بقلم : . . جاد الكريم الجباعي
قراءة في كتاب "المسألة اليهودية" لكارل ماركس جاد الكريم الجباعي تحتاج كل ثورة اجتماعية أو سياسية إلى ثورة فكرية تمهد لها وتواكبها،
وتفتح لها آفاقاً جديدة. والثورة الفكرية تبدأ بتحرير الفكر من الأطر
والأنساق الكبرى السائدة والمهيمنة، في زمان ومكان معينين، وتحرير طاقته
النقدية، للخروج من حالة "القصور الذاتي" التي وصفها عمانويل كانط، وعدها
مدخلاً ضرورياً للاستنارة أو التنوير.
كتاب "المسألة اليهودية" مثال واحد من الأمثلة الأكثر دلالة على
التحرر الفكري، فإن كارل ماركس كان أكثر الهيغليين الشباب تحرراً من
المنظومة الهيغلية وقدرة على تجاوزها جدلياً. وما ذلك إلا لأنه كان شديد
الوفاء للتقاليد الفكرية لعصر النهضة والتنوير، وشديد الوفاء لمبدأ
التنوير خاصة. ومبدأ التنوير، حسب كانط، هو أن يفكر كل فرد بعقله هو. هذا
المبدأ مستند، على الأرجح إلى المبدأ الديكارتي القائل: العقل أعدل
الأشياء قسمة بين الناس، فما من أحد إلا قد أوتي كفايته منه.
هذا الكتاب درس نتعلم منه التحرر الفكري أولاً، وموضوعه لا يزال
راهناً في بلادنا، أعني نقد الشروط والأحكام المسبقة غير السياسية للدولة،
للكشف عن خصائص الدولة الحديثة، التي يسميها ماركس "
دولة سياسية"
وعلاقتها بمواطنيها وعلاقتهم بها، واقترانها بالمجتمع المدني، الذي وصفه
بعضهم بأنه "أعمال خاصة ووظائف عامة"، واقترانه بها. وإذا استعملنا منهج
ماركس الجدلي نقول: المجتمع المدني والدولة حدان في "كلية عينة" أو "وحدة
تناقضية"، لا يقوم أي منهما إلا بالآخر ولا ينتفي إلا بانتفائه ...
ولا يخفى على من اطلع على كتابات ماركس أنها كتابات نقدية: نقد
الأيديولوجية الألمانية، العائلة المقدسة، نقد فلسفة الحق عند هيغل نقد
الاقتصاد السياسي ... أي إن ماركس أعاد للفكر النظري وظيفته النقدية
وطابعه المستقبلي وصلته بالواقع. ربما كانت ميزة ماركس الأساسية أنه ينطلق
من الواقع، أي من ظاهرة واقعية محددة، ثم يقوم بتحليلها وكشف منطقها
الداخلي وتعارضاتها أو تناقضاتها الملازمة وميول تطورها وما يمكن أن تفضي
إليه. كتاب رأس المال الذي يعد إنجاز ماركس الأهم ينطلق من ظاهرة التوسع
في إنتاج السلع وتبادلها وتوسع السوق حيث تقف السلعة تحت قنديل التبادل
حاملة قيمتها فتبدو السوق علاقات بين سلع مختلفة تطغى على العلاقات بين
البشر، فتصير العلاقات بين الأشياء علاقات اجتماعية والعلاقات الاجتماعية
علاقات شيئية ..
في هذا الكتاب يعالج ماركس ظاهرة اجتماعية سياسية تاريخية، هي انقسام
المجتمع على نفسه انقساماً عمودياً، وتحول العلاقات الدينية أو المذهبية
إلى علاقات سياسية تتجلى في انحياز الدولة إلى دين الأكثرية واصطباغها
بصبغة هذا الدين في نظر مواطنيها المسيحيين واليهود. العلاقة بين اليهودية
والمسيحية، ومن ثم بين اليهود والمسيحيين تغدو علاقة سياسية، الدولة تمثل
المسيحيين لأنهم الأكثرية، اليهود يشعرون بأنهم غرباء عنها وغرباء فيها،
مع أنها تعترف بوجودهم بصفتهم يهوداً، وتعترف بحقهم في ممارسة عباداتهم
وشعائرهم، ولكنها لا تعترف بتساويهم مع المسيحيين في الحقوق.
ولكن لماذا المسالة اليهودية دون غيرها من المسائل؟ لماذا ليست مسألة
الكاثوليك والبروتستانت والإنجيليين والأرثوذكس وغيرها من المذاهب
المسيحية المختلفة التي كانت العنوان الرئيس للحروب الدينية؟ لأن اليهودية
في نظر ماركس، ديانة عملية نفعية تشجع الأنانية والجشع والتجارة والربا،
فضلاً عن كونها حصرية مجافية للأغيار أو الغوييم، ديانة شعب اختاره الله
على أنه شعبه. فرأى ماركس أن اليهودية هي الدين العملي للرأسمالية،
والمسيحية هي تتمتها الروحية أو المثالية. اليهودية في نظره هي منطق
المجتمع المدني البورجوازي.
في هذا الكتاب وفي غيره من كتابات ماركس الباكرة نظرة موضوعية إلى
الدين. كل دين هو دين في الدنيا وفي التاريخ، لا في السماء وعالم الغيب.
