العقل
البشري، مستودع المعرفة البشرية، التي تراكمات عبر حقل الخبرات النظرية
والعملية منذ كانت البدايات الأولى للرحلة الآدمية في أرجاء البسيطة.
تشتمل نظرية المعرفة على كل ما أنتجه الوعي البشري من معارف بمختلف
أنواعها ومستوياتها. وإذا أمكن تشبيه نظرية المعرفة بنهر دائم التدفق،
فيمكننا القول أنه يتغذى بروافد عظيمة. يختلف كل رافد باختلاف نوع المعرفة
التي يحملها للنهر الكبير. حسب تصنيفات فلاسفة العلم، فهذه الروافد لا
تجاوز أن تكون واحداً من خمسة: رافداً للمعرفة العلمية، رافداً للمعرفة
الفنية، رافداً للمعرفة الدينية، رافداً للمعرفة الأسطورية، رافداً
للمعرفة الفلسفية. هذه الروافد تصب جميعها في النهر االكبير لتشكل ما يسمى
بـ نظرية المعرفة العامة. والسؤال الذي نريد أن نقترحه للمناقشة الآن هو:
أيُّ هذه الروافد يستحق بأن نسميه المعرفة الحق أو يمتلك الحقيقة بمعنى من
المعاني؟ وهذا يشبه أن نقول: أيُّ هذه الروافد يجلب الماء العذب، الذي
يمكن أن نستسيغه للشرب، وأيها ممجوج يجب رده أو تركه؟ أيُّها يجب أن يأخذ
دور المعيار الذي تقاس عليه صحة البقية؟ وهل يمكن للعقل أن يأخذ دور
الحَكم الموضوعي للفصل بين أحقية أحد هذه الروافد دون سواه، لتمثيل دور
العقل نفسه، بحيث يمكن أن نقول: هذه المعلومة معقولة أو غير معقولة؟
قد
تبدو بعض هذه الأسئلة للوهلة الأولى مثيرة للسخرية عند البعض، وقد تبدو
لغيرهم بسيطة وساذجة يمكن الإجابة عليها بسهولة وبداهة، وقد يتساءل طرف
ثالث: أي فائدة تجنى من طرح مثل هذه الأسئلة؟ وقبل أن نشرع بالحوار؛ علينا
أن نُذكّر بوجهة النظر التي تقول: إن أكثر الأسئلة صعوبة هي تلك التي
تتميز بالبساطة أو تتبدى بالسذاجة في أحيانٍ أخرى! ودعنا نذكر مثلاً
طريفاً على الأسئلة الساذجة أو البسيطة.
كان
المعلم في الروضة يطبق حصة تعليمية في الهواء الطلق لتلاميذه، ليعلمهم
كيفية يستنشقون الشهيق ويخرجون الزفير، ثم طلب من تلاميذه الذين أعمارهم
تتراوح بين الثالثة والخامسة، أن ينظروا إلى السماء ويتأملوا شكل الغيوم
البيضاء، وبالحال صرخ أحد الصغار بقوله: "قطن … إنها أكياس قطن؛ ماما قالت
لي ذلك"! لكن المعلم أراد أن يوصل معلومات صحيحة للأطفال فقال له: إنها
ليست قطناً، ولكنها غيوم! لكن الطفل سارع بالسؤال: ومن أين تأتي الغيوم؟
كان المعلم هنا أمام إجابتين من وجهة نظره كلتاهما صحيحة، الأولى أن يشرح
للتلاميذ أن الغيوم هي عبارة عن الماء المتبخر من السطوح المائية كما أثبت
(العلم)، ولكنه قدّر أن عمر الأطفال لم يكن يسمح بشرح معارف علمية لهم من
هذا النوع. فاختار الإجابة الثانية، التي قّدر أنها أسهل، الغيوم تأتي من
السماء … لكن الطفل عاد ليسأل من جديد، ومن أين تأتي السماء؟ أجابه المعلم
بكل يسر ليريح نفسه من ثرثرة هذا الطفل وسذاجته، السماء تأتي من الله كما
تقول المعرفة (الدينية)، لكن الطفل بكل عفوية سأل ومن أين يأتي الله؟!
أصيب المعلم بصدمة كبيرة … لم يتوقع مثل هذا السؤال من طفل … ثم ماذا يجب
عليه أن يجيب؟ ضع نفسك في نفس الموقف … ماذا كنت ستجيب الطفل على سؤاله
الساذج! استطاع المعلم أن يصرف ذهن الطفل لموضوع آخر ويتخلص من ورطة
الإجابة، لكن المشكلة لم تنته، فقد تنبه المعلم كشخص متدين يؤمن بأن
المعرفة الدينية تمثل الحقيقة، إلى أنه فعلاً لا يملك إجابة على هذا
السؤال: الله خلق الكون، ولكن من خلقه؟ أو كيف؟ أو من أين أتى الخالق؟!
نمت الأسئلة في رأسه حتى استولى عليه شبح الشك لأسابيع عديدة، وزاد شكه
عندما نهره أحد رجال الدين، بعد طرحه السؤال عليه، وقال له، لقد ورد في
الأثر أنه "تفكروا بالخلق ولا تفكروا في الخالق فتظلوا". لم يكن الجواب
بالنسبة له مقنعاً، فبقي على حيرته حتى التقى بأحد المختصين بالمنطق فطرح
عليه السؤال، فأجابه: بأن هذا السؤال ينطوي على مغالطة منطقية، نحن نفترض
أنه يوجد خالق هو الله، ومن شروط هذا الفرض أن الخالق كامل، أي تام
القدرة، لذلك عندما نقول: الله خلق الكون فمن خلق الله؟، فإننا نقع في
تناقض، لأن الكامل يخِلق ولا يُخلق، وإذا كان يخُلق أو يوجد من أوجده فهذا
يعني ببساطة أنه ليس الله أو العلة الأولى للكون أو الخالق التام القدرة،
فالسؤال أساساً غير صحيح منطقياً، وبالتالي لسنا معنين بالإجابة عليه من
الناحية المنطقية البحتة. حسناً هذه القصة حقيقية وليست من بنات الخيال،
وربما يلاحظ المرء بأن السؤال الذي بدر من الطفل الساذج، هو السؤال الذي
سلخت الفلسفات والأديان والأساطير والعلوم قروناً طويلة من تاريخها
لمحاولة الإجابة عليه.
