** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 فلسفة التفكيك وخطاب الإكراهات قراءة في بلاغة الحدود عبد الغني بارة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
هذا الكتاب
فريق العمـــــل *****
هذا الكتاب


عدد الرسائل : 1296

الموقع : لب الكلمة
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3

فلسفة التفكيك وخطاب الإكراهات  قراءة في بلاغة الحدود  عبد الغني بارة Empty
27092012
مُساهمةفلسفة التفكيك وخطاب الإكراهات قراءة في بلاغة الحدود عبد الغني بارة

فلسفة التفكيك وخطاب الإكراهات

قراءة في بلاغة الحدود

عبد الغني بارة

عتبات القراءة:

إنّ التأويل، بوصفه فعالية
قرائية، هو تحرّر من المنهجية العلمية الصارمة، وتجاوز لحدود منطق المناهج
الدوغمائية، فهو لا يزعم الإحاطة بالنصّ فهمًا، فتلك مغالطة وغاية وهمية
ترسمها مناهج العلوم الإنسانية بدعوى علمنة النّقد وجعله أكثر علمية؛ وهي
إذ تفعل ذلك، تتبّع خطى المناهج العلمية التي تصف نفسها بـ «الصحيحة أو
الدقيقة»، وهو الوهم الأكبر. وهو بمثابة طموح زائف وانتحاري، يقلّل من شأن
العلوم الإنسانية أمام العلوم الصحيحة، ويقتل رغبة التأسيس المختلِف
والرؤية الغيرية، بل إنّ الفشل المتوهم للعلوم الإنسانية سببه عدم التمييز
بين الفهم في العلوم الإنسانية والفهم في العلوم الصحيحة، فبينما يلجأ عالم
الطبيعة أو الفيزيائي إلى التفسير العلمي لفهم الظواهر والوصول إلى
حقائقها التي يفترض أنّها موضوعية، مع ما في ذلك من إفراط كشفت النسبية
الحديثة في العلوم الفيزيائية والبيولوجيا عدم صحتها، فإنّ المفّكر في
العلوم الإنسانية يركب التأويل بُعدًا رؤيويًا وإجراءً منهجيًا لمحاولة
الفهم لا لبلوغ الحقيقة كما يُزعم. فالرأي عند فيلسوف هيـدلبرغ، هـانـز جيورغ غادامير،
أنّ ظاهرة الفهـم والتأويـل الصحيح لمـا هو قابل للفهم لا يشكّل عائقًا
خاصًا لقيام منهجية العلوم الإنسانية أو علوم الفكرSciences de l`esprit
كما يسمّيها(1).

فمشكلـة الهيرمينوطيقا، يضيف
غادامير، «تنجاوز حدود فكرة المنهج التي أرساها العلم الحديث، إذ إنّ ظاهرة
فهم وتأويل النصوص، لا ترتبط حتمًا بالعلم وحسب، بل هي تنهض في الأساس،
على تجربة الإنسان في هذا العالم. فالظاهرة الهيرمينوطيقية، في الأصل، ليست
مطلقًا قضية منهج. ومن ثمّ يصبح من غير الضروري، بداهةً، وضع منهج للفهم
العلمي، فالأمر لا يتعلّق هنا البتّة بتشييد معرفة يقينية غايتها بلوغ
الكمال المنهجي للعلم، وإنّما الذي يهمّنا هو المعرفة والحقيقة»(2). وعليه،
فإنّ المنهج، والقول لغادامير، هو نوع من التفكير الاستراتيجي الذي أسهم
في تعميق اغتراب الإنسان المعاصر، إذ بالرغم من أنّ فكرة المنهج التي
تطوّرت مع العلم الحديث وتبنتها العلوم الإنسانية لعلمنة آلياتها، في
محاولة لإخضاع هذا العالم للإنسان، إلاّ أنّها أدخلت الإنسان في اغتراب
مضاعف؛ إذ جعلته حبيس الأرقام والمعادلات. فالمنهج هو مجموعة من الأدوات
تفرضها الذات على الموضوع؛ وبذلك فإنّ الذات لا تفهم الموضوع كما هو في
حقيقته، وإنّما يتحوّل الفهم إلى تأويل للموضوع وَفق رؤية الذات، فيتحوّل
الفهم إلى سوء فهم (3).

