** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 قراءة مصطفى حجازي (3 ...

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
سبينوزا
فريق العمـــــل *****
سبينوزا


عدد الرسائل : 1432

الموقع : العقل ولاشئ غير العقل
تعاليق : لاشئ يفوق ما يلوكه العقل ، اذ بالعقل نرقى عن غرائزنا ونؤسس لانسانيتنا ..

من اقوالي
تاريخ التسجيل : 18/10/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 5

قراءة مصطفى حجازي (3 ... Empty
28122012
مُساهمةقراءة مصطفى حجازي (3 ...

راءة مصطفى حجازي (3)
بنية علاقة القهر׃التسلط والرضوخ

لحسن وزين

إذا كانت الدراسات الاجتماعية والاقتصادية قد اهتمت بالبعد المادي
للتقدم والتطور والتنمية ، فإنها كانت قاصرة عن إدراك تعقد وتركيب وشمولية
المهمة التي أرادت انجازها، وهي مجابهة تخلف مجتمعات التخلف. فالكثير من
المحاولات فشلت في تحقيق أهدافها، لأنها قللت من قيمة وضرورة الإنتاج
النظري، أي إنتاج معرفة بواقع التخلف تكون قادرة على تملكه معرفيا، بتأسيس
أرضية ثقافية عقلية تستوعب الجديد وتستنبته، عوض الاكتفاء باستيراده
جاهزا. وتزداد المسألة تعقيدا على المستوى الفكري، "فالفكرة ليست محض
تجريدات لا علاقة لها بالواقع، أو أوعية جوفاء يمكن أن تمتلئ بأي سائل من
أي نوع، وإنما هي تنشأ في سياق تاريخي وحضاري وثقافي معين، وهي تولد على
يد بشر مهيئين تاريخيا وحضاريا وثقافيا لإنتاجها وتطويرها وتنميتها. " (1)

فإهدار السياقات واختلاف مستوى تطور المجتمعات إلى جانب الإلغاء
والإقصاء، كنوع من الاغتيال الرمزي لإنسان المجتمعات المتخلفة ، بدعوى أنه
متقدم على مستوى الأخلاق والقيم ، ما ينقصه هو تطور حياته المادية التي
يمكن للاستيراد أن يحققها، هذا الهدر للسياقات وللبنية الفوقية النفسية
للإنسان هوالذي أدى إلى تأبيد التخلف. " وإذا كان التخلف التقني والصناعي
والاقتصادي والاجتماعي واضحا في خصائصه ومحطاته، فان التخلف النفسي
الوجودي مازال بحاجة إلى جهد كبير لاستجلاء غوامضه. "(2)

ومن منطلق التأسيس العلمي للمشروعية الوظيفية لعلم النفس، كانت
البداية بإنتاج مفاهيم نظرية لعلم نفس التخلف، انطلاقا من تميز الواقع
العربي في بنياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يصعب فيها الحديث
عن التمايز بين البنية المادية والفوقية. حيث يسود نوع من الترابط المعقد
في بنية الكل الاجتماعي، أي نوع من التضافر البنيوي بين المادي والثقافي
النفسي، " ولذلك لايستقيم الحديث عن التخلف، ولا يمكن لصورته أن تكتمل إلا
إذا أعطينا لهذه البنى الفوقية مكانتها، فهي و إن كانت في الأصل نتاجا
للبنى الاجتماعية الاقتصادية وما يحكمها من قيم ومعايير التنشئة والتشريط
وأنماط التربية والعلاقات، وما يحكمها من قيم ومعايير وأساطير قوة قائمة
بذاتها متفاعلة جدليا مع البنى التحتية . إنها تتحول إلى عامل يرسخ البنى
التحتية ويعزز وطأتها."(3)

حيث تتحول البنية النفسية إلى قوة مادية فاعلة وموجهة ومؤطرة، ومنتجة
للعلاقات الاجتماعية والثقافية والرمزية . فبنية علاقة القهر والرضوخ، هي
بنية نفسية ذهنية معرفية مخيالية اجتماعية لاشعورية، أنتجتها البنية
المجتمعية.(4)

إنها أشبه بما يصطلح عليه بالبنية الفوقية، لكنها على المستوى النفسي
بنية تحتية باطنية، تعيق التغيير والتطور والتنمية، بل تقاوم وتحارب الرؤى
المستقبلية التحديثية، والحرة المبدعة ذات الإرادة الفاعلة. " اشد نقاط
المقاومة استعصاء على التغيير هي البنية النفسية التي يفرزها التخلف بما
تتميز به من قيم ونظرة إلى الكون. "(5)

فلا يمكن للمجتمعات المتخلفة أن تنهض وتتغير، إلا بتحطيم بنية علاقة
القهر والتسلط والرضوخ والخنوع، كبنية نفسية ذهنية معرفية لاشعورية. تشتغل
كإيديولوجية خفية مولدة للنقص والدونية والعجز، ولمختلف أشكال التبخيس
الذاتي وفقدان الاعتبار والفشل الوجودي في تحقيق الذات، أو حماية البعد
القيمي الإنساني، إنها نفسية الإلغاء وهدر المعنى الوجودي لحقيقة الإنسان.
إننا أمام تحكم بالإنسان ونفاد إلى أعماقه، وضبطه من الداخل بإغراقه في
عبادة الماضي سلوكا وتفكيرا وموقفا. إنها نظرة إلى الذات والآخرين والعالم
تحكمها وتوجهها عقلية خرافية، تجهل السؤال وهي مضطربة انفعالية ومتصلبة،
ذات أحكام قطعية ونهائية وعنيفة. تتحاشى الحوار والتواصل، لأنها تميل إلى
الإخضاع لا إلى الإقناع، نفسية متصدعة قلقة مشحونة بالعدوانية والعنف و
الانفعال، مما يعيق تطورها التجريدي، النقدي والجدلي. " انهيار القدرة على
التجريد الذي يشكل احد أرقى المظاهر الذهنية في التكييف للواقع والسيطرة
عليه. "(6) فالقهر والتسلط حشرها في زاوية المعيشي، في المستوى النباتي
الذي لايسمح بالارتقاء الذهني والفكري الذي يسمح لنمو الفكر النقدي .
فالإنسان المتخلف يعيش انحساره الوجودي، بنوع من قلق الخصاء الذهني، حيث
ينزاح عدم إشباعه لحاجاته، كما حددها هرم ما سلو، النفسية والعاطفية
والمادية …عن مستوياتها الطبيعية لتتكثف على المستوى الجنسي في نوع من قلق
الذكورة، وتحت ضغط ما تبقى من حجم الدماغ الهيبوتلاموس(7).