لنعود الآن لموضوع
المقالة أي الروافد يمتلك الماء العذب المستساغ للشرب؟ أي أنواع المعرفة
يمتلك الحقيقة، ويستحق بذلك أن نبقيه ونرفعه عما سواه؟
إن أكثر
الإجابات حضوراً في ذهن الشخص، الذي يصف نفسه بالإنسان العلمي أو المتمدن
أو المعاصر أو الحضاري أو غيرها من الصفات المثيرة للجدل؛ هي أن يجعل
العلاقة
بين أنواع المعرفة علاقة تطور تاريخي، إنه ذلك التصور الذي تفوح منه نبرة
الغرور، بحيث يتم تصوير تاريخ المعرفة وكأنه تاريخ تطور البشرية من الحالة
الأدنى إلى الحالة الأعلى، من قبيل التصور التالي: كان الإنسان يؤمن
بالخرافات والأساطير ثم طور الفنون و الرقص والرسم والنحت لمحاكاة العالم
المحيط به، ولخلق طقوس جماعية، ثم خلع على تلك الرسوم والتماثيل معانيَ
دينية فتشكلت المعرفة الدينية والروحية، ثم ظهرت الفلسفة على خلفية
الأسئلة التي تثيرها الأديان، ونمت القدرات العقلية البشرية، وتراكمت
المعارف والملاحظات والمشاهدات فتكونت المعرفة العلمية، ثم نشأت العلوم
بشكلها الحالي … إلخ وهكذا يؤكد هذا التصور على تراتبية المعرفة وتمايزها
بحيث تكون المعرفة البشرية ذات تصاعد عمودي من الشكل الأدنى المتمثل
بالأساطير إلى الشكل الأعلى في سلم المعرفة المتمثل بالعلم. وكل مرحلة لها
قيمة أكبر من السابقة عليها، إذاً العلم حسب هذا التصور هو المعرفة
الجديرة بالاحترام، وهي ذروة تطور سنام المعرفة البشرية، وهي متمايزة عن
المراحل السابقة لها. لقد تحدثنا عن الأسئلة الساذجة والتي قلنا أنها قد
تكون من أصعب الأسئلة وأكثرها أهمية، إلا أن الأمر قد لا ينطبق بنفس
الدرجة على الأجوبة الساذجة، كالتي تقدم تصوراً أحادياً لتفسير الظواهر
المراد دراستها. إن الإجابة السابقة التي تتوهم بأن تاريخ المعرفة يسير
بشكل عمودي يكون فيه اللاحق أكثر تطوراً أو أعلى مصادقية من السابق، وأقرب
للحقيقة، إنما هي من أكثر الإجابات سذاجةً! حسناً دعنا نوضح بعض الأشياء،
لنبين لماذا نفترض سذاجة هذا التفسير.
لكل أمة
من الأمم مزاعم لا تنتهي، على أن أوضح مزاعم الثقافة الغربية هي أن قيمها
هي الأصلح للمجتمع الإنساني، وذلك باعتبار أنها الحضارة الأقوى والمنتصرة
في الوقت الحالي، وطالما أن الأمر كذلك، فإن المعرفة العلمية، التي هي
أقوى دعامات تلك الحضارة وأظهر أسباب تفوقها على غيرها، من خلال ما حققته
من كشوفات علمية تمخض عنها مخترعات وأدوات شتى، هي النوع الأسمى من
المعرفة، الجدير بالاحترام من بين بقية أنواع المعرفة الأخرى، إذاً الغرب
قال كلمته أو إجابته على سؤالنا: إن رافد المعرفة العلمية هو الرافد الذي
يجلب الماء العذب، إنه مصدر المعرفة الحق، وهو الوحيد الذي يستحق الاحترام
والعناية. وبالتالي تصبح المهمة الرئيسية للعقل بوصفه مصفاة النهر الكبير
هو أن يصفي ماء المعرفة العلمية ويستخلصه ويميزه عن بقية ما تجلبه الروافد
الأخرى من ماء ممجوج ومعرفة ضالة. ومن هذا المنطلق ظهرت النزعات الوضعية
في فلسفة العلم، التي ترفض كل ما هو ميتافيزيقي، وعلى وجه التحديد ترفض
المعرفة الدينية بوصفها أهم ما ينطوي تحت مسمى معرفة ميتافيزيقية. العلم
بوصفه المستوى الأعلى من التجربة، يكون منزهاً عن أشكال وصور المعارف
الأدنى من أسطورة وتوهم، وتدين، وحتى تفلسف. وقبل أن نناقش الإجابة التي
ننسبها للتوجه الغربي، نريد أن نورد ملاحظة هامشية، ربما يكون فيها شيء من
النظر أو الصحة النسبية، وهي أن الحضارة الغربية سيطرت عليها في بعض
المراحل روح الغطرسة والغرور، من خلال اعتقادها أن ما أنتجته في فترة من
الفترات، التي صادفت تفوقها "الحضاري"، لا بد أن يكون الشكل الأمثل من
المعرفة، فمثلاً يعتبر المؤرخون الغربيون اليوم، بأن تفوق جيوش أثينا
وبلاتايا على بعض وحدات جيوش الإمبراطورية الفارسية الآرامية، في سهل
ماراثون حوالي (490 ق.م)، كان بمثابة انتصار للثقافة العقلية الحق على
الثقافة الميتافيزيقة الأسطورية. [1] وبالتالي فإن الفلسفة باعتبارها كانت
قد أخذت تتبلور في اليونان أو في الثقافة الإغريقية آنذاك كما يزعمون، فلا
بد أنها الشكل الأسمى من المعرفة في تلك الآونة – إن القول بأن الفلسفة
نتاج للعقلية اليونانية، وحدها دون غيرها، ما هو إلا إحدى الأكاذيب الكبرى
في تدوين التاريخ – وبأنها هي، وحدها، الجديرة بالاهتمام والدراسة من بين
معارف ذلك العهد، أليست هي خاصة ما انتجته الثقافة الإغريقية آنذاك؟! إذاً
لا بد أن تكون الأفضل! ثم حلق الغربيون في هذا الوهم بعيداً، عندما
اعتبروا أنهم طالما ينتجون أفضل أنواع المعرفة وأصلحها، فلا بد أنهم إذاً
يتمتعون بالشكل الأعلى من العقلانية، وبالتالي يشغلون المستوى الأعلى من
البشرية عبر التاريخ، باعتبار أن العقلية الأوروبية هي حالة متميزة وخاصة
في تاريخ الحضارات. [2]وتأمل هذا القول السمج الذي تفوح منه رائحة الرعونة
وتزوير الحقائق التاريخية: "لقد رفع الاسكندر الكبير الشرق إلى مستوى
الغرب وآمن أيضاً بفكرة مزج الشرقيين والغربيين معاً، وبجعل الإغريق
والبرابرة شعباً واحداً." [3] لقد جعل المؤرخ الغربي من أهل الشرق عامة
حفنة من "البرابرة" في حين أن الوثائق التاريخية غير المزورة! تثبت بما لا
يدع مجالاً للشك، بأن مقدونيا هذه التي أتى منها الاسكندر ومن خلفها بقية
اليونان وما يسمى اليوم بالحضارة الإغريقية، لم تكن في حقيقتها أكثر من
مجرد ولايات صغيرة تابعة للإمبراطورية الآرامية الممتدة من الهند إلى
إيطاليا والتي عاصمتها بابل، وما تسمى بمعركة ( مارثون ) لم تكن أكثر من
انقلاب سياسي تقوم به الطبقة المسيطرة في البلاط الملكي الآرامي من أجل
خلع ضابط الحرس الإمبراطوري كودمان الذي تسمى بالإمبراطور داريوس الثالث
والذي كان قد استولى على الحكم في بابل في سنة 336 قبل الميلاد، وذلك عن
طريق تنصيبه من قبل الوزير بوغواس الذي تآمر بدوره لاغتيال الإمبراطور
ارتاسرخس الثالث. والاسكندر الكبير في الواقع لم يكن أكثر من جندي يتم
