يرى
الإنسان أثناء حياته أنّ لكلّ شيء بداية ونهاية، لذلك من الطبيعي أن يطرح
سؤال: من خلق المادّة؟ وتتمّ الإجابة عن هذا السؤال، حسب أسس المعسكرين
"المادّي والمثالي" لذلك لابدّ من توضيح بسيط لكِليهما .
المذهب المادّي:يجمع
جميع الفلاسفة المادّيين، على أنّ الأشياء والظواهر المادّية التي تحيط
بنا توجد بذاتها، أي خارج وعينا، فالأرض والأنهار والبحار..... الخ، ذات
وجود مستقل عن الإنسان ووعيه.
المذهب المثالي:فلاسفة هذا المذهب يجمعون على أنّ العالم المحيط، وجميع الأشياء والظواهر الماديّة
وليدة الوعي، أي أن الفكرة -الله- هي التي أنجبت جميع الظواهر الماديّة .
مما سبق، نجد أن الفلاسفة المادّيين يقرّون بحتمية وجود المادّة التي
يتولّد عنها الفكر والوعي، أي أن الوعي هو انعكاس للمادة، على عكس فلاسفة
المذهب المثالي، الذين يقرّون بأن المادّة ليست سوى انعكاس للوعي .
فالمادّة حسب (باركلي)
1هي أشياء موجودة لأننا نراها ونلمسها، أي نحسّ بها، غير أن هذه الأحاسيس
ليست سوى أفكار نحملها في أذهاننا، والأفكار لا يمكنها أن توجد خارج
أذهاننا.
بعد هذا الشرح البسيط للاختلاف بين المذهبين، نعود لطرح السؤال: من خلق المادّة؟
وتتمّ الإجابة عنه من خلال الإسقاطات العملية لكلا المذهبين.
لنبدأ بالمذهب المثالي، بصورته الدينيّة المتمثّلة بالأديان السماويّة (اليهوديّة-المسيحيّة-الإسلام)
الديانة اليهوديّة و فكرة نشوء الكون:تقول قصّة الخلق التوراتية أنّ الربّ العبراني، بعد أن قضى على فوضى الماء
أوالغمر البدائيّ الذي كان أول موجودات الوجود، كان المحيط أزلياً مظلماً،
مثلّته التوراة بوحش خرافي أسمته (لوياثان) وهو تنّين له رؤوس متعددة، قام
الرب بشقّه إلى نصفين صنع منهما السماء والأرض، وقد استغرقت هذه العملية
التصنيعيّة ستّة أيام، استراح بعدها الإله من عناء عمله على عرشه في اليوم
السابع
2، وفيما يلي عرض للنصوص التوراتيّة:
{أنت شققت البحر بقوّتك، كسرت رؤوس التنانين على المياه، أنت رضضت رؤوس لوياثان}
3 {استيقظي البسي قوّة يا ذراع الربّ، ....ألست أنت القاطعة رهب، الطاعنة التنّين، ألست أنت المنشفة البحر مياه الغمر العظيم}
4{وكانت
الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح اله يرفّ على وجه المياه،
....... وقال الله ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلاً بين مياه ومياه،
فعمل الله الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد والتي فوق الجلد، وكان
ذلك، ودعا الله الجلد سماء}
5نرى في هذه القصّة الغريبة للخلق، أنّ مادة الخلق الأساسّية (الماء)
كانت موجودة منذ الأزل، وأنّ الله لم يقم بخلقها من العدم، بل وضع مهاراته
الهندسيّة في بناء الكون من هذه المادّة، لذلك لا عجب عندما يقوم
الماسونيون
6 بدعوة الله: المهندس الأعظم للكون!
ومنه نستنتج أنّ المادّة أزليّة.
الديانة الإسلاميّة وفكرة نشوء الكون:تقول
النظريّة الإسلاميّة في الخلق، أنّ أوّل خلق الله تعالى هو القلم، قال له
اكتب، فجرى في تلك السّاعة بما هو كائن. ثم خلق الغمام، فسأل " أبو رزين
العقيلي
7:
"أين كان ربّنا قبل أن يخلق الخلق؟ فقال: في غمام ما تحته هواء وما فوقه
هواء، ثم خلق عرشه على الماء، أي الغمام وذلك حسب الآيّة: {هل ينظرون إلا
أن يأتيهم الله في ظللٍ من الغمام}
8.
مما سبق نلاحظ أنّ الماء كان موجوداً قبل أن يخلق الله أيّ شيّء
(القلم...الخ)، أي أنّه عندما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخاناً،
فارتفع فوق الماء فسما عليه، فسمّاه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضاً
واحدةً، ثم فتقها فجعلها سبع أراضين. فخلق الأرض على الحوت والحوت النون
الذي ذكر في القرآن {ن والقلم..}، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة،
والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح. وهي الصخرة التي
ذكرها لقمان " ليست في الأرض ولا في السماء، فتحرك الحوت، فاضطربت وتزلزلت
الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرت، والجبال تفخر على الأرض. وهذه بعض
الشواهد من القرآن على ما سبق:
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات}
9{وهو الذي خلق السموات والأرض في ستّة أيام وكان عرشه على الماء}
10{وجعلنا من الماء كل شيّء حيّ أفلا يؤمنون}
11وكما نرى فالتقارب واضح بين الروايتين من حيث الفكرة، وهي الإجماع على
أن الخالق قد خلق الكون من الماء، وهي مادّة الخلق الأولى، مع وجود بعض
التحفظ من قبل رواية القرآن بعدم التوضيح أكان الماء موجوداً قبل البدء
بالخلق أم أنّ الله هو الذي خلقه !
والآن بعد أن تم إيضاح فكرة الخلق كما وردت في الكتب السماوية، سوف
ننتقل إلى القسم الآخر من الإجابة، وهي الإسقاطات العملية للمذهب المادّي .
الماركسيّة وفكرة نشوء الكون:مما
سبق ذكره، نجد أن الماديّين يؤكدون أن هناك صلة محددة بين الوجود والفكر،
بين المادّة والذهن، أيّ أنّ الوجود والمادّة هما الحقيقة الأولى، والذهن
هو الحقيقة الثانيّة، والتي بدورها تخضع للمادّة .
هذا يعني أن الذهن
أو(الله) ليس هو خالق الكون والمادّة -الإله الذي تتحدث عنه الكتب
السماويّة ومعظم فلاسفة المذهب المثاليّ- لكن الكون والمادّة والطبيعة هي
التي تخلق الذهن، والذهن ليس سوى نتاج المادّة الأعلى
12.
وهذا يأخذنا إلى نتيجة، أنّ الوجود والمادّة هي أشياء واقعيّة، أشياء
موجودة خارج فكرنا وليست بحاجة للفكر أوللذهن حتى توجد، كما أن الذهن لا
يمكن أن يوجد بدون مادّة، فليس هناك نفس خالدة منفصلة عن الجسد.
وكما
تعلّمنا في المراحل الدراسيّة وصولاً إلى الدراسات الأكاديميّة، فالمادّة
تبعاً لقانون مصونية الطّاقة الذي طرحه العالم الفرنسّي (لافوازيه):
"لا تخلق من العدم ولا تفنى بل تتحوّل من شكل إلى آخر" وكما يتضح من متن القانون فالمادّة أزليّة.
وأنا
أعتقد أنّ هذا القانون ما زال مثبتاً حتى ساعة كتابة هذه السطور. وبالرغم
من التطوّر الكبير الذي لحق بكافة العلوم، والوصول إلى أصغر مكونات
المادة: الذرة ووصولاً إلى نواتها وإلى أصغر مكوناتها، لم يثبت إمكانيّة
فناء المادّة .
حتى أفلاطون وهو من كبار الفلاسفة المثاليين لم يستطع
تصوّر خلق المادّة من العدم، "إنّ المادّة بقدمها، وإنّ الله خلق لها
الصورة فقط، حيث كانت لا شكل لها ولا صفة"
13.
وردّاً
على أفلاطون وأرسطو بالنسبة للصورة بأنها خالدة والمادّة هي الفانية يقول
ابن رشد: "كيف يعقل أن المادّة التي تشكّل مع الصورة وحدة عضوية، تفنى،
بينما الصورة تبقى! فإذا كانت المادّة فانية، فالصورة هي الأخرى فانية.
