ليست
المديونية مجرد معادلة مالية تكشف عن وضع الميزان التجاري وانعكاساته على
ما هو اقتصادي واجتماعي وسياسي، وإنما هي الإطار الذي يمكن أن نفهم من
خلاله تبعيّة هذه الدول إلى الدوائر الاحتكاريّة العالميّة، ونستوعب على
هديها النّمط الاقتصاديّ الهشّ الذي تنهجه، ففي رحاب المديونيّة يصبح
الحديث عن الاستقلال ضربا من الهذيان كما أنّ التّشدّق بالتّنمية يمسي
هرطقة سياسيّة لا طائل من ورائها.
إن اليد التي تعطي هي اليد التي تتحكّم مقولة تفسّر طبيعة العلاقة بين
الطبقة المتنفّذة في دول العالم المُفقّربالأجنبيّ ، إنّها علاقة يتشكّل
على ضوئها المشهد السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والثقافيّ تشكّلا
يؤبّد واقع التبعيّة، ويفضح تورّط هذه الطّبقة ومن يمثّلها سياسيّا في
امتصاص دماء الطّبقات الكادحة والمنهوبة.
قد يحتج البعض بأنّ الولايات المتحدّة الأمريكية وهي القلب النّابض
للاقتصاد العالميّ دولة غارقة في المديونيّة فما بالك بالدّول المتخلّفة،
ينطوي هذا الاحتجاج على الكثير من المغالطة فمديوينيّة الولايات المتّحدة
تتصل بجودة القطاع الصناعيّ والخدميّ، وترتبط برهانات عسكريّة وسياسة
تخوّل لها المحافظة على دورها الرّيادي في العالم أمّا المديونيّة في دول
العالم المُفَقَّر فلها صلة بأزمات هيكليّة في اقتصاديات هذه الدّول،
وبخيارات تكرّس التّبعيّة والاستعمار.
والواقع أنّ المديونية في دول العالم المُفقّر لا تحلّ من المشاكل
إلاّ القدر الذي يمكن الكمبرادورمن تجاوز أزمته الطّارئة بشكل يجعله
يستمرّ على رأس النظام، ويضمن لبلاده أن تبقى مجرد سوق استهلاكية ومصدرا
للطاقة للأجنبي ومجالا للسّرقة. وللمديونية وظيفة بنيوية إذ لا نستطيع في
رحابها الحديث عن تنمية عادلة ونهضة اقتصادية شاملة. حقّا إن شأن البلدان
المَدِينَةِ شأن الرجل الغارق في الطّين كلّما تحرّك ليُخلِّص قدما ازدادت
الأخرى غرقا.
من هذا المنطلق يصبح أي خيار يقوم على المديونية بهذا المعنى إنما هو
خيار يكرّس الاستعمار مهما كانت العناوين المرفوعة برّاقة، ذلك أنّ كل شكل
من أشكال السّقوط يستدعي عنوانا جميلا تنخدع به الجماهير.
ويذهب بعض أنصار المديونيّة إلى أن بلدانا مثل تركيا قد نهجت نهج
المديونيّة وحققت قفزة اقتصاديّة نوعية بوأتها مكانة لا يستهان بها في
محيطها وفي العالم، لكنهم ما أصابوا الحقيقة في شيء وإنما جانبوها عن سوء
فهم أو فساد نيّة، فتركيا لم تحقّق ما حقّقته، إلاّ بعد تأصيل العلمانيّة
والديمقراطيّة ومختلف مبادئ الحداثة ممّا خلق فضاء ملائما لتحقيق التّنمية
ومن ثمّة ظهور شركات ومؤسّسات صناعية عملاقة قادرة على المنافسة إقليميّا
وعالميّا.
على أن تركيا رغم هذه النّهضة الاقتصاديّة لم يتسنّ لها الظّفر
باستقلال القرار السياسيّ لأنّ ما أنجزته كان نتيجة انضباطٍ للامبرياليّة
العالميّة، ولعلّ ملفّ حزب العمال الكردستانيّ وما فيه من جرائم ضدّ حقوق
الإنسان أحد أكثر الاختبارات التي تفوّقت فيها تركيا وجعلتها تتقلّد وسام
الاستحقاق الامبرياليّ، وقد عزّزت هذه الصفة بتحالفات استراتيجيّة مع
إسرائيل مكّنتها من أن تمرح في المنطقة كما تشاء.
أما عن توتر العلاقة بيت تركيا والكيان الصهيونيّ أخيرا فالمسألة
تندرج في سياق صراع المصالح، بمعزل عن كلّ ما هو إيديولوجيّ، والدّليل على
ذلك حفاظ الطّرفين على الاتّفاقات ذات البعد الاستراتيجيّ والعسكريّ، وليس
يقرّ بالتّصادم بين إسرائيل وتركيا إلاّ من يريدون تلبيس الحقيقة بالوهم
سعيا منهم إلى ترويج خطاب سياسيّ يحاول أسطرة النظام التّركيّ وجعله
نموذجا يُحْتَذَى، ونعني بذلك دعاة الأحزاب السياسيّة الاسلاميّة المعتدلة
تلك التي ما عتّمت تستشهد بتركيا لتبرير مشروعها.
