دراسة المبادئPosted on
26 أكتوبر 2010 |
أضف تعليقاً 2.الإبستمولوجيا : دراسة المبادئ.1.2. المبادئ الميتافيزيقية:يقوم كل علم على مبادئ غير مبرهن عليها ، وذلك إما بشكل ضمني أو صريح ، ويقبلها العالم كبديهيات : وأولى اهتمامات الإبستمولوجيا النقدية هي إخضاع هذه المبادئ ذاتها للفحص النقدي.ولتوضيح هذه المسألة اخترنا المثال الآتي نظرا لبساطته النسبية ، وهو يتعلق بدراسة الحركة. في هذا الميدان الفيزيائي يمكن الإشارة إلى عالمين بارزين هما : أرسطو ( 384 ـ 322 ق.م ) والذي استمر تأثيره في أوربا حتى القرن 16 . وجاليلي ( 1564 ـ 1642 ) والذي يعتبر مؤسس الميكانيكا الكلاسيكية . وستبين قراءة نصوصهما كيف أن نظرياتهما مؤسسة على مفاهيم وتصورات للطبيعة تتجاوز بعموميتها الميتافيزيقية إطار موضوعهما العلمي الخالص.أ. أرسطو أو فيزياء الكيفيات:للحركة المحلية (= ما يؤدي بشيء ما لتغيير مكانه ) بالنسبة لأرسطو ، بادئ ذي بدء ، علة داخلية (= تقيم بداخل الجسم الذي هو في حالة حركة ) ، وهذا ما يميز نظريته عن نظرية الفيزياء الكلاسيكية التي انشغلت بوصف الظواهر ، أكثر مما انشغلت بالبحث عن أسبابها : لقد قرر أرسطو أن كل الأشياء تنحو وتنزع من تلقاء ذاتها نحو ” مكانها الخاص ” (= مكانها الأصلي ) ، وهكذا تنحو الأجسام الثقيلة نحو الأسفل ( الأرض ) ، وتنحو الأجسام الخفيفة نحو الأعلى ( السماء ) . والأجسام التي لا تتواجد في مكانها الطبيعي ليست ثقيلة أو خفيفة إلا بالقوة ( حيث يمكن أن تصعد إذا كانت خفيفة أو تنزل إذا كانت ثقيلة)، وليست هي كذلك بالفعل ( ولن تستطيع أن تحقق طبيعتها ) إلا عندما تلتحق بمكانها الأصلي.وبجانب هذه العلة الذاتية للحركة (= المرتبطة بطبيعة الأشياء وبجوهرها وماهيتها ، ومن هنا ارتباطها بميدان الضرورة ) ، يميز أرسطو علة خارجية (= غير مرتبطة بذاتية الأشياء) : فوضعية الأجسام الثقيلة غير الساقطة ، والأجسام الخفيفة غير الصاعدة ، ليست إلا وضعية متأتية عن عائق يعوق حركتها الطبيعية ( فيمكن مثلا الاحتفاظ بتمثال معلق بواسطة عمود . . . إلخ) . إن العلة العرضية للحركة هي تلك التي تقصي هذا العائق أو تلك التي تعارض الحركة الطبيعية ( فعل إطلاق حجر وتركه يسقط أو رميه في الفضاء).سنلاحظ من خلال قراءتنا للنص التالي أن هذه النظرية المتأتية عن الحس المشترك ، والتي تتوصل مع ذلك إلى تفسير مجموع الظواهر الملاحظة بصورة متماسكة ، تستند بشكل كلي على عدة مبادئ :- مبدأ جوهري ( الجوهر ) يعزو علة الحركة إلى بعض الخصائص الذاتية للأجسام: فالأجسام تسقط لأنها ثقيلة. و لا يحدد هذا المبدأ فقط كل فيزياء أرسطو ، وإنما أيضا كل الفلسفة الأرسطوطاليسية. إن الخاصية الذاتية أو الجوهرية تفسر كل شيء : الرخام بارد بسبب ” برودته ” ، العبد عبد بسبب ” عبوديته ” . . . إلخ.- مبدأ غائي: بفضله نعتبر كل الأشياء، طبيعية كانت أم اصطناعية، موجودة بغرض تحقيق غاية معينة (=هدف): ورقة الفاكهة لحماية الفاكهة، المنشار من أجل النشر. . إلخ.