.الإبستمولوجيا : دراسة المناهج
دراسة المناهجPosted on
28 أكتوبر 2010 |
أضف تعليقاً 3. الإبستمولوجيا : دراسة المناهجنقد المناهج ـ ويجب أن نفهم من هذا اللفظ بطبيعة الحال ، معنى الدراسة النقدية ، وليس التشهير أو القدح ـ يبدو في ميدان الإبستمولوجيا على صورتين :1.
صورة فلسفية بشكل أكثر خصوصية:
ويتعلق الأمر في نفس الآن بوصف للمسعى العلمي عموما ، أو لمنهجية علمية خاصة ( حيث يبين الفيلسوف من وجهة نظره كيف يمارس العالم علمه) وبموقف حول وسائل امتلاك المعرفة ، حيث يستطيع إبستمولوجي معين على سبيل المثال وصف نشاط العالم بألفاظ عقلانية ( حيث يوضح الدور المركزي للعقل في اختيار وبناء الوقائع العلمية ) ، أو بألفاظ تجريبية ( حيث سيحاول حينذاك أن يبرهن على أن كل المعارف الموضوعية هي مستخلصة من التجربة ، أي من المعطيات المحسوسة ) ، وبنفس الطريقة سيتخذ موقفا حول طبيعة المعرفة. هذا النمط من الإبستمولوجيا الذي يأنف بعض الإبستمولوجيين أن يسميه إبستمولوجيا ، ينحدر من نظرية المعرفة أو Gnoséologie ، وبهذا المعنى نعتبرهم إبستمولوجيين أولئك الذين نسميهم ” الفاعلون الكبار ” في الفلسفة الكلاسيكية كأرسطو وديكارت وكانط وهوسرل ، وبعض افبستمولوجيين المعاصرين أمثال جاستون باشلار. وما عدا هذا الأخير ، نستطيع أن نقول إن خطأهم الذي يؤدي أحيانا إلى النظر إليهم باستخفاف من طرف من يسمون بـ ” الإبستمولوجيين الحقيقيين ” هو محاولتهم إنشاء نظرية عامة للمعرفة بدون أي اعتبار للمشاكل الجزئية المطروحة داخل كل ميدان معرفي خاص ، وهو تعريفهم لهذه النظرية انطلاقا من تعميمات مبكرة مستخلصة من علم خاص ( التاريخ الطبيعي بالنسبة لأرسطو ـ الرياضيات بالنسبة لديكارت ـ الفيزياء بالنسبة لكانط ـ المنطق بالنسبة لهوسرل). 2
. صورة أخرى ما فوق ـ علمية (تستخدم مفاهيم تعميمها أكبر من تعميم المفاهيم العلمية الخالصة)
بشكل أكثر خصوصية :
ويتعلق الأمر بتعريف أو تأسيس لمنهج ما ، ويستهدفان بالنسبة للعالم توجيه أبحاثه أو جعلها مشروعة. هذا النوع من الدراسة يشكل حقيقة جزءا مما أسميناه ” الإبستمولوجية التكوينية ” ، في حين الدراسة الأولى والأكثر نزوعا نحو نظرية المعرفة ، ترتبط أكثر بالإبستمولوجيا النقدية. ومع ذلك فإن مدرسة بكاملها من الإبستمولوجيين ذوي المشارب الأمبريقية والوضعية مكونة أساسا من مناطقة ( حلقة فيينا المؤسسة سنة 1929 من طرف موريتز شليك ) أجهدت و لا تزال تجهد نفسها في صياغة قواعد منطقية ( ومنها جاء إسم الوضعية المنطقية اللصيق بهذا التيار) لمنطق قابل للتطبيق على مجموع العلوم. محاولة التوحيد هاته للغة العلم ، وليس للعلوم ذاتها بطبيعة الحال ، تسمى “النزعة الفيزياوية ” لأنها تقترح التعبير عن المفاهيم البيولوجية ومفاهيم علم النفس والاجتماع وغيرها بقضايا لغة الفيزياء من جهة ، وتفرض ربما على كل العلوم منهجا مشابها لمنهج الفيزياء : ولو أن هذا ليس هو هم العلماء كلهم ، فإن هذه الإبستمولوجيا هي حقا تكوينية على المستوى الذي تفرض فيه على العلم منهجا علميا معينا تعتبره متمتعا بالشرعية. سنعطي هنا أسفله مثالين لهذين النوعين من الإبستمولوجيا باعتبارها دراسة للمناهج. بالنسبة للنوع الأول من الإبستمولوجيا سنرى كيف يمكن أن يوصف المنهج في العلوم الفيزيائية بطريقة متعارضة كليا من طرف كل من ديكارت ونيوتن.
- الأول بإرادته الانطلاق من المبادئ نحو النتائج يستعمل منهجا استنتاجيا قبليا ( مؤسسا على الحدس أي على المعرفة المباشرة بواسطة العقل لا على التجربة)،
- أما الثاني ، والذي أعجبه أن يعيد النظر ، وبدون سخرية ، في قسمة خصمه الرفيع ديكارت للقواعد إلى أربعة قواعد أساسية ، فادعى على العكس إمكانية الاستخلاص الكلي لقوانين الطبيعة من التجارب الحسية، لكي يصعد هكذا من حتى يصل إلى المبادئ العامة التي تحكمها، أي باتباع منهج استقرائي بعدي. إن العقلانية الديكارتية تستخلص منهجيتها من الرياضيات ؛ ففي علوم الطبيعة تلعب المبادئ المعروفة عن طريق الحدس دور الأكسيومات ، والقوانين التي يمكن استنتاجها منها هي مشابهة للمبرهنات. أما النيوتونية ، وعلى العكس من ذلك ، فإن المنهج الخاص بعلوم الطبيعة يعتبر كما لو كان مختلفا بشكل جذري عن الرياضيات ، ما دامت التجربة حسب نيوتن ، وليس الحدس ، هي التي من المفروض أن تقود خطواتنا دون أن يكون من الضروري اللجوء إلى الحدس بصياغة فرضيات : وهذا هو معنى قولة نيوتن المشهورة : ” أنا لا أضع الفرضيات “.
5. المنهج الاستنتاجي في أربعة قواعد.
” … بدل هذا العدد الهائل من المبادئ المكونة للمنطق ، اعتقدت أنه يمكنني الاكتفاء منها بالمبادئ الأربعة التالية ، آملا في أنني سأتخذ قرارا قاطعا وثابتا في أنني لن أهمل ولو مرة واحدة ملاحظة أي منها.الأولى : أن لا أتلقى على الإطلاق شيئا على أنه حق ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك ، أي أن أعنى بتجنب التعجل والتشبث بالأحكام السابقة ، وأن لا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل لعقلي في وضوح وتميز لا يكون لدي معهما أي مجال لوضعه موضع الشك.والثانية : أن أقسم كل واحدة من المعضلات التي أبحثها إلى عدد من الأجزاء الممكنة واللازمة لحلها على أحسن وجه. والثالثة : أن أرتب أفكاري ، فأبدأ بأبسط الأمور وأيسرها معرفة ، وأتدرج في الصعود شيئا فشيئا حتى أصل إلى معرفة أكثر الأمور تركيبا ، بل أن أفرض ترتيبا بين الأمور التي لا يسبق بعضها بعضا بالطبع.والأخيرة : أن أقوم في جميع الأحوال بإحصاءات كاملة ومراجعات عامة تجعلني على ثقة من أنني لم أغفل شيئا. ‘ن هذه السلاسل الطويلة من الحجج البسيطة والسهلة التي تعود علماء الهندسة استعمالها للوصول إلى أصعب براهينهم ، أتاحت لي أن أتخيل أن جميع الأشياء التي يمكن أن تقع في متناول المعرفة الإنسانية ، تتعاقب على صورة واحدة ، وأنه إذا تحاشى المرء أن يتلقى ما ليس منها بحق على أنه حق ، وحافظ دائما على الترتيب اللازم لاستنتاجها بعضها من بعض ، فإنه لا يجد بين تلك الأشياء بعيدا لا يمكن إدراكه ، و لا خفيا لا يستطاع كشفه. ولم أجد كبير عناء في البحث عن الأمور التي يجب الابتداء بها ، لأنني كنت أعرف من قبل أن الابتداء إنما يكون بأبسط الأشياء وأسهلها معرفة. ولما رأيت أن بين الذين بحثوا من قبل عن الحقيقة في العلوم لم يستطع أحد غير الرياضيين أن يهتدي إلى بعض البراهين ، أي إلى بعض الحجج اليقينية والبديهية ، لم أشك أبدا في أن ذلك لم يتيسر لهم إلا بطريق الأمور التي عالجوها ، ولم أؤمل منها فائدة أخرى سوى تعويد عقلي مؤالفة الحقائق البديهية ونبذ الحجج الباطلة”. رونيه ديكارت ، المقال في المنهج 1637
الجزء الثاني ترجمة : جميل صليبا بيروت 1970.