استعماله لمهمة مساندة بقية جيوش الإمبراطورية لخلع داريوس الثالث. هذا
عدا عن كونه يتحدر من أسرة آسيوية آرامية. [4] ولو قدر لأحد الشرقيين في
ذلك الزمان أن يقرأ بأنه يقال عنهم اليوم بأنهم كانوا برابرة من قبل
الغربيين لسقط مغشياً عليه من الضحك ولجلس على قفاه حتى الصباح يعيد هذه
الطرفة! على أن هذا التصور لتفوق العقل الأوروبي ومزاعمه في إنتاج المعرفة
الفلسفية ثم المعرفة العلمية، التي هي أسمى أشكال المعرفة حسب مزاعمهم،
ليس هو التصور الغربي الوحيد، ولكنه التصور الأعم. ونحن نستطيع مثلاً أن
نستمع لصوت أحد المؤرخين المنصفين وهو المستشرق الفرنسي الكبير بيير روسي
عندما يقول: "وإنه لخطأ فادح ذلك القول الذي يدعي أن الاسكندر أو بومبي أو
قيصر قد احتلوا، أو بالأحرى قد حضّروا، الأراضي المتوسطة والآسيوية
الشاسعة التي تتحدث عنها كتب تاريخ الغرب، كما أن من الخطأ الفادح أيضاً
أن يكون أرسطو أو أفلاطون قد أثرا في الفكر العربي. إن الحقيقة، هي العكس
من ذلك". [5] وهناك بالمقابل أيضاً من فلاسفة العلم الغربيين، من أمثال
بول فيرآبند (1924-1994)، ممن يعتبرون أن الثقافة الغربية، ما هي إلا حلقة
في سلسة الثقافات البشرية المتنوعة، والتي لها الحق في أن تعبر عن مزعمها
وتصوراتها للرافد الذي يجلب الماء العذب ويمور بالحقيقة الغالية بمنتهى
الحرية، وبنفس الدرجة من الحقوق والمصداقية!، ومن ذلك قوله في نقد الرؤية
الغربية الاستعلائية: "(…) إن نفس المغامرين الجهلة (…) حاولوا أن يصلحوا
ثقافات كاملة وأن يكيفوها وفقاً لأفكارهم عن الحياة المتحضرة. ومنذ أن
اكتشفوا أن من الناس من لا ينتمي إلى دائرة الثقافة والحضارة الغربية، فقد
افترضوا، كما لو كان واجباً أخلاقياً عليهم، أن يبلغوا بالحقيقة والتي
تتلخص في سيادة الأيديولوجية الرائدة للمنتصرين. لقد تمثل هذا الأمر في
البداية في الديانة المسيحية، ثم توالت علينا بعد ذلك عجائب العلم
والتكنولوجيا". [6] ثم يبين فيبرآبند أنه يجب الاعتراف بالثقافات كافة،
وأن يُعترف كذلك بأن لها حقوق متساوية في أن تعبر عن نفسها وعن تصورها
للمعرفة والحقيقة، أو كما قال: "إن المجتمع الحر هو المجتمع الذي يكون فيه
لكل التقاليد والثقافات حقوق متساوية بغض النظر عن تصور التقاليد الثقافية
الأخرى لها". [7] إذاً رأى فيرآبند بأن الغرب كان يحاول أن يفرض قيمه
وتصوراته على بقية الثقافات بما فيها ديانته المسيحية من خلال بعثاته
التبشيرية المتواصلة حتى هذا اليوم في أصقاع العالم كافة، ولاشك أن من حق
أي مجتمع أن يروج لأفكاره ومعتقداته، ولكن شريطة أن لايصل الترويج إلى حد
الإجبار أو الإكراه. وفي هذا الإطار يعتبر فيرآبند أن من حق الطب الصيني
الذي يعتبره الغربيون يستند على الخرافات أن ينافس الطب الغربي، الذي
يعتمد على معطيات الفحص السريري، دون أن نزعم بأن الثاني يملك مصداقية
أكثر من الأول، إذ إن علم الطب السريري نفسه ما هو إلا تطور لأشكال من
المعالجات السحرية في بدايات تشكله، لكن فيرآبند يذهب أبعد من ذلك كثيراً
عندما يزعم بأن الكثير من أشكال المعرفة العلمية وفرضياتها المعاصرة، لا
تزال تمارس نوع من الدجل أو الإيهام، وتتخذ طابع التقديس الديني أحياناً
أخرى. الغرب إجمالاً لا يخلو من المجموعات أوالتيارات ذات التوجه
الإنساني، ولكن الإيديولوجيا السياسية بالتعاضد مع ماردي الاقتصاد
والإعلام، تحاول دائماً أو غالباً أن تهيمن على الرأي العام في المجتمعات
الغربية وتوجهها، الوجهة التي تتفق مع مصالحها. وباعتبار أن الكلمة العليا
اليوم في الغرب هي للمعرفة العلمية، كما يبدو ظاهرياً! فإن فلاسفة العلم
من هذا المنطلق، حاولوا وضع تصور للآليات التي تم ويتم فيها تتطور العلم
وتغير نظرياته وفرضياته. في هذا الإطار قدمت النزعة الوضعية الكلاسيكية
تصوراً ينص بأن تقدم العلم يتم بالتراكم أي بتراكم الخبرات بصورة شاقولية
ومن ممثيل هذه النزعة أوغست كونت (1798-1857)، وجون استيوارت مل
(1806-1873). في حين قدم غاستون باشلار (1884-1962) فكرة القطيعة
الإبستمولوجية، بحيث يكون تقدم العلم أشبه بالقفزات من مرحلة إلى أخرى،
وكل مرحلة تشكل قطيعة مع التي قبله. في الوقت نفسه كان كارل بوبر
(1902-1994) يتحدث عن منطق للكشف العلمي، وذلك من خلال قابلية النظريات
للتكذيب، أي أن النظرية الأصلح هي التي تتمتع بالقدرة أو بقابلية تكذيب
الفروض، وبقدر ما تستطيع الفرضية أن تكذب الفروض وبنفس الوقت الذي تبدي
قدر من المرونة لاختبار صحتها، كلما أثبتت بأنها قابلة للاستمرار في تفسير
الظواهر التي تعالجها، وعندما تفقد النظريات هذه الخاصية يتم استبعادها،
ويتم كذلك التحول لنظرية جديدة وهكذا دواليك. ثم جاء توماس كون
(1922-1996) بفرضيته، بأن التقدم في المعرفة العلمية، يتم من خلال نماذج
إرشادية، والإنتقال من نموذج إلى آخر يكون بمثابة ثورة في بنية المعرفة
العلمية كالأنتقال مثلاً من نظرية نيوتن في مكانيك الكم وتصوره لمفهومي
الزمان والمكان المطلقين، إلى نسبية إنشتاين وكمومية ماكس بلانك وفيرنر
هايزنبرغ. ثم كان تصور إمري لاكاتوش (1922-1974) بأن التقدم في المعرفة
العلمية يتم من خلال الانتقال من برنامج بحث علمي متكامل إلى آخر، على أنه
يوجد فرضيات عامة غير قابلة للتكذيب تمثل نواة صلبة لبرنامج البحث وهي
تحافظ على موقعها في عملية تطور المعرفة وتقدمها، في حين تتغير الأحزمة أو
المجالات المحيط بها. ثم جاء فيرآبند الذي تحدثنا عنه آنفاً وتبنى فكرة
نسبية المعرفة عموماً، وأن حركة تطور العلم تتم من خلال وفرة الفروض وتعدد
مناهج البحث. وغيرهم الكثير… وحتى لا نخرج عن موضوع المقالة، نوضح بأننا
ذكرنا ما يحدث في مجال نظرية المعرفة العلمية باعتبار أن المعرفة العلمية
أحد الروافد الأساسية لنهر المعرفة البشرية، فوجدنا أن فلاسفة العلم قد
قدموا فرضيات متعددة لتصور عملية التطور والتقدم في العلم.