إنّ السّؤال الذي يتعيّن طرحه بعد الإطلالة السّريعة على طبيعة
المديونيّة، هل يمكن أن نتحدث عن اقتصاد وطني في ظلّ هذا المبدأ الماليّ؟
أليس التلويح بالتنميّة الجهويّة العادلة وضمان الشغل ضرب من تصدير الوهم
ريثما تغرب شمس الاحتجاجات وتتفرّق جبهة الرّفض والممانعة؟ كيف تسمح بعض
الأطراف السياسيّة لنفسها أن تلُوك كلمة الثّورة وهي تواصل الفلسفة
الاقتصاديّة للنّظام السّابق؟
إن أوّل ما يجب التّنصيص عليه أنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة وصندوق
البنك الدّولي قد قدّمت خدمة تاريخيّة لتونس بأن ضمنت فيها للاقتراض من
السوق المالية، وهي المرّة الثانية التي يأتي فيها شرطيّ العالم مثل هذا
الصّنيع، فالمرة الأولى كانت مع شريكته وتوأمه الروحي إسرائيل، وقد سانده
في هذه المهمة النبيلة الاتحاد الأروبي بتفعيل اتفاقية الشّراكة لسنة 1995
وقلعة الدّيمقراطيّة في العالم العربيّ والإسلاميّ جمهورية قطر بتقديمها
لضروب من الوعود والمساعدات.
وحتى نعمق الفهم أكثر علينا أن نتساءل عن السبب الذي يجعل أمريكا تعطي
هذا الوزن لدولة صغيرة مثل تونس، إن الإجابة عن هذا التساؤل غاية في
البساطة فالانتفاضة التونسية تمثل بالنسبة إلى أمريكا أكثر من مجرد حراك
اجتماعي أدى إلى رحيل رأس النظام، إنها الحلقة الأولى في إطار الاحتجاج عن
العولمة والكوارث الناجمة عنها، لذلك سارعت بتثبيت مسارالحكومة التي
أفرزتها هذه الانتفاضة بعد انتخابات نعتت بالنزيهة في الاتجاه عينه الذي
سلكه النظام السابق وهو ما التزمت به الحكومة وعمقته، وذلك ببلوغها أرقاما
قياسية في الاقتراض، واستبعادها للحديث عن تعليق المديونية اسبعادا تاما.
ولعله من المنطقي القول بأن القوى الامبريالية قد استفادت من الانتفاضة
التونسية أكثر من الشعب التونسي، فقد كرست تبعية البلاد التونسية لهذه
القوى أكثر من ذي قبل، وضمنت لها مشهدا سياسيا تتسابق فيه الكثير من
الأطراف في إطار حمى الكرسي لتقديم تنازلات أكثر بما في ذلك ما تعلق
بالقضية الفلسطينية.
وبما أنّ خير المُسْتَعْمِرِ في شرّ المُسْتَعْمَرِ تصبح شعارات الشغل
والكرامة زخرفا لغويا يرفع في المناسبات الانتخابية موشحا بمنمنمات دينية
برّاقة، أما الديمقراطية فإنها إن لم تعدم على مذابح التعصب وبراديغم
الهوية فإنها ستبقى مسألة شكلية مفرغة من كل مضمون اجتماعي.
على ضوء ما تقدم أيهما أولى بالطرح في المجلس التأسيسي وخاصة فيما
يتّصل بملفّ الميزانية هل هو الحديث عن تعليق الديون ومناقشة الاتّفاقات
الاقتصاديّة طويلة المدى التي من شأنها أن ترهن شعبا كاملا طيلة سنوات
عديدة أم الحديث عن أسلمة العلاقات الماليّة الرأسماليّة في نطاق ما يسمّى
بالصّيرفة الاسلاميّة وغيرها من المواضيع الجانبيّة.
قد يكون أمرا معقولا إذا قدّمت الحكومة ملفا لتعليق الدّيون ولم
تتمكّن من الإقناع به، ومن المنطقيّ إيضا التّصريح بأنّ التّداين من
أجل تخطّي الأزمة المرحليّة ليس مسألة استراتيجيّة وإنّما واقع فرضته
الظرفيّة، لكن ليس من المعقول بالمرّة استبعاد تعليق الدّيون جملة وتفصيلا
كما أنّه من التّهافت اعتبار المديونيّة عقيدة اقتصاديّة لا بديل لها.
لكنّه من قبيل الجهد الضّائع مطالبة الأحزاب الليبراليّة في الدّول
المتخلّفة مهما كانت زينتها بأن تتبنّى فلسفة تخدم مصلحة الطّبقة الكادحة
والمُفَقَّرة، لأنّ ذلك يتعارض مع مبادئها التي تكرّس مصلحة البورجوازيّة.
وهي بورجوازيّة تتحرّك في فضاء الدّوائر الاحتكاريّة ومتطلّباتها.
بناء على ما تقدّم نستنتج أنّه لا حظّ للطّبقة العاملة وللعاطلين عن
العمل ولا أمل في تنميّة شاملة في إطارتفعيل فلسفة اقتصاديّة أوصلتنا في
عهد النّظام الهالك إلى أبواب مُوصَدة، ومن ثمّة لا حديث عن
انتفاضة تتجاهل المسحوقين الذين أجّجوها، أما الصراعات الفكريّة الباذخة
حول الدين العلمانية والشريعة والمدنية فذرُّ رمادٍ على العيون الغاية منه
إلهاء الطبقة المُفَقَّرة عن همومها واستنزاف جهدها في مسائل عرضيّة
مقارنة بالشّغل والكرامة.
ويسعى أنصار التبعيّة في هذا الصّدد إلى ضرب الأحزاب اليساريّة
الراديكاليّة ونعتها بالتطرّف والإلحاد لأنّها تصف الأمور بما يجب أن
تُوصَفَ به وتضع إصبعها على الدّاء مباشرة، ورغم أنّها تُنْعَت بـ"الصفر
فاصل" فإنّ الخوف منها والذّعر من التحامها بالجماهير يعطيها حجمها
الحقيقيّ.