وجد الدين من أجل الإنسان، ولم يوجد الإنسان من أجل الدين. منطق الدين
يقول: إن الله خلق الإنس والجن ليعبدوه، أي إن العبادة هي علة وجود
الإنسان وغايته. أما منطق التاريخ فيقول: إن الإنسان أنتج الدين لتنظيم
حياته الاجتماعية وتحديد ما هو خير وما هو شر ما هو ظلم وما هو عدل ما هو
حق وما هو باطل وما هو حلال وما هو حرام. وما دام الدين من إنتاج الإنسان
فثمة روح إنساني في الدين لم يهمله ماركس. بل أكد أن ما هو إنساني في
الدين قابل للتحقق في الدنيا.
ثمة إذن مسألة يهودية تحتاج إلى حل، هي مسألة جزء من المجتمع يشعر
بالغربة عن المجتمع والدولة ويعاني من التمييز والاضطهاد واهتضام الحقوق.
ومن المعروف أن حل أي مسألة من هذا النوع يتوقف على كيفية النظر إليها
وفهمها وعلى زاوية النظر وموقع من ينظر. تجدر الإشارة إلى أن هذه المسألة
ما كان يمكن أن تطرح وينشغل بها الفلاسفة والحقوقيون والسياسيون لولا جملة
من التحولات البنيوية الجذرية في شمالي أوروبا ووسطها، تحولات أدت إلى
نشوء الدولة السياسية، في جوار ألمانيا وبعيداً عنها، فكشفت للألمان
تأخرهم.
انطلق برونو باور من فهمه للمسألة على أنها (مسألة دينية)، فالتناقض
في نظره هو بين المسيحية واليهودية، وهو تناقض متوتر، ولكنه يستعصي على
الحل، بل يبدو حله مستحيلاً إلا إذا تخلى اليهود عن يهوديتهم والمسيحيون
عن مسيحيتهم، فذهب إلى ضرورة نفي الدين. هذا التصور للمسألة وطريقة حلها
مرتبط بتقليد فلسفي ألماني على درجة كبيرة من الأهمية، أعني نقد الدين
فلسفياً.
ومعروف أن الأخوين باور، وشتروس، وفويرباخ، وفرويد وغيرهم، وقبلهم
اسبينوزا ... نقدوا الدين بوجه عام والمسيحية بوجه خاص وشاعت كتب تحمل
عناوين "نقد الأناجيل" و"جوهر الدين" و"جوهر المسيحية" وغيرها كثير، وكان
لفويرباخ إسهامه المميز في نقد الدين من وجهة نظر مادية، ما دفع ماركس إلى
القول: إن نقد الدين قد أنجز في ألمانيا. واعتبر في "الأيديولوجية
الألمانية" أن نقد الدين مدخل إلى نقد السياسة، ونقد السماء مدخل إلى نقد
الأرض، وأن الدولة هي "سماء الشعب" وأن إعادتها إلى الشعب تحتاج إلى كفاح
طويل.
بخلاف باور، نظر ماركس إلى المسألة اليهودية على أنها مسألة اجتماعية
سياسية، في العالم وفي التاريخ، أي إنها مسألة دنيوية وتاريخية، لا مسألة
دينية أو لاهوتية، وأن حلها لا يكون بنفي الدين أو حذفه، لأنه لا يمكن حذف
الدين إلا بانتفاء الشروط التاريخية التي أنتجته، ولا تزال تعيد إنتاجه.
الدين ظاهرة تاريخية، كأي ظاهرة تاريخية أخرى لا تزول إلا بزوال أسبابها
والشروط التي أنتجتها وتعيد إنتاجها.
استغلال الإنسان للإنسان، في نظر ماركس، هو أحد هذه الأسباب. احذفوا
الاستغلال ينتفي الدين من تلقاء ذاته لانتفاء مبررات وجوده وأسبابه. لكن
المسألة أعمق من ذلك وأكثر تعقيداً، حتى في نظر ماركس نفسه؛ إنها تتعلق
باغتراب الإنسان عن ناتج عمله، المادي والفكري على السواء، فيتحول هذا
الأخير إلى سلطة عليا تقيد حرية من أنتجها، بل إنها تعيد إنتاجه. وهذا أمر
في غاية الأهمية، عالجه ماركس في مخطوطات 1844 الفلسفية والاقتصادية، وفي
مسودات كتاب رأس المال (الغراوندريسا) ثم في الكتابين الأول والثاني في
رأس المال تحت عناوين الاغتراب والتشيؤ وصنمية السلعة .. إلخ.
المسألة إذن مسألة اجتماعية سياسية، تتعلق بتأخر المجتمع الألماني
ونقص تطوره الرأسمالي وبطء سيرورة تحوله إلى مجتمع مدني حديث، قياساً
بتطور إنكلترا وفرنسا، وتتعلق من ثم بنقص الدولة، وكونها تناقضاً في ذاتها
بين عموميتها النظرية، بصفتها دولة، وجزئيتها الواقعية، بصفتها مسيحية. أي
إنها دولة جزء من المجتمع، بغض النظر عن حجم هذا الجزء، لا دولة المجتمع
كله. وأن جزئيتها هذه التي تجعلها تميز المسيحيين على اليهود هي ذاتها
التي تجعلها تميز مسيحيين على مسيحيين، أي إنها
دولة امتيازات لا دولة حقوق متساوية.
يطالب اليهود الألمان بالتحرر، فبأي تحرر يطالبون؟ التحرر كمواطنين، التحرر السياسي.