ربما هذا من بين ما يفسر كثرة الأطفال داخل الأسرة – " هذا المأزق
يجعله يعيش في حالة دائمة من التوتر الانفعالي الذي ينبث في ثنايا شخصيته
معطلا القدرة على الحكم الموضوعي، والنظرة العقلانية إلى الأمور، وهكذا
فان التوتر الانفعالي بمقدار ما يتصعد يخلق عقبات معرفية متفاقمة أمام
الإنسان المقهور."(8)

كما يكون منشطرا على نفسه بين تقديس الأم وتدنيس المرأة، فبنية علاقة
القهر والرضوخ مسخت عمق الإنسان وخربته من الداخل، فتحول إلى كائن هش
وتافه في قضاياه ومشاكله. ينهار تلقائيا أمام الصعاب ومشاكل الحياة،
فالعجز لجم إرادته مما عطل مرونته وقدرته على التحليل والتقدير الموضوعي
لكل ظواهر الواقع، سيطرة الانفعال ترهقه بتوتراتها وعدوانيتها المتراكمة،
ذلك يحول دون تطوره التاريخي وارصانه الذهني للواقع . عندما يصل التدمير
التسلطي القهري إلى تلك النواة الداخلية التي يتستر عليها الإنسان المتخلف
بشتى المظاهر، كدفاعات مرضية يكون المتسلط قد أنهى وجود ما هو أجمل في
الإنسان׃الحلم ،الفرح ،الحب ،العاطفة ،الاعتبار الذاتي و الحاجة إلى
التقدير …في مقابل تضخم وسطوة أنا ووجود المتسلط ، إنه ضحية ساد يته التي
تجعله لا يهدأ، كما نرى في ليبيا وسوريا واليمن… إلا بعد أن يمارس مختلف
أشكال القهر. "إن ما يميز العقلية المتخلفة هو ذلك النموذج من التسلط
والقهر الذي يحكمها ،هو تغلغل الإرهاب حتى أعماق النفسية كأسلوب وحيد
لتصور العالم. هذه الوضعية المترسخة تخلق مقاومة عنيدة وخطيرة، بقدر ما هي
خفية لكل تغيير، ولكل تنمية في اتجاه الاعتبار الحقيقي لإنسانية الإنسان.
"(9)

إذا كانت الدراسات الاقتصادية والسياسية قد اهتمت بكسر العلاقة
التبعية في مستواها البنيوي المادي، إما بفك الارتباط كما يدعو إليه سمير
أمين ، أو بالقطع الثوري للعلاقة الكولونيالية كما يطرح مهدي عامل إلى
جانب اختيارات أخرى للطريق الثالث اللاراسمالي … فإن واقع التخلف اثبت أن
بنية علاقة القهر، كمستوى نفسي معرفي ذهني لاشعوري، لم تحظ على مستوى
التفكير السياسي والاقتصادي بنفس أهمية العوامل المادية. "الإنسان المتخلف
لم يعط الاهتمام نفسه الذي وجه إلى البنى الاقتصادية والسياسية
والاجتماعية. صحيح أن هذا الإنسان هو وليد البنية الاجتماعية المتخلفة،
ولكنه ليس مجرد أمر مادي قابل للتغيير تلقائيا." (10) ليس فقط بسبب قوة
القهر السياسي، وهدره لجميع مستويات الوجود الإنساني الحياتي والنفسي
والفكري …وإنما أيضا بتجاهل الكتابات والتنظيرات الاقتصادية والاجتماعية
والسياسية لإشكالية بنية علاقة القهر والرضوخ ، كبنية نفسية ذهنية معرفية
لاشعورية ، تشتغل كإيديولوجية خفية فتعمل على هضم الجديد واستيعابه في اطر
وقوالب تقليدية أو مستحدثة. فإنسان المجتمعات المتخلفة، " هو ضحية عملية
غسل دماغ مزمنة يقوم بها المتسلط ، فهذا الأخير سواء كان محليا أو أجنبيا
يشن حربا نفسية منظمة، لتحطيم القيم الاجتماعية والحضارية للفئة المقهورة
،تؤدي إلى تبخيس وازدراء كل ما يمت إلى عالمها بصلة."(11)

ولعل الحالة النكوصية التي تعيشها المجتمعات المتخلفة ، من جمال الدين
الأفغاني في بداية النهضة إلى حجاب أو نقاب الدين الأفغاني راهنا، لأكثر
تعبيرا عن مفارقة صعبة، تتجاوز مفارقات محمد عبده التي ناقشها عبد الله
العروي في كتابه مفهوم العقل. مجتمعات تنتقل من الجمال بمعنى النهوض
والتنوير إلى الحجاب بمعنى الخوف والذعر والتسلط الكامن في القبيلة
والعشيرة والعصبية والمذهب وحدود العقل …إنه القهر المزمن. فعوض بناء
الإنسان من الداخل، وتقوية مناعته الذاتية وضميره الثقافي والقيمي ومتانة
صحته النفسية، ينكفئ على ذاته تقليديا هاربا، مذعورا، جامدا ومتسترا على
بؤسه الداخلي وكارثته الوجودية. حالة من الخوف والشك والحذر تنتابه أمام
كل جديد أو غير مألوف، وفي الوقت نفسه هناك حالة من التماسك والشجاعة
المتهورة والرضا بسفك الدماء، داخل نفسية المتسلط بعدالة ثروته وسمو
أخلاقه وشرعية قهره للآخرين. " إن هذه الظاهرة الشاملة ظاهرة إيمان أصحاب
الامتيازات بان حصولهم على ثروتهم أمر عادل متجذرة عميقا في عدد من
الأنماط السيكولوجية، فحين يقارن رجل سعيد وضعيته بوضعية إنسان تعيس، لا
يبدو مسرورا بواقع أنه سعيد، بل نراه يرغب في أكثر من هذا يرغب في الحصول
على الحق في أن يكون سعيدا، وعلى وعي أنه إنما اكتسب ثروته بالتناقض مع
الإنسان الذي لم يحصل على أية ثروة والذي كان عليه بدوره أن يكتسب تعاسته
…إن ما تطلبه طبقة أصحاب الامتيازات من الدين إن كانت تطلب منه أي شيء على
الإطلاق، إنما هو هذه الطمأنينة السيكولوجية لمشروعية حصولها على
امتيازاتها "(12) إن ما يحاك ضد نفسية المقهور، هو تقوية لبنية علاقة
التسلط والرضوخ في بعدها النفسي الثقافي والديني، كايدولوجيا للشرعية من
خلال تغييب وطمس التناقض بين المتسلط والمقهور، و جعله نموذجا للتماهي.