والسؤال
الذي نريد أن نستخلصه من هذا الكلام، هل يحدث التطور على مستوى نظرية
المعرفة بنفس طريقة التطور في مستوى نظرية المعرفة العلمية؟ هل يتم
الانتقال بالشكل الذي أشرنا إليه آنفاً من مستوى الأسطورة إلى مستوى
المعرفة العلمية بشكل تراكمي بحيث تفضي مرحلة إلى مرحلة لاحقة؟ أم تحدث
كذلك قفزات وقطيعات ونماذج إرشادية وبرامج متكاملة بين أنواع المعرفة كما
هو الأمر في مجال العلم؟
إن الإجابة على هذا السؤال بصورة دقيقة
لا تزال أمر بعيد المنال، فنحن نتحدث عن مجالات شاسعة، وشديدة التعقيد
تشمل كافة أنماط المعرفة البشرية، ولمحاولة الإجابة على هذا السؤال يجب أن
يتوفر عدد هائل من الأبحاث التي تدرس طبيعة كل نمط من أنماط المعرفة،
والنظريات الأساسية التي تفسرها، فيجب أن نبحث تاريخ الأديان والمذاهب
وأشكال التطور من مرحلة إلى أخرى، وكذلك ندرس أشكال التطور من صيغ أسطورية
إلى أخرى والدوافع التي تقف خلف عملية التطور تلك، والأمر نفسه في مستوى
حركة تطور المعرفة الفلسفية، التي طالما وصفت بأنها أفقية، بحيث تحل فلسفة
مكان أخرى، ومن ثم يبرز السؤال إن كان يمكن اعتبار أن مثل هذه الحركة
الأفقية هي شكل من أشكال التطور أو مجرد حالة حركية في الفكر بمعنى أنه
ليس كل تغيير أو تبدل هو تطور بالمعنى الإجابي إذ قد يحدث اتجاه التطور
بشكل سلبي. والأمر نفسه في مستوى المعرفة الفنية، الفنون السبعة بما فيها
اللغات وآدابها.
إذا كان هذا السؤال لا يمكننا
الإجابة عليه بصورة دقيقة، أو يصعب معالجته في بضعة صفحات محدودة في هذه
المقالة، إذاً ما الشيء الذي نحاول قوله هنا؟!
إننا ببساطة
نحاول أن نلفت الانتباه إلى علامات أو إشارات عامة نسبية تبين أن روافد
المعرفة تصبح متحايثة بعد مغادرتها المنبع المشترك إلى حد بعيد، وأنها
تتحرك ضمن المجال الخاص بها بشكل يبرز استقلالها النسبي ظاهرياً، ولكنها
تختلط بشكل بّين في مصفاة العقل البشري عند المصب النهائي، ثم إن العلاقة
فيما بينها هي علاقة تعايش، مع تكرر إبراز قيمة رافد على حساب بقية
الروافد وفقاً لمقتضيات المرحلة الزمنية أو الاجتماعية، ولكن دون أن تختفي
بقية الأشكال المعرفية الأخرى، فهي تستتر وتتبدى بأشكال جديدة تحت ثنايا
النمط السائد في فترة من فترات التاريخ البشري! أما زعم احتكار الحقيقة
فهو حق مشروع لكل نمط من أنماط المعرفة في إطار مجراه الخاص! أما صحته في
وسط النهر الكبير أو في إطار نظرية المعرفة العامة، فهي مرهونة بالتربة
التي يستند عليها، أو في الزاوية التي ينُظرُ منها إليهِ!
ربما
يبدو الكلام غير مفسر بشكل جيد، لذلك سوف نحاول توضيح ماذا نقصد من خلال
ضرب الأمثلة، ولسهولة التمييز سوف نستخدم مصطلحات مجازية، ففي مقابل نظرية
المعرفة العلمية، التي تدرس تكون وتطور بنية المعرفة العلمية ونظرياتها
وفروضها بما فيها مناهج البحث وصعوباته، سوف نستخدم مجازاً للمعرفة
الدينية مصطلح "نظرية المعرفة الدينية"، وللفنون "نظرية المعرفة الفنية"،
وللأساطير "نظرية المعرفة الأسطورية"، وللفلسفة "نظرية المعرفة الفلسفية"!
والتي جميعها تكون ممثلة في نظرية المعرفة أو "الإبيستيمولوجيا"، بالمعنى
الإنجليزي والألماني للمصطلح، وليس بالمعنى الفرنسي. حيث تجعل كلتا
اللغتين الأوليين هذا المصطلح بمعنى "نظرية المعرفة" أما اللغة الفرنسية
فتستخدمه بمعنى "نظرية المعرفة العلمية" أو "فلسفة العلم".
إن
الدراسات الإنثربولوجية بينت بشكل مكثف أن القبائل البدائية، التي كان
ينظر إليها على أنها نموذج لطفولة المعرفة البشرية، ليست بالقدر البدائي
الذي كان يظنه الباحث حولها، إذا صح هذا التعبير، فإذا كانت أنماط المعرفة
توجد في ذهنية الإنسان في هذه المجموعات البشرية متداخلة، ويغلب عليها
الطابع الأسطوري والسحري، إلا أنها تحمل في طياتها البذور الأولى للمعرفة
الدينية والفلسفية والعلمية. ففي الحضارات القديمة توفرت دلائل أكثر
وضوحاً على تحايث تطور الأنواع المعرفية إلى جانب بعضها البعض، دون أن
نفترض أنها تتقدم أو تتطور بنفس القدر أو النسبة. فالحضارة المصرية
القديمة بوصفها تصنف في مرحلة سيادة النمط الأسطوري من المعرفة كما هو
معروف، لا يمكننا بالمقابل أن نغض البصر عن فرض أن منجزات هذه الحضارة
العظيمة، قد تمت بدون توفر مستوى معين من المعرفة العلمية، فكيف يمكن بناء
المعابد والأهرامات وقنوات الري وتنظيم الملاحة النهرية، من غير معارف
علمية متقدمة نسبياً في الرياضيات والفلك والهندسة والجغرافيا. والدراسات
الأثرية لا تنكر وجود مثل هذه المعارف العلمية. فقد ورد على سبيل المثال
لا الحصر أن الفراعنة استطاعوا أن يطوروا أكثر من ثمان مئة عقار طبي لا
تختلف كثيراً عن مكوناتها الحالية. فهل كان بمقدورهم فعل ذلك من غير بنية
معرفة علمية طبية؟ لقد أكد الفيلسوف الألماني أرنست كاسيرر (1874-1945)
وجهة النظر هذه، بقوله: "(…) نستطيع أن ندرك حتى في أكثر صور الحياة
الاجتماعية بدائية نظماً دقيقة واضحة. ولا يصح القول على الإطلاق بأن هذه
الشعوب تعيش في حالة فوضى أو اضطراب"[8]. أما عالم الإنثروبولوجيا
البريطاني ذي الأصل البولندي برونيسلاف كاسبر مالينوفسكي (1884-1942)،
الذي قضى سنوات طويلة من عمره بدراسة أحوال القبائل البدائية في جزر مايلو
وتوربرياند، فقد بين أن الإنسان في تلك القبائل يستطيع أن يميز متى يستعمل
المعرفة الأسطورية، ومتى يستعمل المعرفة العلمية، - ونقول معرفة علمية
بالمعنى الأولي الذي كان متاح لأهل تلك الجزر- فهو يبين بصورة غير مباشرة،
كيف يتحايث نمطان مختلفان من التفكير وما ينتج عنهما من مخرجات، مع سيطرة
الأسطوري على العلمي، على الرغم من أن أفراد تلك القبائل لا يلجؤون للفكر
السحري إلا إذا اعجزتهم الحيل. فهو يقول: "إن استعمال السحر حتى في