هكذا، نصل مع غادامير إلى
القول، إنّ دعاوى العلمية/الموضوعية وهم من أوهام العقل الأداتي/المتعالي،
تقود صاحبها إلى وهم التّفسير والفهم؛ إذ يظن أنّه أحاط بالنصّ موضوع
التفسير، ولكنّه عبثًا يحاول، فالنصّ أبدًا مرتحل لا يسلّم نفسه، ليجد
المفسر نفسه، في المحصّلة، أمام نصّ التفسير لا النصّ المراد تفسيره.
«فالتأويل بما هو انتهاك للنصّ قد يؤول إلى التفكيك، وعندها يجري تجاوز
البحث عن المعنى للحفر في طبقات الخطاب وأبنيته، أو للقراءة في صمت الكلام
وفراغاته، بما يكشف عن آليات النصّ في إنتاج المعنى، أو إجراءاته في إقرار
الحقيقة، أو ألاعيبه في إخفاء ذاته وسلطته»(4).

لا ريبَ أنّ التأويلية بوصفها
فنًّا لتأويل النصوص، كما أسلفنا القول، لا تمتّ بصلة إلى نمط المعرفة أو
العلم، ولا حتّى مجرّد تقنية، فالعقل التأويلي لا يستقيم وجوده عقلاً
مختلفًا إلاّ وهو يتعاطى المعرفة/الحقيقة لا باعتبارها أصلاً أو حقيقةً
أولى يتمّ استدعاؤها أو يُرجى القبض عليها، بل هو بحث عن حقيقة/حقائق
متخيّلة غير قابلة للظهور أو التجسّد حقيقةً واقعًا فتُستنزف أو تُقتل
بحثًا واكتشافًا. إنّ الحقيقة التي يروم العقل التأويلي لقاءها، هي تلك
التي تعدّدت بفعل التحول والارتحال، إلى نصوص متداخلة أضاعت طريقها وفقدت
هويتها، وهي على ما هي عليه، تعبّر عن فكرة الهجرة/الارتحال كرؤية وجودية
ضاربة بجذورها في أعماق النفس البشرية، حيث يحقّق هذا الإنسان كينونته في
هذا العالم/الوجود، لا بوصفه كائنًا عارفًا وحسب، بل يتجاوز المعرفة إلى
التفكير/التأمّل، فالفهم/التأويل.

المنعرج التفكيكي للحداثة الغربية:

إنّ هذه الإستراتيجية التي يعمل
العقل الغربي وفقها لممارسة النقد/التفكيك على الدوام على ذاته من الداخل،
إنّما هي ضرب من التأويل، بما هو فهم ضمن أفق المساءلة، يجعل هذا العقل
يتفادى الوقوع في فخ الذاتية أو الموضوعية المحضة، وهو بمثابة إقرار منه
بسقطاته وشطحاته، وهو ما يحاول المفكر مطاع صفدي تحديده ضمن مشروع قراءته
لهذا العقل، أي «أن نقرأ نقده هو لأنظمته المعرفية ونتاجاته المتتابعة، ثمّ
تحولاته عنها وانزياحاته الانعطافية. وأن نقرأ نقده لنقده، وحداثة
المتناهي عندما تعفو آثار حداثة اللاّمتناهي، وصولاً إلى ساعة العقل
الأخيرة، عندما يواجه نفسه أخيرًا عاريًا من كلّ مخترعاته السّابقة،
متوازنًا ومتواضعًا، وعائدًا بيسر ولذّة إلى مواقعيته الأصلية في جسد فرد،
قبل أن يكون في رأس الـ إنسان»(5). فليس غريبًا، إذًا، على هذا العقل، في
رحلة شقائه، أن ينشئ مقولةً أو يضع مفهومًا ثمّ يزيحه مسلطًا عليه من يفوقه
تفلّتًا ويتجاوزه تقلّبًا، وكأنّي بهذا العقل يُخرج من داخله عقلاً
معاديًا يجاريه يُلغي بوجوده حضوره. وبدل أن يرضى الأوّل بهذا الواقع،
ويسلّم بالطبيعة النّقدية أو التأويلية التي تميّز عمله، ينبري مناهضًا
العقل المنتَج الذي أخرجه من صلبه، وهو، إذ ذاك، يعتقد بأنّ هناك إمكانًا
للعثور على ذاته في هذا العقل، وبينما هو في غمار هذا المنظور التسلّطي ذي
الطابع النرجسي يجد نفسه أسيرًا في سجن عقلانيته المتعالية تتلقّفه
الموضوعية حينًا وتتصيّده المشاريع الإيديولوجية والأفكار الطوباوية أحايين
أخرى.

