نقطة
الانعطاف:
علم
المنظومات الحية
فريتيوف
كابرا*
إبان العقود الثلاثة الأولى من
القرن العشرين، أدَّت الفيزياء الذرية وما
تحت الذرية subatomic
إلى إعادة نظر جذرية في العديد من المفاهيم
والأفكار الأساسية عن الواقع، الأمر الذي
أحدث تغييرًا عميقًا في نظرتنا إلى العالم: من
نظرة ديكارت ونيوتن الآلتية mechanistic إلى نظرة كلانية holistic وإيكولوجية – نظرة تبيَّن
أنها شديدة التساوق مع نظرات الحكماء
والصوفية من العصور والمنقولات كافة.
بيد أن قبول الفيزيائيين
للنظرة الجديدة إلى الواقع في بداية القرن
العشرين لم يكن سهلاً من أيِّ وجه. فقد
وَضَعَهم استكشاف العالم الذري وما تحت الذري
على تماس مع واقع غريب وغير متوقَّع. ففي
كدحهم من أجل القبض على هذا الواقع الجديد،
أدرك العلماء متألمين بأن مفاهيمهم الأساسية
ولغتهم وطريقتهم في التفكير برمتها لم تعد
صالحة لتوصيف الظواهر الذرية. لم تكن
مشكلاتهم فكرية وحسب، بل هي بمثابة أزمة
وجدانية شديدة، بل وجودية حتى، إذا جاز القول.
لكنهم، في النهاية، كوفئوا بتبصرات عميقة في
طبيعة المادة وفي علاقتها بالعقل البشري.
لقد توصلتُ إلى الاعتقاد بأن
مجتمعنا اليوم ككل يواجه أزمة مماثلة. ويمكن
لنا أن نقرأ عن مظاهرها العديدة في الصحف كلَّ
يوم: نعاني من نسبة مرتفعة من التضخم
والبطالة، نعاني من أزمة طاقة، نعاني من أزمة
في الرعاية الصحية، من التلوث وغيره من
الكوارث البيئية، من موجة متصاعدة من العنف
والجريمة، وهكذا دواليك. وفي اعتقادي أن هذه
الأزمات ما هي جميعًا إلا أوْجُه مختلفة
للأزمة الواحدة عينها؛ وهذه في الجوهر أزمة
في الإدراك. فهي، مثلها كمثل أزمة الفيزياء في
العشرينيات، تتفرع من كوننا نحاول أن نطبِّق
مفاهيمَ نظرة إلى العالم فات أوانها – ألا
وهي النظرة الآلتية للعلم الديكارتي–النيوتني
– على واقع لم يعد بالإمكان فهمُه بلغة هذه
المفاهيم. نحن نحيا اليوم في عالم عالمي
الترابُط – عالم مظاهرُه البيولوجية
والنفسانية والاجتماعية والبيئية جميعًا
متواكلة. فلكي نوصِّف هذا العالم توصيفًا
مناسبًا نحن في حاجة إلى منظور كلاني،
إيكولوجي، لا تتيحُه النظرة الديكارتية إلى
العالم.
ما نحن في حاجة إليه، إذن، هو
"أنموذج" paradigm جديد – رؤية جديدة إلى الواقع،
تغيير جذري في أفكارنا وإدراكاتنا وقيمنا.
وإرهاصات هذا التغيير – هذه النقلة من التصور
الآلتي إلى التصور الكلاني للواقع – باتت
مرئية منذ الآن في الحقول كافة، ومن شأنها أن
تسود على القرن الجديد بأسره. إن خطورة أزمتنا
ومداها العالمي يشيران إلى أن من شأن
التغييرات الحالية أن تتمخض عن تحول ذي أبعاد
غير مسبوقة، عن نقطة انعطاف للكوكب ككل.
من أجل مناقشة سمات هذه النقلة
الأنموذجية paradigm shift ومنطوياتها، لا بدَّ لي أولاً من توصيف
الأنموذج القديم – النظرة الديكارتية إلى
العالم – وتأثيراته على العلم والمجتمع، قبل
أن أنتقل إلى مناقشة النظرة الكلانية
والإيكولوجية الجديدة ومنطوياتها.
النظرة الآلتية
الديكارتية إلى العالم
قام غاليليو وديكارت ونيوتن
وسواهم ببسط النظرة الآلتية إلى العالم في
القرن السابع عشر. وقد أسَّس ديكارت نظرته إلى
الطبيعة على تقسيمها الجذري إلى عالمين
منفصلين يستقل واحدهما عن الآخر: عالم العقل
وعالم المادة. كان الكون المادي بنظره آلة،
ولا شيء سوى آلة. وكانت الطبيعة تعمل وفقًا
لقوانين ميكانيكية، وكان بالإمكان تفسير
كلِّ شيء في العالم المادي بلغة ترتيب أجزائه
وحركتها. وقد عمَّم ديكارت هذه النظرة
الآلتية إلى المادة لتشمل المتعضِّيات organisms الحية: النباتات والحيوانات كانت ببساطة
تُعتبَر آلات؛ والكائنات البشرية كانت
تسكنها نفس عاقلة؛ إلا أن الجسم البشري كان
غير قابل للتمييز عن حيوان–آلة.
كان جوهر مقترَب ديكارت إلى
المعرفة هو طريقته التحليلية في التفكير؛
وهذه عبارة عن تقطيع الأفكار والمشكلات إلى
قطع، ثم تصنيف هذه القطع بحسب ترتيبها
المنطقي. وقد صار هذا المقترَب خاصية جوهرية
من خاصيات الفكر العلمي الحديث، ثبتتْ
فائدتُها الكبيرة في بسط النظريات العلمية
وتنفيذ المشاريع التكنولوجية المعقدة. لكنْ،
في المقابل، فإن التشديد الزائد على الطريقة
الديكارتية أدى إلى التفتيت الذي يتسم به كلا
تفكيرُنا العام ومناهجُنا الأكاديمية وإلى
الموقف الاختزالي reductionism الواسع الشيوع في العلم:
الاعتقاد بأن سمات الظواهر المعقدة يمكن
فهمها جميعًا باختزالها إلى أجزائها
المكوِّنة.
وفي حين سلَّم ديكارت بالتقسيم
الأساسي بين العقل والمادة ورسم خطوط رؤيته
الآلتية إلى الواقع، كان غاليليو أول مَن جمع
بين الاختبار العلمي واستعمال اللغة
الرياضية. فلكي يمكِّن العلماءَ من توصيف
الطبيعة رياضيًّا، سلَّم غاليليو بأن على
العلم أن يقتصر على دراسة الخواص الجوهرية
للأجرام المادية – الهيئات والأعداد والحركة
– التي يمكن لها أن تقاس وتكمَّم. أما الخواص
الأخرى، كاللون والصوت والمذاق أو الرائحة،
فكانت من قبيل الإسقاطات projections المجردة التي ينبغي أن تُستبعَد من مجال
العلم. وقد تبيَّن أن هذه الاستراتيجية فائقة
النجاح في العلم الحديث قاطبة، لكنها تسببت
كذلك في خسائر فادحة له. فالعلم الذي لا يُعنى
إلا بالكمِّ وحده ويتأسَّس على القياس حصرًا
علمٌ عاجز في صميمه عن التعامل مع الخبرة أو
النوع أو القيم. وبالفعل، منذ غاليليو، حرص
العلماء على تجنب التطرق إلى القضايا
الأخلاقية والمناقبية عمومًا؛ وهذا الموقف
يؤدي اليوم إلى عواقب وخيمة.
وقد قام نيوتن بإتمام احتفالي
للإطار المفاهيمي الذي أوجده غاليليو
وديكارت، باسطًا صياغة رياضية متماسكة
للنظرة الآلتية إلى الطبيعة. فمنذ النصف
الثاني من القرن السابع عشر حتى نهاية القرن
التاسع عشر، ساد النموذج الميكانيكي
النيوتني للكون على الفكر العلمي كلِّه. إذ
قبلت العلوم الطبيعية، بالإضافة إلى
الإنسانيات والعلوم الاجتماعية جميعًا،
بنظرة الفيزياء الكلاسيكية بوصفها التوصيف
الصحيح للواقع، ونَمْذَجَتْ نظرياتِها
بمقتضى ذلك. فكلما أراد علماء النفس
والاجتماع والاقتصاد أن يكونوا "علميين"،
لجأوا لجوءًا طبيعيًّا إلى المفاهيم
الأساسية للفيزياء النيوتنية، وتمسَّك
العديد منهم بهذه المفاهيم، حتى بعد أن
تخطاها الفيزيائيون إلى أبعد منها بكثير.
تأثير الفكر الديكارتي–النيوتني
ففي البيولوجيا، مازالت النظرة
الديكارتية إلى المتعضِّيات الحية بوصفها
آلات مركَّبة من أجزاء منفصلة توفر الإطار
المفاهيمي السائد. فمع أن بيولوجيا ديكارت
الآلتية البسيطة ما كان لها أن تمضي شوطًا
بعيدًا، وكان لا بدَّ من تعديلها تعديلاً لا
يستهان به إبان القرون الثلاثة اللاحقة،
مازال الاعتقاد بأن بالإمكان فهم خصائص
المتعضِّيات الحية كافة باختزالها إلى
مكوِّناتها الصغرى وبدراسة الآليات التي
تتفاعل من خلالها قابعًا في الأساس من معظم
التفكير البيولوجي المعاصر.
وقد نجم عن تأثير البيولوجيا
الاختزالية على الفكر الطبي ذلك النموذج "الحيوي
الطبي" المزعوم الذي يشكِّل الأساس
المفاهيمي للطب العلمي الحديث: يُنظَر إلى
الجسم البشري كآلة يمكن تحليلها بحسب
أجزائها؛ والداء يُرى بوصفه قصورًا في
الآليات البيولوجية التي تُدرَس من وجهة نظر
البيولوجيا الخلوية والجزيئية؛ ودور الطبيب
هو أن يتدخل، إما فيزيائيًّا وإما
كيميائيًّا، لتصحيح قصور آلية معينة، حيث
يعالِج كلَّ جزء من أجزاء الجسم اختصاصيٌّ
مختلف.
وبالطبع، كان ربط مرض بعينه إلى
جزء معين من الجسم مفيدًا جدًّا في العديد من
الحالات. غير أن الطب العلمي الحديث غالى
كثيرًا في التشديد على المقترَب الاختزالي،
وطوَّر اختصاصاته، إلى حدِّ أن الأطباء
مرارًا ما أمسوا عاجزين عن رؤية الداء بوصفه
خللاً في المتعضِّية ككل، وعاجزين عن التعامل
معها بوصفها كذلك. فهم أميل إلى معالجة عضو أو
نسيج بعينه؛ وهذا يتم عمومًا بدون أخذ بقية
الجسم في الحسبان – فما بالكم باعتبار
المظاهر الاجتماعية والنفسانية لداء المريض؟
كذلك علم النفس، مثله كمثل
البيولوجيا والطب سواء بسواء، صيغ على هيئة
الأنموذج الديكارتي. فعلماء النفس، على غرار
ديكارت، تبنوا تقسيمًا صارمًا بين العقل
والمادة. وتأسيسًا على هذا التقسيم، انبسط
مقترَبان إلى دراسة النفس البشرية، موجِدان
بذلك مدرستين نفسانيتين كبريين: درس
البنيويون structuralists الذهنَ عبر الاستبطان وحاولوا
تحليل الوعي إلى عناصره الأساسية، فيما ركَّز
السلوكيون behaviorists حصرًا على دراسة السلوك، الأمر الذي
قادهم إلى تجاهُل وجود الذهن برمَّته. كلا
هاتين المدرستين ظهرتا وقتَ كان يسود النموذج
النيوتني للواقع على الفكر العلمي؛ وبمقتضى
ذلك تَنَمْذَجَتا على غرار الفيزياء
الكلاسيكية، مُدرِجَتين المفاهيم الأساسية
للميكانيكا النيوتنية في إطاريهما النظريين.
في أثناء ذلك، استعمل تسيغموند
فرويد، مشتغلاً في العيادة وغرفة المشورة
بدلاً من المختبر، منهاج التداعي الحر free
association لبسط
التحليل النفسي. ومع أن التحليل كان نظرية
مختلفة للغاية وثورية فيما يتعلق بالذهن
البشري فإن مفاهيمه الأساسية كانت نيوتنية هي
الأخرى من حيث طبيعتها. وبذلك فإن تيارات
التفكير النفساني الثلاثة الرئيسية في
العقود الأولى من القرن العشرين – اثنين منها
في الأكاديمية وواحدًا في العيادة –
تأسَّستْ ليس على الأنموذج الديكارتي وحسب،
بل وعلى المفاهيم النيوتنية حصرًا عن الواقع.
ختامًا لاستعراضي الموجز هذا
لتأثيرات الفكر الديكارتي–النيوتني، سأنتقل
الآن إلى العلوم الاجتماعية، وبخاصة إلى
الاقتصاديات. الاقتصاديات في أيامنا هذه،
شأنها شأن غالبية العلوم الاجتماعية،
تجزيئية واختزالية. إنها تقصِّر عن الاعتراف
بأن الاقتصاد هو مجرد مظهر واحد من مظاهر نسيج
إيكولوجي واجتماعي متكامل. لذا فإن
الاقتصاديات تميل إلى عزل الاقتصاد عن هذا
النسيج الذي يتأصل فيه وإلى توصيفه باستعمال
نماذج نظرية تبسيطية وغير واقعية إلى حدٍّ
بعيد. وقد تمَّ التعريف بمعظم مفاهيمها
الأساسية – الفعالية، المردودية، الناتج
الوطني الإجمالي، إلخ – تعريفًا ضيقًا
واستخدامُها في معزل عن سياقها الاجتماعي
والإيكولوجي الأوسع. وبصفة خاصة، يجري عمومًا
إهمال الخسائر الاجتماعية والإيكولوجية
الناجمة عن النشاط الاقتصادي. وعاقبة ذلك أن
المفاهيم والنماذج الاقتصادية المعمول بها
حاليًّا لم تعدْ مناسبة لتصنيف الظواهر
الاقتصادية في عالم متواكل من حيث الأساس؛
ومن هنا عجز الاقتصاديين عمومًا عن فهم
مشكلات زماننا الاقتصادية الكبرى.
الاقتصاديات الاتباعية، من
جراء إطارها الاختزالي الضيق، مناوئة في
صميمها للإيكولوجيا. ففي حين أن المنظومات
الإيكولوجية المحيطة كلِّياتٌ عضوية ذاتية
التوازن self-balancing وذاتية التعديل self-adjusting فإن اقتصاداتنا وتكنولوجياتنا
الحالية لا تعترف بأيِّ مبدأ ذاتي الضبط.
فالنمو غير المتمايز – النمو الاقتصادي
والتكنولوجي والمؤسَّسي – مازال، بنظر
غالبية الاقتصاديين، علامة على اقتصاد "صحي"،
على الرغم من كونه يتسبب الآن في كارثة
إيكولوجية، في انتشار الجريمة المنظمة، في
التفسخ الاجتماعي، وفي احتمال متزايد لوقوع
حرب نووية.
ومما يزيد في تفاقم الوضع أن
غالبية الاقتصاديين، في حرصهم المضلَّل على
الصرامة العلمية، يهملون الاعتراف صراحة
بمنظومة القيم التي تتأسَّس عليها نماذجهم؛
وبهذا يقبلون ضمنًا جملة القيم المختلة
التوازن إلى حدٍّ بعيد التي تسود ثقافتنا
وتندرج في مؤسَّساتنا الاجتماعية.
ولقد وجدتُ أن مصطلحي يِنْ
ويَنْغ الصينيين مفيدان جدًّا لتوصيف هذا
الاختلال الثقافي. فإلى جانب بَسْط ثقافتنا
للنظرة الآلتية إلى العالم، أصرَّت هذه
الثقافة، نظريًّا وعمليًّا، على تفضيل قيم يَنْغ
وأهملت قيم يِنْ المقابلة والمكمِّلة لها:
لقد فضَّلْنا توكيد الذات على التكامل،
التحليل على التركيب، المعرفة العقلانية على
الحكمة الكشفية، العلم على الدين، التنافس
على التعاون، التوسع على الصيانة، وهلم جرا.
