منتخب «موت نرسيس» (1990)
I
جَسَدُكِ كي أمسح بلمسة الزبد إلى آخر ذرة ملح كي أوقظ بصرخةٍ الغابةَ
المستورة بالطيور إلى آخر سمكة تلتهب في القعر جسدك لأُضيء الرغبةَ
المحترقة لاشهقَ اللحظةَ إلى نتفة الزمن المشدود. جَسَدُكِ كي تتمزجَ
اليابسةُ بمياه الوقت الرجراج.
ليسود الوقت الدافىء على جلدك كما ينتصب
النسر في أعلى قمة من جسده في أخصب نبع من يديه المفتوحتين على جسدك الناضح
بالروائح الليلية وهبوب الأنفاس من وَبَر الحقول ومن تعاويذ الأصابع
والأعناق المغروزة في أسرارها الأولى المنفلتة على عواصفها الساحلية بين
فصلي الموت والغياب.
بين رحيقي الموت والرماد.
بين سريري الجسد الواحد المنتفض إلى غموضه
الساري الفائض إلى حواجزه الأزلية. السادر إلى قراره العمودي الساخن
بالتذكارات والأنين والثقل المرقط لفهود تلمع على مساحات الأدغال المتشابكة
وتشعل الثمار واحدة واحدة ترفع أعناقَ الأزهارِ شهقةً شهقةً حتى يهتز
العشبُ المحني على وريقه المهزوز في غشاءاته الهشّة وبريقه المائي القديم.
مَنْ يفتح في هذا الجسد بنفسجةً خالصةً مَنْ يرتعش كسروة أصابتها
الصاعقة في الصباح أصابتها الصاعقة في الظهيرة أصابتها الصاعقة في الصيف
حتى ذاك الغياب المُشمِس في القسمات، حتى تلك الحقول التي تعصب ثِمارَها في
المساء وتسقط في بريقها المعلقة على أجسام طافحة فوق العشب طافحة فوق
الرمل ينزف غسق أخضر من الشفاه نهار وامض من الجذوع ومن الأطراف القاطرة
القاطرة على صفائح زئبقية شاسعة ليهتز ظل مكتنز على رفيف ممشوق بين الأيدي
المستورة بفضيحتها العالية بهشيمها المستنفر تحت النيران.
آه ما أعمق الطعنة المستقيمة الوابلة في خرافاتها المنتفضة على عَرَق
السيقان والأذرع والصدور والأجفان آه! ما أعمق شفاء الهدهد الموتور في قوس
تحت قمر مغلق على احمراره الشاهق آه ما أعمق الطعنةَ الخالصة الخالصة تكثر
في هديلها المظلم تنفر فيها الحصى إلى الآبار، يلتمُّ انفلاتُ الريش في
فضاء خُرافي من دم خُرافي إلى حواسه المتفتحة ولا ترى ولا تسمع ولا تهتف
ولا تبدأ حتى تستلقي بفرائسها الألفية واشاراتها الصاخبة بلا وزن ولا مسافة
على جِلْد الساعات على عصب المقطوع من أنهاره وكوابيسه الفائح من نعناعه
وزيزفونه وليمونه.
آه ما أعمق الطعنة تدرك حاسّة الفراغِ الباهتة
المبهورةَ ولا من يفتح حدقتين ليتسع ولا من يُشرع أصابِعَهُ ليمسكَ ولا من
يذكر بعد السقطة المفزعة خلف الجسد المصلوب على جسده، آه ما أعمق الطعنة
لتسيل المنارة الشاهقة كقطيع يملأ الوديان والهضبة والنبع يقضم الوقت من
أطرافه ومن عبيره القاطع وأطراف السواقي المفلتة على صفاءاتها المحترقة على
العشب.
الأنة! الأنة! هل تصيب الشجرة في أوراقها وعصافيرها هل تعبر من
ضوء إلى الفصل الممهور بقاماته الدائمة هل تزفر من ذاك القاع لتصل إلى
القمر النازف بعري واضحٍ يتلوى. الآنة! من يوقف هذا الجرف المحمّل بتواريخَ
وأرقامٍ وخُوَذٍ وخيباتٍ تُشْمِسُ تشمس في فراغاتها العظيمة تبزغ كالوشم
في الخلايا كدماء تحفظ خروجها لتفوح.
ها هي الزوارق بمجاذيفها القاسية
تتحد بمناراتها ليرتعش شيء كأبعد أن يكون الزبد كأبعد أن ترتد الموجة كأقرب
أن يلحس الموت مِلحاً على جسد ليستبقيه ولا عيون مؤرقة خلف الأوراق ولا
أذرعَ تنهب إشاراتها ولا أفخاذ تنغلق على بتول في تلك الدائرة المغلقة في
تلك الساحة المحاصرة بالنيران.
الآنة! الآنة! منه، الجسد، ليبتهج
الكاسرُ بفريسته الكاسرة لتبتهج الفريسة المسحوبة من دمائها ليبتهج موت
يُضمِرُ الأصوات في قطرة واحدة يوزع الأصوات إلى صحارى صحارى تقبل.
أيها
الموت منْ يوصلك إلى بقايا الجسد المنثور في جوقته المعدنية من يفصلك
بعلامة أخرى عن ألوان الشهوة المضروبة بنحاسها البريّ عن ثغورك المستحيلة.
عن الأرخبيل المطوي على وحدته الماكرة؟
أيها الموت!
هل من نشيد آخر لا يُفاجىء العصفورَ في مضيق الشجرة.
هل من نشيد آخر يا هدهداً يرفع منقاره بين الأوراق لتتبعهُ عاصفةٌ لا تعصِفُ غيرَ الكسرِ الداخلِ غيرَ السكون الساري كالأمراض؟
كأنَّ
تملمُلَك أن اعبث بالعناصر أن استقر على جذع يُشرق في حريقه أن اعبِّدَ
الفضاءَ لتلك القيلولة السهلة لكن أيّ أنفاس تعد أفواهها وألسنتها حتى تلك
القشعريرة القرمزية والملوحة حتى ذلك الزمن الفارغ من غثيانات الشوارع
والغرف والأسرة الطاغية الطاغية في بياضها.
يا وجهاً يلتبس بالوجه يلتبس
باليدين يلتبس بالنهر ليفصل وقتاً من عروقه ليفصل وقتاً لا ينفص. كمن يرى
القاع بعينين مفتوحتين إلى الحجر المتدحرج على الحواس إلى الألفيات
المغروسة بين طلوع الأعمدة وسكون النبات.
يا غائبة جسدها المهر الأول إلى المهر الأخير!
ماذا لو تعثّرتْ أصابعي لتمتزج الرؤيا بالغروب.
تنخسف
الأحجياتُ من سطوع الآية المبكرة على الجسد الصباحي على الجسد معسولاً ولا
مَنْ يرفع كلاماً يرن على ذلك الأديم المعدني ينهمر على السيف المطاول في
طعنته.
II
عندها كأني لا أذكركِ أو أذكركِ ولا أعرفك أمسّكِ كمن يعدُّ النجومَ
مِنْ بصيص الشفاه في العتمة ويترك النجوم كمن يتمّدد تحت الأمطار. عندها
الصمت البحيرات المطلقة. الشموع الواقفة في ذاكرتها المعذبة بسراب القامات
الموحشة في نخيلها. نخيلها الغامض. الغامض في اشتعالها الغامض. من يذكر أن
ينسى بين جسدين لتمتلك القيلولة ماءها النافر من الخلايا. مَنْ ينسى أن
يذكر باقاتٍ باقاتٍ سائلة جذورَها على الزئبق فائحة مساحاتها القادمة ولا
هواء ولا رعشة من الرعشات المطلوبة ولا اختباء خلف الصخور البرية قرب
الأنهار التي تخون ولا تعرف ولا تستوقف وجهاً مستغرقاً في انتظاره.
عندها
كأنَّ الأرضَ مقسومةٌ إلى أصابِعَ تعدُّها وتبذرُ فضاءَها وفصولَها
وساعاتِها وطيورَها ونباتَها وأسماكَها خيباتٍ خيبات تلمع على ذلك الجسد
الخارق في أنفاسه الأولى. أيتها العناصر، يا ماء إلى حنين الأرض يا هواء
إلى شقوق السماء يا ناراً تغسلها الكلمات الخوذ التي ذابت في برفير الجلد
كيف تشق قامة أولّها في التكوين وآخرها في التكوين. كيف تحط عليها النظرات
لتحرسها الآيات المباركة. كيف تتهالك عليها رؤوس عارية مكشوفة تحت الأرحام.
كوني يا أجسادي موصولة حتى أرفَع الضحية الملتفة بَعَرقها. حتى أحضنَ
الضحية المخضبة بدمائها. حتى أحيا وأنا أقرع أنّاتِها في فمي وأنا أعبق
بأكاليل الشهوة المعلقة على عنقي. حتى أغيب في يقظتها المحمومة. استديري
قليلاً كي أرى المنارة المتصلة بالبحر. كي تتكور أصابعي على الشكل الذي لا
يتغير. كي تتحسس أصابعي اللونَ الواحدَ بين الألوان المتغيرة. اللونَ
الأخير تحت الشموس الفاقعة في نهاياتها. في لزوجة الصيف والماء، يرتبك
الكلام في حظائره الموحشة يتشقق في حريره الاستوائي. استديري كثيراً كما
يتمدد فصلان في أوج لقائهما في أوج افتراقهما في أوج الغيمة المنتصرة
الغيمة الطالعة من الشفاه، الشفاه القاطرة من ضعفها.
III
من يضم الآخر، الجبل أم الهواء؟ من يروِّض الآخر الجبل أم الهواء؟ من
يترك الآخر، الجبل أم الهواء؟ السؤال الذي يتنهد نذوره القديمة. نذوره
المنتشرة بين ارتفاع القامات والأعمدة. بين ابتهال الهضبة وسكون النخيل.
من
يضم الآخر الوجه المائي أم الضوء أم اللون الحي من تكرار الظلمة على
الصباح؟ من يذكر من لا ينسى أو ليس هذا الغياب اللامع على الزمن المهمل على
الأسرة وعلى بلاط الخيبات؟ كيف تتساوى القوة الخافية بالليلك الأعزل حتى
يستوي وقت في هاويته حتى يستقرّ فجرٌ في غموضه حتى نستنفد لهاثاً يعكِّر
سكونَ المرمر يُجعّدُ عاصفةً تبشر بقدومها؟ من جاء من سراب الحروب: أنا
الراحل أم أنت الآتية؟ أنا المحمّل ولا من يأخذ حصاة أم أنت الخافقة في
امتلاء الجمر؟ أنا المقوس في ألوانه أم أنت المشرئبة في الخوذ؟ أيتها
الغصون المسترخية فوق النبع الأوراق تستيقظ في الجلْد تحيي نهراً ينضم إلى
أعشابه أيتها الغصون المسترخية فوق النبع الأَبواق الغامضة تسطع في بدايات
الغابة تنذر الظهيرة والطيور بسيول اليابس اللامع. بهشيم الأجسام المقبلة
على السهل أيتها الغصون المرتعشة فوق النبع من سيفترس هواء لا يتسع لحريقه
من سينصب اللحظة الزئبقية تحت النجوم لتقول السقطة عندما يدوم الحجر الأليف
عندما تنتصب النايات في طقوسها المتعثرة، هل استقر يا غصوناً تذرف فوق
النبع كمن ينتظر المطر متروكاً إلى جفانه المجهول؟
IV
شهوة من كل الشهوات رغائبُ الحجر في الماء ألسنةُ الأشجار في لعاب
العناصر الفاكهة الذائبة تحت الشمس. كيف تلتحف القطعانَ براريها كيف لا
تبحث الجذور عن ثمارها شهوة من كل الشهوات حتى خبثِ العبير في الحقل سالت
الأشياء حتى جفّتْ في أحواضها حتى غامر الرماد في عروق الشجر حتى تنفست
ورودٌ كثيرة في ليلها. شهوة من كل الشهوات لتعم يداك وأنفاسك النبات والوبر
والحبوب لتختلط التلال بالأيدي والأفواه والنجوم أين الأصابع المفصولة عن
أسمائها وصفاتها وطقوسها لتضم الأصوات الواحدة أين العيون لتنغرز في ملمس
الصوان أو لتواكب الحية المائية إلى آخر الأحشاء الحية التي تتلوى على
الرخام المحموم. اللحظة الكوكبية الشجرة المليئة بالورق. المليئة بالأعشاش.
المليئة بالرؤوس المليئة بالليل. ليطفر طائر يدخل دائرة الهلال ويخرج من
ثمرة مستديرة لينفض الطائر الأعمى شمسه على دائرة الهلال ويضرجها ببياضه
العالي اللحظة الكوكبية لتنفلت الخفقة الشاسعة وتُرسل إلى جسد الغابات
والمدن والحجارة دماً ساخناً دماً قريباً دماً لا يعرف الندامة لتنطلق
وتنحبسُ أجراسُك رافعة أذيالها إلى آخر المصابيح الغامضة تحت المياه إلى
آخر الشفاه المبلولة بنهاياتها وصباحاتها. شهوة من كل الشهوات تدلف بعدها
وحوشٌ من كل العناصر وحوش من كل الأديان والأطفال والغرائز وحوش من أدغال
سرية تلفح الشراشف والحجارة والأصوات بخَدَرها الطويل اللامع شهوة لا كل
الشهوات تستبد بأقحوانة تحت ثِقَل الهدهد تُضيء الحجر من جانبيه تنفخ
الهواء كلَّه على الجمر كلِّه على النهار كلِّه على الورق كلِّه على الموت
كلِّه في حصان يخترق العالم بطهره العالي يصهل على أثداء الخرافات الملعونة
حتى يصبح الفضاء غريزة فائضة حتى تصبح التلة نجمة خالصة حتى يسيل الفهد
ولا من يسبقه إلى مخلبه الجميل إلى عينيه الكاسرتين في الألوان الفاقعة في
الألوان المفتونة ولا من يسبقه إلى دمه يا مدقاتِ الصوت الأسود القارعة في
الحروب وفي النهايات أية آلهةٍ غامضة تشهر عنفها أمام شجرة تخلع امرأة أية
حيوانات هازجة ترفع قوائمها الشفافة أية حيوانات سرية تتشابك لتمتزج الظلال
والأنفاس والجداول والأفخاذ المعشبة أية حيوانات تلتم على الجسد المترامي
ممتداً كما تتحرك الأنفاس من جهات الحدس مستقيماً كما تنهض الزوارق تحت
أنوار الموانىء حروب كثيرة لتتساقط تحت نفخ المزمار الأبدي تحت نفخ
الثعابين المفقودة حروب كثيرة وتلمح الحراشف كما أضمك ونحن نهوي في كلامنا
المكسور ونحن نُمسك بالشهوة من طرفيها ونحترق.