يجيبهم برونو باور (1): ليس ثمة من هو متحرر سياسيا في ألمانيا. نحن
أنفسنا لسنا أحراراً، فكيف نستطيع تحريركم؟ أنتم اليهود أنانيون. حين
تطالبون لأنفسكم كيهود بانعتاق خاص، عليكم أن تعملوا كألمان من أجل انعتاق
ألمانيا السياسي، وكبشر من أجل الانعتاق البشري. ألا تشعرون أن النوع
الخاص لاضطهادكم وذُلِّكم ليس استثناء عن القاعدة وإنما هو تأكيد لها.
أم ترى أن اليهود يطالبون بالمساواة مع أبناء الرعية المسيحيين؟ إذا
كان الأمر كذلك فإنهم يعترفون بشرعية الدولة المسيحية، وطبقا لذلك بسلطة
الاستعباد العام. لماذا يستهجنون نيرهم الخاص إذا كان النير العام يعجبهم!
لماذا ينبغي للألماني أن يهتم بتحرِر اليهود إذا كان اليهودي لا يهتم
بتحرير الألماني؟
بهذه الأسئلة يحدد ماركس الإشكالية هل هي دينية أم سياسية، تحرر ديني
أم تحرر سياسي، ما الذي يريده اليهود وما الذي يمكن تحقيقه، وكيف؟ النص
ينتقد رؤية باور للمسألة اليهودية على أنها مسألة دينية وأن الانعتاق
المطلوب هو الانعتاق من الدين، ويقارن بين الدولة المسيحية (الدينية)
والدولة السياسية، التي نسميها الدولة الوطنية أو القومية ولا فرق، ويحدد
من ثم شروط الانعتاق السياسي، التي يمكن أن تجعل من المسيحي مسيحياً
ومواطناً ومن اليهودي يهودياً ومواطناً، فالحل لا يقتضي إلغاء الدين بل
إلغاء الامتيازات على اختلافها.
"الدولة المسيحية لا تعرف إلا الامتيازات، ولليهودي فيها امتياز كونه
يهوديا. وله كيهودي حقوق ليست للمسيحيين. فلماذا يطالب بحقوق ليست له،
يتمتع بها المسيحيون؟
حين يريد اليهودي التحرر من الدولة المسيحية فإنه يطلب أن تتخلى
الدولة المسيحية عن حكمها الديني المسبق. فهل يتخلى هو اليهودي عن حكمه
الديني المسبق؟ أفيكون من حقه أن يطلب من غيره أن يتخلى عن الدين؟ يدرك
باور وماركس أن مشكلة اليهود دوماً ولا سيما في العصر الحديث أنهم يعتبرون
اليهودية قوميتهم، التي تتعارض لا مع دين الأكثرية، بل مع قومية الأكثرية،
ومع قومية الدولة. هذا التعارض المركب ناجم عن اعتبار الدين هوية سياسية،
واعتبار الأصل هوية سياسية أيضاً. هذا هو جذر المشكلة التي نعاني منها
اليوم، لذلك رأينا أن تحليل ماركس لهذه المسألة لا يزال راهناً. (هل تكشف
هذه الواقعة تأخرنا عن العالم الحديث والمعاصر؟)
لب المسألة أن الدولة المسيحية تبعاً لجوهرها (المسيحي) لا تستطيع أن
تعتق اليهودي، ولكن اليهودي لا يستطيع أيضاً، من حيث جوهره (اليهودي)، أن
ينعتق، كما يضيف باور. فما بقيت الدولة مسيحية واليهودي يهودياً فإِن
كليهما على السواء غير قادرين على منح التحرر أو تلقيه. بكلام آخر: ما
بقيت المسيحة هوية سياسية للمسيحيين وأساساً للدولة، وما بقيت اليهودية
هوية سياسية لليهود تضعهم في تناقض مع المسيحية من جهة ومع الدولة من جهة
أخرى، فإن المسيحي واليهودي على السواء غير قادرين على منح التحرر أو
تلقيه.
فالدولة المسيحية لا تستطيع أن تسلك إزاء اليهود إلا بطريقة الدولة
المسيحية، هذا يعني بطريقة منح الامتيازات، أيِ بأن تسمح بتمييز اليهودي
عن بقية أبناء الرعية، ولكنها تجعله يشعر بضغط المجالات الأخرى المتميزة،
وبصورة أشد حين يكون اليهودي في تعارض ديني مع الدين السائد. ولكن اليهودي
أيضا لا يستطيع أن يقف من الدولة إلا موقفا يهودياً، هذا يعني أنه يقف من
الدولة موقف الغريب، بأن يضع قوميته الوهمية مقابل القومية الحقيقية ويضع
قانونه المتوهم مقابل القانون الحقيقي بأن يظن أن من حقه أن يتمايز عن
البشرية، بأن يحجم مبدئيا عن المشاركة في الحركة التاريخية، بأن يطمح في
مستقبل لا يجمعه بالمستقبل العام للإنسان أي شيء، بأن يعتبر نفسه عضواً في
الشعب اليهودي ويعتبر الشعب اليهودي الشعب المختار".
أساس المشكلة إذا هو مسيحية الدولة، لا مسيحية المسيحي أو يهودية
اليهودي. الدولة المسيحية (ضعوا الإسلامية) لا تستطيع أن تتصرف إزاء غير
المسيحيين إلا وفق طبيعتها المسيحية. فالأمر الحاسم في المسألة والذي يفتح
إمكانية حلها هو طبيعة الدولة، هل هي دولة دينية أو قائمة على أساس ديني،
أم دولة سياسية. وهذه متصلة أوثق اتصال بطبيعة المجتمع، هل هو مجتمع
تقليدي أو مجتمع أهلي بتعابيرنا الرائجة، لا يعرِّف فيه الإنسان نفسه ولا
يعرِّف غيره إلا بصفته الدينية أو المذهبية أو العشائرية .. أم مجتمع مدني
حديث يرى كل فرد من أفراده صورته في الآخر بصفته إنساناً في المقام الأول
ومواطناً في المقام الثاني. هنا يكون الانعتاق السياسي مقدمة لازمة
للانعتاق الإنساني.
