الدين والمجتمع والسلطان السياسي
عبد الحق منصف
مقدمة عامة:هناك فكرة عامة راسخة في
الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية الحديثة، مفادها أن الدين جزء من
الحياة الاجتماعية وليس مجرد فكرة أو علاقة إيمانية بكائن مقدس أو كائنات
مقدسة. وتتحدد بنية السلوك الديني بالعناصر التالية:
ـ التمثلات الدينية؛
ـ الفضاء الاجتماعي للدين؛
ـ طقوسية الجسد المتعلقة بالدين.
داخل هذه المكوِّنات الثلاثة،
يتقاطع الديني والسياسي مع كل من الجسد والتمثلات والفضاء الاجتماعي.
فالجسد يحضر بقوة داخل المسلكيات الدينية التعبدية والاحتفالية كما هو حاضر
بقوة داخل الظواهر السياسية. أما التمثلات، فهي توجد في أساس الحقل الديني
والسياسي؛ بل هناك العديد من التمثلات التي تنتقل بيسر كبير من مجال
الرؤية الدينية إلى الرؤية السياسية (كالطاعة والامتثال والالتزام والمقدس
والموالاة وغيرها). وأخيراً، على مستوى الحقل الاجتماعي، نجد أن كل
التقييمات المحدِّدَة للفضاء الاجتماعي للدين تنتقل بسرعة غير ملحوظة إلى
المجال السياسي والعكس. ويمكن أن نعطي مثالاً على ذلك: فـ «الأصالة» كما هي
رائجة في المجال السياسي لدى بعض التشكيلات السياسية، تدل على ما هو خالص
وأصيل وغير مختلط بعناصر ثقافية أجنبية. لكننا نعلم جيداً أن «الخالص»
و«الأصيل» (le pur) له معنى أنثروبولوجي وديني ومنغرس داخل التمثلات
الاجتماعية للطهارة والصفاء والنقاء الروحي؛ وهذه المعاني تلج خفية المجال
السياسي وتفعل فيه فعلها بشكل قوي. يمكن أيضاً أن نأخذ مثال «حالة الطبيعة»
كما راجت في الفكر السياسي الحديث حتى حدود القرن الثامن عشر ميلادي فقد
كانت تدل على حالة العصر الذهبي حيث يسود اللاعنف والطيبة والسذاجة
الأولية. وهي بهذا المعنى أقرب في الأديان إلى البداية الأولية كحالة
فردوسية تختفي فيها الخطيئة والمكر وتسودها الفطرة والخير ونحو ذلك.
ومن جهة أخرى، تكاد تتفق
الدراسات القديمة والحديثة على أن الدين له علاقة عميقة وقوية بما احتل
مكانة عظمى في حياة الجماعة. فكلمة: Religion تعود للكلمة اللاتينية:
re-ligare، وتعني: rejoindre أو: re-lier. وتعتبر الدراسات الأنثروبولوجية
الحديثة أن العلاقة الدينية كما هي معيشة لدى الأفراد والجماعات تتم لكي
تجدد أو تعيد ربط العلاقة بالمقدس بعد انقطاعها ولو لحين. فالمجال الدنيوي
هو مجال الابتعاد عن دائرة المقدس؛ والمسلكيات الدينية هي وسيلة إعادة
توثيق الصلة بالمقدس. وهناك باحثون آخرون يرون أن كلمة: Religion تصدر عن
كلمة لاتينية أخرى هي: Religio، وتعني: scrupule، أي الانشغال والانهمام
بشيء يتم تعظيمه داخل حياة الجماعة. ويظهر ذلك في مسلكيات التبجيل والتعظيم
والعبادة والطقوس الاجتماعية الدينية والأخلاقية المرتبطة بها. ويرى أبو
حامد الغزالي، أحد مفكري القرن الخامس الهجري [توفي 505 هـ]، أن الدين يعني
«المعاملة بين العبد وبين الرب»(1)، أما الجرجاني صاحب «التعريفات»،
فيُرجع جوهر العلاقة الدينية بين الإنسان والمقدس إلى الطاعة حين يقول: «إن
الشريعة من حيث إنها تطاع تُسمى ديناً، ومن حيث إنها تجمُّع تُسمى
ملّة»(2). فالدين، من هذا المنظور، هو طاعة الأحكام والشرائع الإلٓهية.