منذ أقدم أزمنة الثقافة
الصينية، كان يِنْ مرتبطًا كذلك بالمؤنث
ويَنْغْ بالمذكر؛ وفي زماننا أشار
النسويون feminists، مرارًا وتكرارًا، بأن القيم
والمواقف التي يفضلها مجتمعنا هي قيم ومواقف
الثقافات الأبوية patriarchal. وبهذا تلقتْ منظومةُ القيم الديكارتية
والـيَنْغـية التوجُّه دعم النظام
الأبوي patriarchy؛ لكن النظام الأبوي، هو الآخر، شأنه شأن
الأنموذج الديكارتي، بلغ طور انحطاطه،
والمنظور النسوي سيكون سمة جوهرية من سمات
النظرة الجديدة إلى الواقع.
الأنموذج الجديد
ظهر الأنموذج الجديد في
الفيزياء في بداية القرن العشرين، وهو الآن
يبرز في مجالات متنوعة أخرى – البيولوجيا،
الطب، علم النفس، الاقتصاديات، السياسة، إلخ.
وهو ليس عبارة عن منظومة قيم جديدة وحسب، بل
هو ينعكس في أشكال جديدة من التنظيم
الاجتماعي وفي مؤسَّسات جديدة. وهو الآن يصاغ
إلى حدٍّ كبير خارج نطاق مؤسَّساتنا
الأكاديمية، التي مازالت على بقائها أوثق
ارتباطًا بكثير بالإطار الديكارتي من أن
تستطيع تقدير الأفكار الجديدة حقَّ قدرها.
فلوصف الأنموذج الجديد، سوف أبدأ بالنظرة إلى
المادة كما انبثقت من الفيزياء الحديثة؛ ومن
بعدُ سوف أناقش امتداد هذه النظرة لتشمل
المتعضِّيات الحية والعقل والوعي والظواهر
الاجتماعية.
العالم المادي، وفقًا للفيزياء
المعاصرة، ليس منظومة ميكانيكية مصنوعة من
أشياء منفصلة، بل تبدو، بالحري، كشبكة معقدة
من العلاقات. فالقُسَيْمات particles ما تحت الذرية لا يمكن لها أن تُفهَم
ككيانات معزولة، منفصلة، بل يجب أن تُرى
بوصفها صلات متداخلة أو ترابُطات ضمن شبكة من
الأحداث. إذ إن مفهوم الأشياء المنفصلة ما هو
إلا أمْثَلَة idealization، مرارًا ما تكون مفيدة للغاية،
لكنْ لا صحة أساسية لها. مثل هذه الأشياء كافة
نماذج في سيرورة كونية لا تنفصم عراها؛ وهذه
النماذج دينامية في صميمها. والقُسَيْمات ما
تحت الذرية غير مصنوعة من أيِّ جوهر مادي: لها
كتلة معينة، لكن هذه الكتلة هي شكل من أشكال
الطاقة. غير أن الطاقة مرتبطة دومًا
بسيرورات، أي بنشاط؛ بل هي مقياس للنشاط.
فنماذج الطاقة الخاصة بالقُسَيْمات ما تحت
الذرية، إذن، هي حزم من الطاقة أو نماذج نشاط.
تشكِّل نماذج الطاقة الخاصة
بالعالم ما تحت الذري بُنى ذرية وجزيئية
مستقرة، تؤلِّف المادة وتضفي عليها مظهرها
الماكروسكوبي الصلب المتماسك، بما يجعلنا
نعتقد بأنها مصنوعة من جوهر مادي ما. إن مفهوم
الجوهر، على الصعيد اليومي، الماكروسكوبي،
مفهوم مفيد للغاية؛ لكنه، على الصعيد الذري،
يفتقر إلى المعنى. فالذرات مؤلَّفة من
قُسَيْمات، وهذه القُسَيْمات ليست مصنوعة من
أيِّ قوام مادي. إذ إننا، عندما نرصدها، لا
نشاهد مطلقًا أيَّ جوهر؛ فما نرصده هي نماذج
دينامية، يتحول واحدها إلى آخر على الدوام،
بما يشبه رقصة طاقة متواصلة.
النظرة المنظومية إلى
الحياة
إن نظرة الفيزياء الحديثة إلى
الحياة نظرة كلانية وإيكولوجية: فهي تشدد على
التعالُق والتواكل الأساسيين بين الظواهر
كلِّها، وكذلك على الطبيعة الدينامية في
صميمها للواقع الفيزيائي. غير أن تعميم هذه
النظرة على توصيف المنظومات الحية يتطلب
منَّا أن نتخطَّى الفيزياء؛ وثمة الآن إطار
يبدو أنه استطالة طبيعية لمفاهيم الفيزياء
الحديثة. وهذا الإطار يسمَّى بـ"نظرية
المنظومات"، كما يسمَّى أيضًا أحيانًا بـ"النظرية
العامة للمنظومات" General Systems Theory. والواقع أن مصطلح "نظرية المنظومات"
مضلِّل بعض الشيء، بما أنها ليست "نظرية"
معينة تعيينًا دقيقًا، من نحو نظرية النسبية
أو النظرية الكوانتية؛ إنها بالأصح مقترَب
معين، لغة، منظور خاص.
يختص المقترَب المنظومي بتوصيف
المنظومات، بما هي كلِّيات متكاملة تستمد
خواصها الجوهرية من التعالُقات بين أجزائها.
لذا فإن المقترَب المنظومي لا يركز على
الأجزاء، بل بالأصح على التعالُقات
والتواكلات بين الأجزاء. ويمكن إيجاد أمثلة
على المنظومات في كلا العالمين الحي وغير
الحي؛ ولسوف أركز على المنظومات الحية.
كل متعضِّية حية منظومة حية –
خلية مفردة، نبات، حيوان، أو كائن بشري. غير
أن المنظومات الحية قد لا تكون متعضِّيات
مفردة بالضرورة. إذ إن هناك منظومات
اجتماعية، كالأسرة أو الجالية؛ ثم هناك
المنظومات الإيكولوجية ecosystems، تترابط فيها شبكاتٌ من
المتعضِّيات، إلى جانب مكوِّنات غير حية
متنوعة، لتشكيل نسيج متشابك من العلاقات
تتضمن تبادل المادة والطاقة في حلقات متواصلة.
وهذه جميعًا منظومات حية تبدي نماذج مشابهة
من التعضِّي organization (التنظيم).
من المظاهر الهامة للمنظومات
الحية نزوعها إلى
تشكيل بُنى عديدة المستويات من منظومات ضمن
منظومات. فعلى سبيل المثال، يتكون الجسم
البشري من أعضاء، وكل عضو من نسيج، وكل نسيج
من خلايا. وهذه جميعًا متعضِّيات حية، أو
منظومات حية، هي عبارة عن أجزاء أصغر، وفي
الوقت نفسه، تعمل بوصفها أجزاء من كلِّيات
أوسع. ثم تبدي المنظومات الحية نظامًا
تراتبيًّا stratified، وهناك ترابطات وتواكلات
بين مستويات المنظومة، بحيث يتفاعل كل مستوًى
ويتواصل مع بيئته بكلِّيتها.
التعضِّي
(التنظيم) الذاتي
فما هي، إذن،
نماذج التعضِّي (التنظيم) التي تتسم بها
الحياة؟ إنها تشتمل على طائفة من السيرورات
والظاهرات، التي يمكن لها أن تُرى بوصفها
مظاهر مختلفة للمبدأ الدينامي نفسه – مبدأ
التعضِّي (التنظيم) الذاتي self-organization. فالمنظومة
الحية منظومة ذاتية التعضِّي (التنظيم)،
الأمر الذي يعني أن نظامها، من حيث البنية
والوظيفة، لا تفرضه عليها البيئة، بل ترسِّخه
المنظومة نفسها. والمنظومات الذاتية
التعضِّي (التنظيم) تبدي درجة معينة من
الاستقلالية: فعلى سبيل المثال، تنزع إلى
تثبيت حجمها بحسب مبادئ تعضِّي (تنظيم)
داخلية، مستقلة عن المؤثرات الخارجية. وهذا
لا يعني أن المنظومات الحية معزولة عن
بيئتها؛ بل هي، على العكس، تتفاعل معها
تفاعلاً مستمرًا، لكن هذا التفاعل لا يعيِّن
تعضِّيها (تنظيمها).
إن الاستقلالية
النسبية للمنظومات الذاتية التعضِّي (التنظيم)
تلقي ضوءًا جديدًا على مسألة التخيير (الإرادة الحرة)
الفلسفية، القديمة قِدَم الزمان. فمن وجهة
نظر المنظومات، الحتمية (التسيير) والحرية
كلاهما مفهوم نسبي. فالمنظومة حرة بمقدار ما
تستقل عن بيئتها؛ كذلك بمقدار ما تتكل على
بيئتها من خلال التفاعل يتعين نشاطُها
بالمؤثرات البيئية. والاستقلالية النسبية
للمتعضِّيات عادة ما تتزايد بتزايد تعقيدها،
وتبلغ أوْجَها في الكائنات البشرية.
يبدو المفهوم
النسبي لحرية الإرادة متساوقًا مع نظرة
المنقولات الصوفية التي تهيب بأتباعها أن
يتجاوزوا مفهوم "ذات" معزولة ويعوا
بأننا أجزاء لا تتجزأ من الكوسموس الذي نحن
متأصِّلون فيه. وغاية هذه المنقولات هي
التخلِّي التام عن أحاسيس الأنية ego، والاندماج، بالخبرة الصوفية، في
كلِّية الكوسموس. وما أن يتم بلوغ مثل هذه
الحالة، يبدو أن مسألة "التخيير" تفقد
معناها: إذ إنني، إذا كنت الكون، فلا يمكن أن
توجد مؤثرات "خارجية"، وأفعالي كافة سوف
تكون عفوية وحرة. فمن وجهة نظر الصوفية،
بالتالي، يكون مفهوم التخيير نسبيًّا
ومحدودًا و"وهميًّا"، كما يقال، شأنه
شأن سائر المفاهيم الأخرى التي نستعملها في
توصيفنا العقلاني للواقع.
لقد صيغت نظرية
المنظومات الذاتية التعضِّي (التنظيم) إبان
الربع الأخير من القرن العشرين بتفصيل لا
يستهان به على يد عدد من الباحثين من مناهج
متنوعة، بقيادة العالم البلجيكي الحائز على
جائزة نوبل إيليا بريغوجين. إن واحدة من أهم
خصائص التعضِّي (التنظيم) الذاتي هي أن
المنظومات الذاتية التعضِّي (التنظيم) "دائمة
العمل": إذ إن عليها أن تحافظ على تبادل
مستمر للطاقة والمادة مع بيئتها لكي تبقى على
قيد الحياة. وهذا التبادل يتضمن استدخال بُنى
منظمة (كالطعام) وتفتيتها، ثم استعمال بعض
المكونات للحفاظ على نظام المتعضِّية، وحتى
زيادته. وهذه العملية تدعى الاستقلاب metabolism.
من المظاهر
الهامة الأخرى للنشاط المتواصل للمنظومات
الحية سيرورة التجدد الذاتي. كل منظومة حية تجدِّد ذاتها
تجديدًا مستمرًا: الخلايا تتفتت، وتركِّب
بُنى ونُسجًا وأعضاء، وتجدِّد خلاياها في
دورات متواصلة. فعلى الرغم من تغيرها المستمر
هذا، تحافظ المتعضِّية على بنيتها ومظهرها
الإجماليين. ومكوِّناتها تتجدد ويعاد
تدويرها، لكن نموذج التعضِّي (التنظيم) يبقى
مستقرًا. ومن المظاهر الأخرى للتعضِّي (التنظيم)
الذاتي، الوثيقة الارتباط بالتجدد الذاتي self-renewal، ظواهرُ الشفاء
الذاتي والاندمال والتكيف مع التغيرات
البيئية.
في جميع هذه
السيرورات، تلعب التقلبات fluctuations دورًا مركزيًّا للغاية.
إذ يمكن للمتعضِّية الحية أن توصَّف بلغة
المتغيِّرات المتواكلة التي تنوس بين حدود
معينة، بحيث تبقى المنظومة في حالة من التقلب
المستمر. مثل هذه الحالة تُعرَف باسم الثبات
على السواء homeostasis؛ وهي حالة من التوازن
الدينامي الذي يبدي مرونة فائقة. فعندما يحدث
خلل ما، تنزع المنظومة إلى العودة إلى حالتها
المتقلبة الأصلية بالتكيف بطرق متنوعة مع
الخلل. ثم تتدخل آليات التغذية الراجعة feedback، فتنزع إلى
التخفيف من أيِّ انحراف عن الحالة المتوازنة.
يمكن لمظاهر
التعضِّي (التنظيم) الذاتي التي وصفتُها حتى
الآن أن تُرى بوصفها سيرورات صيانة ذاتية self-maintenance. وما يجعل فهم المنظومات
الحية صعبًا تمامًا هو أنها لا تتصف بنزوع إلى
الحفاظ على حالتها الدينامية وحسب، لكنها، في
الوقت نفسه، تبدي كذلك نزوعًا إلى تجاوز
ذاتها، إلى تخطِّي حدودها ومحدوديتها تخطيًا
خلاقًا، من أجل توليد بُنى جديدة وأشكال
جديدة من التعضِّي (التنظيم). ومبدأ التجاوز
الذاتي self-transcendence يتجلَّى في سيرورات التعلم
والنمو والتطور.
وبحسب نظرية
المنظومات، لا تمثل النظرية الداروِنية في
التطور إلا واحدة من نظرتين متكاملتين،
كلاهما ضروري لفهم ظاهرة التطور. والنظرة
الأخرى ترى التطور بوصفه تجليًّا جوهريًّا
للتعضِّي (التنظيم) الذاتي، يقود، على كرِّ
الوقت، إلى تفتح منظم للتعقيد. والنزوعان
المتكاملان للمنظومات الذاتية التعضِّي (التنظيم)
– الصيانة الذاتية وتجاوز الذات – تتفاعلان
تفاعلاً ديناميًّا موصولاً، وكلاهما يساهم
في ظاهرة التكيف التطوري.
مفهم جديد
للعقل
من أجل تطبيق
النظرة المنظومية على متعضِّيات أرقى، وعلى
الكائنات البشرية بخاصة، من الضروري التعامل
مع ظاهرة العقل. وقد اقترح غريغوري بتسون
التعريف بالعقل كظاهرة منظومية تختص بها
المتعضِّيات الحية والمجتمعات والمنظومات
الإيكولوجية. وقد عدَّد جملة من المعايير
التي ينبغي على المنظومات أن تلبيها لكي يحدث
العقل. وكل منظومة تلبي تلك المعايير تتمكَّن
من معالجة المعلومات وتنمِّي ظواهر متنوعة
ننسبها إلى العقل – التفكير، التعلم،
الذاكرة، إلخ. وفي نظر بتسون أن العقل نتيجة
ضرورية وحتمية لتعقيد معين، يبدأ قبل تنمية
المتعضِّيات بوقت طويل للدماغ ولجهاز عصبي
مرتقٍ.
إن معايير بتسون
للعقل يتبين أنها وثيقة الصلة بخصائص
المنظومات الذاتية التعضِّي (التنظيم).
وبالفعل، فإن العقل خاصية جوهرية من خصائص
المنظومات الحية. فكما عبَّر بتسون: "العقل
هو جوهر الحياة." ومن وجهة النظر
المنظومية، ليست الحياة هي الجوهر أو القوة،
والعقل ليس كيانًا يتفاعل مع المادة. كلا
الحياة والعقل تجلٍّ للخواص المنظومية عينها:
جملة من السيرورات التي تمثل دينامية
التعضِّي (التنظيم) الذاتي. وهذا سيكون تعريفي
للعقل: دينامية التعضِّي الذاتي.
سيكون للمفهوم
الجديد للعقل قيمة هائلة في محاولاتنا للتغلب
على التقسيم الديكارتي. فالعقل والمادة لن
يبدوا بعد الآن وكأنهما ينتميان إلى مقولتين
منفصلتين اثنتين، بل يمكن النظر إليهما
بوصفهما يمثلان مجرد سمتين للظاهرة نفسها.
فالعلاقة بين العقل والدماغ، على سبيل المثال
– تلك العلاقة التي حيَّرتْ علماء لا عدَّ
لهم منذ ديكارت – تصبح الآن واضحة تمام
الوضوح: العقل هو دينامية التعضِّي الذاتي؛
والدماغ هو البنية البيولوجية التي تنفَّذ من
خلالها هذه الدينامية.
ولسوف أعتمد
تمامًا مفهوم بتسون عن العقل، لكني سوف
أستعمل لغة مختلفة اختلافًا طفيفًا. ولكي
أبقى أقرب إلى اللغة المصطلَح عليها، سوف
أخصِّص مصطلح "عقل" للمتعضِّيات ذات
التعقيد الراقي وأستعمل التعقل mentation –
وهو مصطلح يعني "النشاط العقلي" –
لتوصيف دينامية التعضِّي (التنظيم) الذاتي
على مستويات أدنى. إن كلَّ منظومة حية (خلية،
نسيج، عضو، إلخ) منخرطة في سيرورة التعقل،
لكنها، في المتعضِّيات الراقية و"العالم
الداخلي" (الذي يتميَّز به العقل)، تشتمل
على الوعي الذاتي والخبرة الواعية والفكر
التصوري واللغة الرمزية إلخ. وغالبية هذه
الخصائص توجد على هيئة بدائية في مختلف
الحيوانات، لكنها تبلغ أوج تفتحها في
الكائنات البشرية.
إن تعضِّي (تنظيم)
العالم الحي في بُنى عديدة المستويات تعني
أنه توجد كذلك مستويات للعقل. ففي المتعضِّية البشرية،
على سبيل المثال، ثمة مستويات متنوعة من
التعقل "الاستقلابي"، تشتمل على الخلايا
والنسج والأعضاء؛ ثم هناك التعقل العصبي
للدماغ، الذي هو عبارة عن مستويات عديدة
تقابل مختلف مراحل
التطور الإنساني.
وكلِّية هذه التعقلات تؤلِّف ما يمكن لي أن
أسميه الذهن البشري أو النفس psyche. وفي النظام
التراتبي للطبيعة، تتأصل العقول الفردية في
العقول الأوسع للمنظومات الاجتماعية
والإيكولوجية، وهذه تندرج في المنظومات
العقلية الكوكبية، التي، بدورها، يجب أن
تشارك في نوع من العقل الكلِّي أو الكوني. إن
الإطار المفهومي للمقترَب المنظومي الجديد
لا ينحصر، بأيِّ شكل من الأشكال، في الربط بين
هذا العقل الكوني وبين فكرة الله التقليدية:
فالألوهة في هذه النظرة، بالطبع، ليست ذكرًا
ولا أنثى، ولا تتجلِّى في أية صورة شخصية، بل
تمثل لا أقل من الدينامية الذاتية التعضِّي (التنظيم)
للكوسموس بأسره.
العلم
والروحانية
الرؤية الجديدة
للواقع رؤية إيكولوجية، بمعنى أنها تتخطى
ببعيد الاهتمامات الآنية بالحفاظ على البيئة.
وهي تلقى تأييد العلم الحديث، ولاسيما
المقترَب المنظومي الجديد، لكنها تتجذر في
إدراك للواقع يتخطَّى الإطار العلمي إلى وعي كشفي
لـوحدة
الحياة ككل ولتواكل تجلِّياتها
العديدة ودورات تغيرها وتحولها. وعندما
يُفهَم مفهوم الروح الإنسانية بوصفها كيفية
الوعي التي يشعر الفرد بنفسه بمقتضاها
مرتبطًا بالكوسموس ككل، يصبح من الواضح أن
الوعي الإيكولوجي وعي روحي بامتياز. وبالفعل،
فإن فكرة الفرد بوصفه مرتبطًا بالكوسموس
معبَّر عنها في كلمة "دين" اللاتينية،
المشتقة من فعل religare الذي يعني "الربط
بقوة"، مثلما هي كذلك في كلمة يوغا yoga السنسكريتية
التي تعني "الاتحاد" وكلمة "صلاة"
العربية التي تنطوي على معنى "الصلة".
من هنا لا غرو أن
الرؤية الجديدة للواقع متساوقة مع العديد من
الأفكار في المنقولات الصوفية. والمتوازيات
بين العلم والتصوف لا تنحصر في الفيزياء
الحديثة، بل يمكن توسيعها الآن توسيعًا
مبررًا بالمثل لتطال البيولوجيا المنظومية.
فهناك ثيمتان أساسيتان تبرزان مرارًا
وتكرارًا من دراسة المادة الحية وغير الحية
ويتم التشديد عليها تشديدًا متكررًا في
تعاليم الصوفية: الترابط والتواكل الكلِّي
بين الظاهرات كافة، وطبيعة الواقع الدينامية
في صميمها. وإننا لنجد كذلك عددًا من الأفكار
في المنقولات الصوفية أقل متاتًا إلى
الفيزياء الحديثة، أو لا تنطوي بعدُ على مغزى
بالنسبة إليها، لكنها محورية في النظرة
المنظومية إلى المتعضِّيات الحية.
يلعب مفهوم
النظام المراتبي دورًا بارزًا في العديد من
المنقولات. فكما هو الأمر في العلم الحديث،
ينطوي هذا المفهوم على فكرة مستويات
عديدة للواقع،
تختلف في تعقيدها وتتفاعل تفاعلاً متبادلاً
ويتواكل بعضها على بعض. وهذه المستويات
تتضمن، بصفة خاصة، مستويات العقل، التي تُرى
بوصفها تجلِّيات مختلفة للوعي الكوني Cosmic Consciousness. ومع أن النظرات الصوفية إلى
الوعي تتخطى بكثير إطار العلم المعاصر، فإنها
ليست، ولا بأيِّ حال من الأحوال، متعارضة مع
المفاهيم المنظومية الحديثة عن العقل
والمادة. وتصح اعتباراتٌ مماثلة على مفهوم
الإرادة الحرة، الذي ينسجم تمام الانسجام مع
النظرات الصوفية عندما يُربَط إلى
الاستقلالية النسبية للمنظومات الذاتية
التعضِّي (التنظيم).
إن مفاهيم
السيرورة والتغير والتقلب، التي تلعب دورًا
شديد المحورية في النظرة المنظومية إلى
المتعضِّيات الحية، يشدَّد عليها في
المنقولات الصوفية الشرقية، ولاسيما في
الطاوية Taoism. ففكرة التقلبات كأساس للنظام، التي
أدخلها إيليا بريغوجين في العلم الحديث، هي
واحدة من الثيمات الكبرى في النصوص الطاوية
كافة. ولأن حكماء الطاوية أقروا بأهمية
التقلبات في أرصادهم للعالم الحي، فقد شددوا
كذلك على الميول المعاكسة – لكن المكمِّلة –
التي يبدو أنها مظهر جوهري من مظاهر الحياة.
والطاوية، بين المنقولات الشرقية، هي
المنقول الذي ينطوي على أكثر المنظورات
الإيكولوجية صراحة؛ لكن التواكل المتبادل
بين مظاهر الواقع كافة والطبيعة اللاخطية non-linear لترابطاته
مشدَّد عليهما في سائر طُرُق التصوف الشرقي.
فهاتان الفكرتان هما اللتان تبطِّنان مفهوم كرما
karma الهندي، على
سبيل المثال.
المنطويات
الاجتماعية
تنطوي النظرة
المنظومية إلى الحياة على العديد النتائج،
ليس على العلم وحسب، ولكن على المجتمع
والمعيشة اليومية. إذ لا بدَّ لها من أن تؤثر
في طرقنا في التعامل مع الصحة والمرض، وفي
علاقتنا مع البيئة الطبيعية، وأن تغير العديد
من بُنانا السياسية. وهذه التغييرات جميعًا
بدأت بالحدوث أصلاً: فالنقلة الأنموذجية ليست
شيئًا سوف يحدث في وقت ما من المستقبل، بل
هي تحدث الآن.
كثيرًا ما أشار
مؤرخو الثقافة إلى أن تطور الثقافات يتسم
بنموذج منتظم: صعود، أوج، انحطاط، تحلل. ويحدث
الانحطاط حين تصير ثقافة ما من الجمود – في
تكنولوجياتها، أفكارها، تنظيمها الاجتماعي،
أو هذه مجتمعة – بحيث تعجز عن مواجهة تحدي
الشروط المتغيرة. وهذه الخسارة في المرونة
تترافق مع خسارة عامة في التناغم، تقود لا
محالة إلى تفجر الخلاف والتصدع الاجتماعيين.
وإبان سيرورة الانحطاط والتحلل هذه، بينما
يتحجر التيار الثقافي الرئيس، عبر تشبثه
بالأفكار الثابتة وبنماذج السلوك الجامدة،
تظهر أقليات مبدعة على المسرح وتحوِّل جانبًا
من العناصر القديمة إلى تكوينات جديدة، لا
تلبث أن تصبح هي الثقافة الجديدة الصاعدة.
وفي حين يجري
التحول، ترفض الثقافة المنحطة أن تتغير،
متشبثة بجمود أكبر فأكبر بأفكارها البالية؛
كذلك ترفض المؤسَّسات الاجتماعية السائدة
تسليم أدوارها القائدة للقوى الثقافية
الجديدة. لكنها سوف تمضي في انحطاطها وتحللها
لا محالة، بينما تواصل الثقافة الصاعدة
صعودها، وتضطلع في المآل بدورها القائد. ومع
اقتراب نقطة الانعطاف، يوفر لنا إدراكُنا بأن
تغييرات ثورية بهذا الاتساع لا يمكن لنشاطاتٌ
سياسية قريبة المدى أن تعرقلها أملَنا الأقوى
من أجل المستقبل.
ترجمة: ديمتري
أفييرينوس
*
يحمل فريتيوف كابرا شهادة دكتوراه في
الفيزياء النظرية من جامعة فيينا، وقد شغل
العديد من المناصب في مجالَي التدريس
والبحث العلمي. مؤلِّف عدة كتب قيِّمة،
منها طاو الفيزياء، نقطة الانعطاف،
شبكة الحياة، والارتباطات الخفية.
وهو من أبرز دعاة تطوير التوعية
الإيكولوجية في التعليم العام.