الهوامش:

1-فؤاد أبو حطب مشكلات علم النفس في العالم الثالث ضمن الندوة المشار إليها سابقا ص 15و16

2- مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي ص 32

3- المرجع نفسه ص 31

4- نحاول أن نجمع بين اللاشعور المعرفي والمخيال الاجتماعي

5-مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي ص 58

6- المرجع نفسه ص 72

7- مصطفى حجازي الإنسان المهدور المركز الثقافي العربي ط 1 س 2005 ص 167

8- مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي ص71

9- المرجع نفسه ص 84

10-المرجع نفسه ص 9

11- المرجع نفسه ص 133

12- ماكس فيبر ضمن كتاب جيمس سكوت- المقاومة بالحيلة- ترجمة إبراهيم العريس و مخايل خوري دار الساقي ط1 س 1995 ص94

قراءة مصطفى حجازي (4)

السوسيولوجية الغربية بين العلم والإيديولوجية



إنّ استسهال التنظير والاعتقاد بالقدرة على تكوين التصوّرات والبناء
النظري بمعزل عن التراكم المعرفي والبحث العلمي للواقع الملموس، كبحوث
ميدانية تنتج المفاهيم النظرية في محاولة تملّكها المعرفيّ لواقعها الخاص
في إطار التميّز الكوني، هو الذي لا يزال يأسر الفكر العربي ويجعله سجين
العلم الغربي الاستعماري كسوسيولوجيا وانثروبولوجيا ميدانية لواقعنا
الخاص، وهي لا تخلو من إيديولوجيا رغم ما فيها من علمية لا يمكن إنكارها.
فمن زاوية العودة إلى معطيات الواقع الحيّ يقوم حجازي بنقد الطروحات
الغربية، وفي الوقت نفسه يؤسّس أدواته ومفاهيمه النظرية دون السقوط في فخ
التبعية المعرفية العلمية المتعالية عن الحياة المادية والنفسية الخاصة
بإنسان المجتمعات المقهورة والمتخلفة .

إن المعركة القاسية والصارمة التي يخوضها مصطفى حجازي ضد الذات، وكشف
كل عيوبها واختلالاتها النفسية، العقلية، الانفعالية وقصورها النقدي
والجدلي، هي معركة من أجل معرفة كيف تشكلت بنيتها الفوقية النفسية في سياق
تاريخي اجتماعي، وذلك رغبة في وعي الذات والتحرر من المعوقات النفسية
المعرفية والذهنية اللاواعية التي تعرقل التطور والتغيير وتقاومه بنوع من
التواطؤ ضد مصلحة الإنسان المتخلف في التحرر والتطور، واستعادة كرامته
وقيمته الإنسانية. وهذه المقاربة والرؤية في نقد الذات هي الوجه المكمل
والجريء في نقد إيديولوجيا السوسيولوجيا الاستعمارية والدراسات
الاستشراقية المتحيزة التي تتنكر لمنهجياتها العلمية ونظرياتها الحديثة
أثناء تناولها للمجتمعات المتخلفة، فهي كرست المقاربة اللاتاريخية في
النظر إلى قضايا وهموم المجتمعات المتخلفة، و إلى بنيتها الفوقية النفسية
الثقافية والرمزية. حيث تعتبرالناس مجرد كائنات بدائية متوحشة ومتجوهرة
وثابتة، وذلك لتبرير وشرعنة احتلالها ونهب ثرواتها "كل ما عرضناه إلى الآن
من ملامح العقلية المتخلفة…اتخذ شكل الأحكام المجحفة بحق الإنسان المتخلف
ونقصد به تلك التفسيرات المتحيزة التي قدمها بعض علماء الغرب لأسباب تخلف
الذهنية والنظرة إلى الحياة في بلدان العالم الثالث، وهي على كل حال
تفسيرات قديمة نسبيا برزت مع المد الاستعماري كتبرير علمي مزعوم لاستغلال
شعوب العالم الثالث"(1)، واستجابة أيضا عند الغرب لعقدة الخوف التاريخية
من حضارات، كانت في الماضي قوية وشكلت رعبا بحضورها القوي على الضفة
الأخرى من المتوسط "معظم الكتابات الغربية عن التخلف لم تستطع أن ترى منه
سوى هذه المرحلة التي تتصف بالعجز والقصور على جميع الأصعدة، وهو أمر يدعو
للدهشة حقا نظرا لما يعتره من عمى إدراكي يؤدي فعلا إلى تبخيس مقصود أو
لاإرادي لهذه الشعوب ولطاقاتها التغييرية الكامنة "(2).