يقول ماركس: "طرح باور مسألة تحرر اليهود طرحاً جديداً بعد أن وجه
الانتقاد إلى الطروحات والحلول التي كانت قائمة حتى ذلك الوقت. إنه
يتساءل: ما هي طبيعة اليهودي الذي يريد التحرر، والدولة المسيحية التي
يفترض أن تحرره؟ فهو يجيب من خلال نقد الديانة اليهودية، ويحلل التناقض
بين اليهودية والمسيحية ويوضح جوهر الدولة المسيحية، وكل هذا بشجاعة ووضوح
وظرافة وعمق، بأسلوب يتصف أيضا بالدقة والمتانهَ والحيوية".
يلاحظ القارئ تقريظ ماركس لباور والتنويه به. ما يعني أنه متفق معه
على نقد الدين، أي دين، ولكنه ليس متفقاً معه على تعريف المسألة اليهودية
وفهمها وطريقة حلها، بما هي مسألة اجتماعية سياسية. تناول ماركس المسألة
اللاهوتية في رسالة إلى أبيه، وكان لا يزال في التاسعة عشرة، وربما في
رسالته لنيل درجة الدكتوراه، ولم يعد إلى هذه المسألة قط في عمله النظري
اللاحق، إلا من خلال نقد الفلسفة المثالية الألمانية. فلم يعد يرى في
الدين سوى عزاء وهمي من الشقاء الإنساني الواقعي، أو مسكِّن للآلام، يجعل
الأشقياء ينظرون إلى عالمهم الوهمي المنسوج من تصورات غيبية على أنه
العالم الواقعي، وينظرون من ثم إلى العالم الواقعي على أنه وهمي. ذلكم هو
"الوعي الشقي". (راجع كتاب حول الدين، نصوص متفرقة لماركس وإنجلز، ترجمة
ياسين الحافظ). مرة أخرى نشير إلى أن باور رأى المسألة اليهودية على أنها
مسالة دينية، لا تحل إلا بالتحرر من الدين وحذفه. وهذا حل مغر ومريح
ونهائي ويتوسل بالعلم والمعرفة العلمية، ولكنه غير ممكن، لا في شروط
ألمانيا آنذاك، ولا في أيامنا هذه أيضاً.
لاحظوا كيف يحاكم باور هذه المسألة محاكمة نظرية مجردة، على طريقة
التأمل الذاتي: (أكثر أشكال التناقض صلابة بين اليهودي والمسيحي هو
التناقض الديني. كيف يحل المرء تناقضاً ما؟ بجعله مستحيلاً. وكيف يحل
المرء تناقضاً دينياً مستحيلاً؟ بإلغاء الدين. حالما يرى كل من اليهودي
والمسيحي دين الآخر مجرد مراحل تطور مختلفة للفكر الإنساني ويتعرفا فيهما
على جلدي أفعى سلخهما التاريخ وعلى الإنسان الذي يمثل الأفعى التي كانت في
هذين الجلدين، فلن تكون العلاقة بينهما علاقة دينية وإنما علاقة علمية
نقدية وحسب، علاقة إنسانية يكون العلم وحدتها. أما التناقضات في العلم
فيحلها العلم نفسه).
كأني بماركس يقول: أجل الدين مثل جلد الأفعى يسلخه التاريخ عنها بين
الحين والحين فتستبدل به جلداً آخر. والفكر الإنساني أو الوعي هو هذه
الأفعى التي تبدل جلدها .. ولكن التناقض ليس بين اليهودية والمسيحية، فهما
جلدا الأفعى، باعتراف باور نفسه. التناقض يكمن تحت هذين الجلدين، أي في
الإنسان ذاته، بين حياته الشخصية الخاصة وحياته النوعية العامة، بين كونه
فرداً طبيعياً أو عضواً في المجتمع المدني وكونه مواطناً أو عضواً في
المجتمع السياسي، أو في الدولة السياسية. هذا التناقض هو ما يؤسس التناقض
بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، وبموجب العلاقة الجدلية بينهما تكون
الدولة إما دينية وإما سياسية، وهذه الأخيرة، أي الدولة السياسية إما
ناقصة وإما كاملة. ومن ثم فإن التناقض لا يحل إلا بتحديث المجتمع وإقامة
الدولة السياسية الكاملة.
يتقدم النقد خطوة أخرى: باور ينظر إلى المسألة على أنها مسألة عامة،
لا تتعلق بالواقع الألماني فقط. بل هي مسألة "علاقة الدين بالدولة"، في كل
مكان، فلا يكتفي بأن يتحرر اليهودي والمسيحي معاً من الدين، بل يقرن ذلك
بتحرر الدولة من الدين أيضاً. هذه خطوة متقدمة، ولكن المسألة لا تزال
عالقة في مأزق استحالة تحرر الأفراد من شروطهم الدينية، لا لأسباب تتعلق
بطبيعتهم، بل لأسباب تتعلق بطبيعة النظام الاجتماعي، الذي يجعل من الدين
حاجة إنسانية، (الحاجة إلى عزاء ومسكِّن للآلام) وبطبيعة الواقع الذي ينتج
الأوهام ويعيد إنتاجها، لأنه في حاجة إلى أوهام تقنِّع حقيقته (واقع
الاستغلال والاستعباد).
يقول باور: « يجب أن يكون اليهودي، على سبيل المثال، قد كف عن أن يكون
يهودياً، حين لا يدع قانونه يعيقه عن أداء واجباته إزاء الدولة وشركائه في
المواطنة، أي أن يذهب مثلاً في يوم السبت إلى مجلس النواب، ويشارك في
المناقشات العامة. يجب إلغاء كل الامتيازات الدينية بوجه عام، بما في ذلك
أيضاً احتكار كنيسة ذات امتيازات خاصة، وإذا كان البعض أو العديدون أو
الغالبية العظمى لا تزال تعتقد أن عليها أن تؤدي واجبات دينية، فينبغي أن
يترك ذلك لهم كمسألة شخصية بحتة». « لا يعود ثمة دين حين لا يعود ثمة دين
يتمتع بالامتيازات. خذوا من الدين قوته المميزة له فلا يعود له وجود.»
يتساءل ماركس: هل قيام اليهودي بواجباته السياسية يوم السبت يجعله يكف
عن كونه يهودياً، ويجعل اليهودية تكف عن الوجود؟ أو هل عدم ذكر يوم الأحد
في القانون أو عدم الاعتراف بامتياز كنيسة يجعل المسيحة تكف عن الوجود أو
تحوِّل الدين إلى مسألة شخصية بحتة، ويحل، من ثم، المسألة الدينية وعلاقة
الدين بالدولة؟ من الواضح أن السؤال استنكاري، لأن وضع الإشكالية لم
يتغير، فلا تزال المسألة مسألة دينية. (يطلب باور أن يتخلى اليهودي عن
يهوديته والإنسان بوجه عام عن الدين، ليتحرر كمواطن من جهة. ومن جهة أخرى
يعتبر الإلغاء السياسي للدين كتبعة لذلك إلغاء للدين بوجه عام. إن الدولة
التي تشترط الدين لم تصبح بعد دولة حقيقية، دولة واقعية).
"في هذه النقطة يظهر المفهوم أحادي الجانب للمسألة اليهودية.
لا يكفي بأية حال من الأحوال أن نبحث: من الذي سيقوم بالتحرِر ومن
الذي سيحرر؟ فعلى النقد أن يقوم بشيء ثالث. عليه أن يسأل: بأي نوع من
التحرر يتعلق الأمر؟ أي شروط تقع في صلب التحرر المطلوب؟ لقد كان نقد
التحرر السياسي نفسه هو النقد النهائي للمسألة اليهودية وذوبانها الحقيقي
في "مسألة العصر العامة."
يرى ماركس أن باور لم يرفع المسألة إلى هذا المستوى فسقط في
التناقضات. لقد وضع شروطاً للتحرر السياسي لا صلة لها بهذا التحرر،
كالانعتاق من الدين. وانتقد الدولة المسيحية لا الدولة بوجه عام. وخلط
التحرر السياسي بالتحرر الإنساني. فهذا الأخير، أي التحرر الإنساني ليس
تحرراً من الدين فقط، بل من جميع الشروط التي تجعل الإنسان مهاناً ومذلاً
ومغترباً عن ذاته وعن عالمه. الاغتراب في الدين أحد أشكال الاغتراب فحسب،
وليس الدين سبب الاغتراب بل نتيجته. فهل يقتضي التحرر السياسي أن يتخلى
الناس عن الدين بوجه عام؟ وهل تجوز معالجة النتائج بدون معالجة أسبابها؟
لا يجوز النظر إلى مسألة من هذا النوع بمعزل عن شروط تشكلها تاريخياً،
وبمعزل عن الظروف العينية التي تكتنفها من كل جانب. فمسألة علاقة الدين
بالدولة وموقف الأخيرة من الجماعات الدينية تختلف من دولة إلى أخرى.
ففي ألمانيا حيث لا توجد دولة سياسية، أي لا توجد الدولة كدولة، فإن المسألة اليهودية هي مسألة لاهوتية محضة.
يجد اليهودي نفسه في تناقض ديني مع الدولة التي تقر بأن المسيحية تشكل
أساسها. هذه الدولة هي دولة لاهوتية محترفة. والنقد هنا هو نقد اللاهوت،
نقد ذو حدين، نقد للاهوت المسيحي وللاهوت اليهودي. ولكننا ما زلنا بهذا
نتحرك في اللاهوت مهما أردنا أن نتحرك فيه نقدياً.
أما في فرنسا حيث الدولة نصف سياسية، لأن مظهر الدولة الدينية لا يزال
باقياً في صيغة "دين الأكثرية"، وعلاقة اليهودي بالدولة تتخذ مظهر تناقض
ديني مع دين الأكثرية المعترف به دستورياً، فالمسألة مسألة دستورية، لا
دينية أو لاهوتية. النقد هنا يجب أن ينصب على الدولة التي لم تصبح بعد
دولة سياسية كاملة، كما هي الحال في الولايات الأمريكية الشمالية. حيثما
تكون الدولة السياسية كاملة تفقد المسألة اليهودية وإشكالية العلاقة بين
الدين والدولة معناها، لأن المسألة تكون قد حلت حلاً نهائياً. وحين تكف
المسألة عن كونها لاهوتية يكف نقد باور عن كونه نقدياً".
المسألة العلمانية، أو علاقة الدين بالدولة، في نظر ماركس"، لا تحل
بتحرر الأفراد من الدين، ولا بنقد الدين، مع أن نقد الدين حق شخصي لأي
فرد، ولكنه ليس مسألة عامة، لأن الدين أساساً ليس مسألة عامة، فليس هنالك
من دين عام، بل أديان ومذاهب خاصة بهذه الجماعة أو تلك لذلك يجب أن تظل
مسائل الدين في الحيز الخاص. تحل المسألة العلمانية بقيام
الدولة السياسية الكاملة،
كما في بعض الولايات الأمريكية في زمن ماركس، مع أن الولايات المتحدة هي
بلد التدين، (حتى يومنا). وصفة الكمال للدولة السياسية تعني أنها لا تقوم
على أي حكم مسبق، ديني أو مذهبي أو قبلي أو إثني. الكمال هنا نقيض
الجزئية. الدولة السياسية الكاملة هي دولة جميع مواطنيها بالتساوي وبلا
استثناء. أما الدولة الناقصة فهي دولة جزء من المجتمع، ولو كان هذا الجزء
هو الأغلبية.
إذاً، وجود الدين لا يتعارض مع قيام الدولة الكاملة. ولكن، لأن وجود
الدين هو وجود لنقص، فإن مصدر هذا النقص لا يمكن أن يبحث عنه إلا في جوهر
الدولة نفسه، لا في الدين. لا يعود الدين في نظر ماركس هو الأساس، وإنما
هو مظهر للمحدودية الدنيوية وحسب. ومن هنا تُفسَر اللاموضوعية الدينية
للمواطنين الأحرار بلاموضوعيتهم الدنيوية. فليس على هؤلاء المواطنين أن
يتخلوا عن محدوديتهم الدينية، ليزيلوا حواجزهم الدنيوية. بل على العكس،
إنهم سيتخلون عن محدوديتهم الدينية حالما يزيلون حواجزهم الدنيوية. لا
يجوز تحويل المسائل الدنيوية إلى مسائل لاهوتية، بل يجب تحويل المسائل
اللاهوتية إلى مسائل دنيوية. "يجب حل الغيبيات في التاريخ، بعد أن انحل
التاريخ وقتاً كافياً في الغيبيات".
الدين ليس سبب المحدودية الموضوعية الدنيوية، بل نتيجة من نتائجها.
وحين يزول السبب تزول النتيجة. الدين ليس نقصاً في ذاته، بل نتيجة نقص في
الحياة الإنسانية، نقص في المجتمع ونقص في الدولة. هكذا يغدو التحرر
السياسي شرطاً لازماً للتحرر الإنساني ومقدمة ضرورية له. أما تحرر الأفراد
والجماعات من الدين، التحرر الذي لا يعارضه ماركس، ولكنه لا يعده شرطاً
للتحرر السياسي، فلا ينظر إليه إلا من زاوية التحرر الإنساني الشامل من
الاستغلال والاستعباد والقهر والاغتراب.
ومن هنا فإن نقده لنقص الدولة وضعفها الديني هو نقد لبنيتها الدنيوية،
بصرف النظر عن الضعف الديني. إنه "يؤنسن تناقض الدولة مع دين معين،
كاليهودية مثلاً، في التناقض بين الدولة وعناصر دنيوية معينة، ويؤنسن
التناقض بين الدولة والدين بوجه عام، في التناقض بين الدولة وشروطها بوجه
عام". إن ماركس يمارس في الفكر عملية دنيوة وعقلنة للظاهرة الدينية وعلاقة
الدين بالدولة. والدنيوة والعقلنة ركنان رئيسان من أركان الحداثة.
"التحرر السياسي لليهودي والمسيحي والإنسان المتدين بوجه عام هو تحرر
الدولة من اليهودية والمسيحية ومن الدين بوجه عام. تتحرر الدولة في شكلها،
الذي يتضمن جوهرها الخاص كدولة، من الدين بتحررها من دين الدولة، هذا يعني
عدم إقرار الدولة كدولة بدين، بل بإِقرارها بكونها دولة. ليس التحرر
السياسي من الدين هو التحرر من الدين المطلق والخالي من التناقضات، لأن
التحرر السياسي ليس الأسلوب المطلق والخالي من التناقضات للتحرر البشري".
تحرر الدولة من الدين ومن دين الدولة أو دين الأغلبية، لا يقتضي تحرر
الأفراد من الدين. يمكن أن تتحرر الدولة من أي حكم ديني مسبق، من دون أن
يتحرر مواطنوها من هذا الحكم. هنا يغدو الدين شأناً من شؤون الذاتية، أو
من الشؤون الشخصية في المجتمع المدني. المشكلة في بلادنا ليست في عدم
التفريق بين الحيز الخاص والحيز العام فقط، بل في عدم إدراك الفروق
الدقيقة بين المجتمع المدني والدولة السياسية، وعدم إدراك الفروق بين
الدولة والسلطة ونظام الحكم. وكذلك في خلط الطابع الطبقي للسلطة السياسية
والطابع العام، الوطني، للدولة، وإغفال حقيقة أن للسلطة السياسية طابعاً
مزدوجاً، عام وخاص، عام لأنها سلطة الدولة ومقيدة بالدستور والقوانين،
وخاص لأنها سلطة الفئة الاجتماعية التي تفوز في الانتخابات فتحظى بأكثرية
مقاعد البرلمان وتؤلف الحكومة، وتعمل عادة على تلبية مصالح فئة أو طبقة
اجتماعية بعينها من دون أن يتعارض ذلك مع المصلحة العامة.
فإن حق الاقتراع العام ينتج وضعاً يشرِّع فيه غير المالكين للمالكين، وقد سمى ماركس ذلك
"الإلغاء السياسي للملكية الخاصة".
الملكية الخاصة هنا لا تلغى بالفعل في المجتمع المدني ولا تكف عن النمو
والتطور، ولكن الملكية الخاصة لا تنتج حقوقاً للمالكين مختلفة عن حقوق غير
المالكين. وكذلك
الإلغاء السياسي للدين، لا يعني إلغاء
الدين من المجتمع المدني، بل يعني أن العلاقات الدينية لا تنتج منها أي
نتيجة سياسية. الدولة تلغي فرق الأصل والمكانة الاجتماعية والمهنة
بطريقتها، حين تقرر أن فروق الأصل والمكانة الاجتماعية والمهنة هي
فروق غير سياسية،
وحين تعلن دون مراعاة لهذه الفروق عن كون كل فرد من أفراد الشعب مشاركاً
متساوياً في السيادة الشعبية، إذا ما تعامل مع جميع عناصر حياة الشعب
الحقيقية من وجهة نظر الدولة.
ومع ذلك تترك الدولة الملكية الخاصة والتأهيل والعمل تؤثر في المجتمع،
على طريقتها الخاصة، هذا يعني كملكية خاصة وتأهيل وعمل، مؤكدة طبيعتها
الخاصة. وعلى هذا النحو تماماً، تترك الدولة الدين يؤثر في المجتمع،
بطريقته الخاصة، أي بصفته ديناً. إنها، أي الدولة، بعيدة كل البعد عن
إلغاء هذه الفوارق غير السياسية، في المجتمع المدني، بل إنها توجد فقط في
ظل هذه الشروط، وتشعر أنها دولة سياسية وتجعل عموميتها نافذة في مواجهة
عناصرها هذه. ومن هنا فإن هيغل يحدد العلاقة بين الدولة السياسية والدين
تحديداً صحيحاً تماماً حين يقول: «كي تقوم الدولة كواقع واع وأخلاقي
للعقل، فإِنه من الضروري تمايزها عن شكل السلطة والعقيدة. ولكن هذا
التمايز لا يظهر إلا بمقدار ما تقوم به الكنيسة من جانبها بالفصل. هكذا
فقط اكتسبت الدولة بوقوفها فوق الكنائس الخاصة شمولية الفكر ومبدأ شكلها
الذي تظهره للوجود.» (هيغل" فلسفة الحق" الطبعة الأولى، ص 346).
الدولة هي الحياة النوعية للفرد الإنساني، مقابل حياته الخاصة،
والحياة الأخلاقية للشعب، مقابل حياته المادية. الدولة هي "سماء الشعب"،
علاقتها بالمجتمع المدني مثل علاقة السماء بالأرض. ما من شك في أن هذه
الصيغ مجازية، إذا ترجمناها إلى الواقع نقول: لكل فرد إنساني حياته الخاصة
في الأسرة وداخل مجتمعه الصغير، وحياته العامة في المجتمع الكبير وفي كنف
الدولة السياسية، الحياة العامة هي الحياة النوعية للفرد الإنساني، من حيث
هو زيد أو عمر، أي من حيث هو فرد حر ومستقل من جهة، ومن حيث هو إنسان من
جهة أخرى، إنسانيته هي قوام فرديتة، وحياته النوعية، الإنسانية، هي جوهر
حياته الفردية، كلتاهما تتطوران معاً تقدماً وتراجعاً. ليس في المجتمع
والدولة شيء ليس موجوداً في الفرد بالفعل أو بالقوة. هذا يعني أن المجتمع
والدولة هما الإنسان مموضعاً، حسب ماركس. الفرق بين الإنسان المتدين
والمواطن هو الفرق بين التاجر والمواطن، بين العامل بأجر يومي والمواطن،
بين المالك العقاري والمواطن، بين الفرد الحي والمواطن.
يقارن المرء مقطع «المجتمع المدني» بكامله (ص 8-9)، والذي صيغ وفق
الملامح الأساسية لفلسفة الحق لدى هيغل. يعترف بالمجتمع المدني في تناقضه
مع الدولة السياسية كضرورة، لأن الدولة السياسية معترف بها كضرورة.
التحرر السياسي خطوة تقدمية كبيرة حقاً، ومع أنها ليست الشكل الأخير
للتحرر الإنساني بوجه عام، لكنها الشكل الأخير للتحرر الإنساني ضمن النظام
العالمي القائم حتى الآن. نحن نتحدث هنا بالطبع عن التحرر الحقيقي،
العملي. " التحرر السياسي من الدين هو إقصاء الدين من الحق العام إلى الحق
الخاص، ومن الحقل العام (الدولة) إلى الحقل الخاص في (المجتمع المدني)،
فيكف عن كونه روح الدولة ليصير روح المجتمع البورجوازي.
"الدولة الديمقراطية، الدولة الحقيقية لا تحتاج إلى الدين من أجل
اكتمالها السياسي. وأكثر من ذلك فهي تستطيع أن تطرح جوانب كثيرة من الدين،
لأن الأساس الإنساني للدين متحقق فيها بطريقة دنيوية. وعلى العكس يقف ما
يسمى بالدولة المسيحية موقفاً سياسياً إزاء الدين ودينياً إزاء السياسة.
وحين تحط هذه الدولة من الأشكال السياسية ظاهرياً فإِنها تحط من الدين
ظاهرياً بالقدر نفسه". لنلاحظ هنا أن جميع الدول غير الديمقراطية كانت ولا
تزال تحتاج إلى الدين، لتكمل به نقصها. ولكن ما نقصها؟ إنه الشرعية.
شعب الدولة المسيحية ليس شعباً، فهو لا يملك إرادة خاصة به ويكمن وجود
الحقيقي في الرئيس الذي يخضع له، والذي هو في الأصل وبناء على طبيعته،
غريب عنه، هذا يعني أنه معطى من الله، وقد جاء إليه من دون تدخل منه.
وقوانين هذا الشعب ليست من عمله الخاص وإنما هي وحي إيجابي. يحتاج الرئيس
إلى وسطاء متميزين بينه وبين الشعب الفعلي، في حين يتفتت الشعب نفسه إلى
دوائر خاصة تشكلها المصادفة وتتحكم فيها، وهي تختلف في مصالحها وأهوائها
الخاصة وأحكامها المسبقة، وتحصل على جواز الانفصال عن بعضها كامتياز.
ليس الإنسان هو المهم في ما يسمى بالدولة المسيحية وإنما الاغتراب.
والإنسان الوحيد المهم وهو الملك، يختلف عن الناس الآخرين، وهو في ذلك
كائن متدين يرتبط بالسماء وبالله مباشرة. إن العلاقات التي تسود هنا لا
تزال علاقات قائمة على الإيمان، فالروح الديني لم يصبح بعد دنيوياً حقاً.
أي إن قيم الدين افنسانية لم تتحقق في العالم الواقعي.
«لم تكتشف فكرة حقوق الإنسان في العالم المسيحي إلا في القرن الماضي.
لا يملكها الإنسان بالولادة، بل إنها تنتزع في الكفاح ضد التقاليد
التاريخية التي نشأ عليها الإنسان حتى الآن. وهكذا فحقوق الإنسان ليست
منحة من الطبيعة، وليست صداق التاريخ المنصرم، وإنما هي ثمن كفاح ضد صدفة
الميلاد، وضد الامتيازات التي أورثها التاريخ من جيل إلى جيل حتى الآن.
وهي نتيجة للتعليم، ولا يستطيع أن يملكها إلا من اكتسبها واستحقها.» هذه
الحقوق لا يستحقها الفرد بصفته مسيحياً أو يهودياً أو مسلماً، بل بصفته
إنساناً.
لقد جرى التمييز بين حقوق الإنسان وحقوق المواطن، فمن هو الإنسان
المتميز عن المواطن؟ لا أحد سوى عضو المجتمع البورجوازي. ولماذا يصبح عضو
المجتمع البورجوازي هذا إنساناً، مجرد إنسان، ولماذا تسمى حقوقه حقوق
الإنسان؟ بم نفسر هذا الواقع؟ من خلال علاقة الدولة السياسية بالمجتمع
البورجوازي، من خلال جوهر التحرر السياسي.
نثبت قبل كل شيء أن ما يسمى بحقوق الإنسان، وهي خلاف حقوق المواطن،
ليست سوى حقوق أعضاء المجتمع البورجوازي، هذا يعني الإنسان الأناني،
الإنسان المنفصل عن الناس وعن المجموع. ينبغي على الدستور الأكثر جذرية،
دستور 1793 أن يقول: «إعلان حقوق الإنسان وحقوق المواطن.» المادة الثانية:
«هذه الحقوق (الحقوق الطبيعية والحتمية) هي: المساواة، الحرية، الأمن،
الملكية.» فيم تتمثل الحرية؟ "كان اكتمال مثالية الدولة وحده اكتمال مادية
المجتمع البورجوازي في نفس الوقت. وكان التخلص من النير السياسي تخلصاً من
الأغلال التي قيدت العقل الأناني للمجتمع البورجوازي في نفس الوقت. كان
التحرر السياسي هو تحرر البورجوازي من السياسة في الوقت ذاته، وحتى من
مظهر كونه محتوى عاماً".
ومن هنا فإِن الإنسان لم يحرر من الدين وإنما حصل على الحرية الدينية.
لم يحرر من الملكية وإنما حصل على حرية الملكية، لم يحرر من أنانية المهنة
وإنما حصل على حرية المهنة. حين يستعيد الإنسانُ، الفردُ الحقيقي المواطنَ
المجردَ إلى ذاته ويكون قد أصبح كإِنسان فرد في حياته التجريبية، في عمله
الفردي وعلاقاته الفردية كائناً نوعياً وحسب، حين يكون الإنسان قد تعرف
على قواه الخاصة كقوى اجتماعية ونظمها، فلا تنفصل القوة الاجتماعية في
هيئة قوة سياسية، عندها فقط يكون التحرر الإنساني قد تحقق.
أما القسم الثاني فيتناول نقد اليهودية بوصفها الدين العملي
للرأسمالية والمسيحية تتمته المثالية. أو من حيث أن إله الرأسمالية
الواقعي هو المال. (ليس سر اليهودي في ديِنه وإنما سر الدين في اليهودي
الواقعي. ما هو الأساس الدنيوي لليهودية؟ الحاجة العملية، المنفعة الخاصة.
ما هي العبادة الدنيوية لليهودي؟ التجارة. ما هو إلهه الدنيوي؟ المال). إن
تحرر اليهود هو في معناه الأخير تحرر البشرية من اليهودية، أي من
الرأسمالية.
وهذه مسألة تحتاج إلى وقفة خاصة.