هذا التحيّز لا يولّد إلاّ
تحيّزًا مضاعفًا، يتبدّى في شكل ما يُعرف بالمشاريع العدمية، باعتبارها
«حداثة بعدية» تصحّح مسار الحداثة التي تبقى، دائمًا وأبدًا، صوتَ العقل
الباطن وضميره القَلِقَ الذي يأبى الصمت ويرفض الظهور. فقوّة الحداثة،
إذًا، في ارتحالها وعدم القدرة على تقعيدها، وفي طابعها الإبداعي/الهروبي
الذي يسكنها، الذي به تتجاوز صفة الجمود/السكون التي تطاردها، ومعها تصير
مشروعًا بعديًا، وجملةَ بدائل تنزاح بها عن المعهود، وتُظهر بها ثوراتها
المتلاحقة، تجريبًا وخلخلةً، إعلانًا عن ميلاد البديل الفجائي، الذي يعدّ
تلك اللّحظة النقدية الملازمة للحداثة. أو بتعبير آخر، إنّه سؤال الحداثة
لنفسها ومراجعتها المستمرّة لمقولاتها، باعتبارها
مشروعًا/فهمًا/وجودًا/تأويلاً لم يكتمل، ورحلةً لمّا تنطلق، وحياةً لمّا
تنقضِ، ونصًّا يتفجّر، عبر مراودتها، نصوصًا من بعيد الزمان لمَّا تأتِ،
نصًّا يتحرّر من دلالاته التي أضحت عَقَبةً تقف حائلاً دون العودة إلى
الزمن الأوّل، حيث يوجد الدالّ الذي لمّا يجدْ مدلوله فبقي دالاً يتعدّد
بفعل التأويل دوالاً، ويتوالدُ نصوصًا متعددةً متداخلة لا تكاد تبين.

…….. التتمة في العدد

من الذاكرة الثقافية إلى الذاكرة التقنية

حسن المُصدّق

قبل استعراض أُسس وأنواع
الذاكرة التقنية، من الجدير الالتفات إلى الذاكرة ككل ودورها في صياغة
الوعي الإنساني، فهي في تعريفها المبسَّط وظيفة نفسية وعصبية قوامها القدرة
على استعادة حالة وجدانية مضت، بحيث يشتمل هذا المصطلح وظائف متعددة منها
تثبيت الصور وحفظ الأحداث من الضياع والنسيان، فضلاً عن استعادتها والتعرف
إليها عبر استحضارها وتحديد مكان وزمان وقوعها. وقد ميّز أرسطو بين الذِّكر
والتذكُّر، أي بين الذاكرة العفوية والتذكر الإرادي، فالأول يتّحد فيه
الماضي بالحاضر من غير تميّيز ويخضع لقوانين ترابط الصور، أما الثاني إرادي
يتميز فيه الماضي من الحاضر، ويتعرّف عليه على أنه شيء مضى نتذكره الآن.
لذلك تشمل الذاكرة العديد من ‏الأقسام الفرعية: الذاكرة العصبية، الذاكرة
الانفعالية، الذاكرة الدلالية، الذاكرة الجسمية، الذاكرة العائلية، الذاكرة
‏الموروثة، الذاكرة العفوية، الذاكرة النفسية، الذاكرة الوراثية، الذاكرة
الثقافية، وصولاً إلى الذاكرة التقنية والإلكترونية ‏أو الافتراضية.

بهذا المعنى، تكون الذاكرة
الثقافية وليدة ما هو موضوعي وذاتي في حركة النسق الحضاري الذي تنتمي إليه،
إنها ‏نتاج ما هو تاريخي في هذه الحركة على وجه التحديد، فالذاكرة
الثقافية تصبح مكان الاختزان الفعلي والحقيقي لحركة ‏التاريخ الحضاري في
حياة جماعة بشرية، بمعنى أنها حركة اتصال وتواصل بين ما هو واعٍ من وجودها
وما هو ‏غير واعٍ، بين ما هو راهن ومعاش وما هو في تعداد الماضي أو ما
اندثر. وبالتالي اخترعت هذه الذاكرة على الدوام ‏وسائط تعبيرية جسدتها عبر
عدد لا متناه من الأشكال الرمزية التي تشكل شاهداً مادياً أو مؤشراً زمنياً
على تاريخها ‏الوجودي.