المجتمعات البدائية يقتصر على مجال معين من النشاط الإنساني. فالإنسان لا
يلجأ إلى السحر في كل الحالات التي يمكن معالجتها باللجوء إلى سبل تقنية
بسيطة نسبياً. (…) عندما يقدم البدائي على صنع أداة، فإنه لا يرجع إلى
السحر. إنه يتبع الروح التجريبية الصرفة، أو الروح المعملية عند اختباره
لمواده (…)".[9]
والسؤال الذي نود طرحه الآن:
لماذا إذاً نخص الحضارة المعاصرة بأنها حضارة علمية، ونجعل العلم أحد
منجزاتها، ونتهم حضارات قديمة كالحضارة المصرية القديمة بكونها أسطورية
وخرافية. الإجابة: إن فلاسفة الحضارة قد درجوا على وسم المرحلة الحضارية
بأخص ما يمثل وجهها المعرفي، فإذا كانت الحضارة المصرية القديمة حقاً قد
عرفت أشكال متطورة نسبياً من المعارف العلمية، فإن أبرز معالم تلك الحضارة
هو هيمنة المعرفة الأسطورية والخرافية عليها. وبالمقابل نجد مثلاً أن
الحضارة الإغريقية، قد برز فيها الفكر الفلسفي مع ظهور الحكماء السبعة
المعروفين في تاريخ الفلسفة – والذين هم ومن أتى بعدهم بشكل أو بآخر
تلاميذ للحضارة الآرامية الآسيوية أي الفلسفة العربية قبل الميلاد-، ثم
تبشير سقراط المعلم بفلسفته العظيمة ومن بعده تلامذته النجباء كافلاطون
وأرسطو. أبرز ما يميز هذه المرحلة الحضارية هو المعرفة الفلسفية، لكن ذلك
لم يعنِ أبداً أن الأشكال الأخرى من المعرفة قد تلاشت، بحيث نقول أن
المرحلة الفلسفية قضت على الفكر الأسطوري مثلاً، بل بقيت أنمط المعرفة
الأخرى محايثة للمعرفة الفلسفية، وتؤثر فيها بنسب متفاوتة، كل ما في الأمر
هو أن السيادة كانت للفكر الفلسفي على غيرة. إن فيثاغورث الرياضي والهندسي
المعروف، الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، لم يمنعه تصوره الديني
الذي يقوم على تقديس الأعداد واعتبار أن لها قوة سحرية في تنظم العالم،
وكذلك ولعه بالموسيقى من حيث أنها مع الاعداد تخلق التناغم من حولنا، لم
يمنعه اختلاط الأنماط المعرفية الدينية والأسطورية والفنية في رأسه من أن
يطور مبرهنته الرياضية الهندسية المشهورة التي تحمل اسمه. لقد كانت أنماط
المعرفة في رأس فيثاغورث متحايثة ومتعايشة، فضلاً عن أنه يُعتبر كذلك
بمعنى من المعاني من الفلاسفة في هذه المرحلة. في القرون الوسطى عندما ساد
نمط المعرفة الدينية في العالم الإسلامي وهيمن على غيره من الأنماط
الأخرى، لم يمنع ذلك من ظهور علماء كثر، بل تقدمت المعرفة العلمية بشكلٍ
مذهل، فلم يعق إيمان جابر بن حيان (721-813) بالمعرفة الإسلامية الدينية،
من أن يستطيع تحقيق منجزاته العلمية في مجال الكيمياء، فقد استطاع كما هو
معروف أن يحدد الوزن الذري لثلاثة عشر عنصراً كميائياً بدقة متناهية تماثل
تلك التي يتحدث عنها الكيميائيون المعاصرون مع فوارق بسيطة. ومن المعروف
أنه كان متأثراً ومهتماً إلى جانب المعرفة الدينية والمعرفة العلمية كذلك
بالمعرفة الفنية وتحديداً بالموسيقى، وكذلك بالمعرفة الفلسفية. إن جابر
يصنف على أنه عالم أو قل باحثاً في المعرفة العلمية، في فترة حضارية هيمنت
فيها المعرفة الدينية على غيرها من المعارف، وهو مثال على تحايث وتعايش
الأنماط المختلفة للمعرفة في نفس المرحلة الحضارية الواحدة. على أن
الاهتمام بالكيمياء عند المسلمين عندما أدخلها خالد بن يزيد بن معاوية
(635-704) كانت لا تزال متداخلة بالفكر الأسطوري أو اللاعلمي، أي كان
الأسطوري يفرض نفوذه في غير مكانه، بل يحتل أجزاء تتبع للمجرى العلمي! فقد
كانت "الخيمياء" تهدف إلى تحويل المعادن الخسيسة أو الرخيصة كالحديد
والنحاس إلى الذهب بواسطة حجر الفلاسفة، ثم بدأ التمايز النسبي مع تطور
المعرفة العلمية، فأثبت الكيميائيون بأن تغيير الخصائص الجوهرية للمعدن
غير ممكن. أي أن الأسطوري تراجع إلى مكان نفوذه، وخرج من المكان المخصص
ليقول العلم فيه كلمته.
إن التعايش أو التحايث
بين أنماط المعرفة يجب أن يقوم على علاقة توازن أو احترام لمناطق النفوذ،
وإلا فسوف يدمر أحدها الآخر، فتخيل أننا نريد أن نُخضع المعرفة العلمية
الوضعية للمعرفة الدينية، أو أن نُخضع المعرفة الدينية للمعرفة الوضعية،
فلا شك أن النتيجة سوف تكون كارثية، كما حدث في بعض المراحل التاريخية
للحضارة الأوروبية، حيث أفضى ذلك إلى رفض المعرفة الدينية كليةً،
واعتبارها لا تتوافق مع معايير صحة المعرفة العلمية، وهذه النتيجة بصورة
نسبية صحيحة باعتبار أننا نستخدم المعايير الخاصة بالمعرفة العلمية، ولا
يصح من الناحية المنطقية أن نبرهن على صحة الديني بالعلمي أو العلمي
بالديني، لأن لكل نمط من المعرفة بنيته الخاصة، وشروطه ومعاييره، وهذا
الخلط العجيب الذي يحاول أن يقوم به اليوم البعض من رجال الدين باتجاه
المعرفة العلمية أو من الباحثين في العلوم باتجاه المعرفة الدينية، هو من
الأخطاء المعرفية والمنهجية الكبيرة، ولا يغرنك الانسجام المؤقت الذي ينتج
من خلال لي عنق النصوص الدينية، والنصوص العلمية لإجبارها قصراً على
الترابط، فسرعان ما تبرز تناقضاتها أو عدم انسجامها، وهذا لا يعني عدم
صحتها بل يعني عدم تناظرها، وليس أدل على ذلك من الأبحاث التي تقدم تحت ما
يسمى بـ "الإعجاز العلمي في القرآن". ويجب ألا تعتبر حالات الاتفاق الخاصة
بمثابة قاعدة يمكن على أساسها المضي في هذا النمط المتداخل بين نوعين
مختلفين من المعرفة، وهذا لا يعني أن أنماط المعرفة لا تتكافل في تقدم
المعرفة وتتكامل بل هذا بالفعل ما يحدث، ولكن مع ملاحظة احترام خصوصية
معايير كل نمط، بحيث يتم الحكم على مصداقية المعرفة من داخل النمط وليس من
خارجه، والعقل هو المصفاة الأخيرة التي تمر عليها هذه المعارف في نهاية
المطاف. فلا نحكم على صحة أو خطأ معرفة علمية بمعايير المعرفة الدينية،
ولا نحكم على صحة أو خطأ المعرفة الدينية من خلال معايير المعرفة العلمية.
