لكون
أن تطور الجنس البشري هو ما أختصُّ به مع العلم أني لازلت طالبا في هذا
المجال، ولكون الخلفية التي أملكها عن هذا المفهوم أفضل من معلوماتي
العامة عن التطور، فقد أحببت أن يكون الموضوع عنه تحديدا، مع التطرق طبعا
لمفاهيم التطور في الكائنات الأخرى بشكل عام ولمفاهيم حقيقة تطور جنسنا
هذا، وأتمنى من بقية الزملاء مساعدتي في الإجابة على الأسئلة التي لا أجيب
عليها بشكل دقيق أو كامل، أو لا أملك جوابا لها، و شكرا على وقتكم مقدما
في قراءة الأسطر التالية، و الأسطر التي تليها. وهنا سأحاول تبسيط
المفاهيم إلى أكثر قدر مفهوم دون أن تفقد بعض التعابير العلمية معناها.
ماهو التطورEvolution؟
بادءا ذي بدء علينا أن نسأل أنفسنا ماهو المنطق؟ والقصد هنا ليس مسرحية
مدرسة المشاغبين المشهورة، بل حدود المنطق الذي يحدد طريقة فهمي لماهية
"التطور"، لاستيعاب مفهوم التطور السلس جدا كفكرة.
تنبئنا نظرية النسبية الخاصة، أن الزمان شيء نسبي وليس مطلقا! فلعمري لو
كان الأمر صحيحا، فهذا يطرح أسئلة في غاية التعقيد حول نسبية مفاهيم , مثل
الأخلاق و الخير و الشر وغيرها من التي كان يُظن أنها مطلقة.
أهم شيئ بدءا لفهم مفهوم التطور الذي سأناقشه، هو رمي المفهوم الأرسطوي
القديم وراء ظهورنا. ماذا تعني يا ميسو؟ ألم تقل أنك ستجعل الأمر مبسطا؟
حسنا الأمر بسيط جدا، المنطق الأرسطوي يقون إن الشيء إما أن يحتوي صفة أو
أن يحتوي ضدها، إما أن يكون خيرا أو أن يكون شرا، إما أن يكون عدلا أو أن
يكون ظلما، أي ذو وسط مرفوع.
وهذا أعزائي هو المنطق "السقيم" الذي أدى إلى رؤية الأشياء بصفات دائمة
وهو سبب خلط كما أرى في مفاهيم التطور التي لاتزال ترى على انها أفضلية!:
كأن نقول "الربيع جميل" فهل الربيع جميل حقا؟ قل هذا لمن يعاني من
الحساسية لغبار الطلع!
لم نفهم للآن يا ميسو ماذا يعني هذا في مفاهيم التطور؟ وما علاقته بهذا
الكلام؟ أقول هذا هو المدخل لفهم التطور بأكمله و لمحو الأسئلة السخيفة
التي ترافقه.
بادءا ذي بدء, التطور لا يعني الأفضلية على الإطلاق! و كلمة تطور في حد
ذاتها تحمل نوع من دلالة الأفضلية التي لا معنى لها في تفسير معنى التطور
الفعلي إطلاقا!
كيف؟ حسنا لننظر إلى مثالي السابق "الربيع جميل" فهل هناك في الربيع
مايجعله جميلا بذاته؟ وهل الربيع جميل لمن لديه تحسس من غبار الطلع و
مشاكل في الجيوب الأنفية مثل ميسو؟ لا، طبعا سيكون جوابي "أن الربيع أقرف
فصول السنة"!
الآن هل لسؤال مثل:
- الإنسان كائن عظيم
من معنى؟
حسنا، ولكن الإنسان هذا لايسوى بصلة على عمق ٥٠ مترا في المحيط! و المياه تشكل أغلبية في سطح الارض! ألا يصح القول:
-القرش كائن بديع ، لتفوقه عليه هناك؟
مرة أخرى، القرش هذا ببداعة "تصميمه" لايقوى على شيء خارج الماء! فما معنى
أن تقول إنه بديع؟ بل والأنكى أن تقارن بين المثال الأول والمثال الثاني،
كأن تقول:
- هل الإنسان أفضل أم سمك القرش؟
وهنا مفارقة منطقية لامعنى لسؤالها , كقولنا:
- هل السكين أفضل من المطرقة؟
هل للسؤال اعلاه معنى؟، أنا أقول كلا، لأنه لاوجود لأفضلية مطلقة ليُصار
القياس عليها، فلتحديد هل السكين افضل ،أم المطرقة عليك أن تحدد:
- هل تدق مسمارا؟ أم تقطع جبنة؟
و بتطبيق ذات المنطق على مقارنتنا الأولى
- هل الإنسان أفضل أم سمك القرش؟
حسنا عن أي بيئة تتحدث؟ فالإنسان أفضل في بيئته، و القرش أفضل في بيئته! ولا معنى للمقارنة بين الإثنين من دون وجود قياس مطلق!
ذات المنطق السقيم يقودنا إلى أسئلة لا معنى لها، يظن أن لا جواب لها. خذ المثال المشهور التالي:
- لماذا لايصير القرد إنسانا؟
حسنا، وما الذي يدفع "القرد" لأن يكون إنسانا؟ وهل الإنسان أفضل من القرد
ليصير القرد إنسانا؟ أو هل القرد أفضل من الإنسان ليكون الإنسان قردا؟
فكما أن القرد لا يملك بعض الخصائص التطورية التي يملكها الإنسان، فإن
الإنسان أعجز ما يكون أمام ذَكر الشمبانزي و قوة عضلات يديه! وحين يطاردك
نمر في غابة ستتمنى لو كنت إنسانَ غابٍ لتتعلق بالأغصان! فلا معنى لسؤال:
- لماذا لا يصير القرد إنسانا؟
بقدر أن سؤالا مثل:
- لماذا لايصير الإنسان قردا؟
لامعنى له! فالاثنان مغالطتان منطقيتان مبنيتان على فكرة أن للإنسان
أفضلية مطلقة على القردة العليا! كما أن للمطرقة أفضلية مطلقة على السكين!.
إذا كنت تظن أن سؤالا مثل هذا صحيحا، فخذ معك مطرقة إلى سفرتك التي ستقطع
بها الجبن لعمل الساندويشات، أوَ ليست المطرقة أفضل دائما من السكين كما
تقول؟ كما أن الإنسان أفضل من القرد بقياس مطلق لا معنى له؟.
القصد أن التطور لايعني المفاضلة، بل يعني الاختلاف و الملائمة، إن المنطق
السقيم هذا هو ما قاد إلى المفاهيم العنصرية القائلة ان الأبيض أفضل من
الأسود و أن الطول أفضل من القصر وأن كون الإنسان يمشي على قدمين يعطيه
ميزة عظيمة! ذات المنطق السقيم.
خذ المثال الآتي:
- البشرة البيضاء أفضل من البشرة السوداء.
حسنا، وما معنى هذه العبارة وما مقياس الأفضلية؟ نرجع إلى ما سأسميه منطق المسمار و الجبنة.
- هل تعيش في سهوب إفريقيا ذات الشمس المحرقة؟ أم تعيش في آلاسكا؟
حسنا، قل إن البشرة البيضاء أفضل للأستراليين المصابين بسرطان الجلد! أو
قل إن البشرة السوداء أفضل للإفريقي في آلاسكا المصاب بهشاشة العظام!.
أو ذات القياس الذي يقاس على الجنس البشري باعتباره يملك أفضلية لكونه
يمشي على ساقينBipedal، وحين يطاردك أحد الفهود بسرعة ٩٨ كيلومترا بالساعة
ساعتها تبجح بقدميك الاثنتين اللتين لا تستطيع أن تبلغ باستعمالهما ربع
هذه السرعة إلا بشق الأنفس! و ستكون أنت و قدماك وجبة غذاء متكاملة لصاروخ
السرعة هذا الذي من الممكن أن يقع في أحد الأفخاخ البشرية بكل سهولة!
أو قل إن طول الجسم عند الإنسان أفضلية مطلقة في جو من البرد القارس تكون
فيه مساحتك السطحية Surface Areaالزائدة لكونك طويلا وبالا عليك! إذ إنك
ستفقد أضعاف كمية الحرارة مقارنة بالأقصر و المملوء الكتلة، الذي تعد
ميزته هذه في الأجواء الباردة لعنة عليه في الأجواء الرطبة الحارة!
ابحث عن المقياس! ولا تنظر للتطور على أنه أفضلية! فهذا سخف القول ذاته،
وإلا لم لاتزال مايسمى بالصراصر الألمانية German Cockroachesعلى حالتها
المورفولوجية "وليس الجينية قطعا" منذ نيف ومليون عاما؟ الجواب :
- التطور ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة للبقاء.
هكذا لا أكثر ولا أقل، و الميزة التطورية التي لا تساعد على البقاء لا
فائدة منها، ولذا فلا شيء بالعودة إلى مثالنا السابق يدفع القرد لأن يكون
إنسانا! أو الإنسان لأن يكون قردا! مادام هذا الصنف قادرا على البقاء
والاستمرار و التكاثر بصيغته الحاليةRed Queen Hypothesis .
القصد، أن ما يُظن مطلقا هو في الحقيقة نسبي، وما يُظن غاية هو في الحقيقة
وسيلة، ولذا لا معنى حتى للقول إن يد الإنسان أفضل من جناح البعوضة أو إن
فك التمساح أفضل من فك الأرنب، ولا أعرف رأي التمساح لو كانت حميته من
الجزر!
ولذلك قبل أن نكمل فهم التطور بالشكل الصحيح علينا فهم المبادئ التالية:
١- لا يوجد قياس مطلق ثنائي للأمور بمقياس الخير و الشر، هناك نسبية في كل شيئ.
٢- ما يحدد كون صفة معينة أفضلية أم إعاقة، أو لنقل نعمة أو نقمة، هو البيئة التي يُصار القياس عليها.
٣- التطور ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة للبقاء.
٤- الإنسان أو غيره ليس غاية في التطور بأي حال من الأحوال! و القول إنه
في قمة سلم التطور سخف. إذ إنه لاسلم للتطور أساسا ليُصار قياس أفضليات
عليه!
هنا سأترككم مع صورة حية للتطور لمن يريد مشاهدته:
فحقيقة التطور لاتعدو كونها ماترنوه أعلاه، ولا تفرق عنه سوى في الكم لا
النوع، وأن تحديدنا لكلمة فصيلSpecies هو تحديد بشري لا أكثر، مستندا على
مجموعة مقاييس، فالفرق الجيني بينك وبين أخيك وبين أخيك و ابن جيرانكم
وبين من يسكن في الصين أو يسكن في إفريقيا هو وقود التطور، الذي يُصار إلى
توجيهه بعدة اتجاهات حسب مفاهيم سنناقشها و نبينها لاحقا.
و مجددا لامعنى لمفهوم أفضل و أسوأ في مفاهيم التطور.