وحجازي حين يقوم بتعرية الذات وكشف قصورها وتراكماتها النفسية التي
تجعل الإنسان عاجزا جامدا وسلفيا ونكوصيا فهو يقصد تحرير الذات، من خلال
السيطرة المعرفية على واقعها المادي والنفسي الذي ظل مقصيا تحت ذرائع
خطيرة، ساهم المستعمر في ترسيخها بالمبالغة في تفوقه واستعلائه، وبرسم
صورة سلبية دونية بدائية حول تاريخ المجتمعات المتخلفة، مما ولد ردود فعل
سلبية عملت ما في وسعها للتنكر لأزماتها واختلالاتها وأشكال تخلفها.
وحجازي لا يكتفي بنقد الذات بل ينبه أيضا إلى خطورة الانزلاق إلى ا لمواقف
الإيديولوجية للسوسيولوجيا الكولونيالية "فقصور التفكير الجدلي واضطراب
منهجية التفكير، من التأكيد على أن هذا القصور ليس وليد خلل عضوي أو
انحطاط تطوري كما يحلو لبعض المتحيزين من علماء الغرب أن يدّعوا، إنه نتاج
البنية الاجتماعية المتخلفة ووليد عوامل القهر والاعتباط التي يخضع لها
الإنسان المتخلف. قصور منهجية التفكير يتناسب بشدة مع درجة القهر المفروض
وجمود البنية الاجتماعية "(3).

فالتحليل العميق الذي قدمه حجازي حول عجز ودونية وقصور التحليل
العقلاني النقدي والجدلي عند المجتمعات المتخلفة إلى درجة استسلامها
للظروف وانسحابها من الفعل التاريخي في نوع من القدرية، هذا التحليل يفضح
مزاعم بعض الغربيين الذين يستغلون هذه الخصائص التاريخية لنسج صورة خرافية
وأسطورية متخيلة وزائفة وتضليلية، باعتمادهم منهجيات لاتاريخية ولا علمية
بل عنصرية تمس وتهدر قيمة الإنسان. "مازال الرأي العام الغربي إلى اليوم
يتصرف انطلاقا منها ويؤسس نظرته لذاته وللآخرين بناء على معطياتها،
فالانجليزي مثلا له ألف ملاحظة على نظامه اللبرالي إلا أنها تتلاشى إذا ما
قيست بملاحظاته المليون حيال الأنظمة غير اللبرالية، أو قل إن الملاحظة
تجاه الآخر تقتضي أولا الاعتراف به كأخر متكافئ بوجوده مع الأنا الغربية
لا أن يكون على مسافة شاسعة إلى الحد الذي تحتجب فيه رؤية هلامية تجعله
خيالا، أو شبحا مفزعا في مواصفاته شبه الإنسانية بالنسبة لاناهم. فالثقافة
الغربية جمعت بين نقائض لا تتآزر إلا بوشائج امبرياليتها الساعية دوما إلى
ردم الهوة بين حسنات الفلسفة التنويرية وسيئات النظرة الاستشراقية. "(4).

فإيديولوجية بعض الغربيين تستغل واقع التخلف التاريخي، لتجعل منه
واقعا أسطوريا لا يمكن تغييره ولا تطويره. تقصي البعد التاريخي الاجتماعي
لتحط من قيمة الإنسان، مبررة استغلاله والاعتداء عليه أو الوصاية عليه
بزعم بدائيته وطفولته الحضارية. "يأخذ الغربيون على الإنسان العربي خصوصا
والشرقي عموما قدريته واستسلامه للظروف دون أن يحاول التأثير فيها، كما
يلومونه على تخاذله وسلبيته اللذين يعتبرونهما عيبا خلقيا حضاريا، ولم
ينتبه هؤلاء إلى أن الإنسان لم يتراجع إلى هذه المواقع القدرية
الاستسلامية إلا بعد عصور طويلة من القهر الداخلي والخارجي"(5).

كما أن قراءتهم لمظاهر العنف والعدوانية التي نجدها في واقع المجتمعات
المتخلفة، على المستوى النفسي الانفعالي بسبب شدة القلق والتوترات التي
ينتجها القهر والتسلط والهدر، أو على مستوى العلاقات الاجتماعية المشحونة
بالتعصب والعداء إلى درجة القتل المجاني، تحت ضغط العدوانية المتراكمة، هي
قراءة متسرعة ومتحيزة تدل على الشكل السياسي الإيديولوجي الذي لا يخلو من
عدوانية وعنف في حق القيم الإنسانية الكونية وحق المجتمعات المتخلفة في
الحرية والتمتع بتلك القيم. "ولاشك في أن بعض العلماء الغربيين الذين
انزلقوا عن قصد أو غير قصد لخدمة أغراض استعمارية استغلالية قد ابرزوا
بشدة الصفة الدموية العدوانية في بعض المجتمعات المتخلفة التي احتكوا بها،
ولاحظوها، ولا شك في أنهم مالوا انطلاقا من تحيزات وأحكام مسبقة إلى تعميم
هذه الصفة على سكان تلك المجتمعات حتى وصلوا حدّ الزعم باعتبارها خاصية
أناسية عند الأقل شططا بينهم وخاصية إحيائية تطورية عند الأشد شططا في
تحيزهم"(6).

وفي هذا النقد المزدوج للذات والأخر الذي يقوم به حجازي يكمن عمق
التفكيك والحفر النفسي الاجتماعي التاريخي في الطبقات اللاواعية التي
تراكمت عبر قرون حتى أخذت صفة الطبيعي كقناع ثقافي رمزي، يخفي التناقضات
والصراعات والتصدعات والاختلالات، كما يعزز الأوهام وأساطير قوانين الحياة
القدرية والمكتوب المزعوم، بعيدا عن التزام ومسؤولية المتسلط الداخلي
والخارجي في تعطيل وتخريب واستلاب ومسخ إنسانية الإنسان ماديا ونفسيا
وثقافيا ودينيا وجعله رهينة الموروث. "إن التوتر الوجودي العام وما يصاحبه
من تفجر للعنف الدموي وغير الدموي ليس وليد بدائية نفسية كما اعتقد بعض
علماء الغرب الذين قالوا بعاطفية وانفعالية إنسان العالم المتخلف أنه وليد
وضعية مأزقية تشكل إحدى خصائص بنية القهر التي يتميز بها هذا العالم .
الإنسان في المجتمع المتخلف عدواني متوتر يفتقر إلى العقلانية ويعجز عن
الحوار المنطقي لأنه يعيش في حالة مزمنة من الإحباط الاعتباطي ومن
الإهمال"(7).

لكن الايدولوجيا الاستعمارية إلى جانب الكثير من الكتابات الاستشراقية
تستغل معطيات التخلف ونتائجه، دون أن تكلف نفسها عناء البحث العلمي
الرصين، لأن منطق الضرورة الكامن في التراكم الرأسمالي الغربي يدفع باتجاه
الاستغلال والنهب والاستعمار على حساب القيم الإنسانية والمنهجيات العلمية
الحديثة، هذا هو الوجه الآخر للغرب في صورته الدموية حيث حقق تقدمه ولا
يزال على أنقاض الشعوب المتخلفة، وفي "هذا المناخ وما يتضمنه من أسلوب
متوتر في التفاعل كان بدوره مصدرا استغله المستعمرون والمتسلطون الداخليون
حين فسروه بشكل مزوّر على أنه جزء من طبيعة بعض الشعوب التي عانت طويلا من
القهر تلك الشعوب اكتسبت شهرة الدموية أو العناد وركوب الرأس أو العدوانية
التي فسرت جميعا بأسباب عرقية أو ما شابهها من التفسيرات المجحفة التي
لاهدف لها سوى تبرير البطش الذي ينزله المستعمر أو المتسلط الداخلي
بها"(8).

إن الكثير من البحوث الميدانية التي أنجزتها السوسيولوجيا الغربية حول
مجتمعاتنا كانت ذات طبيعة ظاهرية وصفية ولم تبحث عن الديناميات الحقيقية
التي تتجاوز التقاليد والموروث كجوهر أو قدر محتوم. "يتغير دور علم
الاجتماع حسب هوية الممارسين له. إذا كان الباحث أجنبيا عن المجتمع
المدروس مال بطبعه إلى الوصف واظهر الأوضاع جامدة خاضعة لقوانين قارة،
فيقتصر على دراسة الجماعات الطبيعية كالعشائر والعائلات مع إهمال تام
للشخصية الفردية، أما إذا كان الباحث من أبناء الوطن، ممن يعنيهم الأمر،
فيغلب بالضرورة الجانب الإصلاحي ويبدو له المجتمع حيا متغيرا وتبدو له
شخصية الفرد متميزة حتى من خلال القوانين الجماعية المتراكمة، فيعود العلم
ذاته وسيلة لتحرير الفرد"(9).

الهوامش:

1- مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي ص 75

2- المرجع نفسه ص 41و42

3- المرجع نفسه ص 70

4- د نديم نجدي اثر الاستشراق في الفكر العربي المعاصر دار الفارابي ط 1س 2005ص 167

5- مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي ص 162

6- المرجع نفسه ص 166

7- المرجع نفسه ص 178

8- المرجع نفسه ص52

9- عبد الله العروي مفهوم الحرية المركز الثقافي العربي ط4 س 1988ص97و98

قراءة مصطفى حجازي (5)

من القهر إلى الهدر: شرق المتوسط يهيئ نفسه لرفض الموت

لم يعد مقبولا أن تنام العناوين ببرودة كالجثث فوق الورق وهي مكفّنة
ببياضه، عليها أن تقلع عن ذلك وتكون صادمة مقلقة، وإن تجرّأت أكثر عليها
أن تخرج العيون من محاجرها لترى هول المأساة والتحديات التي تنتظرها. الآن
يمكن الحديث عن نهاية أمم وانبعاث أخرى، وعلينا أيضا أن نتخلى عن تلك
اللغة الأخلاقية المقرفة في تجميل وتزوير الوقائع الاجتماعية والسياسية
والاقتصادية والثقافية والمفاهيم العلمية والحقائق المعاشة. اليوم إمّا أن
تكون الشعوب حرّة مستقلة وبكرامة كاملة، غير منقوصة تحت أية ذريعة كيفما
كانت كخصوصية موروثة ومتوارثة أو هوية ثابتة صنمية، شعوب مسؤولة تعيش
مواطنة حقيقية باستقلالية ومساواة في الحقوق والواجبات، ومتعلمة متطوّرة
قادرة على مواكبة المستجدات العلمية والثقافية٬ ليس من موقع الاستيعاب
فحسب بل أيضا الإسهام في الفاعلية الإنتاجية، أو لا تكون. الفحولة،
الرجولة، الذكورة، الخصوبة، الأمّية، التخلّف وكثرة الأولاد ؛ كلّها أمور
تفضح المستوى النباتي البيولوجي المعيشي الذي تتخبط فيه شعوب أقصت أحلامها
وطموحاتها وفقدت إنسانيتها في هذا الزمن العولمي بتحدياته العلمية
التكنولوجية، وثورته المعلوماتية وانفجاره المعرفي، وبانهيار الأطر
الاجتماعية القديمة والمعايير الثقافية التقليدية، والتحولات التي مست
مفاهيم كثيرة كالتعلم والتعليم والتنشئة والزمان والمكان …كل هذا يتطلب
موارد بشرية مؤهلة قادرة على فرض نفسها، من خلال الاقتدار المعرفي والتمكن
العلمي، المؤسس على كفاءات نفسية، اجتماعية، مهنية، معرفية وخلقية، بما
يسمح لها بالمشاركة والمبادرة والنقد والبناء٬ كذوات حرة فاعلة، مستقلة
واثقة من نفسها وراضية على انتمائها للوطن الذي يوسع آفاقها العالمية.
تطلب العمل والجهد والانجاز وتسعى إليه بصورة دؤوبة، وبنفس طويل في بناء
الذات والمجتمع والدولة والوطن الذي يوفر التقدير والاعتراف والقيمة،
ويعمل على تحصينها وحمايتها بالتكوين والتأهيل والتعلم المستمر، وبالتشجيع
والتحفيز للأداء المتميز، بما يحقق الرضا الوظيفي والضمير المهني
والالتزام الوطني.



جميع الكائنات الحية بما فيها الإنسان، تجد نفسها في اللحظات الصراعية
الصعبة أمام اختيارات محدودة، فهي إما تلجأ للمجابهة إذا كانت واثقة من
قدراتها ومن توازن القوى مع الخصم أو إلى الفرار والاختباء في حالة اختلال
ميزان القوى، أما إذا كانت الصدمة المباغتة قوية فإنها تصاب بالذعر
والتبلد وفقدان الذاكرة. إلا أنها في لحظات كثيرة عندما تتأكد من الحصار
المطبق عليها ولا خيار أمامها إلا الدفاع عن حقها في الوجود والحياة أو
الموت، فغالبا ما تقاوم بشراسة، وهذا ما حدث خلال ثورات الربيع العربي
الذي لم يفهمه المستبد العربي، ولا جال بخاطر القوى السياسية المعارضة،
كما لم يكن مطروحا في كتابات المثقف الشعري والنثري المأخوذ بسحر
ميتافيزيقا الدولة القهرية. هذا هو التهديد القهري الشمولي الذي أفرزه
الهدر كشكل أرقى وجليّ للموت الذي امتد وطال كل شيء، الإنسان والثروات
التي هربت خارج الوطن، وأغرقت البلدان بالديون الداخلية والأجنبية، مما
جعلها أسيرة التبعية الغربية والتحكم في قرارها السياسي والاقتصادي إلى
جانب هدر الموارد والمؤسسات والبحث العلميّ والوعي والفكر والتفكير
والطاقات كشباب…هذا هو السؤال الصعب الذي رآه حجازي ومن موقعه كإنسان
ومثقف ومفكر نقديّ لم يقبل الاستسلام أمام الموت٬ وهو يعرف أن المعركة لم
تعد تفسح مجالا لخيار آخر سوى الكلام أو الموت، والكلام يعني هنا الدفاع
عن الحياة وحق الحياة بشكل إنساني، حيث لا مساومة أو مقايضة، ولا تنازل عن
القيمة والحرية والكرامة والحصانة الإنسانية، كأساس وأرضية لكل الأفكار
والرؤى والعلاقات والانطلاقات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية
المرغوب في إنجازها وتحقيقها راهنا ومستقبلا. أمام هذا الهدر الشامل
والمرعب، وبغريزة البقاء والمحافظة على حقّ الإنسان كمشروع وجودي مستقبلي
يتوخى الاعتراف والتقدير والاعتبار ويسعى إليه، كما يهدف إلى حماية حق
الأجيال القادمة في حياة إنسانية حقيقية. قلت: أمام هذا الهدر الذي أتى
على الأخضر واليابس فهم حجازي واستوعب عمق الموقف المصيري وعمق التحليل
الذي قدمه مصطفى صفوان في كتابه الكلام أو الموت(1) -هنا والآن- أدرك
الاختيار الصعب، "تكتب أو تُقتل احذر أن تفهم أن هذا الإنذار موجّه إليك
من جلاد ما، إذا تجاوزت سطحية الرمز ستعرف أن صوت التاريخ هو الذي يتكلم،
وهو يعبر عن أحد اعنف قوانينه ׃كلّ صمت تقصير في حق الحياة. كل يوم يمرّ
دون أن تكون على موعد مع الكلمة يمثل انكسار فرع شجرة الحياة. وبعبارة
بسيطة كل كلمة تضيع هي صوت يخنق٬ صرخة يائسة لا تجد لها صدى، فضيحة تسقط
في مستنقع الأحداث التافهة"(2).



وبهذا الوعي اليقظ الفاعل والحيّ كتب كتابا رائعا- الإنسان المهدور-
ينتصر فيه للحياة ضد الخوف من الموت، بعد أن جرّد الموت من كافة أسلحته،
وحلّل بشكل عميق بنيات وآليات إنتاج الموت التي تتمثل في هدر شمولي، يجعل
حياة الإنسان تبدو بسيطة نمطية تكرارية ومثقلة بالروتينية والملل في شكل
من التخبط العشوائي الذي تبرّره وتكرّسه ايديولوجية خفية، تتسلّح بتعميم
الجهل ومحاصرة الوعي بالبداهة والطبيعية، كقانون علوي قدري يتطلب القبول
والتسليم بالأمر الواقع كنصيب في الحظ أو النحس، بشكل يغيب حقيقة الوجود
الإنساني كاجتماع بشري يخضع لضرورات العمران٬ كتناقض مجتمعي يؤسسه الصراع
السياسي والاجتماعي كمصالح مادية ورمزية. هذا التناقض والصراع المجتمعي
يخاض في مجتمعات الهدر الاستبدادي بنوع من جلد الذات والاحتماء السلفي
بالماضي والقدر والمكتوب ."إنما يهرب الإنسان من هدره في قدريته ومكتوبه
كي يرسخ هذا الهدر ويفاقمه في حالة من التلقي السلبي له على انه الحالة
الطبيعية التي لا راد لها "(3).



إمعان وإصرار على قتل التاريخ وما يتطلبه من رؤى علمية وتخطيط
واستراتيجيات مستقبلية، بتعطيل الوعي والفكر والتقدم العلمي، وتهميش
الكفاءات إلى درجة الغربة عن الذات والوطن. وبالمقابل يتم تشجيع الرداءة
واللامبالاة والسلبية، "وبذلك يتدنى الانتماء إلى الوظيفة وتتراجع جذوة
الحماس للأداء المميز وتتفشى مشاعر اللاجدوى ومعها الاستسلام والنكوص إلى
مستوى الحاجات الأولية والرضا بتحقيقها. ويعيش وجوده كإنسان مهدور وطاقة
مهدورة وكفاءة مهدورة وعطاء مهدور" (4).



كما تناول بعمق ودقة قضية الاستبداد والعصبيات والأصوليات التي تقف في
وجه التنمية والطاقات الحية وصحة المؤسسات التي تتجاوز العصبيات،
والأصوليات التي تنحسر كسقف سياسي تقليدي ولا تاريخي يبني دولا لكن لا
يستطيع بناء الأوطان، بالمعنى الحديث والحداثي كنسيج مجتمعي وليس كقبائل
وطوائف واثنيات ومذاهب، مكرسة التبعية والولاء والانحسار في الزمان
والمكان، المولد للانغلاق النفسي والاجتماعي والمعرفي، والتصلب الذهني٬
حارما الإنسان من حق التفاعل والتواصل والتعرف على الذات والمجتمع والوطن
والواقع، لإنتاج معرفة جديدة تمكن من السيطرة على الواقع والمستقبل
والمصير. فالاستبداد والعصبيات والأصوليات جميعها تكره بشدة الإنسان
المفكر الذي يسعى إلى المعرفة والوعي "هل من الغريب بعد هذا أن تؤول
مخططات التنمية الطموحة إلى الفشل على طول العالم الثالث –ومنه بالطبع
العالم العربي – ذلك هو أحد الجوانب الخفية المسؤولة عما تخلفه العصبيات
من هدر لطاقات الإنسان والموارد والمؤسسات والوطن ذاته"(5).



إنها تقوم وفق تبعيتها لقوى الهدر الخارجي بتنمية التخلف الذي يخدم
مصالحها الضيقة، ولو على حساب هدر كيان الإنسان والوطن، مستفيدة من الدرس
الكولونيالي في بعديه السوسيولوجي والانثروبولوجي على المستوى الإيديولوجي
الذي أنتجه بعض علماء الغرب حول المجتمعات المتخلفة، مستبعدة تطوير الجانب
العلمي من هذا الإنتاج النظري والميداني، بل اتجهت قوى الهدر في شكلها
الطغياني إلى استغلال العلوم الإنسانية والاجتماعية للسيطرة على الشعوب من
الداخل "إنه- المستبد- لا يكتفي إذا بالسيطرة على الناس من الخارج بل يريد
السيطرة عليهم من الداخل من داخل ذواتهم على مستوى السلوك والفكر والإرادة
وحتى الوعي والكيان"(6).



فذهب حجازي بعيدا في تحليله البنيات النفسية والاجتماعية والسياسية،
مقدما دراسة تاريخية نقدية للرصيد الديني والموروث الثقافي السياسي الذي
تمتد جذوره إلى بداية الحكم الأموي والعباسي. هذا الإرث الثقيل بوقائعه
ونصوصه الذي لم يكن إلا تراكما للسقوط السريع للحضارة العربية الإسلامية
هو الذي تتنافس في السيطرة عليه قوى الهدر السابقة، لتجعل شعوبها مجرد
عصبيات وقبائل وطوائف مذهبية، متناحرة تجتر الجمود والتقليد. حيث تعيش كل
واحدة أسطورة الفرقة الناجية الخيرة الطيبة التي من واجبها ممارسة القتل
كفريضة وواجب ديني للآخرين فكريا وسياسيا واجتماعيا وروحيا. وفي مثل هذا
الواقع يسهل تسويق أسطورة الإطار المرجعي الابستيمي للعصور الذهبية في ظل
العلاقات البطريركية، ذات القيم العمودية الذكورية بلغة بيانية إيمانية
وثوقية ولا حوارية، تنتشر الحقيقة المطلقة وتخاف مغامرة المجهول، المنتج
للجديد والمتجاوز للسائد والمألوف الذي يرى الإتباع كله خير والابتداع كله
شرّ. هنا يكمن سرّ قرون الانحطاط ، لأنّ السير كان ضدّ منطق التاريخ وجدل
الفكر والواقع، حيث نعرف أن البراديغم الجديد ينشأ عندما يعجز القديم عن
الإجابة عن التحديات والمشاكل التي يطرحها التغيير والتطور. لكن قوى الهدر
عندنا تدفع باتجاه براديغم الماضي، الشيء الذي يناقض منطق الوقع والبحث
العلمي كاستثمار في المجهول، في هذا النكوص المرضي نجد كل الحقائق جاهزة
نهائية في الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، وفي كل صغيرة في حياة
الإنسان اليومية، والنتيجة تحريم وتجريم الشك والسؤال المولد للتفكير
والفكر العقلاني النقدي التحليلي، وللوعي الفاعل والمنتج . يعزز ذلك سيادة
ثقافة الندب التي تنتصر لنزوة الموت، وتجعل حياة الإنسان جحيما لا ينتهي
تحت ضغط الهوامات اللذّية المصاحبة للألم، كما انهارت أيضا جميع العلاقات
الإنسانية في البيت والمجتمع، فهدر الحياة يطلق العنان لنزعات الموت
"وعليه فحين تعطل نزوة الحياة والنماء في حالات الهدر، تصبح نزوة الموت هي
اللاعب الأقوى على الساحة الوجودية وعندها تفعل فعلها التدميري الموجه إلى
الذات أو إلى الدنيا والناس أو إلى كليهما معا"(7).



تصر قوى الهدر على النظر إلى هذا الواقع كخصوصية قدرية طبيعية،
والخطير في الأمر أنها ترفع هذه الخصوصية إلى مستوى التفاخر والاعتداد
والتميز، فيترسخ هذا الوعي في أعماق نفسية الإنسان المتخلف كتجل ذاتي
خصوصي يجعله مستعدا للموت والحرب لتأكيد هذه الذات والهوية المتوارثة، أبا
عن جدّ، بعيدا عن التاريخ وصيرورته وتحولاته في الاستيعاب والإنتاج
والتجاوز في نوع من مقاومة التغيير والتقدم، من خلال استثمار قوى الهدر
للرصيد الديني والموروث الثقافي، وكلّ ما استجد في الحرب النفسية من علوم
سلوكية وعصبية …كلها تهدف إلى "إيقاف التفكير والامتثال للواقع والاقتناع
به على أنه الحقيقة الفضلى وهو ما يفتح الباب أمام كل استبداد وجعله
ممكنا"(8).



هذا الواقع الذي تضافرت في بنائه مراحل تاريخية ثقافية وسياسية
إيديولوجية، تحكمت في صيرورته رؤية المتسلط المستخلف في الأرض كقدر إلهي
لا دخل للإنسان في نشأته وتطوره واستمرار وجوده، وأيضا نظرا لكون قوى
الهدر تعيش في رعب دائم بسبب تضخم أنا المستبدّ وساديته التي تجعله لا
يطمئن إلى نفسه ولا إلى اقرب الناس إليه. يمتحن ولاءهم وخنوعهم ويراقب
آليات إيقاف التفكير والفكر والوعي، انطلاقا من تحطيم ثقافة الجهد والجد
والانجاز وطول النفس في بناء المعرفة والذات. ينتصر للخداع والغش والفساد
من خلال العطاء المشروط بالخضوع والولاء، مما يسدّ الفرص أمام النماء
والكفاءات والطاقات الخلاقة المبدعة، خصوصا الشباب حيث يتم تحريف وتزييف
الوعي بآخر ما استجد في سياسة رضاعة التسلية وصناعة الأحلام والأوهام وفق
قيم ثقافية اجتماعية استلابية، بالسيطرة على التوجيه الثقافي والإعلامي
الذي يسمح بالتحكم في الإدراك وإدارته، بما يخدم تشكيل الأفكار والتصورات
والتوجهات والقناعات بقضايا تافهة لا علاقة لها بواقع الإنسان المتخلف (9)
الذي يسعى كلام حجازي إلى دفعه للفهم والوعي بالعوامل والآليات والبنيات
والقوى التي شكلت وجوده ونمط حياته وأسلوب تفكيره ومفهومه للذات والآخرين
والعالم. من هنا تبدأ الأسئلة ومحاكمة المعرفة، المنهجيات، النظريات،
المفاهيم وحتى الفكر الذي يدعي أنه علمي نقدي وعقلاني السائد في الاقتصاد
والسياسة والثقافة … فإذا لم نفهم ونستوعب حقيقة هذه التاريخية في البنية
الاجتماعية الشاملة، فإننا لن نستطيع أن نحقق القطائع الابستمولوجية
الحقيقية، وتأسيس براديغمات جديدة أساسها النقد والنقض والتجاوز. ضد هذا
الموت الهدر، ومن أجل الحياة التي ستجدد العالم العربي وشعوب المنطقة كلها
خلال عقود بل سنوات قادمة، تكلم حجازي بوعي ومسؤولية وبتحليل وتفكيك نقدي،
ملتقطا بعض عناصر الحياة التي يمكن أن نجعل منها قضايا سامية تستحق الصمود
في وجه الموت/ الهدر لإسباغ معنى على الوجود، وضد الاكتئاب واليأس
والانسحاب الكامل من الحياة يطرح حجازي فصلا رائعا للنهوض والتغلب على
التخلف والانهيار، وذلك من خلال تفكيك ونقد بنيات وقوى وديناميات القهر
والهدر، كأسلوب مقاربة للحرية و التحرر النفسي الاجتماعي، وكتفكير ووعي
بحقيقة المعوقات التي عطلت وهدرت قيمة الإنسان وعادت به إلى نوع من الوجود
البيولوجي النباتي، بعد أن حطمت حيويته وطاقاته وقواه الحية، واغتالت عقله
وتفكيره ووعيه وجميع رغباته وطموحاته وتحكمت في سجل رغباته الجسدية
والروحية، وحكمت عليه بالتقليد وموت الكلام بإلغائه كمشروع وجودي، قلت في
الفصل الأخير المعنون بعلم النفس الايجابي يكتشف الإنسان جمال وروعة قدرته
على الانتقاء والتعظيم والتعويض، بالتعرف على أوجه القوة والفرص
والإمكانات والتركيز عليها باعتماد مقاربة التفكير الايجابي، أي عدم
الاستسلام للظروف المادية والمعنوية، لأن كل تنازل أمام مشاكل وصعوبات
الحياة يؤدي إلى سلسلة من التنازلات والخسائر النفسية والمادية. والأجمل
من هذا كله أن يكتشف الإنسان رغبته وقدرته على سلوك بدائل واختيارات أخرى
للحياة، كلما توفر الفعل النشط الباحث عن تغيير أ سر الظروف بيقظة ذهنية
ومرونة تلاؤمية، "إنها تلك القدرة الذهنية أو المقاربة المعرفية التي تتيح
للشخص تنظيم الأحداث والآخرين وواقعه ذاته في إضاءة جديدة تتيح له رؤية
الأمور بشكل مختلف ينفتح على التحرك والتصرف"،(10) الشيء الذي ينمي عواطف
ايجابية تشحن الذات بالأمل الفعال المستفز للتفكير الوسائلي والتفكير
التدبيري، من خلال تبنيه لتصورات وأفكار تمنح معنى لوجوده وتؤسس لقضاياه
وطموحاته وأحلامه. فيكتسب راحته وتمام حسن حاله وصحته النفسية في الخلق
والإبداع على المستوى الفردي وداخل الممارسة المجتمعية، بخلق حالات البناء
والفرح والأمل والحب عوض الانكسار والشعور بالعجز والفشل والدونية والنقص
المسبب للغضب والاكتئاب. الأمر ليس سهلا لكن لا شيء مستحيل عند الإنسان
وهو يرى الموت الاستبدادي كقهر وهدر يتهدده في واقعه ومصيره ومستقبله وفي
حياته أيضا. كم من المجتمعات قررت واختارت النهوض والتقدم بعد أن عانت
قرونا من العجز والانحطاط، والمجتمعات المتقدمة لخير دليل على ما نقول،
"والمبدأ يقول إنه كلما تم التركيز على السلبيات سدت الأفاق وتفاقم
الاستسلام، وكلما تقدم التحرك نحو الايجابيات تعدلت الموازين وتفتحت السبل
وازدادت فرص الفاعلية والسيطرة على الوضعية "(11)، وأول الطريق هو الوعي
بالتواطؤ الذاتي والتحرر من تراكماته وترسباته وقيوده ومعوقاته بما يسمح
للتنوير الداخلي بالنمو والنماء كانتصار ذاتي ومجتمعي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

قراءة مصطفى حجازي (3 ... :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

قراءة مصطفى حجازي (3 ...

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» قراءة مصطفى حجازي (3 ...
» قراءة مصطفى حجازي(7) المرأة : مدخل إلى الحرية والتحرر
» قراءة مصطفى حجازي (6) سؤال الإنسان ومثلّث الموت : الاستبداد والعصبيات والأصوليات
» الثقافة الأصولية - مصطفى حجازي
» علم النفس التطوري (دافيد باس)، ترجمة (مصطفى حجازي)

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: