منتخب «منديل عطيل» (2002)
I
منذ مدة طويلة، ربما سنوات، لم يغادر غرفته إلا نادراً، ونادراً جداً،
ولضرورات قصوى كما يحب أن يسميها، لقص شعره مثلاً. وهذا يحدث أحياناً مرة
كل سنة أو سبعة أشهر وأحياناً كل سنوات مرة، أو لشراء بعض الحاجيات
والمجلات والكتب.
لكن عندما يغادر الغرفة الصامتة لا يبتعد أكثر من بضعة
أمتار، لا خوفاً على حياته، ولا توجساً، ولا هروباً من أحد. فهو من زمان
لم يعد يذكره أحد ولا هو في حسبان أحد. ربما هناك شخص أو اثنان يشتري من
عند الأول بانادول، ومن عند الثاني بطاريات للراديو لا يبخلان عليه بسؤال
أو بابتسامة مولية. فهو من مدة طويلة انخرط في الغياب، وفي الصمت، فلم يعد
يسمع ولا يحس به أحد. الجيران نسوا مَن هو، مهنته، اسمه اسم عائلته وتاريخه
ومن أين جاء وكيف استقر في هذا الحي المنزوي، ولهذا لا يجد أحد من الجيران
أي حاجة للسؤال عنه أو لافتقاده أو للتحقق من وجوده أو من عدم وجوده.
هذا
الوضع الذي سعى إليه وكرَّسه أراحه كثيراً. فهو يشعر بأنه غير مجبر على
الرد عن أسئلة مثل «أين كنت» أو «لماذا لا نراك» أو «ماذا تفعل هذه الأيام»
أو «كيف حالك»؟ وهي أسئلة بات يراها سخيفة ومملة وقاسية أيضاً. لماذا يسأل
الناس بهذه الطريقة عن بعضهم؟ لماذا يتبادلون التحيات بهذه الطريقة؟
فليحتفظ كلٌّ بصمته وبعافيته وبحضوره وبغيابه، وليحتفظ كذلك بأسئلته
وتساؤلاته واستفهاماته واستدلالاته واستنتاجاته. ولهذا عندما يلازم غرفته
أسابيع أو أشهراً متتالية يشعر بحرية مضاعفة لا تقدَّر بثمن، لأن أحداً لن
يسأل عنه. لا عائلة، ولا شجرة عائلة ولا فروع عائلة، ولا أصحاب ولا رفاق
ولا زملاء ولا أحد. عال! يتنفس بطريقة مريحة، ويطمئن. فهذا الوضع مثالي
بالنسبة إلى شخص يريد أن يعيش في عزلة صافية، صافية لا يشوبها وجه أو صوت
أو كلام أو اختلاط أو انفتاح، لا يشوبها حضور.
في هذه الإقامة الدائمة
يتحرك السيد في مساحة ضيقة. فبيته صغير، هذا إذا كان حيث يسكنه يمكن أن
يسمى بيتاً، إذ هو أقرب إلى غرفة لا مستطيلة ولا مربعة منفتحة على مدخل لا
هو مربع ولا هو مستطيل ولا مستدير. شيء من كل هذه الأشكال، هندسة غريبة أو
بالأحرى هندسة مرتجلة لهذه الغرفة، هندسة بلا شكل.
في هذه المساحة
الضيقة كراسٍ عدة من القش، طاولة مستديرة لا تتلاءم مع فضاء المكان المائل،
واطئة وذات لون أبيض أجرد. ثم أربعة جدران تفضي إلى عدة جدران أخرى لم يعد
ينتبه من زمان لا إلى لونها الحائل ولا إلى علوها ولا إلى عرضها. إنها
جدران، ويمكن أن تسمى أي شيء آخر «حواجز» أو «موانع» مثلاً. أهميتها أنها
تفصل بين عالمين، أو بالأحرى بينه وبين الخارج، ولهذا كان يتمنى أن تكون
أكثر سماكة، كي يكون الانفصال أمتن وأقوى لا يهدده تشقق هنا أو فجوة هناك
أو ثقب. فالجدران يجب أن تلعب دور الحامي من الخارج: الجلبة، الضوضاء،
الأصوات، الصراخ، وقع الأقدام، لعلعة الرصاص، دوي الهتاف، أي كل ما يصنع
الحياة في ذلك «المقلب» أو «المنقلب» الآخر. ولطالما ود السيد وتمنى أن
تكون هذه الغرفة في جبل متباعد أو كهف أو في غابة عذراء، لكن تعذر عليه
تحقيق هذه الأمنية لأسباب كثيرة، منها أن البلاد التي وُلد فيها وعاش تساوت
فيها الجبال بالسهول والأرياف بالمدن، فلم تعد هناك مدينة بالمعنى
المألوف، ولا ريف، ولا قرية، تداخلت كلها في موزاييك غريب يجمع من
التناقضات ما يفرِّق ومن التآلفات ما يقرِّب. والناس في الأعالي لا يختلفون
كثيراً عن الناس في السواحل، كأنهم دُمغوا جميعاً بعلامة واحدة، وبعواطف
واحدة، وبعقليات واحدة. يأكلون مثل بعضهم، يشربون مثل بعضهم، يلبسون مثل
بعضهم، يصلون ويقتلون وينقتلون، يتناسلون ويموتون ويكبرون ويحبون ويكرهون
وينامون ويستيقظون ويتكلمون ويصمتون مثل بعضهم. فكأن شخصاً واحداً يمكن أن
يختصر كل الناس أو كل الناس يمكن أن تجدها في شخص. حتى الشجر في الجبال
يشبه الشجر في المدينة، دائماً يخبىء في جذوعه وفي شروشه وفي غصونه وظلاله
ما يخيف لا ما يخلِّب، وما يوحي بالغموض وبالفناء لا بما يوحي بالوضوح
والحياة. فالأشجار في كل البلاد كأنها أشكال عدمية، شخوص لا تعرف لماذا ما
زالت واقفة أو منحنية أو لماذا هرمت أو لم تهرم أو لماذا تحمل ثماراً أو لا
تحمل ثماراً. فهو الذي أحب الأشجار صغيراً لم يعد يحس نحوها بأي شعور، كان
يعانقها فتصير كالهواء بين يديه، وكان يتسلقها وكأنه يتسلق ضوءاً شفافاً،
وكان يلتجىء إليها كما يلتجىء إلى مكان آمن وحنون، بل وكان يحس بينبوع تحت
كل شجرة، بل وكان أحياناً يقلد وقوف الأشجار، وحفيفها، وميلانها،
واهتزازها، وصمتها. وكان أحب إليه السرو، والصفصاف والحور، والزيتون، وإن
اختلفت أسرارها وأشكالها وروائحها. ويذكر أن أول ما حاول رسمه في طفولته
شجرة وتحتها ينبوع، وظن من رأى «الرسم» أن الشجرة تشبه الهواء، وأن الينبوع
امرأة مرسلة الشعر والصوت. ويظن أن علاقة الناس بالشجر لم تعد تختلف
كثيراً عن علاقته بها، فهم يقطعونها في الجبال والغابات والمدن بغزارة
مشهودة وبآلية باردة، كما يقطعون شرائح اللحم، وتحولت مع الوقت إلى كتل
متعاقبة متتالية بلا تاريخ ولا رمز ولا حتى جمال. لقد تركوا أمر الاندهاش
والتمتع به للأطفال وللقاصرين. يذكر جيداً كيف يغزو «المؤمنون» في أعياد
الميلاد غابات الصنوبر ويقطعونها من جذوعها، ثم يعرضونها للبيع، لتُعلَّق
فيها اللمبات والزينة احتفالاً بالمناسبة المجيدة. بالطبع تغيَّر شيء من
هذه العادات إذ استُبدلت الشجرة الحقيقة بشجيرات من البلاستيك المصنوعة
لهذه الغاية، وكثير من أطفال المدينة الذين لم يتسنَّ لهم رؤية شجرة حقيقية
إلاّ في أفلام السينما أو المسلسلات التلفزيونية، لا يفرقون بين شجرة
أصلية وأخرى مفبركة، ولا يميزون أحياناً بين عبق صنوبرة من الجبل وعبق أي
صنف من أصناف الخضار. في الماضي كان يتأثر عميقاً بهذا الواقع، ويدعو إلى
حماية البيئة والطيور والأشجار والهواء من التلوث، والحشرات والزواحف
والأنهار والبحار والكهوف، ويدعو الأجيال الجديدة إلى التعرف إلى الطبيعة
مصدر الحياة والنقاء والصفاء والطهارة وإلى عدم التخلي عن عادات القرى
والدساكر والأرياف والجبال وعن ناسها، ويذكر أنه كان ينتظر «عيد الشجرة»
وأغاني الأخوين فليفل وخطب الرسميين والمدرِّسين والتلامذة بفارغ الصبر.
لكن ماذا حدث؟ لا شيء، وكل شيء أيضاً. الحروب فضحت وأزالت الفروق بين كل
الأمكنة والبشر، وبدا له بعد كل الفظائع والمجازر أن أهالي الأعالي وسكان
الهواء النقي وجيران الشجر والينابيع والثلوج كانوا من سواد كثيف صفيق ومن
نفوس شرسة قاسية لا تعرف الرحمة، أوَلم يرتكب كل أو معظم المجازر أهل
الجرود وأبناء الطبيعة الساحرة والغارفون من الينابيع وسكان المرتفعات،
والمزروعون في الأرياف الطهور والمباركون بالصلوات والعادات الأصيلة! أوَلم
يَغزُ هؤلاء المدن ويدمروها بغرائزهم الصافية، وبوحشيتهم اللامحدودة!
أوَلم يحرقوا الغابات بنشوة عارمة وبغبطات نادرة؟
ولهذا لم يعد يجد أي
فارق بين أن ينزوي في أعلى قمة من قمم البلاد، أو في أصغر قرية، وبين أن
يقطن في المدينة. والإنسان يمكن أن ينعزل حيثما شاء، والعزلة هي في الروح
وكذلك في الجسد ولو بين ملايين الناس، وإذا تساوى كل شيء في الأعالي كما في
السواحل كما في السهول تسقط المفاضلة. إضافة إلى ذلك إن السيد يطمئن إلى
حي مكتظ ومختلط ومتكاثر أكثر من اطمئنانه إلى قرية صغيرة معروفة فيها كل
الأسماء والتواريخ والغرائز والنزوات والأمكنة. فهنا، أي في المدينة، يمكن
المرء أن يذوب فيها، أن يعلن وفاته، وأن ينقطع عن الناس، وعن الحياة نفسها،
وهذا مستحيل في القرى التي تعدّ سكانها كل يوم، تتفقَّدهم. فالقرية ذاكرة،
والمدينة نسيان. إضافة إلى أن أهل القرى والأرياف فضوليون، حشريون، ثقيلو
الظل. يمكن، وبدون إنذار، أن يقتحموك في منتصف الليل أو قبل شروق الشمس،
ولا يمكن أن يسامحوك إذا لم تشترك في مناسباتهم وفي أفراحهم وفي أتراحهم
وفي مشاكلهم، فأنت واحد من قبيلة مهما تباعدت. حتى عندما مُدِّنت القرى
والدساكر وازدهرت بفضل الحروب، وتكونت فيها ما يشبه الحواضر، فإن هذه
الفضولية لم تضعف. فالقرية أو البلدة أو الدسكرة يجب أن تكون بباب واحد،
يدخل ويخرج منه الجميع.
لكن إذا تجاوزنا العزلة التي يتمسك بها السيد
ويعمقها بممارسة يومية صارمة، وقاسية، فإن أسباباً أخرى لا يجهر بها ولا
يحب أن يتذكرها، وراء مغادرته البلدة (القرية) وسكناه المدينة. أسباب واضحة
بقدر ما هي متشعبة ومعقدة، بل يمكن القول إنها أكثر من أسباب موضوعية
وظروف: هي جروح، جروح في كل مكان، في الجسد، وفي الروح، وفي الفكر، وفي
التذكُّر، وفي الأمكنة وإذا استطاع المرء أن ينسى الأسباب والذرائع فكيف
يمكن أن ينسى الجروح.
II
الضوء الذي يرسله المصباح ببطء وهدوء يضاعف وقع الصمت ومساحته الملتبسة،
وعندما يحدق السيد فيه أحياناً يشعر بغربته. فهو رغم إقامته لم يألف هذا
الضوء، بقي شيئاً حوله، مجرد شيء. فلا هو من النهار، ولا هو من الليل، ولا
هو من الصباح... لكنه من الأمور والأعراف التي تكرست في هذا الحيِّز الضيق.
ويحس
السيد بأن الضوء الذي يُفترض أنه متواصل ومليء يتقطع أحياناً أو ينطوي على
نفسه، وأحياناً أخرى يتأخر هنا ويتقدم هناك، ويتوزع بشكل عشوائي على
الجدران والكتب والأواني والطناجر والمنافض وعلى ثيابه وأنفه وصوته أيضاً،
فكأنه يختار الأمكنة والأمتعة التي يقرر أن يدركها. لهذا اكتشف السيد أن
زوايا قريبة جداً منه يقفز فوقها الضوء لتغرق في عتمة موضعية كنقطة زيت وسط
بحيرة، لكنه أكثر ما كان يحرك السيد أن هذا الضوء على هزاله يصدم الأشياء
صدماً، كأنه يعنِّفها، ويريد أن يرميها في مشاعر الندامة والأسف. هذا الصدم
البطيء والغادر يخلي ما يصيبه في بؤر بائسة، معزولة، منكسة يدفعها إلى
قسوة مجهولة، أو بالأحرى إلى قسوة مغلقة، هي من شدة انغلاقها كأنما تكرر
أزمنتها وتواريخها هكذا بلا مقابل وبلا ثمن وبلا أفق وبلا متعة.
لكن إذا
حدقت جيداً حدّ التفرس يتهيأ لك الضوء بتقطُّعه المريب يفتح في الأشياء
أحياناً تذكُّرات غامضة لا تومىء بغير إشارات عدمية تخلط بين الماضي
والحاضر والمستقبل، وتمزج بين الفصول من شتاء وثمر وصيف وزهور وقامات ذات
قبعات ومعاطف وأمطار وغيوم فترتعش مثلاً على المنضدة وجوه شاحبة غارقة
غارقة في رجائها البعيد، أو تهتز على الجدران أصابع مرفوعة وتتحرك ظلال
مولية ودامعة معاً. أي ضوء خبيث هذا الذي يحول الأحجام والأشكال والنكهات
وحتى الأصوات، وخصوصاً الأصوات، ويمكن وأنت مستغرق في ذلك الحيِّز المراكم
على ذاته أن تديم انتباهاً متواتراً إلى أصداء وصراخات يكسرها رنين ضحكات
مكبوتة هنا ومتفلتة هناك، من تلك الضحكات التي يمكن أن تسمعها أو تنهدم
عليك في نهايات الأمور من على هضبة عالية من واد سحيق أو قرب حروب مقبلة؟
لكن
كيف يمكن هذا الضوء الهزيل أن يمتزج في كل المقاصد، وكيف يغرِّب ما في
المتناول إلى شفا هاوية أو إلى تراجيديا قدرية صاخبة، أو إلى بقع جسدية تئن
وتعول من فرط ما في وحدتها وقنوطها. لهذا كان السيد يخشى من الانسيابات
الدفينة التي يوحيها الضوء ويحاول بالطرق الشتى أن يلجم عينيه وحواسه عندما
يعجز عن رده، فهو يحسه في النهاية وكأنه قبيلة من الأفاعي تزحف، يمارس
حيله ومكائده، كأنه يفتح نافذة أو يغلق باباً أو يغير أمكنة الأشياء
لتضليله وتعطيل فاعليته وأثره. حتى عندما يلجأ إلى مثل هذا الأسلوب الموارب
يعرف أن اللعبة لن تنطلي على المصباح الأعمى ولا على الأمتعة المتناثرة
فريسة أمزجة الضوء وسلطته العابثة.
على أن السيد يقف وسط هذه الطقوس
الصامتة والمستريبة من دون أي تدخُّل يُذكر، وإذا فعل شيئاً من هذا القبيل
فبامِّحاء وخجل. بل يمكن القول إنه عاجز فعلاً عن التدخل، أو حتى مجرد
تأويل الأمور تأويلاً واضحاً وصريحاً. فهو حتى الآن لم يستطع فهم العلاقات
الظاهرة والسرية بين الخزانة المفتوحة وبين النافذة المغلقة، وبين الضوء
عندما يسيل على الكرسي أو يتسلل إلى الجدار أو يتقطع فجأة على السقف. ولم
يتوصل ولا يريد أن يتوصل إلى فقه مشاعر هذه الأشياء المسبية تحت الضوء أو
في العتمة، أو في اللاشيء، فلا بد من أن تكون لها عواطف، أو شجون أو ما
يشبه ارتعاش الركام تحت الركام. ولم يتوصل ولا يريد أن يتوصل إلى معرفة مدى
العداء الذي تضمره هذه الكائنات المحصورة في هذا الحيِّز إزاء بعضها من
جهة، وإزاءه من جهة أخرى، لكنه يعترف بأنه كلما قوي الضوء في الغرفة وتوزع
بشكل عادل ومتكافىء اشتدت مشاعر الحب بين هذه الأشياء، ويمكن وبشيء من
الإصغاء الحساس أن تسمع تمتمات حارة ودودة تتبادلها من هناك وهنالك، بل
ويمكن أن تلحظ تململاً في قسماتها. فمن الباب إلى المنفضة إلى علبة السجائر
إلى السرير والشرشف والمخدة والقميص، وفردات الأحذية إلى الكراسي رسائل
شوق ووصل وتنفيس لمناخات الكتب والانعزال التي تعانيها منذ مدة طويلة.
ولهذا فعندما يرفع السيد منديلاً أو أي رقعة أو أي شيء فكأن كل كائنات
الغرفة تصفق وتهتف، حتى الكتب المصفوفة بسحنها الداكنة والعابسة يحس السيد
بأن حياة ما عاودتها أو طرقتها ولو لماماً، ذلك لأن المسألة العاطفية أصعب
لدى الكتب مما هي في سائر الأشياء.
فالكتاب، أي كتاب، هو حالم صامت
بالخلود، أو فلنقل إنه ميت يحلم بالخلود وبالحشر وبالقيامة وبالانبعاث،
ولهذا فمن الصعب جداً أن يهتز مَن يسكن الأبد أو السرمد أو الدار الباقية،
لمثل هذه العواطف اليومية العابرة وأكاد أقول المجانية.
السيد كان يبتسم
أحياناً كثيرة عندما يقلب صفحات أحد الكتب ويتملى خلود الموتى فيها، صفحة
صفحة وكلمة كلمة، يبتسم ويهز رأسه ثم يعيده إلى عرشه الصامت. إنه الشيء
الوحيد في هذه الغرفة وخارجها الذي لا يسعى إلى مقاومة انقراضه، فهو إما
مجنون أو متوهم أو معتدّ بنفسه أو جاهل، والغالب أنه جاهل، لكن الأغلب أنه
مريض ومرضه عضال، إذ كيف يمكن أن تتكون لدى أي كائن أو أي شيء حتى النجمة
في السماء أو القمر، مثل هذه المشاعر الخرقاء والغبية والقصيرة النظر
والمقرفة والمبهمة. لماذا على هذه الكتب أن تشذ عن القاعدة؟ يعرف جيداً أنه
يعيش مع أموات، كل هذه الكتب المتراكمة والمسجاة أموات ومن الصعب تصديق
خلاف ذلك. كل هذا مفهوم، فالميت هو الميت، لكن ما يحير السيد بل وما يخرجه
عن طوره أن هذه الكتب الطاعنة في موتها لا تعترف بموتها، ويبدو أن هذا
القرار جماعي، وكونه جماعياً يعني تمرداً على السيد ذاته. فقد انتزعت منه
سلطة، ما وَمَنْ يراه خالداً وباقياً وما مَن لا يراه فانياً وعابراً.
وهنا
يتقدم السيد ويتفرس بأسماء الكتب والكتَّاب والشعراء والمسرحيين
والروائيين والمفكرين والثوريين والرجعيين والمستقبليين والرؤيويين
والتافهين... والعظماء والذين أحبهم والذين لم يحبهم والذين قرأهم بشغف
والذين قرأهم بقرف... أوَ لا لحظة حب؟ أو حنين؟ أو حتى تذكُّر؟ بلى! لم لا!
لكن يجب أن يتم ذلك وكأنه تعامُل مع موتى. لكن ألا يحزنك أنهم ماتوا؟
وعندها يتلمس كتاباً بأطراف أصابعه، الورق مادة ميتة، الحرف مادة ميتة،
صاحبه مادة ميتة... وهنا بالذات، وربما بسبب ملمسه يمكن أن تهيج في داخله
عواصف ومشاعر وأسماء تصل أحياناً إلى نوبة ميلودرامية يجهش فيها بالبكاء
والعويل، ثم تدركه موجة حنان عذبة عذبة. لكن لا يلبث أن يكف فجأة، ينفصل
هكذا عالمه ويستعيد قسماته الباردة، الصامتة الحجرية، لكنه على أي حال يجد
صعوبة في الاستمرار على هذه الحال. وهنا بالذات عليه أن يستدرك، فإما أن
يحوِّل الضوء إلى زاوية محددة فتسود العتمة معظم أرجاء الغرفة، وإما أن
يطفئه ويبقى هو واقفاً كتمثال وسط الغرفة. وعندما يعجز عن أي من الأمرين
يستمر في الوقوف لحظات طويلة، ثم، وبحركة آلية يفتح الكوة - النافذة وينظر
بخوف إلى الخارج، وهنا يتقابل الضوءان. لكن لقاء قناعين، قناع الخارج وقناع
الداخل يتجاوزان أو يتوازيان أو يتزاوران كل من موقعه. فضوء الخارج قناع
للزمن، وضوء الداخل قناع للموت، هذا ما يراه السيد بوضوح. فالزمن لا يمكن
أن يتحرك ولو أنملة أو شعرة ولو صوتاً (هذا إذا تحرك) إلاّ بتسلُّل شيء من
ضوء أو سلك شعاع من الخارج، ولا يهم من أي جهة، أو من أي وقت، أو من أي
شخص، أو من أي ملبس، أو حتى من أي عين. فالخارج واحد، والضوء واحد. وعندها
يمكن أن يمتزج الضوء الآتي في شيء من الهواء، أو من شميم، وهذا يحسه ينسّم
على وجهه أو على كتفه أو على أوراق تتقلب وتحدث حفيفاً يأنس إليه السيد.
لكن هذا لا يعني، على الأقل عموماً، أن شيئاً تغيّر، أو تبدل، أو أن خطة
تعدل. لا، مجرد كتلة تقتحم الغرفة ثم تتلاشى. فالزمن والهواء والضوء والعبق
والروائح كُتل وأحجام منفصلة بل ومتضاربة ومتناثرة يمنعها ثقلها وأوزانها
وأحمالها الآنية والتاريخية من أن تتداخل، لذا يمكن أن تراها بكل وضوح
منفصلة. الهواء وحده، الرائحة وحدها، الضوء وحده، وكذلك الزمن. لهذا لا
تضيف هذه العناصر الأربعة حتى ولو صارت عشرة أو مئة أي شعور جديد بالحياة،
يعني في النهاية، أي شعور بالزمن، على العكس تماماً.
يرى السيد أن فتح
الكوة أو النافذة أو شق الباب أحياناً يزيد الشعور بالعزلة، وتتضاعف مناخات
الموت في الغرفة، ويحزن الموتى كثيراً من هذه الاقتحامات غير المجدية بل
والمؤذية. هذا ما فهمه السيد طويلاً وعميقاً من الكتب والملابس والكراسي
والصور والجدران، وهذا يعني أن عليه أن يحمي ما تبقَّى من كائناته من هذه
الأمور والعناصر الدخيلة التي تحمل أوبئة وأمراضاً لا شفاء منها، ذلك لأن
المعادلة التي تقوم عليها توازنها، أقصد أشياء الغرفة حساسة ودقيقة وهشة،
ويمكن أي شيء يضاف إليها أو يخترقها أن يهددها بكل ما تحمل من جماد وسكون
واستغراق في اللاشيء. (...)