هاجس اليقين العلمي وصناعة القيم:قراءة في علمنة المنهج النقدي الأدبيبقلم: أ.د. حبيب مونسي
1- صناعة القيم:
لقد أشار ” تين”- كما حدّد أستاذه “كونت”
من قبل- إلى إمكانية صناعة “الأخلاق” في “مرجل” الوسط، الذي تعتمل فيه
عناصر متباينة من المواد والأفكار. وفي استطاعة المربّين والسّاسة تكوين
التوجّهات السلوكية والفكرية التي يشاؤون، وقت ما يشاؤون، نظرا لتحكمهم في
العناصر “الكيماوية” التي تفرز الأخلاق.. لقد وجدت هذه الفكرة تطبيقها
القوي في الرّواية الواقعية عموما، ولكنّها بلغت حدّا مثيرا في الرّواية
الطبيعية مع “زولا” عندما تعطّلت حاسة الفنان الإبداعية لتقوم مقامها عين
الملاحظ الباردة. فالروائي حسب “زولا” لا يصدر حكما ولا يستخلص ناتجا، فهو
يحتفظ لنفسه بعواطفه مكتفيا بنقل الواقع الذي يشاهد. ذلك لأنّ الواقع أمر
قائم في الزمان والمكان شئنا أم أبينا، تقززنا منه أو طربنا له. وقد يتبادر
لأذهاننا ونحن نستعرض هذا الفهم الذي حفل به كتاب “زولا”: ” الرواية
التجريبية” “Le Roman Expérimental”، صورة الكيميائي في مخبر ، يراقب
التفاعلات دون أن يتدخل بعاطفة أو حساسية تجاه هذه المادّة أو تلك..
فالروائي لا يجد ضرورة في استهجان الرّذيلة واستحسان الفضيلة والانتشاء
لها، لأنّها نتاج تفاعلات وقتية، يتّخذها الفرد في موقف معين لحاجة نفعية
عاجلة أو آجلة. وبذلك تكون فلسفة الأخلاق الوضعية أولى اللّبنات في تأسيس
الأخلاق البراغماتية عند “جون ديوي” “J.DEWEY” و”وليام جيمس” “W. JAMES”.
لقد وجد نقاد “زولا” أنّ هذه الموضوعية (
المتعالمة) خداع بصري لأنّها تخفي عنه صراع الماضي والحاضر في اللحظة التي
يشاهد، وفي الموقف الذي يصف، وكأنّه لا يقيم وزنا للزمن وسيرورته، أو كأنّ
التاريخ لا يجد مقاما له في التصور العلماني للطبيعية ومن لّف لفّها.. فإذا
كان دفع الزمن في مخبر “الكيميائي” أمرا ” ضروريا” لثبات القانون واستطراق
نتائجه إلى الفائت واللاّحق. فإنّ للزمن سطوته في مقولة الوسط. وللزمن أثر
في مبادئ التطور التي تسكن الكائن العضوي وتحدّد خصائص بنيته. ولذلك قصر
العلمانيون وجود الذات على “الموقف” وحسب. والمواقف تذهب وتجيء محملّة
بالمدهش الخطير والمفاجئ دوما، تتكيّف الذات إزاءها في وضعيات تخوّل لها
الاستمرار والبقاء والنفع، وإلاّ فسوف تكون واقعة تحت تهديد القلق كما يزعم
” هيدغر” “M.HEIDEGGER”، والخوف من المستقبل واليأس والمصادفات. ولهذا
السّبب ارتبطت ” القيم” “Valeurs” في الفهم العلماني بالمواقف، وسبل
الاستفادة منها لذّة وحرمانا. وعلى هذا الأساس بُني اللقاء مع الحياة
والواقع على مفهوم “الصراع” عند “الوضعيين” و”الطبيعيين” و”الوجوديين” على
حد سواء. وبُني على المنفعة البحتة عند “البراغماتيين”، وعلى رأسهم “وليام
جيمس” الذي يحدّد الوظائف الإنسانية قائلا: »… إنّ الحياة النفسية كلّها،
ومنها الحياة العقلية أو المعرفية، إنّما غايتها الأولى، ووظيفتها الوحيدة
بالنسبة للإنسان هي المحافظة والدفاع عن الفرد« (1) أي: أنّها آلة عملية في
يد الحياة كغيرها من الأعضاء. وكلّ ما ينتجه الإنسان في جدّه وهزله، إنّما
غرضه الوحيد هو المحافظة على الذّات. ولكن ضدّ من؟ إنّنا لا نجد عند
“البراغماتيين” بيانا لأسباب الشّر والخوف، لأنّ الذات عندهم تقف على عتبة
الحيوانية.. والبقاء للأصلح.