والأمر ينطبق كذلك على بقية أنواع المعرفة. ونؤكد مرة أخرى أن هذا لا يعني
عدم وجوب التعاون والتداخل والتكافل بين أنواع المعرفة، وليس أدل على هذا
التكامل من كون هذه المقالة نفسها تأتي في إطار الاهتمام بفلسفة العلم، أي
تخصص يشترك فيه الفلسفي بالعلمي! دون أن نتخذ معايير أحدها من حيث البنية
الأساسية كمعيار لصدق أو خطأ الآخر. بل إن التدخل بين المجالات المعرفية
يكون في بعض المراحل ضرورة ملحة، كأن يتدخل النظام الأخلاقي أو الديني
ليضع إرشادات أو ضوابط للبحث البيولوجي في مجال استنساخ الأعضاء البشرية،
فالتدخل يكون لتوجيه البحث بما يناسب المنظومة الأخلاقية، ولكنه ليس
تدخلاً ليحكم على صحة أو مضمون النتائج الداخلية للعمليات البحثية التي
توصل إليها البحث العلمي البيولوجي.
نريد أن
نستمر بضرب الأمثلة، فهي التي سوف تساعدنا على تجلية ما نود قوله. في
القرون الوسطى أيضاً على سبيل المثال أرادت الكنيسة كما هو معروف أن تُخضع
المعرفة العلمية لمعايير المعرفة الدينية، فعندما تقدم العالم الإيطالي
غاليليو (1564-1642)، ببحثه الذي دافع به عن وجهة نظر الفلكي كوبرنيكوس-
الذي قال: بمركزية الشمس في مجموعتها وأن بقية الكواكب بما فيها الأرض
تدور حولها- اعترضت عليه الكنيسة الكاثوليكية، ليس لأنها ترى أن هذه
المعلومة تتعارض مع النظام الأخلاقي أو القيمي للمسيحية، بل لأن المعلومة،
علمياً، خطأ! النص الديني المسيحي يقول: الأرض ثابتة والشمس وبقية الكواكب
هي التي تدور حولها! إذاً المشكلة نتجت من تدخل النمط المعرفي الديني في
نطاق عمل النمط المعرفي العلمي. وبالتالي تم على أثرها تحريم تداول بحث
غاليليو وفرضت عليه الإقامة الإجبارية إلى أجلٍ مفتوح. وربما يقول الآن
قائل: هل يعني هذا الكلام أن المعارف لا تتعاضد على وجه الإطلاق في دعم
صحة بعضها البعض ولو في حالات معينة، نقول: بل يحدث هذا بالطبع ولكن بصورة
غير مباشرة أو من خلال برهان علاقة التعدي الرياضية، ونضرب على ذلك مثلاً
واقعياً، بأن أحد الراهبات سألت أحد الأفراد لماذا لا تؤمن بالله،
فأجابها: ولماذا عليّ أن أؤمن به؟ فقالت: لأن الله موجود وهو المحبة
والسلام وهو المخلص من الخطيئة الأبدية. فرد عليها بتبرم شديد: أنا رجل
علم، ولا أصدق غير المعرفة العلمية، لذلك أنا غير معني بوجهة النظر التي
تقدمها معرفتك الدينية. لكن الراهبة أجابته بأنها تمتلك الدليل على أن
الله موجود، واستطردت … ألم ترى النظام المتوازن البديع الذي تتشكل منه
خلية صغيرة في ورقة نبتة من النباتات، هذا النظام ليس صدفة بل لا بد له من
منظم، وهذا المنظم هو "الله".[10]
ولنلاحظ الآن
مالذي حدث؟ الراهبة بوصفها غير مختصة بالمعرفة العلمية، قامت بتوظيف نتائج
البحث العلمي لدعم فكرتها، ولكن من الناحية المنطقية، كون التشريح
المجهري، الذي يقوم به البحث بعلم النبات يثبت أن الخلية فيها نظام لايكفي
لإثبات وجود منظم، فقد يكون ما نراه قد نتج عن طريق الصدفة، وليس عن طريق
منظم كما افترضت الراهبة، وهنا علينا أن ننقل المسألة إلى مجال علمي آخر،
وهو الرياضيات، وذلك من خلال السؤال: هل تستطيع الصدفة أن نتتج نظاما؟ إذا
أثبتت الاحتمالات الرياضية أنه غير ممكن، سوف نصل لفرض أن وجود النظام في
خلية النبتة يحتاج لمنظم، أحد فروض هذا المنظم وليس جميعها هو "الله"، ثم
تأتي الحاجة لتحديد مفهوم "الله"، هل هو بالمعنى الذي يرد في الدين
المسيحي أم الإسلامي أم اليهودي … إلخ ؟ أي إننا أعدنا السؤال مرة أخرى
للمجال الديني.
إن المعرفة الدينية وطرائقها
البحثية، لا تستطيع أن تثبت أن خلية النبتة منظمة أو تتكون من عناصر
تحكمها معادلات كيميائية دقيقة، وكذلك لا تستطيع معايير المعرفة الدينية
أن تقوم بوظيفة عمليات الاحتمالات الرياضية، لتثبت أن الصدفة لا تنتج
نظاماً، وفي المقابل فإن الرياضي بما لديه من معارف، وعالم النبات بما
لديه من نتائج لا يستطيع أن يبرهن فقط! بمعايير العلم أن الله موجود. إذ
إن مفهوم الله نفسه ليس مفهوماً علميا، لأن العلم الذي تأسس على قواعد
وضعية، لا يستطيع أن يجري تجربة مخبرية مثلاً ليثبت فيها وجود ملائكة أو
أبالسة! وحتى مجرد طرح فكرة هذه التجربة هي نفسها عمل غير علمي. لكن ذلك
لا يعني أبداً أن الملائكة موجودة أو غير موجودة ، إنه يعني فقط أنه
بواسطة المعرفة العلمية وحدها! لا يمكن إثبات وجود الملائكة، وبكلام آخر
يحق للنمط المعرفي العلمي أن ينكر وجود الملائكة إذا اكتفى فقط في التحرك
داخل مجاله الخاص، ولكن لا يحق للعلم أن يزعم أن الملائكة غير موجودة على
الإطلاق. وبالتالي فإن الراهبة، قامت بتوظيف المعرفة العلمية لخدمة
المعرفة الدينية، دون أن نفترض أن نتائج كلا المجالين يمكن الحكم على
صحتها من خلال معايير أحد الطرفين. فليست خلية النبتة منظمة لأن الدين
أثبت ذلك، وليس الله موجود لأن العلم أثبت ذلك، ولكن يمكن أن يستنتج العقل
منطقياً وبصورة غير مباشرة من خلال جمع أو تكامل نتائج وتصورات كلا
النمطين المعرفيين مثل هذه الحقيقة، وعندما نقول أن العقل يسنتج منطقياً،
فهذا يعني أننا قد استخدمنا كذلك أحد أدوات المجال الفلسفي الأساسية، التي
هي المنطق الصوري أو الأرسطي. وفي نفس السياق نريد أن نضرب كذلك مثلاً
واقعياً على أشكال التداخل غير السليم بين المجال العلمي والمجال الديني
من خلال ما يسمى بـ أبحاث "الإعجاز العلمي في القرآن الكريم"، والتي أصبحت
مهنة من لا مهنة له، والتي تقوم على فكرة احتواء الآيات القرآنية على
معلومات علمية.