والقصد من الذاكرة الثقافية تلك
المسيّطر عليها من قبل الأنا الجماعية التي تغذي الوعي وتصل الخلف بالسلف
بما ‏تختزنه من تدوين وقائع وأحداث يتم إيصالها عن طريق الرواية الشفهية
«القصص، الأسطورة، الحكاية، الخرافة..» ‏أو عن طريق النقوش والرسوم
والمجسّمات والتقاليد والعادات والطقوس. بيد أنه مع ظهور المطبعة أصبحت
الذاكرة ‏الثقافية تَخْتزل في الكتب والموسوعات جملة الإنتاج البشري
«الموسيقى، الفنون، الآداب، الفلسفة، الشعر، الاختراعات ‏والاكتشافات..»
لإيصال ما هو مختزن في الذاكرة الجماعية من جيلٍ إلى جيل. والحال أنه ثمّة
تغييراً كبيراً ‏ومتسارعاً في دور وأهمية اللغة الأبجدية في موجة
الرأسمالية الثالثة، بحيث ظهرت إلى جانبها لغة رقمية ووسائط ‏تعبيرية يمكن
الاصطلاح عليها بالذاكرة التقنية أو المعلوماتية «حاسوب، سينما، تلفزيون،
إنترنت، وسائط ‏متعددة..» تهدد الذاكرة البشرية بالوقوع كلّياً في قبضة
التقنية. بمعنى أن إسترجاع الأحاسيس والأفكار والأحداث ‏والإنتاجات إلى
سبورة الوعي، كما إعادة تشكيلها من جديد سوف تتحكم فيه أدوات الذاكرة
التقنيةـ وسائط الاتصال ‏الحديثةـ كلّياً.‏ ومن ثم ظهرت ذاكرة تقنية من أجل
تسجيل وحفظ وإعادة المعلومات، منها ذاكرة بصحائف، أسلاك وألياف ‏مغناطيسية
«ذات قدرة استيعابية وتحويلية ضخمة»، تختلف أشكالها وتتعدد طواقمها من
ذاكرة بقوالب طوقية، وليزرية ‏‏»ذاكرة بصرية»، وتخزينية «ذاكرة على شكل قرص
مغناطيسي»وتمريرية» تمر عبرها المعلومات على شكل ‏»تدفقات» ومُعنونة
«الوصول إلى كل معلومة مخزنة عبر عناوين وأبواب تصنيفية»، وذاكرة تجميعية
«من خصائصها ‏الوصول إلى المعلومات عبر محتواها المتشابه وليس عن طريق
عنوانها فحسب» والمستمرة «ذاكرة تحتفظ ‏بمعلوماتها باستمرار» وذاكرة خارجية
«الأشرطة الممغنطة، البطاقات المثقّبة، الأقراص الممغْنطة»، وذاكرة
افتراضية ‏‏»دائمة الحضور معلقة بين الخيال والواقع» وذاكرة فاعلة «يتغير
فيها موضع تخزين المعلومة» وذاكرة مركزية «‏تخزن فيها التعليمات والمعطيات
أثناء تنفيذ البرامج».

ولن نفهم مسار الأهمية التي
نوليها للذاكرة في الحياة البشرية، دون الإشارة إلى ما قام به العالم
الكبير داروين من رصد لتطور ‏الأنواع الذي أرشده إلى الانتباه إلى أهمية
الذاكرة البيولوجية، فالأبحاث الخاصة بتطور النوع أثبتت أن أي حيوان ‏حيّ
عبارة عن ربط بين ذاكرتين لا تواصل بينهما: الذاكرة الوراثي «البرنامج
الجيني» الخاص بالنوع أو الجنس ‏من جهة، والذاكرة العصبية الفردية من جهة
أخرى، حيث يعني الموت البيولوجي لأي حيوان اندثار ذاكرته الوراثية ‏ومعها
ذاكرته العصبية، حيث لا يمكن الحفاظ عليها ولا توريثها ولا خلق تراكم
بشأنها.‏ إن الذاكرة عموماً بهذه المواصفات هي حفظ لما اندثر من الماضي،
وحبْلُ اتصالٍ بما انقطع منه؛ لذا إن أدوات الذاكرة ‏التقنية المعاصرة هي
بمثابة امتداد لهذا الماضي واستشراف للمستقبل في آن، لأن أي أداة سواء كانت
كتابة، نقش، ‏أطلال… أو أدوات «صناعة الثقافة» الجديدة «الراديو والتلفاز،
السينما، الأقراص المدمجة والممغنطة…» أصبحت ‏تمرّ عبر ذاكرة تقنية
جديدة.‏ والقصد أن الذاكرة التقنية هي عبارة عن ذاكرة جديدة مضافة للذاكرة
الوراثية والذاكرة العصبية، إذا أخذنا بعين ‏الاعتبار أن الذاكرة الإنسانية
منذ اكتشافات داروين الكبيرة، أصبحت كناية عن ذاكرة وراثية تشمل تاريخ
صيرورة ‏أي نوع من الحيوانات لتحديد علاقته بأسلافه.

ومن هذا المنطلق إن جميع
الكائنات لها تاريخ عُرويّ، بحيث يفترض إذا كانت جميع ‏الحيوانات قد نشأت
من أصل واحد، فلا بد أن لها نسباً واحداً أو تاريخاً عروياً واحداً.
وبالتالي، إن الأنواع الحالية ‏هي أعلى الأغصان في شجرة النسب الضخمة التي
لم تعدْ فروعها الضخمة وجذعها الرئيسي، واضحةً بصورة ‏مباشرة. ولكي يمكن
إعادة بناء شجرة الحياة، من الضروري تحديدُ سلسلة تفرّعها وتشجّرها وسائر
أغصانها المختلفة. ‏غير أنه بالرغم من صعوبة المهمة، يبقى أن كل ما نعرفه
أن الإنسان يموت ويفنى، لكن عبقه يظلّ في الأرض ‏بفضل الذاكرة الثقافية
«الكتابة، النقوش، الرسوم…»، بحيث خلَّف أطلالاً ونصوصاً ورسوماً ونقوشاً
ومؤلفات تحظى ‏باهتمام من المؤرخين وعلماء الآثار والحفريات كرمز للعصور
الغابرة وشاهد عيان عنها.‏

وفي أُسِّ هذه البقايا والآثار
التي تعمل على إيصال محتويات الذاكرة الإنسانية، كانت الكتابة والنقوش
والتصوير ‏والنحت… لكن ما يهمنا اليوم هو حلول آلات التسجيل والسينما
والتلفزيون والنسخ والمسح الضوئي والأقراص ‏الممغنطة… التي غدت معها
الذاكرة ذاكرة صناعية واصطناعية بامتياز، حيث أصبحت التقنية بدورها جهازا
‏للذاكرة، أو بالأحرى تقنية مساعدة للذاكرة والتذكر «‏mnémo،technique‏».
إذ يكفي كتابة إسم برنامج أو كاتب ‏حتى يطّلع عليك في ثوان قائمة بكل ما
يتعلق به وبإنتاجه. هذا في الوقت الذي بإمكان التعرف بيسر على كثير من
‏الخدمات وعناوينها بهذه التقنيات المساعدة على التذكر. غير أن الأمر ليس
غريباً، لأن التقنية ظلّت دائماً في علاقة وطيدة مع كل الأنظمة
الاجتماعية التي عرفتها البشرية، ‏إذ انتظمت كل حضارة حول نظام تقني
يناسبها، بحيث يظل الحال كما هو عليه حتى يتغير النظام التقني السائد، ثم
‏تتغير معه القوالب والمعايير المصاحبة له إجتماعياً وسياسياً وإقتصادياً…
بل في الغالب نشاهد امتداد وانتشار ‏مخترعات النظام التقني جغرافياً
«غالباً ما تعمر المخترعات التقنية أكثر من أصحابها» في الزمن.‏

بهذا المعنى، غالباً ما يقطع أي
نظام تقني مراحلَ تحسين وتطور… بعد أن يدخل هو الآخر في أزمات دورية، ما
‏يفرض عليه إدخال تعديلات على الأنظمة الأخرى المصاحبة له في المجتمع
«قوانين، تربية، تدين، سياسة…»، لكنه ‏لا يعرف مستقراً أو مهاداً، بل إن كل
ما يعرفه من ثبات واستقرار من حين لآخر، يتم حين تتبناه برهةً من الزمن،
‏قطاعاتُ المجتمع الاقتصادية والسياسية والعمرانية والاجتماعية
والتربوية…‏ ومن يستقرئ التاريخ الحديث يجد أن النظام التقني الصناعي
الحالي وضع أول عناصره حيّز التنفيذ والخدمة في ‏بريطانيا نهاية القرن
الثامن عشر، ثم دخل بعدها في مرحلة يطبعها التجديد الدائم والانتشار الموسع
في جميع أنحاء العالم. ‏الأمر الذي يدفعنا اليوم إلى الإقرار بأنه لا يمكن
أن نتحدث عن أنظمة تقنية إسلامية، مسيحية، أسيوية، أوربية، ‏عربية أو
أمريكية… فليس هناك شيء من هذا القبيل في التقنية، بل ثمَّة نظام تقني واحد
في الكوكب كله.‏ والواقع أن تقنيات الإعلام والتواصل هي من سمحت بهذا
التطور والانتشار الواسع، بعد أن استطاعت ضمان تنقل ‏الرأسمال المادي
والرمزي في وقت قياسي وفتحت أمامه أسواقاً قاريةً مع توفر إمكانية مراقبة
الإنتاج والتأكد من ‏التوزيع والتحكم في الأَتْمَتَة «الآلية». بحيث أصبحت
لأول مرة في صلب كل أنظمة الإنتاج المادي والرمزي على ‏حد سواء، فهي الآن
تجمع بين نظام تقني يشتغل على تحويل المادة من جهة، وعلى الذاكرة البشرية
من جهة أخرى.‏

وفي هذا الإطار يضيف الفيلسوف الألماني هانس جوناس:
«أثبتت التجربة بأن التطورات التي تعلن في كل مرة في ‏الفعل التكنولوجي من
أجل تحقيق أهداف على المدى القصير، تتجه نحو أن تصبح مستقلة، بمعنى حصولها
على ‏ديناميتها الخاصة والقسرية [...] وكل ما يتم البدء فيه، غالباً ما
ينزع منا مبادرة أي فعل [...]، وحتى إذا تيسر «‏التحكم في زمام الأمور
[...] فإن ذلك يَنفلِت من أيدينا، لأن هذا التطور يتقمص دوافعه، بل إنه
أكثر من ذلك، يغدو ‏قوة جبارة مبثوثة في كل مكان. فإذا كانت الخطوة الأولى
خاضعة لحريتنا، فإننا نتحول في الخطوة الثانية إلى عبيد ‏لهذا التطور مع كل
ما يتبع ذلك. إن ملاحظة تسارع التطور الذي يتغذى بواسطة التقنية لا يترك
الوقت لتصحيح ‏فوري، بل إن ما يضاف إليه لاحقاً [...] يجعل التصحيح والحرية
أكثر صعوبة، ويتقلصان باستمرار. مما يقوي ‏ضرورة الحذر من البداية: وأن
نولي الأسبقية إلى إمكانية أن تحدث آلام…»

وبالتالي يمكن تأويل هذا
التحذير الوارد بالإشارة إلى نص آخر لا يقل أهمية: «طوال قرن من الزمن عكفت
‏الإنسانية على تجربة قوامُها الفرضيةُ التالية: الآلة يمكن أن تقوم مقام
العبد (قديماً). أي أن الأداة التقنية في الظاهر، ‏وهي تُستخدم لهذه الغاية
جعلت في الأخير الإنسان عبداً لها [...] فالإنسان بحاجة إلى أداة يعمل
بمعيتها، وليس ‏بحاجة إلى عُدّة آلية تعمل بَدَلَهُ. فهو يحتاج إلى
تكنولوجيا تستفيد من طاقته وخياله الشخصيين، وليس من تكنولوجيا ‏تستعبده
وتبرمجه». كما يدين عالم اللاهوت إيفان إليش في كتابه
الشهير (فقدان المعنى) غلبة التكنولوجيا على شرط الوجود الإنساني الحالي،
‏حيت توالت الإهانة عليه تلو الأخرى بعد أن جعلت التقنية منه أداة لتطورها.
وبالتالي يكمن مبعث هذا التخوف في ‏تحكم تقنيات التواصل في العلاقات بين
الأفراد والجماعات من جهة، وما تمارسه من تحكم في مختلف الأنظمة التي ‏تنظم
هذه الجماعات من جهة أخرى. الأمر الذي يوفر لها إمكانية توجيه الإنسان
بتحكمها في علاقته بالزمن والمكان، ‏إن لم تستحوذ عليه وتنظم إيقاع حياته.‏

وكيفما كان الموقف من تطور
العلم والتقنية، فالجدير بالمعاينة أن الذاكرة التقنية هي وحدها اليوم، من
تفتح آفاقاً رحبة ‏أمام مجال نقل أي تجربة فردية خارج نطاق حياة الفرد ذاته
باعتبارها مستوىً ثالثاً جديداً يُضاف للذاكرة الوراثية ‏الخاصة بالنوع
«السلالة البشرية» والذاكرة العصبية الخاصة بالفرد. إذ أن استعمال الذاكرة
التقنية بوصفها ركائز ‏معطياتٍ وبياناتٍ وبنوكَ معلوماتٍ من جهة، وأدوات
اتصال من جهة أخرى، تمكّننا من وراثة تجارب الآخرين ‏وجعلها من صميم
ماضينا، على الرغم من أننا لم نعش هذا الماضي.‏ والأداة التقنية بهذا
المعنى يمكن اعتبارها ذاكرةَ استشرافٍ، لأن من شأن تبني الماضي استطلاع
المستقبل. كما إن هذا ‏التبني هو في نفس الوقت (استبطان
‏intériorisation‏) و(إخراج ‏extériorisation‏) يحفظ الانسجام والتوازن بين ما هو نفسي وما هو جماعي بفعل الذاكرة الإنسانية.‏

والحال أن ذلك أشبه بما حدث
البارحة مع ظهور الكتابة واكتشاف آلة الطباعة، حيث استطاع الإنسان على
المستوى ‏الأنثربولوجي تشكيل ذاكرته الثقافية والرمزية كي يضمن التواصل بين
الأجيال والشعوب والثقافات، بيد أن من شأن ‏طغيان التقنية في الحياة
المعاصرة، استبداد ذاكرة التقنية بالذاكرة الذهنية لدى الإنسان الذي بدأ
يلوح بشدةٍ في الأفق، ‏على نحو ما وصفه الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر
في بداية الثلاثينات اكتمال مشروع الميتافيزيقا على يد التقنية ‏وتحولها
إلى ميتافيزيقا مكتملة.‏ وهو ما رصده كالتالي: «تمثل روسيا والولايات
المتحدة الأمريكية من الناحية الميتافيزيقية الشيء نفسه، ‏نظراً لكونهما
يعرفان نفس حمى التقنية المدمرة المنفلتة العقال والمنظمة لحياة الإنسان
العادي بدون جذور. هذا في ‏وقت تم إخضاع آخر نقطة في الكوكب الأرضي لهيمنة
التقنية وأصبح بالإمكان إستغلالها إقتصادياً، حيث إمكانية ‏حدوث أي شيء
نريد، أصبح متاحاً في أي مكان نريد، وفي أي وقت نريد، وبأي سرعة نريد. ذلك
أنه يمكن أن ‏نعيش في نفس الوقت جريمة قتل ضد ملك فرنسا ومشاهدة حفل
سمفونية في طوكيو، بعد أن تم اختزال الزمن في ‏سرعة تلقائية ومتتابعة».
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

فلسفة التفكيك وخطاب الإكراهات قراءة في بلاغة الحدود عبد الغني بارة :: تعاليق

.
 

فلسفة التفكيك وخطاب الإكراهات قراءة في بلاغة الحدود عبد الغني بارة

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» قراءة في كتاب: "الإسلاميون بين الثورة والدولة: إشكالية إنتاج النموذج وبناء الخطاب" عبد الغني ع
» قراءة في كتاب: "الإسلاميون بين الثورة والدولة: إشكالية إنتاج النموذج وبناء الخطاب" عبد الغني عماد
» حفلة التيس: قراءة في فلسفة الطغيان وتهافت الدولة العسكرية
» ناصيف نصّار من فلسفة الوجود التاريخي إلى فلسفة المعنى
» بلاغة المفردة القرآنية

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: