فــخُّ الجســد
طغيان العرض والمعلومات على البحث والتأليف
لا شكَّ في أن فخ الجسد كتابٌ
وعنوانٌ لافتان، إذ يرى القارئ نفسه مستسلمًا لغواية موضوع من هذا النوع: موضوع
الجسد و"أسراره ونزواته وتجلِّياته"[1].
ومما لا شك فيه أيضًا أن الجسد موضوع مهم لطالما تناولناه، متسائلين عن موقع الجسد
من ثنوية المفاهيم التي سادت عصورًا طويلة، طارحين – تحديدًا – "براءة" الجسد في
إزاء "نجاسة" الروح و"أخطاء" الفكر؛ ولطالما طرحنا كذلك أبعاد الجسد
"الميتافيزيقية" مقارنةً بـ"لاميتافيزيقية" الروح، خلافًا لِما هو رائج عامةً،
متسائلين عن معنى هذا الجسد المزدوج الطاقة: فهو الهش السريع العطب وهو، في
الوقت عينه، الكلية المطلقة، لأننا نكون معه، ومن دونه لا نكون. فانطلاقًا
من الجسد الذي نملكه، نحب ونكره ونكتب ونفكر إلخ، وانطلاقًا من غيابه تغيب كل فكرة.
وهاهنا سره ولغزه وغموضه والتباساته في وجوده المطلق، وفي وجوده المتحول من كيان
إلى عدم، ومن مادة إلى تجريد.
انطلاقًا مما قد تنطوي عليه من معانٍ غزيرة مفاهيمُ الجسد هذه كلها، كان في إمكان
كتاب منى فياض أن يوسع دائرة المعلومات التي غرفت منها أو المراجع التي استعانت
بها، لتجعل منها موضوع بحث معمَّق، لا مكانًا لسرد المعلومات فحسب. بل أرى أن
"الفخ" الحقيقي يكمن في العناوين المغرية لفصول الكتاب، التي نقع لدى قراءة
تفاصيلها في خيبة كنَّا نتمنى تلافيها!
مع ذلك، نقدِّر جهد منى فياض في استنادها إلى هذه المراجع الوفيرة كلِّها، وفي
تناوُلها نقاطًا شديدة الأهمية، من نحو: "الجسد المتغير"، "اكتشاف الجسد"، "عبادة
الجسد"، "حياة الأيدي"، "الجسد الإيروسي"، "الجسد العاري"، "الجسد المركَّب"،
"الجسد المتألم"، "الجسد الصامت"، "الجسد السياسي"، وسواها... عناوين جذابة ولافتة،
بحيث يفتح المرءُ الكتابَ في لهفة عارمة، آملاً في العثور على المتعة التي
يتوهَّمها وتحصيل متعة النص، حيث "تشكِّل الكتابة والقراءة جسدًا واحدًا لا يتجزأ"،
على ما يقول جاك درِّيدا الذي تستشهد فياض بعبارته.
إلا أننا سرعان ما نقع على نواقص وهفوات لناحية ترابُط الأفكار في المقطع الواحد.
وتقوم ملاحظتي على ما تبدَّى أمامي من ركاكة في بناء النص الفكري والإشارة الأبرز
التي تدلنا على هشاشة التركيبة المنطقية التي تولد أصلاً من التركيبة اللغوية. فمَن
يملك الفكرة الصلبة يملك اللغة التلقائية. وقد امتلكت منى فياض "مشروع" الفكرة،
لكنها لم تَخُضْ فيها في جدية؛ بل إن ما قامت به هو مجرد رصف لأفكار مستقاة من كتب
غربية (في معظمها)، دونما مبرِّر أو شرح أو ترابُط: فالفقرة في معظمها مترجَمة، بل
هي مقتطفات مقتطَعة من نصوص، كانت كاملة في لغتها الأصل، ألصقتْها فياض جنبًا إلى
جنب من غير أن تَدَعَ لنا مادة دسمة أو معقولة. تقول مثلاً:
[...] على ثخانة هذا الصمت المزدوج، يمكن الأشياء المرئية أن
تُسمَع أخيرًا وأن تُسمَع لأنها أُبصرِتْ، ذلك أن المباشر الذي تنفتح عليه النظرة
لا ينص حقيقته إلا إذا كان في أصلها في الوقت نفسه. في عمق الممارسة العلمية، هناك
خطاب يقول: "ليس كل شيء صحيحًا، لكن في كلِّ لحظة ومن جميع النواحي هناك حقيقة
للقول وللنظر، حقيقة يمكن أن تكون غافية، لكنها تنتظر نظرتنا كي تظهر، ويدنا كي
تنجلي؛ وعلينا إيجاد المنظار المناسب، الزاوية المناسبة والأدوات الضرورية، لأنها
في كلِّ الأحوال هنا، إنها هنا وفي كلِّ مكان." وها إن جسدنا قابع هنا، بانتظار ما
قد يطرأ عليه من تحولات.
أكرِّر ما طرحته آنفًا: لا مبرِّر، لا شرح، لا ترابُط! فلو قارنَّا بين ما تزعم أنه
لها (من كلمة "على ثخانة..." حتى "... في الوقت نفسه") وبين ما ذكرتْه بين أهلَّة
(من "ليس كل شيء..." حتى "... وفي كلِّ مكان")، لن نجد، أولاً، فارقًا في اللغة
المستخدَمة هنا وهناك، ولن نشعر، ثانيًا، بأن المؤلِّفة خاضت في تلك الأفكار
وناقشتْها. ونتساءل بالتالي: ما مبرِّر السؤال الذي تطرحه في النهاية؟ إذ لا
يُستنتَج مما ورد سابقًا (ونعرف أن الأسئلة يجب أن تكون نوعًا من الخلاصة، وإنْ تكن
أسئلة!) ولا يرتبط به، بل يبدو لنا كأنه وُضِعَ على نحو مفتعَل في مكان ليس مكانه.
الهشاشة، إذن، مصدرها خلل في تناوُل النص، لا في الفكرة المطروحة أصلاً – وكل
الأفكار، على ما أسلفنا، مهمة في هذا الكتاب. الهشاشة منبعها المنهج الذي اتَّبعته
الباحثة فياض، وهو قائم على إيراد أقوال الآخرين من دون بحث إضافي خاصة. فهي تكتفي
بسؤال ضعيف هنا أو بكلمة–عبارة خُلاصية غير مكتملة هناك؛ كما تكتفي – وهنا الكارثة!
– بملء الكتاب بنصوص غربية مترجَمة – واللغة في النص أعلاه، كما في المؤلَّف كلِّه،
أوضح وأصدق برهان على ذلك.
الكتاب ترجمة خالصة، من الدفة إلى الدفة. حينًا تخفي فياض المصدر والأهلَّة
المفترَضة، وتضعها حينًا آخر. بيد أن اللغة في الحالتين، كما لاحظنا، واحدة
ومتشابهة، مما يجعلنا نعتقد أنه كتاب مترجَم لا كتاب مؤلَّف، وأن الجملة الأولى،
كما الثانية، مترجَمة. نقع في الكتاب أيضًا على ما نصه:
[...] يشعر الإنسان الحديث بأهميته الاجتماعية ويعرف أن القوى
الغيبية ليست هي مَن سوف تقرِّر له حياته أو حياة مجتمعه. يعرف أنه من الآن وصاعدًا
هو نفسه مَن يقرِّر ويفبرك مصيره ويقرِّر شكل المجتمع الذي يعيش فيه. بينما الإنسان
في المجتمع التقليدي لا ينوجد إلا في علاقاته مع الآخرين. الإنسان ليس سوى انعكاس
لا يكتسب كثافته وسماكته إلا في ارتباطه بالجماعة التي ينتمي إليها. فجسمه لا يكتسب
شرعيته من مجرد وجوده. الجسد ليس حدودًا أو ذرة، بل هو عنصر غير منفصل عن مجموعة
رمزية.
هنا أيضًا نلحظ عدم الترابط بين الأفكار، وكأن الفقرة مجرد سلَّة تضم أفكارًا من
كلِّ صوب وحدب – أفكارًا صالحة في سياقها الأصلي، لكنها ناقصة حين تكون منتزَعة من
جذورها ومنفصلة عنها. ونرى أن معظم الفقرات يدل على أنه محض ترجمة. أن تلجأ منى
فياض إلى أفكار الآخرين فهو أمر غير مرفوض؛ لكن ليتها صاغت الفكرة بدلاً من وضعها
كما هي، أي ليتها بحثت فيها وطوَّرتْها، مضيفةً إليها ما يجول في رأسها، عوضًا عن
سكبها كما هي بلا أهلَّة.
وثمة خطأ أكبر يولد تلقائيًّا من سابقه – التناقض الواضح والجلي: فبعد وصفها الفرد
الحديث واختلافه عن الإنسان في المجتمع التقليدي، تكمل في الجملة التالية من دون
سابق تفسير، قائلةً إن "الإنسان [...] لا يكتسب [...] سماكته إلا في ارتباطه
بالجماعة" إلخ – كيف تقول ذلك بعدما أكدت في مستهل المقطع قائلة:
التقاليد، الجماعة، الطائفة، تصبح كلها مرجعيات شكلية بالنسبة إلى
الفرد ولا تعود تنظم وجود الإنسان وأفعاله بشكل نهائي وقاطع
[...]؟!
التناقض في أوجه، والترجمة كذلك! التناقض، كما هو جلي، نابع من عدم وجود أي منهج
للبحث في مشروع فياض؛ فـ"المنهج" الوحيد المتَّبَع هو جمع المعلومات المتشابهة!
الأمر الأبرز هو إتقان النص المنقول عنه في معناه الدقيق وتصويب دقائق قصده لإيصاله
من غير تشويه – وأتكلَّم هنا على الجملة الواحدة، لا على المقطع الواحد، حيث المعنى
يأخذ في التفكك بين الجملة والأخرى.
إشارة أخيرة إلى بعض ما ورد لتصحيح النظرة السوسيولوجية. تقول منى فياض[2]:
أذكر أنني أثناء دراستي في بلجيكا في بداية السبعينات، وكنت في منطقة
ريفية، فوجئت بالتعرف إلى معتقدات خرافية كانت لا تزال شائعة، منها ما يتعلق مثلا
بطريقة إنجاح صلصة المايونيز، مثل عدم لمسها من قبل امرأة حائض أو طريقة تحريكها،
أنا التي كنت أعتقد أن المعتقدات الخرافية هي من خصوصيات مجتمعاتنا التي اصطُلِحَ
حينها على نعتها بالمتخلفة.
أولاً، الدهشة في غير محلِّها: إذ قد تدهشنا معلومةٌ تاريخيةٌ في اقترابها من طريقة
عيشنا الراهن أو ذهنيَّتنا إلخ، كمعرفة الرومان وسيلة التدفئة العامة المركزية على
طريقة الـchauffage
central
أو تمديد أنابيب المياه للاستعمال المنزلي الشبيهة بأنابيبنا، إلى ما هنالك. لكن
كيف نسمح لظاهرة اجتماعية في مجتمع معاصر لمجتمعنا بأن تفاجئنا وتدهشنا إنْ كنَّا
حقًّا أصحاب نظرة سوسيولوجية شاملة – والمفترض ألا تكون نظرتنا سوى شاملة! فالتخلف،
أولاً، ليس مقياسه الخرافات الشعبية الموروثة، بل الاقتصاد والسياسة؛ والخرافات
الموروثة، ثانيًا، ليست من اختراع الشرق، بل من اختراع البشرية جمعاء، وهي تضمحل
وتختفي مع امتداد الصناعة والسياسة المادية. في السبعينيات، كانت لا تزال قائمة في
بلجيكا، كما في لبنان، أي في الحقبة نفسها؛ أما اليوم فنحن واثقون من أنها ذابت في
النسيان، في لبنان كما في بلجيكا، بسبب التحولات الاقتصادية الرهيبة التي يشهدها
العالم. والمثل حاضر أمامنا:
أذكر في صغري، في قريتنا، أن الفتاة في إحدى حالاتها الأنثوية الاستثنائية كانت
تُمنَع من الاقتراب من الدبس أو النبيذ في أثناء صناعتهما كي لا تفشل الطبخة؛ أما
اليوم، وقد بات الدبس يُصنَع في الآلات، اختفت تلك الذاكرة الخرافية وعاداتها
الطقوسية الجميلة. فقط للتذكير بأنه آن لنا الخروج من الأفكار المعلَّبة كي لا نشبه
المستشرقين وبعض الغربيين الذين يحنِّطون الشرق في قوالب جاهزة! إذن، صحيح أن
بلجيكا كانت متطورة في السبعينيات، لكن هذا التطور المادي والصناعي بقي في نطاقه
المؤسساتي أو الرسمي، مما يؤكد عدم خدشه الموروث الطقوسي الشعبي من خلال ما رأته
منى فياض. لذا كان عليها ألا تعجب، بل أن تتصور الواقع!
كان يمكن لهذا الكتاب، الذي تطلَّب جهدًا كبيرًا لإصداره، أن يكون أوسع بحثًا
لناحيتَي الإضافة والمساءلة، لو اعتُمِدَ له منهجُ البحث والتأليف، لا العرض فحسب،
أي الترجمة الخفية غير المعلَنة.