كيف يعقل أن الكائنات الماديّة تستمد صورها من واقع غير مادي".
ويصل ابن رشد إلى الخلاصة التالية: "إنّ سرّ الصورة يجب البحث عنه في المادّة نفسها"
والآن من أجل توضيح وتصحيح الخطأ الذي ورد في المقال العلمي (التلسكوب)
و تبعاً لما تقدم، سوف أوضح الحقيقة العلميّة التي استند عليها كاتب
المقال وهي (التمدّد الكوني)
التمدّد الكوني:إن
نظريّة التمدّد الكوني أبصرت النور على يد العالم الفلكيّ الأميركي (إدوين
هابل) وذلك من خلال رصده لعدد من النجوم بواسطة تلسكوبه، فقد اكتشف أنّ
النجوم تصدر انزياحاً أحمر يعتمد على بعدها عن الأرض، واعتمد هابل على
النظريّة الفيزيائيّة التي تقول: إنّ أطياف الأشعّة الضوئيّة المتّجهة نحو
نقطة الرصد، تميل نحو اللون البنفسجي، في حين أنّ أطياف الأشعّة الضوئيّة
المتّجهة بعيداً عن نقطة الرصد تميل نحو اللون الأحمر.
وفي هذا الاكتشاف، وجد المعادون للفكر المادّي ضالّتهم، من خلال اعتبار تمدّد الكون، إثباتاً لفناءه، وأنّ الكون خلق من العدم!
وقد
قمت بدراسة هذا الاكتشاف أكثر من مرّة، لكني لم أجد أي علاقة بين النتيجة
التي توصلّوا إليها -فناء الكون- وبين تمدّده ، وهل يوجد من ينكر هذا
الاكتشاف من الوسط المادّي! بل على العكس، هذا برأيي دليل دامغ على صحّة
النظريّة الماديّة الديالكتية التي تقرّ بأنّ المادّة دائمة الحركة.
أمّا
في حال كانوا يظنّون أنّ التمدّد الحاصل في الكون هو نتيجة تولّد المادّة
من العدم فهذا ليس له أيّ أساس من الصحّة، وذلك في حال اعتمدنا نظريّة
الانفجار العظيم، الذي تمخضّ عنه الكون. وهي عبارة عن نقطة تركّزت فيها كل
المادّة المكوّنة للكون، وهنا يجب أن يتم التسليم بأنّ هذه النقطة التي
تحتوي على المادّة المكوّنة للكون ليست بمادة، وأن المادّة نشأت بعد أن
تمّ الانفجار العظيم، أي أنّ المادّة خلقت من العدم!
المادّة هي كل جسم
أو جسيم، ينطوي حتما على (فضاء)، ويحيط به حتماً (فضاء). ولم تأت الفيزياء
حتى الآن، ولن تأتي أبداً، بما يقدّم الدليل الملموس على غير ذلك، أو على
نقيضه .
إن الكون الذي يقولون بتوسّعه وتمدّده إنمّا هو جزء، وجزء في
منتهى الضآلة، من الكون، الذي يشتمل على كل شيء نعرف، أو يمكن أن نعرف.
وإن هذا الجزء أو ذاك من (الكون) يمكن أن ينشأ ويولد بقوة انفجار، ومن
نقطة ضئيلة الحجم ويتركز فيها مقدار هائل من المادة، على أن يفهم ذاك
الانفجار وهذه النقطة بما يتفِق كل الاتفاق مع قانون "المادة لا تخلق من
العدم ولا تفنى"
14.
"إن الفلاسفة لم يفعلوا سوى تفسير العالم بطرق مختلفة"
كارل ماركس
المراجع:
- باركلي: جورج باركلي (1685- 1753)، فيلسوف انكليزي، أسقف ومبشّر في أمريكا. [عودة إلى النص]
- مدخل إلى فهم الميثولوجيا التوراتية: سيد محمود القمني. [عودة إلى النص]
- مزمور 74. [عودة إلى النص]
- أشعيا 51-9، 10. [عودة إلى النص]
- تكوين 1-2، 8. [عودة إلى النص]
- الماسونيّة:منظمة سرية يهودية43 م. [عودة إلى النص]
- الكامل في التاريخ: لابن الأثير. [عودة إلى النص]