وحينما تتحول هذه الطاعة إلى سلوك تحكمه الجماعة بمؤسساتها وأعرافها
وتمثلاتها، فإنه يتحول إلى ملّة، أي مذهب إجتماعي توجهه الجماعة كسلطة أو
كقاعدة على أساسها تنبني سلطة إجتماعية هي التي توجه سلوك الأفراد
وتمثلاتهم كسلطة المعارف الدينية والسلطة السياسية القائمة عليها والسلطة
التربوية التي تستوحي القيم الدينية وما إلى ذلك. وعموماً، لا يخضع المجتمع
للسلطة السياسية وحدها، بل يتحول الدين إلى سلطة إجتماعية داخل ممارسات
التعبد والطقوس الجسدية والتقييمات الرمزية للفضاء والزمان الاجتماعيين.
من المؤكد أن الوعي بهذه
الحقيقة لم ينتظر ظهور البحوث الأنثروبولوجية والسوسيولوجية الحديثة
والمعاصرة لكي يتبلور. فقد وعى فلاسفة القرن الثامن عشر والتاسع عشر ميلادي
الطابع المؤسسي والاجتماعي للدين. وقد كانت النزعة النقدية الموجهة
للممارسات الكنسية قائمة على وجه الخصوص على أساس هذا الوعي (لنتذكر نصوص
كانط وفيخته). كما قامت النزعة التاريخية مع هيغل على أساس اعتبار الدين
تجلياً للروح الكلية للشعوب التي يكون الفكر جوهرها. فداخل الدين ومؤسساته
ومسلكياته الاجتماعية العامة تظهر الفكرة الدينية المطلقة كما يتمثلها شعب
معين في فترة تاريخية محددة. بهذا المعنى، كانت ديانة شعب معين بكل
مؤسساتها التاريخية والممارسات المرتبطة بها والمعتقدات التي تحركها، كلها
أشكال تاريخية تُجَلِّي فكرة المقدس والخير والحقيقة الأخلاقية كما يعيشها
ذلك الشعب، تماماً مثلما أن المؤسسات السياسية والقانونية السائدة في فترة
ما هي تعبير تاريخي عن فكرة الحق كما تظهر للشعب ذاته، أو أن الأشكال
والموضوعات الفنية والقيم الجمالية التي تحملها تُجَسِّد في الواقع فكرة
الجمال لدى الشعب نفسه. بهذا الشكل، يدرج هيغل النسق الديني بكل عناصره
المادية والروحية داخل تاريخية البشر العامة دون أن يتجاهل أساسها الفكري
الذي ترجع أصوله إلى الروح المطلقة المحركة للعالم. يقول: «إذا ألقينا نظرة
على المضمون الكلّي لوجودنا، فإننا نكتشف حتى عبر وعينا العادي، تنوعاً
كبيراً للحاجات ولوسائل إشباعها. نجد أول الأمر النسق الواسع للحاجات
المادية التي تعمل على إشباعها المهن والصناعات المختلفة كالتجارة وفن
الإبحار والفنون التقنية. وفي مستوى أعلى نجد مجال القوانين والحق والحياة
الأسرية والطبقات الاجتماعية ومجموع مجال الدولة عامة. يلي ذلك الحاجة
الدينية التي تكمن داخل نفس كل واحد منا والتي تجد إشباعها داخل الحياة
الدينية. وأخيراً، نجد النشاط العلمي ذا الفروع العديدة والمتداخلة، ويشمل
مجموع المعارف النظرية. لكن داخل هذه الدوائر المختلفة، يُمارَسُ النشاط
الفني المتولد عن الحاجة إلى الجمال والذي يتحقق بفضل أعماله الإشباعُ
الفني»(3). إن الدين كالفن ونسق الحقوق والدولة والعلم وغيرها مدخل لتحديد
العالم الروحي التاريخي بكل أبعاده الثقافية والمؤسساتية والميتافيزيقية.
يُدْرِجُ الدين، كالفن، فكرة الله أو المقدس داخل عالم الحياة والمادة عبر
المعمار (المعابد مثلاً) والنحت والرسم وكذا عبر طقوس الجسد المرتبطة
بالعبادات والموسيقى والرقص الديني والمسلكيات الاجتماعية. وعموماً، عبر
النسق الديني والفني تندرج فكرة الألوهية داخل مادة العالم وتكف عن أن تكون
مجرد فكرة إيمانية فقط لكي تصبح، داخل المسلكيات الدينية للجسد، فكرةً
يعيشها الفرد والجماعة يومياً بل لحظياً.
غير أن الوعي بالطابع الاجتماعي
للدين أو بالدين كسلطة اجتماعية لم يكن حديثاً كل الحداثة، بل هو أيضاً
حاضر بقوة في نصوص المفكرين الإسلاميين أمثال الفارابي وإخوان الصفاء وأبي
حامد الغزالي وابن خلدون وغيرها من نصوص الآداب السلطانية. وتلك نماذج
سنركز عليها في دراستنا هاته لأهميتها: فالغزالي في الإحياء يمثل نموذج
الفقيه الزاهد الذي تحول معه التفكير في الدين إلى أخلاقيات للتدين
(une éthique de la religiosité) والتزهد التي تحكم العلاقة الحميمية بين
الرب والعبد. والفارابي يمثل نموذج الفيلسوف الذي يسعى لأن يفهم معنى الدين
متمثلاً كملَّة في علاقته بالسلطة السياسية والتشريع الذي تحدثه داخل
المجتمع. أما نصوص الآداب السلطانية (أو ما يُعرف بمرايا الملوك)، فقد فكرت
في الدين والسلطة السياسية من منطلق منظور واحد لا يتغير، ذاك هو منظور
الطاعة والإيديولوجيا الرعوية. وأخيراً، يمثل ابن خلدون نموذج المؤرخ
المتشبع بالفلسفة والفقه، والذي يسعى إلى أن يموقع الدين في قلب الحركة
الفعلية التي داخلها تتشكل الدولة والسلطة. وسنقود تأملاتنا إنطلاقاً من
السؤال التالي: كيف تمثلت الثقافة الدينية بكل مكوناتها الفلسفية والسياسية
والفقهية مسألة الدين في علاقته بالسلطة السياسة للدولة؟
I.المجتمع والحاجة إلى الدين كأساس للتدابير السياسية يربط الغزالي في «إحياء علوم
الدين» تنظيم الحياة الاجتماعية بمختلف الأعمال التي يمارسها البشر من فنون
وصنائع وحرف، والتي بواسطتها يحافظون على قوام هذه الحياة. فهو يعتبر أن
انتظام أمر الحياة البشرية في هذه الدنيا لا يتم «إلا بأعمال الآدميين»
وصناعاتهم وحرفهم. وهذه الأعمال والصناعات تنحصر في ثلاثة أقسام:
ــ أحدها أصول لا قوام للعالم
دونها؛ « وهي أربعة: الزراعة وهي للمأكل؛ والحياكة وهي للملبس؛ والبناء وهو
للمسكن؛ والسياسة وهي للتأليف والاجتماع والتعاون على أسباب المعيشة
وضبطها.
ــ الثاني [يشمل] ما هي مهيِّئة
لكل واحدة من هذه الصناعات وخادمة لها كالحدادة فإنها تخدم الزراعة وجملة
من الصناعات بإعداد آلاتها كالحلاجة والغزل، فإنها تخدم الحياكة بإعداد
عملها.
ــ الثالث [يشمل] ما هي
متمِّمـة للأصول ومزيِّنة كالطحن والخبز للزراعة، وكالقصارة والخياطة
للحياكة؛ وذلك بالإضافة إلى قوام أمر العالم الأرضي مثل أجزاء الشخص
بالإضافة إلى جملته، فإنه ثلاثة أضرب أيضاً: إما أصول كالقلب والكبد
والدماغ؛ وإما خادمة لها كالمعدة والعروق والشرايين والأعصاب والأوردة؛
وإما مكملة لها ومزينة كالأظافر والأصابع والحاجبين»(4) .
ويسترسل الغزالي في تحليل
القاعدة التقنية للمجتمع، فيحلل نظام الصنائع ويركز فيه على ما يسميه
الصنائع المرتبطة بنظام الدنيا، وهو نظام تقني للجسد يكون فيه العمل وسيلة
لإشباع الحاجات الأساسية للبشر. وقد ركز الغزالي في هذا السياق على صناعات
عديدة وعلى علاقتها بما يسميه «أعيان الموجودات» أهمها الأرض وما عليها من
معادن ونبات والكائنات الحية بما في ذلك الإنسان(5). ويظهر أن الغزالي في
ذلك، شأنه شأن ابن خلدون فيما بعد، يعتمد تراثاً أنثروبولوجياً فلسفياً
يعود حتى الفلسفة الإغريقية ويمر عبر كل من قدامة بن جعفر وإخوان الصفاء
ومسكويه وابن سينا على وجه الخصوص. ويظهر أن هذا التراث الأنثروبولوجي
الفلسفي يقيم الحياة الاجتماعية على الحاجات الأساسية للجسد وعلى ما يتميز
به هذا الجسد البشري من استعدادات تقنية موجهة نحو تكوين أدوات وإقامة نظام
للعمل وتبادل الخبرة بين البشر. فهذا قدامة بن جعفر يعتبر الجسد البشري
قاعدة للصناعات والأفعال التقنية بسبب طبيعته الأصلية التي تميز بها عن
الحيوانات؛ يقول: «لما خلق الله عز وجل الإنسان مقصوداً به تلقاءُ غرضٍ
يجيء به نحوه، ومرهوناً بخلقه نحو أمر من الأمور قصد به قصده، ركَّبه في
جسد يليق بذلك المقصد، وجعل له من الآلات ما يشاكل الغرض المعتمد [...]
ولما خلق الإنسانَ للتمييز والمقايسة، جعله في جسد متأتٍّ للحال التي
أرادها سبحانه؛ وجعل آلاتِ جسده مشاكلة لما ينحو به نحو هذه الغاية، من
اليد التي تليق بالصناعات المختلفة، والرِّجْل التي على مثل هذه الحال
زيادةً، حتى إنه لو عُـدَّ ما يهيئه الإنسانُ من يده وأكثر أعضائه في
تصاريف الأحوال التي يحتاج إليها، لكانت كثيرةً معجبةً»(6). ويرجع مفكرو
الإسلام أساس النظام الاجتماعي للجسد بما هو طبيعة مهيأة أصلاً لتكون منتجة
لأدوات وتقنيات عبر الفنون والصناعات المختلفة. يميز إخوان الصفاء بين
الآلة متمثلةً كعضو بيولوجي وبين الأداة كشيء إصطناعي، فيقولون: «وأعلم أن
كل صانع من البشر لا بـد له من أداة أو أدواتٍ، أو آلة أو آلاتٍ يستعملها
في صنعته. والفرق بين الآلة والأداة أن الآلة هي اليـد والأصابع والرجل
والرأس والعين، وبالجملة أعضاء الجسد؛ وأن الأداة ما كانت خارجةً من ذات
الصانع كفأس النجار ومطرقة الحداد وإبرة الخياط وقلم الكاتب… وما شاكل هذه
من الأدوات التي يستعملها الصناع في صنائعهم ولا تتم صناعتهم إلا بها»(7).
وفي السياق ذاته، سعى أبو سليمان المنطقي إلى أن يعود بالصناعات الاجتماعية
البشرية (وهي التي يضعها الغزالي وابن خلدون على وجه الخصوص في قاعدة
مفهوم المجتمع) إلى الخصوصية البشرية التي يحصرها في العقل العملي واللغة
والاستعداد التقني؛ يقول حسبما يورد أبو حيان التوحيدي: «وقال أبو سليمان:
ذكر بعض البحاثين عن الإنسان أنه جامع لكل ما تفرق في جميع الحيوان، ثم زاد
عليها وفُضِّل بثلاث خصال:(8)
1) بالعقل والنظر في الأمور النافعة والضارة.
2) بالمنطق [يعني اللسان] لإبراز ما استفاد من العقل بواسطة النظر.
3) بالأيدي لإقامة الصناعات وإبراز الصور فيها مماثلة لما في الطبيعة».
وهكذا، يكون الاستعداد التقني
للجسد أساساً يقيم عليه مفكرو الإسلام نظاماً متكاملاً للخبرة الاجتماعية
(نظرية الفنون والصناعات والفكر والمهارة..). والجسد بما هو طبيعة مهيأة
لتكون صانعة عبر العمل والصناعات، يقوم على الحاجة. والحاجة توِّلد صناعات
لأجل تلبيتها. ويسترسل أبو حامد الغزالي في وصف الصنائع الاجتماعية القائمة
على نظام متكامل للعمل. فـ «الأشغال الدنيوية هي الحِرَف والصناعات
والأعمال التي ترى الخلْق منكبِّين عليها. وسبب كثرة الأشغال هو أن الإنسان
مضطر إلى ثلاثة: القوت والمسكن والملبس. فالقوت للغذاء والبقاء؛ والملبس
لدفع الحر والبرد؛ والمسكن لدفع الحر والبرد ولدفع أسباب الهلاك عن الأهل
والمال. ولم يخلق الله القوت والمسكن والملبس مصلحاً بحيث يستغني عن صنعة
الإنسان فيه. نعم خلق الله ذلك للبهائم، فإن النبات يُغذي الحيوان من غير
طبخ. والحر والبرد لا يؤثر في بدنه فيستغني عن البناء ويقنع بالصحراء؛
ولباسها شعورها وجلودها، فتستغني عن اللباس. والإنسان ليس كذلك؛ فحدثت
الحاجة إلى ذلك إلى خمس صناعات هي أصول الصناعات وأوائل الأشغال الدنيوية،
وهي: الفلاحة والرعاية والاقتناص والحياكة والبناء»(9). وبقدر ما تتعقد
الحاجات البشرية بفعل تطور النظام الاجتماعي، بقدر ما تتشعب الصناعات
والأعمال البشرية وتتناسل ليخدم بعضها بعضاً. وهكذا، يقوم المجتمع البشري
لأجل تلبية الحاجة إلى النسل وبقاء الجنس البشري، وعلى التعاون وتقسيم
العمل وتبادل الخبرة والمنافع. وهذا يقتضي انقسام المهام والعمل والخدمات؛
فالإنسان «خُلِق بحيث لا يعيش وحده بل يضطر إلى الاجتماع مع غيره من أبناء
جنسه وذلك لسببين: أحدهما حاجته لبقاء جنس الإنسان، ولا يكون ذلك إلا
باجتماع الذكر والأنثى وعشرتهما. والثاني التعاون على تهيئة أسباب المطعم
والملبس ولتربية الولد [...] ثم ليس يكفيه الاجتماع مع الأهل والولد في
المنزل، بل لا يمكنه أن يعيش كذلك ما لم تجتمع طائفة كثيرة ليتكفل كل واحد
بصناعة [...] فلذلك امتنع عيش الإنسان وحده وحدثت الحاجة إلى
الاجتماع»(10).
