والسياسة".
[22]الملاحظ أنّ أعمال باختين استطاعت أن تأثر فعلا على العديد من الدّراسات اللّسانية والنقدية، مثلما هو الحال بالنّسبة لأعمال النّاقدين جيرار جينيت G.Genette وجوليا كريستيفاJ.Kristéva في موضوع التّناص، وأعمال ديكروO.Ducrot وفي تعدّد الأصوات، وأعمال منغونو D.Maingueneau وج. م. آدم J.M.Adam في تحليل الخطاب.
المدرسة الفرنسية في تحليل الخطاب:ظهر هذا التوجّه بفرنسا على أيدي مجموعة من اللّسانيين والنقاد والفلاسفة أمثال ألتُوسيرAlthusser ولاكانJ.Lacan وميشال بيشوM.Pêcheux وديبوا في السّتينيات والسبعينيات، بعد صدور العدد الثّالث عشر من مجلة "Langages" الفرنسية الخاص بتحليل الخطاب، وصدور كتاب ميشال بيشو "التحليل الآلي للخطاب" سنة 1969.
تشكّل دراسة الخطاب السّياسي نواة هذه المدرسة، وهي دراسات أقامها لسانيون ومؤرخون وفق منهجية جمعت بين اللّسانيات البنوية و"نظرية الإيديولوجيا" المستوحاة من إعادة قراءة الفيلسوف الفرنسي ألتوسير لكارل ماركس ، ومن أعمال النّاقد النّفساني لاكان. حيث تمحورت هذه المنهجية في التّفكير في العلاقة حول ما هو إيديولوجي وما هو لساني مع تجنب حصر الخطاب في التّحليل اللّغوي البحت، أو ذوبان الخطاب في الإيديولوجيا
[23].
تفرّع عن هذه المدرسة توجّهان: الأول تحليل للخطاب، يمثله د. منغونو، وهو متأثر بالتيار النّفساني، حيث يفكك مكونات اللّغة للوصول إلى المعنى، إذ يولي الأهمية للمدونة الّتي تنم على قيمة تاريخية، ثمّ الحرص على أن لا ينصب الاهتمام فقط على الوظيفة الخطابية للوحدات اللّغوية، بل ينظر إليها كذلك باعتبارها وحدات لغوية بحتة. ثمّ إقامة علاقات هامة مع نظريات التّلفظ اللّسانية، والاهتمام بما هو خطابي متعدّد، أخيرا التّفكير في الأنماط الّتي يثبت فيها المتكلم في الخطاب.
يدعى هذا التّوجه بالتوجه التحليلي، وهو الّذي يتعارض مع التوجه الثاني المسمى المقاربة الإدماجيةApproche intégrative الّتي تسعى إلى "مفصلة الخطاب على شكل شبكة من السلاسل ما بين النصية، كمشاركة في تنظيم الكلام المندرج ضمن مكان محدد".
[24]المعروف أنّ ما ميّز مدرسة تحليل الخطاب الفرنسية باختلاف نظرياتها وتوجهاتها، هو عكوفها على دراسة الخطابات الاجتماعية، خاصة الخطاب السياسي. فقد شكل خطاب رجل السياسة محور الدّراسة السوسيولوجية لقنواته وشفراته، أو لسانية للخطاب السياسي نفسه. فمنغونو مثلا، اختص بدراسة الجانب اللفظي لهذا الخطاب لاعتقاده بوجود علاقة وطيدة بين اللفظ والأيديولوجيا. تكفل ميشال بيشو بتحليل هذا الخطاب تحليلا آليا، مستخدما في ذلك الحاسوب لمعرفة العلاقة بين درجة اطراد الكلمات وورودها وعلاقة ذلك بالأيديولوجيا. هناك من حلله تحليلا نفسيا، مستمدا أسسه من نظرية هاريس بهدف معرفة إلى أي مدى يمكن للكلمات أن تثري مخزوناتها الدلالية بثراء في تركيب العبارات.
المقاربة التّداولية:هي تيار نشأ بامتزاج وتقاطع مجموعة كبيرة من الأفكار والنظريات تتفق في الطّابع الاستعمالي للغة. وأقدم تعريف لها يعود إلى السّيميائي شارل موريسC.Morris الّذي حصرها في جزء من السّيميائية الّذي يدرس العلاقة بين العلامات ومستعملي هذه العلامات. ثمّ بدأت تنحصر شيئا فشيئا فأصبحت تطلق على النّظرية الّتي تدرس اللّغة باعتبارها مجموعة من الأفعال، يسمح السّياق بتحقيقها. فقد حصر الهولاندي هانسونHansson التّداولية في ثلاث درجات:
- تداولية من الدّرجة الأولى: تشمل مختلف نظريات التّلفظ.
- تداولية من الدّرجة الثّانية: تدرس الأسلوب الّذي يرتبط فيه القول بقضية مطروحة، حيث تكون هذه الأخيرة متباينة مع الدّلالة الجانبية للملفوظ فهي تتناول بالدّراسة قوانين الخطاب والظواهر الضّمنية للّغة.
- تداولية من الدّرجة الثّالثة: تشمل نظريات أفعال الكلام.
المقاربة السّيميائية:هي المقاربة الّتي وضع أسسها اللّسانية والإبستيمولوجية دوسوسير والسيميائي الأمريكي ش. س. بيرس C.S.Pierce ، والّتي صارت فيما بعد مع جريماس وكلود ليفي ستروس ورولان بارت تدرس الأشكال الاجتماعية الّتي تماثل اللّغة في اشتغالها الوظيفي (الموضة، الرّقص، الخرافة، نظام القرابات الأسرية…). وقد كان لها الأثر الواضح في الدّراسة النّقدية، حيث انحصرت في هذا الميدان على دراسة سردية النصّ كممارسة دالة ثمّ توسع مجال هذه السّيميائية ليشمل الدّراسات الإعلامية (الصّحافة المكتوبة والإذاعة والتلفزيون) والسيميائية.
- مقاربة الأعراف الاجتماعية:
تشكّلت هذه النّظرية في عمل الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو Pierre Bourdieu، الّذي يرى بأنّ كلّ فعل كلامي توفّرت فيه السّلطة يحتوي أسلوبه ومفرداته ونطقه على عناصر هذه السّلطة، فالأسلوب في الحديث، مثلا، يعتبر عنصرا من الجهاز الّذي يسعى به صاحبه إلى إنتاج وفرض صورة عن أهميته، ويساهم في الوقت نفسه في فرض وجوده.
يكمن السرّ في وجود فعل السّلطة في المجموعة الّتي قامت بتفويض السّلطة للشّخص الّذي يراعي في بسطها مجموعة من الشّروط الّتي تحدّد هي ذاتها الأعراف الاجتماعية
*. يعتبر بورديو الكيان الاجتماعي عالم من التبادلات الرمزية، يلعب فيه الفعل الاجتماعي دور الفعل الّذي يخضع لفكّ الرّموز عن طريق شفرة ثقافية تتحكّم في التفاعلات الرّمزية. يشير بورديو إلى أنّ "علاقات القوة اللغوية لا تتحدّد، أبدا، بالعلاقة بين الملكات اللّغوية المتواجدة"
[25]، بل بالاعترافات الّتي تضفيها المجموعة على ناطق الفعل الكلامي، فلا يمكن لفعل الأمر أو التّهديد أن يتحقّق إذا لم تتوفّر في العملية التبليغية الشّروط الّتي تسمح بذلك.
يمكن، انطلاقا ممّا سبق، القول إنّ نظرية بورديو تتلخّص في قدرة رجل السّياسة على الاستعمال السوي لقدراته الخطابية، وقدرته، أيضا، على تكييفها مع أيّ مقام كان، بتوظيفه لما توفّره له الإيديولوجيا والثّقافة من عناصر السّلطة والقوّة.
بهذا الاستعراض لمقاربات تحليل الخطاب نكون قد حدّدنا بعض الأسس المنهجية الّتي سنستند إليها في بحثنا، والّتي أثبتت العلاقة بين اللّسانيات التّداولية كإجراءات من جهة، وتحليل الخطاب كممارسة تقتضي الاستعانة بتلك الوسائل الإجرائية للوصول إلى فهم كنه الخطاب الإنساني وفهم خطاب مدونتنا الإعلامية، من جهة أخرى.
نستند لتحقيق هذه الغاية إلى بعض المفاهيم النّظرية الّتي تدخل ضمن المقاربة التّداولية، وفق تصور متجانس شرحنا أسسه ومعالمه في مقدمة بحثنا.
نعرض في هذا المقام لنقطة اختلاف بين مجموعة من الباحثين، نعبد بها الطّريق لإجراءات اللّسانيات النّصية الّتي سيعتمدها هذا البحث. يكمن هذا الاختلاف في رفض موشلر وروبولA.Reboul لأن يشكل "تحليل الخطاب" علما، أو مجموعة من الإجراءات المتجانسة يمكن أن نحلل بها الخطاب كإنتاج إنساني. إنّهما يعتبران الجهود الّتي بذلت منذ عشرين أو ثلاثين سنة تحت وجهة مآلها الانسداد. ويعود سبب ذلك إلى النّظرة الخاطئة لمفهوم "الخطاب" – في نظر هؤلاء – الّتي وإن كانت تعتمد على المعطيات اللّغوية للجملة، إلاّ أن تحديدهم لها يبدو غريبا إذ أنهم لا يميزون بين الخطاب الّذي يقصد به اللّغة اليومية الّتي تشير إلى مجموعة من الجمل، وضع حدودها الأشخاص الّذين أنتجوها، والمقصود بذلك أن مثل هذه النّظرة إلى الخطاب هي نظرة غير مؤسسة، وبين الخطاب كمجموعة من العناصر الكفيلة بتفسير ظواهر عديدة كالرّوابط بين الجمل، واستخدام الرّوابط واختيار أزمنة الأفعال
[26].
زيادة على هذا الاعتراض الأول، نلاحظ أن التّقسيم الآني للّغة والمتمثّل في كلمات شكّلتها أصوات، وجمل شكّلتها كلمات، وخطاب شكّلته جمل، هو تقسيم غريب، خاصّة فيما يخص النّقطة الأخيرة، مصدره النّحو التّوليدي، الّذي دفع بأصحاب هذا التّقسيم إلى القول بوجود ملكة وتأدية خطابيين، وقواعد إعادة الكتابة متمثلة في مفهوم الانسجام وبالكيفية الّذي يتحقق. فهو يتطابق مع مفهوم السّلامة النّحوية لدى تشومسكي.
إنّهما يرفضان، إطلاقا، وجود كائن يسمى الخطاب، يتجسد في ما يسمى بالذاكرة الخطابية الّتي تعكسها ضمائر العائد، ومختلف مرجعيات الخطاب…
ويعيدان مصدر ما سمي، في رأيهم، بتحليل الخطاب، إلى أمرين قابلين للتّعليق:
يتمثّل الأمر الأول في وجود عناصر لا يمكن تأويلها إلاّ بالعودة إلى معلومات تتضمنها الجملة، مثال ذلك:
- شرب زيد الخمرة، هو سكران.
إنّ سكر زيد مصدره شربه للخمرة، وجاء ذلك نتيجة الضّمير العائد "هو" الّذي ربط بين الجملتين.
يمكن لهذه الظّاهرة أن تنطبق أيضا على الرّوابط التّداولية.
يكمن الأمر الثّاني في أنه يستحيل تأويل وتفسير مجمل خطاب ما بالرّجوع إلى ما يربط بين مختلف الجمل، كأن نفسر ونؤول محتوى خطاب الرّواية بمجرد الرّبط بين الجمل المكونة لها. لن نطيل في عرض مختلف الاعتراضات
[27] حول مفهومي "الخطاب" و"تحليل الخطاب". نشير فقط أن ما يقصده الباحثان بالخطاب، محصور في الملفوظ الجملة الّذي يشكل الوحدة الطّبيعية الّتي تتوفر على الحصافة العلمية، وأن أي تحليل للخطاب لا يمكن أن يخرج عن هذا الإطار. وقد استندا في ذلك إلى نظرية ويلسون وسبربر الّتي تسعى إلى تفسير اشتغال النّظام المركزي بخضوعه لمبدأ وحيد ذي بعد تعميمي يسمى "الحصافة القصوى
[28]". والمتمثل في أنه أثناء المرحلة الأخيرة للمعالجة ضمن العملية التّبليغية، حيث تؤخذ المظاهر الدّلالية والتداولية للملفوظات بعين الاعتبار، تطور الذوات استنتاجات سياقية. معنى ذلك أن مبدأ الحصافة* يقتضي، حسب موشلر وروبول، أن يكتفي المحلل بمعالجة الملفوظات باعتماد السّياق، دون اللّجوء إلى عناصر أخرى لتفسيرها، وهو ما جعلهما يقصيان "تحليل الخطاب" كإجراءات تستند إلى أسس علمية وموضوعية لا تقبل النّقاش.
نشير في هذا الإطار إلى مناقشتين لآراء موشلر وروبول، الأولى لشارل وكومبيت والثانية لـ ج. م. آدم.
ينطلق شارول وكومبيت من فرضية تلخص آراء روبول وموشلر، مفادها أنه لا وجود لموضوع خاص بتحليل الخطاب خارج تأويل الملفوظات انطلاقا من مبدأ الحصافة القصوى، فإنّه يأتي يوم يندمج فيه تحليل الخطاب بتداولية ويلسون وسبيربر، وهو أمر يستحيل وروده بسبب الكم الهائل من الأبحاث الدّائرة حول علامات التّنظيم المقطعي للخطاب، والّتي تطرح أسئلة مختلفة تماما عن تلك الّتي تهتم بتأويل الملفوظات المعزولة في السّياق
[29].
زيادة على ذلك، يشير شارول وكومبيت إلى العديد من الدّراسات، في الميدانين اللّساني وعلم النّفس اللّغوي في مجال الانسجام والاتساق، الّتي استطاعت أن تكشف العديد من القضايا، لا يمكن حصرها في مبدأ الحصافة القصوى. أمّا ج.م.آدم، فبعد اتهامها بالتّقليصيين، عاب عليهما عدم التّمييز، أثناء التّحليل، بين الوحدات الكبرى للنّص، المقصود بها القضايا الكبرى، والوحدات الصّغرى له. وهو ما أدى بهم إلى نفي الاختلافات العميقة للمستوى المعقد ذي تأثير ما هو أعم على ما هو أخص
[30]. وقد أشار إلى المقال السّابق لشارول وكمبيت لإثبات الصّبغة غير التّعميمية لنظرية ولسون وسبربير، الّتي انطلق منها الباحثان, وقد عاب عليهما أيضا إقصاءهما لأبحاث رائدة في هذا الميدان، أمثال أعمال م. باختين وميشال فوكو وم.بيشو ود. مالديديي ود. منغونو، وبعض أعمال علماء النّفس اللّغوي أمثال برونكارت.