ثقافة الفوضى··!:في الستينيات من القرن العشرين، شاع على ألسنة المتحدثين وعلى أقلام
الكاتبين، تعبير الغزو الثقافي وتعبير الغزو الفكري ، وتنازع المتحدثون
والكاتبون فيما إذا كان ذلك الغزو حقيقة أم خرافة، وصدرت كتب كثيرة تتناول
الموضوع نفسه· وكان المراد بهذا الغزو -آنذاك- هو شيوع أفكار آتية من خارج
الحدود يُراد لها أن تسود في بلادنا· فكان اليساريون يرون الأفكار
الرأسمالية الغربية تمثل غزواً، والعادات الأوروبية والأميركية تمثل غزواً،
والمدارس الأجنبية تمثل غزواً· وكان الليبراليون يرون الأفكار اليسارية
-ماركسية واشتراكية- تمثل غزواً، والتطبيقات الاقتصادية المنقولة من
المعسكر الشيوعي أو اليسار الأوروبي أو الشيوعية الصينية تمثل غزواً·
وفي مواجهة هؤلاء، جميعاً، كان الإسلاميون يرون كل وافد ثقافي أو فكري أو
سياسي أو سلوكي، غزواً غير مقبول، ويرون مواجهته وتحديه بأفكار، ونماذج
سلوك فردي واجتماعي، مستفادة من أصول ثقافتنا العربية والإسلامية واجباً
على أولي النهى وأصحاب القدرة على التأثير في الناس· هذا الصراع كله، حول
الوافد والموروث، وحول الفكر المستورد والثقافة الغازية، والفكر المحلي
والثقافة العربية والإسلامية الراسخة، كان يجري بين المثقفين وحدهم، وكان
الخطر الذي يخافه كل فريق هو أن تسود الأفكار التي يرفضها، على ألسنة
المتحدثين إلى العامة، وعلى أقلام الكاتبين الذين لا يقرأ ما يكتبون إلا
الخاصة، وخاصة الخاصة، ولو كتبوها في الصحف السيارة والمجلات الأسبوعية
والفصلية· ولا زلت أذكر حديثاً جرى في أواسط الستينيات بيني وبين أحد دعاة
الثقافة الإسلامية الأصيلة حول هذا الصراع الثقافي/الفكري، فعبّر لي عن
اطمئنانه المستمد من تجارب حياته الطويلة -كان يكبرني بنحو من أربعين سنة-
باستعارة كلمات سعد زغلول التي تحدى بها معارضيه أن يؤثروا في الشعب المصري
فقال: أمامهم الصحف السيارة فليكتبوا فيها إن وجدوا قارئاً، وأمامهم
المنابر العامة فليعتلوها إن وجدوا سامعاً ! وهكذا كان مجال التحدي
الثقافي، ونطاق الخوف الثقافي، محصوراً فيمن يهتمون بالقراءة وتستهويهم
المحافل العامة، وهؤلاء وأولئك كانوا قلة محدودة إذا قيس عددهم بالجمهور
العربي -أو المصري- العام·
في هذا الزمان أخذت الثقافة الغازية المستوردة أنحاء شتى يجمعها كلها أنها
تؤدي إلى فساد الذوق، وامتهان الإنسان، وإلى شيوع الفوضى في السلوك الخاص
والعام· ولم يعد الأمر خاصاً بفئة من الناس دون أخرى، ولا الخوف من آثار
هذه الفوضى وذلك الإفساد مقتصراً على طبقة من طبقات المجتمع دون سواها·
تفتح المذياع -وهو أهون أدوات الثقافة الفاسدة شراً- فتستمع إلى عدد من
الناس يتحدثون في وقت واحد حتى لا تكاد تفقه مما يقال شيئاً، وتحاول مشاهدة
التلفزيون فلا ترى، وأنت تنتقل من قناة إلى أخرى، إلا موسيقى صاخبة،
لكلمات لا تتبين من نطقها بناءها ولا معانيها، تصاحب أداءها صور عارية
مقزّزة لنساء أو رجال، أو لهما معاً، لا تعبر عن فن، وهم يزعمون أنها
رقصات(!) ولا تستثير التأمل في جمال الخلقة، وهم يزعمون أن الذين يؤدونها
نماذج للجمال(!) ولا تغري عاقلاً بمتابعتها، ولو كان مراهقاً قد يغريه
العُرْيُ والحركة العنيفة، لأنها تعتمد على إظهار ما يعرف العقلاء كافة أنه
إن عرض على خلق الله دون تمييز هان ورخُص واحتقر عارضه وطالبه معاً(!) وهم
-على رغم ذلك- يحشدون أنفاراً من الكومبارس الرديء الأداء حول تلك التي
يسمونها، ظلماً وعدواناً على الطرب، مطربة، أو ذاك ال
المزيد