أما الهدف من هذه الصناعات، فهو
تأسيس الحياة الاجتماعية أو ما تسميه نظرية الآداب السلطانية في التراث
الإسلامي: عمارة الأرض. يرى أحد الفقهاء الذين تميزوا في الآداب السلطانية،
وهو الأسدي صاحب كتاب (التيسير والاعتبار..) أن التاريخ البشري يشهد بـ
«أن جميع الأمم والملل وأصحاب الدول في سائر الأقاليم، كانوا يتحامون
التخريب ويحثون على العمارة التي هي علَّة التمدن والاجتماع. وآثارُهم
باقية في عمارة المدن والقرى [...] والإشارات والأعلام [...] والأسوار
والآثار وإجراء الأنهار وعقد القناطر والجسور والدور وعمارة القلاع والحصون
واستخراج المعادن واللآلئ والجواهر والمجاري والعيون. فهذا كان شأن الملوك
في القيام بما يقتضيه الحكم والصنائع من ظهور الآثار العظيمة
والمصانع»(11). ويحرص الغزالي على استعمال مصطلح العمارة والاستصلاح
(استصلاح أعيان الدنيا) للتأكيد على ذلك. وهنا تندرج فقهيات المصالح
المرسلة: فالحياة الاجتماعية تقوم على نظام تقني للجسد والعمل(*) (وهو
المشار إليه بالصنائع والمهن والحرف) لأجل استصلاح كل ما توفره الطبيعة من
مواد وكائنات؛ فـ «لا تحسن أرض من غير عمارة وفلاحة وتجارة، وموت وحياة،
وغنى وفقر، وملك وسياسة، وإمارة ووزارة. فالأمور منظومة ببعضها البعض»(12).
ومن جهة أخرى، تحتاج الحياة
الاجتماعية إلى نظام وأمن؛ فالاجتماع البشري وما يفرضه من تبادلات ومنافع،
يفضي إلى التنازع والاختلاف و»قوة المخاصمة» بتعبير الغزالي. وهذا يؤدي إلى
ظهور صناعات أخرى مرتبطة بنظام الدولة وما يؤمنه من سياسات أو تدابير
سياسية؛ كالصناعة المكلفة بالمساحة لحفظ الأملاك من التنازع والجندية
والقضاء والفقه ومعرفة القوانين؛ وهي صناعات تابعة للدولة أو هي وظائف لدى
الدولة تتطلب معايش أو رواتب تؤمنها الدولة من الضرائب والمكوس والأموال
العامة. وهذا يتطلب حسب الغزالي وجود بيت مال ووظائف خاصة به من جباية
وأمانة على المال ودواوين للتوثيق والضبط ونحو ذلك(13). كل ذلك، يتطلب وجود
سياسات عامة عديدة تحيط بالوجود البشري من نواح متعددة: هناك سياسة خاصة
بالجسد أو الظاهر تقوم على الإكراه البدني؛ وسياسة أخرى خاصة بالروح أو
النفس تقوم على الإلزام الأخلاقي وتوجيه الأفكار والمعتقدات والقناعات.
وهناك أيضاً سياسة تتعلق بالحياة الخاصة وأخرى بالحياة العامة. غير أن ما
يثير الانتباه في هذا السياق، هو أن الغزالي يعتبر هذه التدابير مفتاح
استمرار الحياة الاجتماعية وتوازناتها، وهي أربعة(14):
ــ سياسة أولى هي سياسة الأنبياء، وحكمها على العامة والخاصة، وعلى الجسد والنفس (الظاهر والباطن)، وهي أصل السياسات الأخرى.
ــ الثانية هي سياسة الملوك
والسلاطين والخلفاء. وهي تنصب على العامة من حيث الظاهر. حدودها الجسدُ ولا
يمكنها اختراقه إلى النفس. لذلك، فهي تعتمد الإكراه البدني بواسطة ما
سيسميه ابن خلدون «القوانين السياسية» في المقدمة. يورد القلعي في كتاب
(تهذيب الرياسة وترتيب السياسة) أن أردشير (أحد الملوك الساسانيين القدامى
الذين عرفوا بالحكمة السياسية) قال: «إنما أملك الأجساد لا النيات [...]
وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر»(15) . كما يورد قولاً لأحد حكام بني
أُمَيَّة (وهو عتبة بن أبي سفيان أخو معاوية) من ضمنه: «يا أهل مصر [...]
اعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم، فأصلحوا لنا ما ظهر نَكِلُكُم
إلى الله فيما بطن»(16) .
ــ الثالثة هي سياسة العلماء،
وحكمهم على الخاصة والباطن، أي الروح. والعامة لا يخضعون لهذه السياسة إلا
عبر وسطاء هم من يتولون السياسة الرابعة(**).
أصل هذه السياسات هو سياسة
الأنبياء التي تستند إلى الوحي. وبما أن النبوة قد توقفت، فقد آل مآل
التدبير السياسي إلى السلاطين والملوك الذين عليهم الاستناد إلى سياسة
العلماء والوعاظ. ويجب هنا أن نوضح أن العلاقة بين السياسة الدينية
والسياسة السلطانية أو الملوكية ظلت تُطرح بشكل ملتبس؛ فقد تمَّ تذويب
طابعها الإشكالي عبر تصريحات مثل: الدين والملك أخوان لا قوام لأحدهما إلا
بالآخر؛ أو: «الدين أس المملكة، والملك حارس الدين» (أردشير)؛ أو «الدين
بالمُلك يقوى، والملك بالدين يبقى. فبقاء الملك بظهور الدين، وظهور الدين
بقوة الملك»(17). غير أن ابن خلدون سيستعيد هذه العلاقة بين الدين والسياسة
وسيضفي عليها طابعاً تاريخياً وواقعياً كما سنرى فيما بعد. وخلاصة الأمر،
إن التدبير السياسي لدى الغزالي ضرورة من ضرورات الحياة داخل المجتمع. لكنه
ينبغي أن يستند إلى سلطة التدبير الشرعي أو الديني. لذلك، كان الدين جزءاً
أساسياً من تركيبة هذه الحياة الاجتماعية وأصلاً من أصول سياستها العامة.
لا يمكن اختزال الدين إلى هذا الاعتقاد أو ذاك أو إلى نوع معيَّن من
التشريعات الخاصة بطقوس العبادة ومسلكياتها وحدها. وإذا كان الغزالي يعتبر
الدين من حيث أصله (وهو الفطرة لدى الفقهاء) معاملة بين الرب والعبد، أو
علاقة مباشرة بين الإنسان والله، فإنه قد فطن إلى أن المنطق الاجتماعي
يحوله إلى مؤسسات إجتماعية ويجعل منه إحدى السلطات الأساسية داخل المجتمع
التي عليها أن تتوافق بشكل أو بآخر مع باقي السلطات الأخرى.
ومع اعتراف الغزالي بارتباط
الدين بالتدابير السياسية العامة للمجتمع، فهو يعتبر من ناحية ثانية
التنظيم السياسي للحياة الاجتماعية وقاعدته التقنية الجسدية شرطاً ضرورياً
لقيام الحياة الدينية بكل تفاصيلها. يقول في كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد):
أن «نظام الدين بالمعرفة والعبادة لا يُتوصل إليهما إلا بصحة البدن وبقاء
الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات والأمنُ هو آخر
الآفات [...] وليس يأمن الإنسان على روحه(***)، وماله ومسكنه وقوته في جميع
الأحوال، بل في بعضها. فلا ينتظم أمر الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه
المهمات الضرورية، وإلا فمن كان جميعَ أوقاته مستغرقاً بحراسة نفسه من سيوف
الظَّلَمة وطلب قوته من وجوه الغلبة، متى يتفرغ للعلم والعمل، وهما
وسيلتاه إلى سعادة الآخرة؟»(18). ويضيف ابن رضوان المالقي في هذا السياق:
«أعلم أن الدين لا يستقيم والشرع لا يحفظ إلا بالسلطان، فإن الدين إذا لم
يحرسه السلطان وتعضده الأئمة، لم يُؤْمَنْ على أحكامه التحريف والتبديل
وخيفَ على شرائعه التغيير والتحويل»(19).
…….. التتمة في العدد
الخميس سبتمبر 27, 2012 3:13 pm من طرف هذا الكتاب