1- النموذج والمعيار:
إنّنا نلاحظ الشّطط الذي وقع فيه الادعاء
العلمي عند طائفة من الباحثين والمبدعين، وقد عملت الظروف التاريخية للقرن
التاسع عشر على إذكاء جذوة نارها، وسايرت الفلسفة هذا الادعاء، فاتّسمت
بالعلمية وأصبح معيار نجاح الأفكار عندها “عمليا”. وقد عبّر “وليام جيمس”
عن ذلك صراحة قائلا: » الفكرة صادقة إذا كانت تعمل« (2). وقد مهّدت مثل هذه
الأفكار للنّزعات اللاّإنسانية، وخلقت الخضوع البائس للأشياء والمتاع.
والإنسان الذي يجسد هذا النموذج:» ليس ذاتا، وليس غريزة، وليس روحا. إنّه
لا يختلف عن القلم والفأس والمكنسة الكهربائية.. إنّه أداة.. وسيلة..شئ «
(3).
لم تكن هذه الصفة “المأساوية” التي آل
إليها “الإنسان” إلاّّ نتاج تطور “متصاعد” للأفكار التي حاولت تشكيله وفق
التّصورات العلمية الجديدة، القائمة على الملاحظة والإحصاء والجرد
والتّبويب. حتى غدا علم كعلم النفس لا يدرس إنسانا نعرفه، وإنّما يدرس شخصا
غريبا عنّا، يستخلصه من سجلاّت المصحّات العقلية، ومن إحصاءات الشّواذ
والمنحرفين، أو كما يقول مؤرخ الفكر” هوفدنغ” “HOEFFDING” ( نحن الآن ندرس
علم نفس بدون نفس) أي من خلال عدم افتراض وجود الذات الفردية والتي ليست
أمرا موضوعيا(4).
لقد سبّب “اللّهاث” وراء العلمية هوسا
علمانيا آلت نتائجه إلى تأزّم بغيض على مستوى التصورات الإنسانية
ومفاهيمها. وكأنّ المحاولة التي نهجها العلماء الاجتماعيون- وإن كانت
خلاّبة في زمانهم – انتهت إلى تقارير جافة ميتّة عن الحياة والإنسان: »وعلى
الرغم من أنّ الفيزياء كانت هي النموذج الأصلي، فقد كان لهذا الاتجاه
المثالي ( أي الارتقاء إلى مستوى النموذج) أثره على علم النفس بصفة خاصة،
وعلى العلوم الإنسانية بصفة عامّة. وكان العلماء الاجتماعيون، ربما نتيجة
الغموض وعدم اليقينية المرتبطة بمادّة دراستهم، يحسّون بضغط شديد يدفعهم
دفعا إلى الارتقاء إلى مستوى ذلك المثال « (5). ولا يجد “جيمس ديز”
“J.DEESE” غضاضة من الاعتراف، بأنّ الصورة المثالية للنموذج لم تتحقّق حتى
في العلوم الطبيعية الكلاسيكية مثل الميكانيك، وبالتأكيد أنّها لم تتحقّق
في علم النفس – ميدان تخصّصه – ولا في العلوم الإنسانية. إنّ ما حدث فيها
لا يعدو أن يكون إجراء باردا لبعض الطرائقية لا غير.