- مبدأ كوسمولوجي: (= يحدد نظرة منظمة للكون ) وفق هذا المبدأ لكل شيء في الطبيعة مكانه ووظيفته المحددين مرة واحدة وبشكل نهائي. هكذا يتم تصور الحركة كمعبر بين حالتين أو شكلين من أشكال الوجود : أي العبور من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل ، وكل شيء بالنسبة لأرسطو يوجد في مكانه وإليه يعود. 2.تصعد الأجسام أو تسقط حسب نزوعها الطبيعي.” لنبحث لماذا تتحرك الأجسام الخفيفة والأجسام الثقيلة نحو مكانها الطبيعي؟ .. إن سبب هذه الظاهرة هو أن الثقيل والخفيف هما بالطبع والجوهر محددين أحدهما بالأسفل والآخر بالأعلى. ‘ن الأجسام خفيفة أو ثقيلة بالقوة وبأشكال متعددة: ( . . . ) إن جسما في الحالة السائلة ليس خفيفا بداهة إلا بالقوة. وفي الحالة الغازية هو ليس كذلك أيضا إلا بنفس الصورة ( لأنه من الممكن أن يحال دونه والصعود ) ، لكن إذا ما أزيح هذا العائق ، فغننا سنراه خفيفا بالفعل، ما دام سيوجد في الأعلى. وهكذا أيضا، فإن الكيفية بالقوة تصبح كيفية بالفعل ـ كما أن ملكة المعرفة تتحول إلى معرفة في حالة إذا لم يكن هناك ما يعارضها ـ والكمية تتحول بنفس الطريقة.إن إزاحة مقاومة العائق للحركة هي بمعنى من المعاني سبب الحركة، وهي بمعنى آخر ليست كذلك ، مثلا : إن من يقوض عمودا أو ينتزع ثقلا من على قربة هوائية في الماء ليس إلا سببا عرضيا للحركة ، مماثلا لكون أن رامي الكرة هو سبب حركة هذه الأخيرة ، وليس الحائط الذي يعكس حركتها.إن أيا من هذه الأجسام لا يتحرك من تلقاء ذاته، وهذا بديهي، إنها ( الأجسام ) تمتلك في ذاتها مبدأ للحركة ليس فعالا ولكنه منفعل، ليس من أجل الحركة أو إنتاجها، ولكن لتلقيها. وبما أن كل الأجسام موضوع الحركة هي متحركة إما بحركة ناشئة عن عنف مضاف إلى طبيعتها ، وإما بحركة طبيعية ، وما دامت الأجسام الأوائل متحركة كلها بواسطة سبب غريب عنها ، في حين أن الأجسام الثواني ، سواء كانت متحركة أو غير متحركة من تلقاء ذاتها ، تتحرك هي أيضا بواسطة سبب خارجي ـ وهكذا تحدث حركة الأجسام الخفيفة والأجسام الثقيلة التي تتمثل أصول حركتها في العلة المولدة والفاعلة لخفتها أو ثقلها ، أو في العلة التي تزيح العائق والحائل دون حركتها ـ ، فلكل حركة إذن علة خارجية غريبة”.أرسطو ـ الفيزيقا VIII ، 4ـ28ـ29.
ب. جاليلي أو فيزياء الكميات:لقد رأينا مع أرسطو كيف يمكن أن تقود مبادئ مغلوطة نحو معارف مغلوطة ، ومن المثير الوقوف على أنه يمكن أحيانا أن يصاغ قانون علمي بصورة صحيحة انطلاقا من مبادئ هي أكثر قابلية للتنازع والاعتراض.وهاك مثالا على ذلك : في النص الموالي ، يفسر جاليلي ( 1564 ـ 1642 ) كيف اكتشف أن الأجسام تسقط تبعا لحركة متسارعة بانتظام، هذا الاكتشاف الذي هو نتيجة ملاحظة أمبريقية (= مؤسسة على التجربة ) ( ويمكن لأي شخص أن يرى بعينيه أنه كلما سقط جسم ما من مكان أكثر علوا ، كلما كانت سرعته أكبر عند الوصول) من جهة ، ونتيجة استنتاج منطقي من جهة أخرى ، انطلاقا من مبدأ ميتافيزيقي يقول : إن الله أو الطبيعة ” تحب ” اليسر والبساطة. وهذا دليل على أن العلم ، وحتى العلم الأفضل ( جاليلي هو مؤسس الفيزياء المعاصرة) ، لا يمكن أن يستغني عن الافتراضات.