5.مكرر ” بالنسبة للفيزياء ، اعتقدت أنني لا أعرف شيئا عنها ، إذا لم أكن أعرف أن أقول كيف يمكن أن توجد الأشياء، بدون القدرة على البرهنة بأنها لا يمكن أن توجد بشكل مغاير؛ ذلك أن إرجاعها واختزالها إلى قوانين الرياضيات هو شيء ممكن “.رونيه ديكارت
رسالة إلى مرسن 11 مارس 1640.
6. المنهج الاستقرائي في أربعة قواعد.
”
القاعدة الأولى : ل
ا يجب اعتبارها أسبابا إلا تلك التي هي ضرورية لتفسير الظواهر. إن الطبيعة لا تقوم بأي فعل سدى ، وسيكون فعلا لأشياء تافهة ممارسة فعل بواسطة عدد كبير من الأسباب ، في الوقت الذي يمكن حدوثه فيه بعدد أقل منها.القاعدة الثانية : يجب عزو التأثيرات التي هي من نفس النوع دائما ، وكلما أمكن ذلك ، لنفس السبب. هكذا فإن عملية التنفس لدى الإنسان والحيوان، وسقوط حصاة في أوربا أو أمريكا، وضوء النهار هنا [ على الأرض] وضوء الشمس، وانعكاس الضوء على الأرض والكواكب، [ هي أفعال ] يجب أن تعزى على التوالي لنفس الأسباب.
القاعدة الثالثة : يجب أن ننظر لخصائص الأجسام التي لا تقبل الكبر ولا النقصان ، والتي تحوزها كل الأجسام التي يمكن إجراء التجارب عليها ، كخصائص مرتبطة بكل الأجسام عموما. لا يمكن أن نعرف خواص الأجسام إلا عن طريق التجربة، وهكذا يمكننا أن ننظر إليها كخصائص عامة ، الخصائص الموجودة في كل الأجسام ، والتي لا يمكن أن تشكو من التناقص؛ ذلك لأنه من المستحيل إفراغ الأجسام من خصائصها التي لا يمكن إنقاصها. كما لا يمكن أن تعارض التجارب بالأحلام ، و لا يجب إهمال التماثل في الطبيعة ، والذي هو دائما بسيط ومشابه لذاته. إن تعين الأجسام وامتدادها لا يعرف إلا عن طريق الحواس ، و لا يمكن الإحساس به في كل الأجسام (الامتداد ) ، وإنما كتعين أو امتداد لصيق بتلك التي توجد تحت حواسنا ، ونحن نؤكد أن هذا الامتداد مرتبط بكل الأجسام عموما. إننا نجد أن كثيرا من الأجسام صلبة : بيد أن صلابة الكل متأتية من صلابة الأجزاء، وهكذا نعترف بهذه الخاصية ، لا فقط في الأجسام التي مكنتنا حواسنا من اختبارها ، ولكننا نستدل بواسطة العقل على الأجزاء غير القابلة للقسمة هي أجزاء يمكن أن تكون صلبة. نستنتج بنفس الطريقة أن كل الأجسام غير قابلة للاختراق، وذلك لأن كل الأجسام التي نلمسها لا تقبله، لذلك ننظر لعدم القابلية للاختراق كخاصية تسري على كل الأجسام. كل الأجسام التي نعرفها متحركة ، ومتميزة بقوة معينة ( نسميها قوة العطالة ) تدوم وتستمر بفضلها في حالة حركة أو حالة سكون . نستنتج أن كل الأجسام عموما تمتلك هذه الخصائص. الامتداد ، الصلابة ، عدم القابلية للاختراق ، الحركية ، العطالة في كل الأجسام تتأتى إذن من امتداد وصلابة وعدم القابلية للاختراق وحركية وعطالة الأجزاء: وهو ما نستنتج منه أن كل الأجزاء الدقيقة في جميع الأجسام هي ممتدة وصلبة وغير قابلة للاختراق ومتحركة وممتلكة لقوة العطالة، وهذا هو أساس كل الفيزياء. وأكثر من ذلك نعرف أيضا عن طريق الظواهر أنه يمكن للأجزاء المتلاصقة للأجسام أن تنفصل ، وتطلعنا الرياضيات على أنه يمكن تمييز الأجزاء غير القابلة للقسمة والأكثر صغرا أحدها عن الآخر عن طريق العقل.إننا لا زلنا نجهل ما إذا كانت هذه الأجزاء المتميزة وغير المنقسمة تقبل العزل والافتراق عن طريق قوى الطبيعة ، ولكن إذا كان من المؤكد وعن طريق تجربة واحدة أن واحدة من هذه الأجزاء التي نعاينها كوحدة قابلة للقسمة عانت نوعا من أنواع القسمة بعزل أو بكسر جسم صلب كيفما كان ، فيمكن أن نستنتج عن طريق هذه القاعدة أنه ليست الأجزاء المنقسمة قابلة للعزل فقط ، وإنما قابلة الأجزاء غير المنقسمة للقسمة إلى ما لا نهاية. وأخيرا ، وما دام من الثابت من التجارب ومن الملاحظات الفلكية أن لكل الأجسام القريبة من سطح الأرض وزن فوق الأرض حسب كمية مادتها ، وأن القمر يثقل على الأرض بسبب كمية مادته، وأن بحرنا يثقل بدوره على القمر ، وأن كل الكواكب تثقل على بعضها البعض بشكل متبادل ، وأن المذنبات تثقل أيضا على الشمس ، فإننا نستطيع أن نستنتج تبعا لهذه القاعدة الثالثة أن كل الأجسام تسبح بشكل متبادل بعضها نحو البعض الآخر، وسيكون هذا الاستدلال بفضل الجاذبية الكونية للأجسام المستخلصة من الظواهر أقوى من ذلك الذي نستنتج منه عدم قابليتها للاختراق: وذلك لأنه ليست لدينا أية تجربة أو أية ملاحظة تؤكد لنا أن الأجسام الأرضية هي أجسام غير قابلة للاختراق، ومع ذلك فأنا لا أؤكد أبدا أن الجاذبية [ خاصية ] جوهرية للأجسام، و لا أعني بالقوة الكامنة في الأجسام إلا قوة العطالة التي هي قوة ثابتة : بدلا من أن الجاذبية تتناقص كلما ابتعدنا عن الأرض.
القاعدة الرابعة : في الفلسفة التجريبية ، يجب أن ينظر إلى القضايا المستخلصة عن طريق الاستقراء ، وعلى الرغم من الفرضيات المضادة ، على أنها قضايا صادقة بشكل تام أو تقريبي ، في انتظار أن تؤكدها بعض الظواهر الأخرى كليا ، أو تطلعنا على أنها معرضة لاستثناءات . ذلك لأن فرضية ما لا يمكنها إضعاف الاستدلال المؤسس على الاستقراء المستخلص من التجربة. لا يمكنني أن أعتقد إلا أنه إجراء فعال لتحديد الحقيقة، وأن أفحص مختلف الطرق التي يمكن وفقها تفسير الظواهر ، ما عدا في الحالة التي لا يمكن فيها سرد وتعداد كل هذه الطرق بشكل كلي وتام. إن المنهج الحقيقي ، كما تعلمون ، للاستخبار والاستعلام عن خصائص الأشياء ، هو استنتاجها من التجارب. وقد قلت لكم أن النظرية التي اقترحتها ، جاءتني لا عن طريق الاستدلال [ والمسألة هكذا لأنها ليست بشكل مغاير ] ، ، أي ليس عن طريق استدلالها بكل بساطة من رفض لافتراض مضاد ، ولكن باشتقاقها من التجارب ، حيث تستنتج منها إيجابيا وبشكل مباشر. ولذلك فإن الطريقة التي يجدر بها فحصها ، هي اعتبار ما إذا كانت التجارب التي تم اقتراحها تبرهن بالفعل على أجزاء النظرية التي تفسر الأجزاء بفضلها ، أي أيضا باتباع تجارب أخرى يمكن التفكير فيها لإخضاع النظرية للفحص. . . ذلك لأنه إذا كانت التجارب التي أستدعيها ناقصة ومعابة ، فلن يكون صعبا توضيح وعرض نواقصها ، ولكن إذا كانت صالحة ، فإنها وبواسطة تلك التي تبرهن على النظرية ذاتها ، ستحيل بالضرورة كل الاعتراضات اعتراضات لا قيمة لها”.
إسحاق نيوتن : المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية
الكتاب 3 ورسالة إلى أولدنبرغ يوليوز 1672
مذكور من قبل روبير بلانشي في : المنهج التجريبي وفلسفة الفيزياء
أرمان كولان 1969 ص ص : 99 ـ 102 .
7. توجهان فكريان كبيران ، منهجان.
” لقد تم وصف هذا التمييز الأساسي بين المفاهيم والتصورات العلمية لدى كل من ديكارت ونيوتن من قبل فونتونيل Fontenelle وهو إذ ذاك سكرتير دائم لدى أكاديمية العلوم ، وذلك عندما كان بصدد مدح السير إسحاق نيوتن ، فقال : ” لقد كانت بين الرجلين اللذين هما على طرفي نقيض علاقات وثيقة ؛ فكل منهما كان عبقريا من الطراز الأول ، وقد ولد كل منهما للهيمنة على العقول الأخرى ولتأسيس الإمبراطوريات. كلاهما رياضي بارع رأى ضرورة نقل الهندسة إلى ميدان الفيزياء، وكلاهما أسس فيزياءه على الهندسة (. . .). غير أن أحدهما أراد ، وبقفزة جريئة ، التموضع في منبع كل شيء، وأن يغدو سيد كل المبادئ الأولى عن طريق بعض الأفكار الواضحة والأساسية ، وذلك حتى لا يحتاج إلى النزول من تلك المبادئ إلى ظواهر الطبيعة كنتائج ضرورية لهذا النزول . أما الآخر، وهو أكثر خجلا وتواضعا، فإنه بدأ سيره بالاستناد إلى الظواهر صعودا نحو المبادئ المجهولة، وانتهى إلى أن اعتبارها كما هي، يمكنه أن يعطينا تسلسلا للنتائج. أحدهما ينطلق مما يفهم بوضوح للعثور على سبب ما يراه أو يلاحظه، أما الآخر فينطلق مما يراه ويلاحظه للعثور على سبب ما يراه ويلاحظه”. ب . دي فونتونيل ” مدح العلماء ” 1697
مذكور من قبل ج. و. شارون في : ” من الفيزياء إلى الإنسان “
وساطات 1965 . ص : 47 .
هاك الآن مثالا عن نقد المناهج الممارس من قبل العلماء لتأسيس علمهم الخاص وتعريف موضوعه ، وهو مثال مستعار من ميدان الفيزيولوجيا. ينتقد كلود بيرنار تطبيق المنهج التجريبي المستخدم في ميدان الفيزياء والكيمياء على الوقائع البيولوجية ، وهو يوضح أولا كيف أنه خلافا لما اعتقده سابقوه ، بيشا على الخصوص ، فإنه من المشروع اعتبار الظواهر الحية كما لو كانت ظواهر فيزيائية ـ كيميائية ، ولو في اللحظة الأولى على الأقل ، ثم يحدد في نفس الآن حدود وعدم كفاية هذا المنهج الذي لا يسمح بتفسير وظائف الأعضاء المدروسة، و لا تراتبية تلك الوظائف.وبتقرير مشروعية المنهج التجريبي في البيولوجيا ، أي بالترخيص له بتحليل وتفكيك المكونات العضوية لـ ” مركب فيزيولوجي ” ثم إعادتها إلى أماكنها ووظائفها ، يؤسس كلود بيرنار منهج الفيزيولوجيا المعاصرة ، وبذلك يعرف موضوع هذا العلم بطريقة جديدة.
8. مشروعية وحدود المنهج التجريبي في الفيزيولوجيا.
“
. . . إن هدف المنهج التجريبي هو الإمساك بالحتمية في الظواهر، كيفما كانت طبيعة هذه الظواهر، حيوية كانت أم معدنية. ونحن نعلم يقينا أن ما نسميه حتمية في ظاهرة ما لا يعني شيئا آخر غير ” السبب الفاعل ” أو ” السبب القريب ” المؤدي لحدوث الظواهر ، حيث نحصل بالضرورة تبعا لذلك على شروط وجود الظواهر ، تلك الشروط التي يطالب المجرب بمعالجتها لتنويع الظواهر. سنرى إذن التفسيرات السابقة كتعبيرات مماثلة لمفهوم الحتمية، والتي يلخصها كلها هذا الأخير. من الأكيد ، كما قلنا ذلك سابقا ، أن الحياة لا تتطلب مطلقا أي تغيير في المنهج العلمي التجريبي الذي يتحتم تطبيقه في دراسة الظواهر الفيزيولوجية ، مما يؤدي إلى أن العلوم الفيزيولوجية وكذا الكيميائية ـ الفيزيائية تقوم بالضبط على نفس مبادئ الاكتشاف والبحث. لكن يجب الاعتراف مع ذلك بأن الحتمية في ظواهر الحياة ليست أكثر تعقيدا فقط ، وإنما هي في نفس الوقت حتمية تراتبية بشكل متناسق، وبالشكل الذي يجعل من الظواهر الفيزيولوجية المعقدة ظواهر مشكلة عن طريق منظومة من الظواهر البسيطة التي يحدد بعضها البعض الآخر ، بالاشتراك في تحقيق هدف غائي مشترك، في حين أن الهدف الجوهري لدى الفيزيولوجي هو تحديد الشروط الأولى للظواهر الفيزيولوجية وفهم تعالقها الطبيعي، من أجل استيعاب ، وبالتالي ، تتبع مختلف المنظومات في الميكانيزمات الأكثر تنوعا في العضويات الحيوانية(. . .). يتوجب على الفيزيولوجي والطبيب أن لا يغفل كون الكائن الحي عضوية حية متفردة؛ فالفيزيائي والكيميائي اللذان لا يستطيعان التواجد خارج الكون ( العالم ) يدرسان الأجسام والظواهر بذاتها وبشكل منفصل ، بدون أن يكرها على إلحاقها ضرورة بالطبيعة في كليتها. لكن الفيزيولوجي الذي يجد ذاته بالعكس من ذلك متواجدا خارج العضوية الحية التي يراها في كليتها ، يفرض عليه أن يفسر هذا التناغم في هذا الكل، في الوقت الذي يحاول فيه أن ينفذ لداخله لفهم آلية كل عنصر من عناصره. وينتج عن ذلك قدرة الفيزيائي والكيميائي على رفض أية فكرة غائية في الوقائع التي يلاحظانها ، في حين يجد الفيزيولوجي ذاته مكرها على الاعتراف بغائية متناغمة وقبلية في الجسم المنظم والمتضامنة كل أفعاله الجزئية والمولدة لبعضها البعض. يجب إذن أن نعلم جيدا أننا إذا فككنا العضوية الحية بعزل مكوناتها المختلفة عن بعضها ، فإن ذلك لا يتم إلا بغرض تبسيط التحليل التجريبي ، لا بغرض تناولها كأجزاء منفصلة. وبالفعل ، فلكي نمنح لخاصية فيزيولوجية ما قيمتها ومعناها الحقيقي ، ينبغي دائما ربطها بالكل ، وعدم استخلاص النتيجة النهائية إلا بعلاقة هذه الخاصية بتأثيراتها داخل هذا الكل. وبدون شك فإن هذا الشعور بالتضامن الضروري فيما بين أجزاء العضوية الحية هو ما دفع ” كوفييه ” إلى اعتبار استحالة تطبيق التجريب على الكائنات الحية ، لأنه يفصل الأجزاء المنظمة التي يتوجب إبقاؤها مجتمعة. وبهذا المعنى أيضا حرم بعض الفيزيولوجيين والأطباء الآخرين الذين يسمون ” الحيويين ” ، أو لا زالوا يحرمون التجريب في ميدان الطب. إن وجهات النظر هاته ، والتي لا تخلو من الصواب ، هي مع ذلك خاطئة من حيث استنتاجاتها العامة، وهي تضايق تقدم العلم بشكل ملحوظ”.
كلود بيرنار : مدخل لدراسة المنهج التجريبي 1865
كارنيي ـ فلاماريون 1966 ص ص 135 – 138.