يرى “جيمس ديز” أنّ وجود ” المثال” ضروري
في بعض الأحيان، لتحديد ما نطمح إليه من صور المعرفة، ولكن إصرار علماء
الإنسانيات على التشبّث بالقواعد التي صاغها فلاسفة العلم – في أوائل القرن
العشرين – هي التي مكّنت لغلبة النّزعة المثالية، وخلقت أزمات المعارف
الإنسانية عامّة، بل لا بدّ من مراجعة هذه القواعد ومناقشة مبتغياتها،
وتحديد قيمة “الحقيقية” فيها. لأنّ كثيرا من الناس يتصوّر أنّ مهمة العلم
هي البحث عن الحقيقة. وأنّها إذا تحقّقت فستظل ثابتة على الدوام، لا يمكن
مراجعتها في شئ، ولا تتعرض – في صميمها – إلى التحوّل، لمجرد أنّنا قد
أثبتنا صحّتها في وقت ما. بيد أنّ العلماء يقرّون، أن لا شئ يستمر على حاله
ثابتا قارا. بل إنّ تاريخ العلوم هو سلسلة من الانتفاضات ضد “الحقائق”،
وأنّ البنية الكلية ” للحقيقة” تتغير. وفلاسفة العلم أنفسهم يقرّون أنّهم
لا يملكون طريقة يتثبّتون بها من أنّ نظرية من النظريات العلمية الصحيحة
ستستمر صحيحة إلى الأبد. وأنّه يتعذر القطع بصحة نتيجة من اختبار واحد.
لذلك جنحت “البراغماتية” إلى اتخاذ معيار – خال من العلمية – هو “الفاعلية
النفعية الآنية”، وأوقفت صحة النظرية عليه. يقول “وليام جيمس: » أعلم جيدا
مدى الاستغراب الذي لا بدّ أن يشعر به البعض حين يسمعني أقول: إنّ الفكرة
تكون ” صحيحة” مادمنا نعتقد أنّها مفيدة لحياتنا. أمّا أن تكون الفكرة
“صالحة” بقدر ما تكون مفيدة فإنّكم تتقّبلون ذلك بيسر وسرور « (6). وفي
حديثه مفارقة بين قيمتين:”الصحة” و”الصلاح”. لأنّ الصحة تقوم على تصور مطلق
يستمر عبر الزمان بعدما تحققت علميته، أمّا الثاني فمرتبط بالنفع الآني
المتوقف على اللحظة والحاجة، وما يكون صالحا في هذا الآن قد لا يكون كذلك
في غيره، لأنّ شروط الصلاح قائمة على جلب المنفعة العاجلة وتحقيق الفائدة
الآنية. وقد استفاد “وليام جيمس” من مطالب الناس اليومية للتمييز بين الصحة
– التي لم تتحقق في علم من العلوم مادامت النسبية تلاحقها – والصلاح الذي
لا يبتعد كثيرا عن مفهوم الملاءمة التي يجدها الفرد للتكيف مع المواقف
المختلفة. وليس مستبعدا – بعد ذلك – أن يقوم “انتشار” النظريات لا على
فاعليتها الخاصة، بقدر ما يقوم على شهرتها، وتماشيها مع روح العصر، وخدمتها
لغرض سياسي، أو اقتصادي، أو فكري، أو لأنّها تمتلك جاذبية خاصة كمقولات
النّسبية والتّطور وغيرها… أمّا الأسباب التي تستديم انتشارها ورواجها، لا
تعود – في كثير من الأحايين – إلى المطالب العلمية البحتة، ولا إلى مزايا
النظريات الفعلية. إنّ العلم وتاريخه يكشفان عن وقائع غربية ساعدت على
انتشار هذا اللون من الفكر وقمع آخر، دون أن يكون في ذلك الفعل مبرّرات
علمية تخوّل ذلك اللون من الاختيار.
3- تشيُّء الظواهر:
تشكّل “طبوغرافية” المعرفة الغربية
انحدارا سريعا. وكأنّ المفاهيم الأولى التي زرعتها “الفردانية”
و”الإنسانية” و”العلمانية” آتت أكلها وانشعبت في عطاءات جنونية تسعى كلّها
إلى سحق الذّات وتبديد طاقاتها، وإحالتها على خواء مريع. لقد وجدت فكرة
“الآلة” التي حصرها “ديكارت” في الحيوان – من قبل – تطبيقا آليا على
الإنسان عند كلّ من “بافلوف” “PAVLOV” ” وبشترف” “PECHTEREV”، وعند
“السلوكيين” “BEHAVIORISTES” وتجسدت أخيرا صورتها البغيضة عند
“البراغماتيين”..
يعلن ” برغسون” “H.BERGSON” وهو على
النّقيض من الماديين. أنّنا اليوم في حاجة إلى تعديل التعريف القديم
للإنسان، فلا نقول عنه أنّه إنسان ناطق “HOMO SAPIENS” وإنّما هو “إنسان
عامل” “HOMO-FABER” وكأنّ في هذا التعريف اكتشاف جديد لماهية الإنسان،لم
تلتفت إليها الفلسفات القديمة، وعندها يُضمّ الإنسان إلى قائمة النّحل
والنّمل، وغيرها من الحشرات العاملة.
ويشهد الاهتمام الاجتماعي- ضمن الوضعية
العلمية – على هذا التحوّل في إدراك الإنسان، وتحديد ماهيته وقيمته وسلوكه،
بحسب التّصورات التي أفرزها الاعتقاد العلمي الذي أحال الظواهر الاجتماعية
إلى “أشياء” يمكن مشاهدتها وضبط أوصافها واستخلاص الناتج من حالاتها
المختلفة. وقد كان في اعتبار الظاهرة “شيئا” تحوّل آخر، يستبعد كلّ
الملابسات القبلية والعليّة، ويدفع من طرف خفّي كل تفسير متعال يسعى إلى
إيجاد تبرير للوقائع غير الذي يتفصّد عن ظاهرها المادي.. وإذا
كانت الظواهر ” أشياء”، وهي نتاج الإنسان
والمجتمع، فإنّ ما ينسحب عليها حريّ بأن ينسحب على الإنسان والمجتمع في
جملته. وقد كان هدف “دروكايم” “E.DURKHEIM” تطبيق المنهج العلمي على السلوك
الإنساني أي: »ذلك المنهج القائم على الملاحظة الخارجية للظواهر،
واصطلاحات مثل: منهج علمي، ملاحظة موضوعية من الخارج، شئ، لها عنده
(دوركايم)- هو خصوصا – قيمة مطلقة، ولا يستطيع أن يعد “علميا” حقا إلا ما
يتّفق مع هذه الاصطلاحات « (7). وتتأسّس هذه النزعة على المتطلبات التالية:
- استبعاد كلّ قبلية (Apriorisme) وكلّ تفسير متعال: ديني، ميتافيزيقي…
- النظر إلى الوقائع على أنّها أشياء عارية من كلّ استبطان، غير خاضعة لقانون العلّية.
- الوقائع الاجتماعية مثلها مثل الأشياء ولا فرق يذكر بين الشيء والفكرة.
- أن يضع عالم الاجتماع نفسه في الهيئة العقلية التي فيها علماء الكيمياء الطبيعية(8).
ولا نستغرب – بعد ذلك – إذا أغرق أتباع
دوركايم في تطبيق هذه التعاليم، وتحويل الاجتماعيات إلى ميادين “علمية”
يجرون فيها المنهج المذكور إجراء تعسّفيا، أكدّت نتائجه جناية المنهج على
المعرفة، وعظم الأزمة التي تتخبّط فيها الاجتماعيات بعد ذلك.
وليس من العسير تتّبع أثار هذه التعاليم
في النقد الأدبي، وإن كانت البذور الأولى للاعتداد بالذات، وتحكيم العقل،
وابتغاء المطلق، قديمة في الفكر الكلاسيكي. وقد نجد في الحجج التي قدمها
المحدثون عام 1687 للتدليل على اقتدارهم النقدي وتفوّقهم على الأقدمين
الآثار الأولى للعقلنة الموضوعية المشرئبة نحو العلمية، وقد تمثّلث في
نقطتين:
- أفضليتهم تقوم على عامل الزمن. فقد انتهت إليهم المعارف كلّها، وأنّ التقنيات في تقدم مستمر.
- إدراكهم أنّ الذوق الشخصي قلّب، واعتباطي يجب إلجامه بالعقل “الشامل المطلق”(9).
ويتفصّد عن الحجة الأولى: الإقرار بعامل
الزمن الذي يتضمن حتما” شيئا من” الوسط” وهي الإضافة التي نجدها عند ”
فونتنيل” “FONTENELLE” والمتمثلة في تأثير المناخ على نتاج الفكر البشري.
ويترتب على مقولة “الزمن” الإقرار “بالنّسبية” و”التّطور” و”التّراكم”. إذ
تضع المعارف بين يدي الإنسان القدرة على تغيير القائم، وتفنيد الاعتقاد
القديم. وما يشهده الفكر النقدي اليوم يتأسّس على الإيمان بالنّسبية
والتّطور ونبذ الثبات. وتكون الحجة الثانية محاولة واعية لتدارك التحوّل
المستمر من خلال إدراج “العقل” “حكما” يتمتّع بالشمولية والمطلقية. وهو وهم
آخر قام عليه الاعتقاد العقلاني منذ “ديكارت”. ولم تقدّم الحجة الثانية
إلاّ استبدال سلطة مكان أخرى، وإحلال العقل محل الاعتقاد.
4-الحكم والوصف:
يعسر كثيرا تبرير التّحول من “الحكم” إلى
“الوصف” الذي عرفه التفكير النقدي في القرن التاسع عشر ومطلع العشرين. ذلك
أنّ حركة التّحوّل لم تكن تُشاهد على صعيد واحد واضح، وإنّما كانت حركة
متداخلة كما وصفها “هالبروك جاكسن” “H.JAKSON”: »تسير وسط دوامة من الأفكار
المتشابكة التي كانت تملأ الأفق. كانت الأشياء تبدو على غير حقيقتها،
وكانت هناك رؤى كثيرة.. قال الناس أنّ تلك الفترة كانت “فترة انتقال”
وكانوا مقتنعين بأنّهم كانوا يمرون من نظام اجتماعي إلى آخر.. بل من نظام
أخلاقي إلى آخر.. من حضارة إلى حضارة « (10). ولم تولّد هذه الحالة يقينا
علميا ومعرفيا في النفوس والأذواق، بل قوبلت بالشّك والرّيبة في كثير من
الأحيان، وكأنّ المنظومات التي شيدّها العقل – من قبل – لم تبن اطمئنان
الذّوات المتحوّلة. ذلك ما لمحه “كولن ولسون” “COLIN WILSON” في أدباء مطلع
القرن العشرين إذ يقول: ».. ومن السهل فهم الحالة الذهنية لدى فنانين مثل
“جويس” و”باوند” و”سكرايين” فحين نظروا إلى الوراء، إلى القرن التاسع عشر،
رأوا سلسلة من الكيانات الهائلة التي تمّ التخلي عنها جميعا. أو التي هوجمت
ونبذت بعد ذلك. وأنّ “الكوميديا البشرية” “لبلزاك”، و”خاتم فاغنر”، وحلقة
رجون مكارت” “لزولا”، و”نظام هيغل”، و”طوبائية ماركس للعمل”. هذه جميعا
لاحت للناظر إليها فيما بعد أعمال مجنون مصاب بجنون العظمة « (11). ولم يعد
من يقين فعلي إلاّ العلم والتّقنية العلمية التي حوّلت فرضيات العلم إلى
واقع ملموس. ولم يعد أمام النقد إلاّ الوصف والملاحظة، وابتغاء التّوضيح،
والابتعاد عن “الحكم”. لأنّ الموقف العلمي يسعى إلى التفسير واكتشاف
العلاقات التي تربط الإبداع بالظرف في خضم المتحكمات الخارجية.. ولا بدّ
للنقد – في هذا – أن يقتدي:» بعلم النبات الذي يدرس بنفس الاهتمام تارة
شجرة البرتقال، وطورا شجرة الصنوبر، وتارة شجرة الصّفصاف.. وما النقد نفسه
سوى نوع من علم النّبات المطبق، ليس على النّبات، بل على المؤلفات
الإنسانية« (12) وحسب “البستاني” “BOTANISTE” في رصده نمو النّبات أن يقدم
الوصف الدّقيق للشكل الخارجي ومراحل النمو، والتّغيرات الطارئة على النبتة،
وطبيعة الأرضية التي تقوم عليها، والمناخ الذي يخوّل لها التّفتح
والإثمار.. وإذا تدرجنا من البذرة إلى الثمرة وما يعتور الرّحلة من تبدّلات
وتفاعلات، أمكننا تصور ” المنهج” الذي ينادي به رائد الوضعية العلمية في