سنلاحظ أن المبدأ الذي تقوم عليه الفيزياء الجاليلية هو في نفس الآن منبع ومصدر الاكتشاف ، وحد يرسم حدود المعرفة : فهو مصدر للاكتشاف لأن جاليلي استنبط منه إمكانية التعبير الرياضي عن القوانين الفيزيائية عموما ، وهو حد للمعرفة ؛ لأن هذا المبدأ يحرم ويحظر توضيح الظواهر المعقدة والمركبة ( اعتقد جاليلي أن الكواكب ترسم مدارات دائرية بدعوى أن الدائرة والخط المنحني المغلق هما الأكثر بساطة).3. تحب الطبيعة القوانين البسيطة.” إن التفكير ، أو إن شئنا ، الاتجاه العقلي لدى جاليلي ليس رياضيا خالصا ، إنه فيزيائي ـ رياضي. لقد انطلق جاليلي بدون شك من فكرة متصورة مسبقا ، لكنها تشكل عمق فلسفته الطبيعية ، وهي أن قوانين الطبيعة هي قوانين رياضية ، وأن الواقعي يجسم الرياضي. أليس لدى جاليلي أيضا مسافة بين التجربة والنظرية . إن النظرية، المعادلة، لا تنطبق على الظواهر الخارجية، إنها ” تنقذ ” هذه الظواهر، إنها تعبر عن جوهرها. إن الطبيعة لا تجيب أبدا إلا على أسئلة مصاغة بلغة رياضية؛ ذلك لأن الطبيعة هي مملكة القياس والنظام، وإذا كانت التجربة تقود هكذا ( كشخص يقودك بشد يدك ) المحاكمة العقلية والاستدلال ، فإنه في التجربة الممارسة بإحكام ، أي على مسألة موضوعة بشكل جيد ، تكشف الطبيعة جوهرها العميق والذي لا يستطيع تفهمه إلا المثقف العارف بالأمور.يخبرنا جاليلي بأنه ينطلق من التجربة ، ولكنها ليست ” التجربة ” الخالصة للحواس ، هذا المعطى الذي عليه أن يطابقه أو يلائمه مع التعريف الذي يبحث عنه ، إنها ليست شيئا آخر سوى القانونين الوصفيين ـ قانونا علامات ـ السقوط واللذين هما في حوزته مسبقا.يخبرنا جاليلي أيضا أنه منقاد بواسطة فكرة البساطة ( . . . ) بساطة واقعية إن صح التعبير، تطابق داخلي مع الطبيعة الجوهرية للظاهرة المدروسة.هذه الظاهرة الواقعية هي الحركة، وجاليلي لا يعرف كيف تحدث ، و لا كيف ـ وتحت تأثير أية قوة ـ يحدث التسارع ( . . . ) كيفما كان الأمر، فإن المسألة تتعلق بظاهرة واقعية، بظاهرة تحدثها الطبيعة واقعيا، الأمر الذي يعني حدوثها بفعل شيء يحدث في الزمن.إن الحركة قبل كل شيء هي ظاهرة زمنية ، إنها تحدث في الزمن ، وانطلاقا من الزمن سيحاول جاليلي أن يعرف جوهر الحركة المتسارعة، ليس بعامل المسافة المقطوعة ؛ فالمسافة ليست إلا ناتجا ، ليست إلا حادثة سير ، ليست إلا علامة على حقيقة جوهرية زمنية.إننا لا يمكننا، وتلك حقيقة، تخيل الزمن، وكل تمثل بياني سيقارب دائما خطر الانزلاق إلى هندسة مبالغ فيها. غير أن المجهود المسنود للعالم من طرف الفكرة المتصورة والمتفهمة لخاصية الاستمرارية في الزمن، يمكنه وبدون خطر، أن يرمز إليه بالمسافة. إن الحركة ذات التسارع المنتظم ستكون إذن كما ستكون بالعلاقة مع الزمن.إن كون جاليلي استطاع ، أو عرف ، كيف يتجاوز كل تمثيل تجسيدي لنمط حدوث الحركة أو التسارع ( قوة ت جاذبية . . . إلخ) مكنه من الحفاظ على توازنه في هذه الحدود الضيقة كحدود شفرة ، أو إنه في فعل الحركة يلتقي كل من الواقعي والرياضي”.ألكسندر كويري : دراسات جاليلية ص ص : 57 ـ156
منظار جاليلي
2.2 المبادئ الميتودولوجية :
ليست المبادئ الميتافيزيقية وحدها المبادئ الموجهة للفكر العلمي ؛ فهذا الأخير يحتاج في مختلف المجالات الطبيعية حيث تتحقق ممارساته ، إلى مبادئ موجهة لأبحاثهوموحدة لنظرياته ، وليست هذه المبادئ في الغالب إلا تمثلات مجازية واستعارية بهذا القدر أو ذاك لمجموعة من الظواهر. وهكذا مثلا استطاعت الكهرباء أن تحقق تقدما حاسما عندما تم تكوين ” تمثل ” عن الظواهر الكهربائية كظواهر مشابهة لتلك المشتقة من ميكانيكا السوائل ، وأيضا ، وكما يشير إلى ذلك النص التالي ، اتخذت الفيزيولوجيا توجها علميا حقيقيا عندما تم التخلي عن الصورة التي اعتبر وفقها أن الدم في الجسم ” يسقي ” العضوية الحية ، وذلك للمرور والانتقال إلى مجاز آخر أكثر خصوبة هو ” الدورة ” الدموية. منظار جاليلي
تشكل هذه الموجهات الأكثر عمومية للفكر العلمي في نفس الآن خميرة مولدة للاكتشافات ، ولكنها يمكن أن تكشف على المدى البعيد عن عائق لتطورها : ومن بين مهام الإبستمولوجيا ، كما هو الشأن بالنسبة للفلاسفة والعلماء أيضا ، الكشف عن هذه العوائق وجعلها موضوعا للنقد والفحص. 4. من السقي إلى الدورة [ الدموية].” . . . داخل أي منظور، غائي كان أم ميكانيكي ، يتموقع داخله البيولوجي أولا ، فإن المفاهيم الموظفة بدئيا لتحليل وظائف الأنسجة والأعضاء أو الأجهزة ، كانت مشحونة لاشعوريا بأهمية براجماتية وتقنية إنسانية خالصة.على سبيل المثال نجد أن الدم والنسغ (ماء النبات) يجريان كالماء ، والماء الجاري في القنوات يسقي الأرض ، إذن يجب أن يمارس كل من الدم والنسغ بدورهما عملية السقي. إن أرسطو هو الذي ماثل بين توزع الدم انطلاقا من القلب وعملية سقي حديقة عن طريق الأنابيب. ولم يفكر جاليان بطريقة مغايرة . غير أن سقي الأرض معناه اختفاء الماء داخل الأرض ـ وهنا بالضبط [يتجسم ] العائق الأساسي للذكاء المرتبط بفكرة الدورة [ الدموية ]. إن كل الفضل ينسب لهارفي لكونه استطاع القيام بتجربة ترابط عروق اليد التي يشكل احتقانها فوق نقطة الانقباض أحد البراهين التجريبية على وجود الدورة الدموية، غير أن هذه التجربة سبق وأن تمت سنة 1603 من طف فابريس D’Aquapendente ـ ومن الممكن جدا أنها تمت في تاريخ أسبق من هذا ـ الذي استخلصها من الدور الضابط ( والمعدل ) لصمامات العروق، لكنه اعتقد أنها تعوق الدم عن التجمع في الأطراف والأجزاء النازلة من الجسم. إن ما أضافه هارفي لمجموع الملاحظات المنجزة قبله هو إضافة بسيطة وأساسية في نفس الآن ، وهي كالتالي : في ساعة واحدة يضخ البطين الأيسر في الجسم عن طريق الشريان الأورطي مقدارا من الدم يعادل ثلاثة أمثال وزن الجسم ،فمن أين يأتي وإلى أين يمكن أن يمضي مقدار كهذا من الدم؟ ..ومن جهة أخرى ، إذا فتحنا وريدا معينا ، فإن الجسم سينزف إلى حد الفراغ ، ومن ثمة تولدت فكرة المدار المغلق الممكن، ” لقد تساءلت ـ يقول هارفي ـ فيما إذا لم يكن كل شيء قابلا للتفسير عن طريق حركة دائرية للدم ” . حينذاك ، وبرفضه لتجربة الترابط ، توصل هارفي إلى إضفاء معنى متسق ومتماسك على كل الملاحظات والتجارب. ونحن نرى كيف أن اكتشاف دوران الدم هو أولا ، وبالإمكان جوهريا ، استبدال لمفهوم أو تصور تم نحته لجعل الملاحظات الدقيقة ” متماسكة “، تلك الملاحظات التي تمت حول العضوية الحية في نقاط متنوعة، وفي لحظات مختلفة ، استبدال لمفهوم أو تصور آخر ، هو المتعلق بالسقي ، والذي تم جلبه مباشرة إلى البيولوجيا من ميدان التقنية الإنسانية.إن واقعية التصور البيولوجي للدوران تفترض مسبقا إقصاء خاصية التلاؤم في التصور التقني للسقي”.
ك. كانغيليم ” معرفة الحياة “
فران ، 1965
ص ص : 22 ـ 23.