أورد الأستاذ سامر البكري في
كتابه القيم "موقف العقل والعلم من المعجزة في الإسلام"[11]، تحت فقرة
"الإعجاز العلمي"، تحت شرح معنى الآية رقم (25) من سورة الحديد: "وأنزلنا
الحديد فيه بأس شديد .."، أن أبحاث علماء طبقات الأرض والفيزياء والفلك،
قد أثبتت أن الحديد معدن غير أرضي، وأنه تشكل في قلب بعض النجوم في درجات
حرارة عالية جداً، حيث يتم ذلك من خلال عملية احتراق "السيليكون" في
المراحل الأخيرة من حياة النجوم العملاقة قبل تحولها من الحالة الغازية
والسائلة إلى الحالة الصلبة، التي يطلق عليها مرحلة تجمد النجم أو
استقراره، بحيث تتكون نواته من معدن الحديد. وبالتالي فمصدره سماوي، وقد
استنتج المؤلف من ذلك أن الآية القرآنية كانت بمثابة سبق تاريخي علمي
إعجازي، كيف لا وهي قد احتوت معلومة علمية من حوالي أربعة عشر قرناً، في
حين جاءت أبحاث العلم فقط قبل عقود قليلة. وفي إحدى المناظرات مع أحد
المستشرقين استخدم أحد المسلمين هذه المعلومة كتدعيم لصحة القرآن من حيث
أنه يعود لمصدر سماوي، وأن هذه الآية قد تضمنت كشف علمي. وفي اليوم التالي
أحضر المستشرق، كتاباً بتخصص علم الآثار، ويتضمن وثيقة تثبت أن الآشوريين
والبابليين والحثيين وغيرهم من الشعوب القديمة، قد عرفوا معدن الحديد
بوصفه معدن سماوي من حوالي القرن الرابع عشر قبل الميلاد! وقد أطلقوا عليه
اسم "معدن النجوم"[12] لأنهم لاحظوا احتواء النيازك الساقطة على الأرض هذا
المعدن. على أن الفيلسوف المسلم ابن سينا، قد أضاف توضيحاً هاماً بشأن
النيازك، من حيث كون بعضها يحمل الحجارة فقط في حين يحمل البعض الآخر
المعادن ومنها الحديد، وهذا ما بينه العلم المعاصر.
لنحاول
الآن أن نفهم ما حدث: المؤلف زعم بأن الآية، التي هي نص ديني وليس علمياً،
تتضمن كشفاً وسبقاً علمياً، المصادر التاريخية أثبتت بأن الآية لم تتضمن
سبقاً علمياً، فقد عرفت الشعوب القديمة هذه المعلومة بالملاحظة قبل ظهور
القرآن بقرون طويلة، مع الفرق أن المصدر الأثري، لم يزعم بأن تلك الشعوب
قد حققت كشفاً علمياً، بل مجرد ملاحظة اتفقت مع نتائج البحث العلمي فيما
بعد، في حين يزعم أصحاب الإعجاز العلمي في القرآن أن الآية تتضمن سبقاً
وكشفاً علمياً؟ وكما بينا في المثال السابق، فإن هذا، منطقياً، غير ممكن،
لأن مجرد ورود جملة إخبارية تقول: "وأنزلنا الحديد .."، فإن هذا لا يعني
أنها معلومة علمية، بل تقرير لا يتعارض مع الحقيقة العلمية وهناك فرق شاسع
بين الاثنين، فالحقيقة العلمية اعتمدت على جهود وأبحاث مخبرية مطولة
تناولت دراسة بنية ذرة الحديد وتكونها، حتى استطاعت الخروج بهذه النتيجة.
ثم إن النص الديني ليس من مهماته أن يوضح حقائق علمية، ولكن يكفيه كأحد
أشكال براهين إثبات صحته، بوصفه ذا مصدر إلهي، ألا يتعارض مع الحقيقة
العلمية، لا أن يحاول إثبات صحتها أو بطلانها، لأن هذه المهمة تقع في نطاق
العلم وليس الدين. وفي نفس المعنى نرى أن المفكر الإسلامي جودت سعيد، قد
ذهب بعيداً جداً، عندما قرر في فهمه لـ: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي
أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق"، أن القرآن سوف يتحول في نهاية المطاف إلى
كتاب علمي، وذلك بعدما تتقدم المعرفة العلمية، ويتبن الناس أن جميع نصوص
القرآن قد مثَلت سنن الله في الكون، بمعنى آخر أنها بينت تضمنها لكشوف
وسبوقات علمية؟! إن الأستاذ جودت سعيد معروف بعمق فهمه للأشياء وموسوعية
ثقافته، لكن على الرغم من ذلك فإن مثل هذه الآراء تنتج عندما يتدخل رجل
الدين في مجال يقع خارج النطاق، الذي كان من المفترض أن يتحرك فيه بحكم
تخصصه. ومن حيث المبدأ إذا صح افتراضنا بأن نطاق نظرية المعرفة الدينية
إنما يكون في مجال العالم الروحي، بوصفها تقدم نفسها كمترجم لألغاز الكون
بما فيها البداية والنهاية، وبالتالي تزعم بأنها تملك معلومات دقيقة عن
العالم الآخر، فيفترض بذلك ألا يكون تعريجها على المجال المادي لإثبات
صحتها، إلا من باب زيادة الإقناع أو من باب الاتفاق العرضي لأنها حسب
مزاعمها يجب أن تملك في إطار بنيتها الداخلية القدرة على إثبات صحتها،
لذلك يمكن فهم مقصود الإمام علي في هذا الإطار عندما يقول: "لو أن السماء
انشقت والجنة والنار نصبت لما ازددت إيماناً على إيماني" أو كما ورد في
بعض المصادر، قوله: "لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً".[13] فالإمام علي
مكتفياً بإيمانه بالحقيقية المطلقة، التي حصل عليها في إطار نظرية المعرفة
الدينية الإسلامية، غدا لا يحتاج أن يرى أية قرائن أو كشوفات مادية سواء
من العالم الفيزيائي أو من العالم "البارسيكولوجي"، حتى يدعم أو يرفع درجة
صدق ما آمن به.
في سياق آخر فإن الحضارة الغربية
المعاصرة توصف بأنها حضارة العلم، ومن هذا المنطلق يعُرف الكثير من
السياسيين الغربيين وممن ينتهج تقاليدهم في مناطق أخرى من العالم، بأن
مجتمعاتهم علمية أو في بعض الأحيان يتم استخدام التعبير المثير للجدل
"مجتمعات علمانية"، وبالتالي فهي لا تؤمن بصدق معارف من نوع تلك التي
تقدمها نظرية المعرفة الدينية أو نظرية المعرفة الأسطورية. لكن الشيء الذي
سوف يثير الدهشة أن عدداً لابأس به من أفراد تلك المجتمعات يؤمنون
بالخرافة والسحر والتنجيم، وقراءة الطالع، وبوجود الأبالسة والجن وغيرهم
.. إلى جانب "إيمانهم" بصدق المعارف العلمية! فقد أجُريت دراسة في ألمانية
مؤخراً، بينت أن أكثر من ثلاثة عشر بالمئة من المجتمع الألماني يؤمن
بالسحر والجن، وأكثر من عشرين بالمئة يؤمنون بالحظ والصدفة، وقراءة الطالع
والأبراج، بل إنه توجد قنوات معروفة ومشهورة لقراءة الطالع والبخت، وتكاد
لا تخلو دولة غربية من مثل هذه القنوات. والذي نريد قوله أن كون الحضارة
الغربية تمجد العلم والعلماء، ويشكل العلم الوجه الأبرز لهذه الحضارة
العظيمة، فإن ذلك لم يمنع من وجود الأشكال المعرفية الأخرى بما فيها
المعارف الأسطورية أو الخرافية، أما المعارف الفنية والفلسفية فهي من
علامات تقدم وتحضر تلك المجتمعات، ولا يجب أن يعتقد المرء أن المعارف
الدينية أقل منافسة وأقل مؤيدين من غيرها في تلك المجمعات، فلا يجب أن
يغيب عن الأذهان أن معظم الأحزاب اليمينية المسيحية إنما تسيطر على الساحة
السياسية اليوم في الغرب.
ومن الأمثلة الطريفة
في التاريخ الحديث لنظرية المعرفة العلمية، التي تعكس كيف يمكن أن تتعايش
الأنماط المعرفية في الذهنية العلمية الواحدة، دون أن يكون لها أثر سلبي
إلا في حالة تدخل أحدها في مجال الآخر، هو أن العالم الرياضي والفلكي
الألماني يوهنَز كبلر (1571-1630)، الذي أكد من خلال أبحاثه على صدق فرضية
كوبرنيكوس في مركزية الشمس، ودوران الأرض حولها، كان يؤمن بالتنجيم، على
الرغم من اقتناعه التام بأن التنجيم لا ينتمي لحقل العلم، بل لحقل
المورثات السحرية والخرافية، إذ يفترض التنجيم أن تكون الأرض ثابتة والشمس
وبقية الكواكب تدور حولها، ويقوم المنجم برصد حركة الكواكب في المدارات
المعروفة بأسماء البروج التي يقرأ المرء حظه تحتها، من مثل "الثور
والسرطان والعذراء" وغيرها، بل إن كبلر قد ألف عدة مقالات في الدفاع عن
التنجيم وعن حق هذا النوع من المعرفة في أن يقول كلمته ويمارس دوره
المعتاد طالما أن هناك من يهتم به من الناس، وقد مارس كبلر نفسه مهنة
التنجيم، هذا على الرغم من تأكيده الدائم على أن علم الفلك يختلف عن
التنجيم، وإن كان الثاني هو الأصل السحري للأول. [14]
وفي
مثال آخر يوجه فيه أحد الماديين، رسالة للفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين
(1879-1955)، يشير له فيها، أنه بعد إنجاز فرضيتي النسبية الخاصة 1905،
والنسبية العامة 1915، لم تعد هناك من حاجة للمعرفة الدينية، التي تنبى
على أساس المفاهيم أو الحقائق المطلقة – كما هو الحال في مفهومي الزمان
والمكان المطلقين عند نيوتن- فهي ليست أكثر من خرافات، وكل شيء أصبح
نسبياً في هذا الكون. ولكن أينشتاين رد - بحزم العالم الذي يعرف حدود
علمه، والعبقري الذي يستطيع أن يتفهم وجود حقائق خارج مجال نمطه المعرفي-
إنكم تؤمنون بعالم خلقته الصدفة، وتسود فيه الفوضى، ولكنني أؤمن بعالم
يسود فيه النظام والقانون، والذي هو من صنع الخالق العظيم. [15] فلم يمنع
أينشتاين كونه عالماً يؤمن بالمعرفة الوضعية والتجريبية، من أن يؤمن بنفس
الوقت بالمعرفة الدينية، التي تصنف على أنها معرفة ما ورائية أو
ميتافيزيقية، ولم يكن ليتجاهل التزاماته تجاه بني معتقده، من خلال دعمه في
مرحلة مبكرة لإنشاء دولة دينية لليهود في فلسطين. وإن كانت مواقفه
المتآخرة فيها قدر أكبر من العقلانية، وذلك من خلال دعوته لتشارك الحياة
بين العرب واليهود، ورفضه لقبول منصب رئاسة إسرائيل عام 1952م، والأمر
الجميل أنه برر هذا الرفض بكونه "رجل علم وليس سياسة"، وهذا يبين أن الرجل
قد وعى حدود مجاله المعرفي بشكل جيد، وكما جاء في الحديث الشريف: "رحم
الله امرأ عرف حده فوقف عنده".
ولو حاولنا الآن
ربط هذه المعاني، بما كنا قد أشرنا إليه من أمثلة ومقتطفات سريعة عند
الحديث عن بعض تصورات القبائل البدائية والحضارات القديمة والوسطى،
وبالمقارنة مع الحضارة الحديثة، يلاحظ المرء أن جميع أنماط المعرفة لم
تعدم من يهتم بها في المجتمع مع اختلاف مكانة كل نمط وقيمته بالنسبة لغيره
من الأنماط الأخرى، ونسبة المؤيدين أو المعارضين له، فالمسألة تكاد تكون
تحايثاً أو تعايشاً وتوازياً بين روافد المعرفة الأساسية، وليست تطوراً أو
تراكماً بالمعنى الحرفي، الذي يكون فيه السابق قد أفضى للّاحق بالضرورة،
بل الأمر أكثر تعقيداً من هذا التفسير الأحادي، مع ملاحظة اختلاف نسبة
وسيطرة كل نمط في كل فترة من فترات تاريح الحضارة البشرية وتاريخ نظرية
المعرفة ذاتها. ويجب أن نلفت الانتباه هنا إلى أننا لا نتبنى موقف
البنيوية ولا نذهب إلى ما ذهبت إليه، فقد وصلت المبالغة ببعض ممثليها، إلى
أن يساووا بين الأسطورة والعلم من حيث "القيمة" كما فعل أبرز ممثليها ليفي
شترواس ( 1908-2009) [16]، وليس من حيث التوازي والمحايثة أو من حيث أحقية
نمط في الوجود كغيره من الأنماط ما دام يلبي حاجة فكرية أو يؤدي وظيفة
اجتماعية وله من يؤيده. إننا نعتقد أن مجرد طرح فكرة التساوي المطلق في
القيمة بين نوعين مختلفين من المعرفة هو بحد ذاته طرح غير منطقي، لأننا
كما قلنا لا نستطيع الحكم على نمط من خلال نمط آخر فالعلاقة هي توازي
وتحايث أكثر مما هي تساوٍ في القيمة المعرفية، ويمكن فقط الحكم على قيمة
النمط في إطار مستويين: الأول من داخل النمط ذاته ووفق معاييره ومفاهيمه
الخاصة، كأن نقارن بين قيمة نظرية ونظرية أخرى في مجال العلم، أو أخلاق
دينية مع أخلاق دينية أخر