المجال الأدبي -”تين”-، وأمكننا استبدال الفكرة بالبذرة والأثر الأدبي
بالثمرة.. وعندها يتراجع “الحكم” “JUGEMENT” وتختفي “الذّاتية”، ولا فرق
إذن – بعد ذلك بين عمل جيّد وآخر رديء، مادام الكل يصلح للملاحظة
والتّفسير.. وقد نجد صورة هذا “المنهج” في البنيوية الشّكلانية،
والسّيميائية بعدما تشبّعت بالعلمية وانشقّت عن الدّراسات اللّسانية… وقد
لخصّ “تين” موقفه بوضوح قائلا:» العلم لا يبطل ولا يسامح، بل يلاحظ ويفسّر «
(13) .فهو لا يملك ميزان الحكم القيمي ليدفع هذا لأثر، ويقبل ذلك، أو
يحابي هذا ويرفض آخر، ولكنّه في سيره يحرص كلّ الحرص على تطبيق قواعده،
والتّدرج وفق خططه. لذلك ألفينا “الوضعية” تستفيد من كلّ التوجّهات العلمية
الجديدة، وتحاول تعميمها على المعارف الإنسانية. وقد امتلأت “بالتّطورية
الدارونية” عند “برونتيير” “BRUNETIERE” الذي اعتبر الفنون الأدبية أنواعا
“GENRES” حيّة تنمو بواسطة الانتخاب نحو الكمال، ثم تضمحلّ حتى تموت، أو
تتحوّل كي تحيا ثانية(14). وكأنّ الأثار الأدبية تمظهرات فعلية للنوع الذي
تنتمي إليه، وهي علامة على الدرجة – في سلم النمو – التي بلغها ذلك النوع.
وفيه تُرصد جميع التحوّلات العضوية، التي تسكن هذا النوع أو ذاك. وهو فهم
خطير تأسّست عليه فيما بعد نظرية الأجناس الأدبية، التي تلتفت إلى حقيقة
الجنس ومدى التدّاخل الحاصل بين الأجناس، ودرجات الاستفادة من بعضها بعض،
وهو ما يوحي بوجود تاريخ للأفكار والأثار على مسار التطور الحاصل في الجنس
الواحد. فإذا سلّمنا بهذه الحقيقة وجدنا أنفسنا وجها لوجه أمام ادعاء جديد
يقوم عليه علم النّص الحديث، من اعتبار الجنس – برّمته- نصا واحدا غير
مكتمل ، تشكّل الآثار الإبداعية المتلاحقة فيه طبقات شبيهة بالطبقات
الجيولوجية. ويقتضي التعرّف “الكلّي” على النّص “الكبير” (الجامع) القيام ”
بحفريات” في الطّبقات المتراصّة لرصد التّبدلات التي حدثت في مرحلة ما من
مراحل النمو فأوجدت هذا التلوين أو ذاك في البنية الكليّة للنّص
الجامع(15).
ولم يسلم “الجمال”- كذلك- من التطاول
العلماني الوضعي. فقد اعتبرته الوضعية واقعة اجتماعية، وجعلت ذلك شرطا
للعلمية التي تتوخاها، إذ:» ينبغي عليه أن يسير بطريقة تجريبية واجتماعية،
ويجب عليه أن يستقرئ القوانين وأن يعالج الوقائع على أنّها أشياء « (16)
وتماشيا مع “قواعد المنهج” عند “دوركايم” يرى “شارل لالو” “C.LALO” أنّ
الظاهرة الجمالية واقعة اجتماعية وأنّ: »شكل فكرة الجمال هو شكل الأمر: أي
شكل سلطة تفرض نفسها بمقتضى تنظيم اجتماعي قادر على تثبيت القيم « (17).
وهو تعبير وضعي متشدّد يعطي “للأرض” دور استنبات الفكر والجمال والدين.
وكأنّها كائنات عضوية تنمو في ظروف خاصة. وهو فهم له خطورته على التصّورات
اللاّحقة لعلم الجمال، بل وعلى أشكال الفن في بعض الحركات اللاّحقة.
* للاستزادة انظر مدونتي الأستاذ الدكتور
:مدونته الخاصة، ومدونته “روضة الآداب ” مع التحية للدكتور على تعاونه
الجمالي البديع الراقي .