هشام مزيان المشرف العام
التوقيع :
عدد الرسائل : 1762
الموقع : في قلب كل الاحبة تعاليق : للعقل منهج واحد هو التعايش تاريخ التسجيل : 09/02/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 25
| | مشكلات المخطوطات من الخزانات الخطية إلى آفاق النشر الإلكتروني | |
مع أن كلمة التراث عربيةٌ فصيحةٌ، إلاَّ أنها غير تراثية! وأصلها في اللغة واضح بيِّن، فهي من مادة (ورث) وهي مادة تشير إلى معنى ليس فيه التباس. إلاَّ أن القدماء لم يستعملوها بالمعنى الذي يقصده المعاصرون، كمرادف للكلمة الإنجليزية Heritage.وكلمة (تراث) كلمة قرآنية، ذُكرت في القرآن الكريم مرة واحدة في قوله -تعالى-: ﴿وتأكلون التراث أكلاً لَمـًّا، وتحبون المال حبًّا جمًّا﴾ (سورة الفجر، الآيتان 19، 20). فالتراث جاء في القرآن بمعنى الميراث، أو الشيء المتبقي عن السابقين. ولم يستخدم قدماؤنا كلمة تراث خلال تاريخ التراث العربي، ولا نجد في الكتابات التي بدأت منذ عصر التدوين حتى القرن التاسع عشر الميلادي، كلمة (التراث) مستخدمةً، ولا مُشاراً إليها بالمعنى الذي نستخدمه الآن. قد يقولون: الآثار كما فعل البيروني في عنوان كتابه: الآثار الباقية عن الأمم الخالية. وقد يُقال ما تركه السَّلَف للخلف. ولكن لفظة (التراث) -بمعناها المعاصر- طفرت في القرن العشرين، ويُقال إن الكاتب المصري (إسماعيل مظهر) كان أول من استخدمها. وهذا عندي غير مؤكَّد. ولكنَّ المؤكد أنها طفرت بشكل مفاجئ جداً، وسرعان ما استُعملت على نطاق واسع، حتى إن نزاز قباني له قصيدة مشهورة يقول فيها لحبيبته: أنتِ التراث الذي يتشكَّل في باطن الأرض منذ ألوف السنين.. وهو هنا يستخدم كلمة التراث، بأقصى قدرة للمجاز اللغوي، حتى يجعل من حبيبته حقيقة أزلية أبدية. ولم يقتصر هذا الاستخدام المجازي لكلمة (تراث) على الشعر العربي في القرن العشرين، وإنما تعدى ذلك إلى استخدامات غير منضبطة، أدت بنا إلى أزمة حقيقية في الوعي بالظاهرة التراثية، حيث اشتُق من أصل اللفظة وأضيف إليها إضافات كثيرة جداً، حتى كاد الأمر يخرج عن أي إحكام للمعنى. فهناك التراث الشفاهي، والتراث المكتوب، والتراث المعماري، والتراث المادي الملموس، والتراث غير الملموس.. إلخ. وبذلك أصبحت الكلمة متعددة الاستعمال، وكما أشار ميشيل فوكو فإن شيوع اللفظ وترديده المستمر، قد يخفي معناه! ولذلك فقد وصف عمله (الأركيولوجي/ الثقافي) بأنه: بحثٌ عن الأشياء التي اختفت، من فرط تواجدها فوق السطح. وقد كُتب عَلَيَّ مبكراً أن أشتغل بالتراث العربي، وكنت في هذه السن المبكرة غير مقدِّر لضخامة المسألة. فمن خلفيةٍ فلسفية، ومن إعجابٍ شديد بنيتشه والفلاسفة الألمان، إلى الشعر الصوفي وآفاقه اللامحدودة؛ وجدت نفسي على نحوٍ ما، متورطاً في المسألة التراثية؛ لأنني بادرت في السنة الرابعة من دراستي الجامعية إلى تحقيق: مخطوطة (المقدمة في التصوف لأبي عبد الرحمن السُّلَمي) فقد كنت أتردد كثيراً إلى مكتبة بلدية الإسكندرية، ورأيت أن هذه النسخة المخطوطة هي النسخة الوحيدة في العالم من هذا الكتاب. وبدافع الشغف المعرفي العام، وليس المتخصِّص، طلبتُ المخطوطة لأطَّلع عليها، فوجدت فيها ورقة منـزوعة. أثَّر هذا فيَّ تأثيراً كبيراً، وفي اليوم نفسه نقَّبتُ عن الكتب التي تعالج مسألة تحقيق: المخطوطات، ووجدت بعض أعمال برجستراسر وعبد السلام هارون وغيرهما. وبهذا النَّـزق غير المتأني خطوتُ الخطوة الأولى على الدرب الذي جعلني محقِّقاً للمخطوطات. وكان ذلك عندي، هو بدء الإحساس بالمسئولية الفادحة تجاه هذا التراث الذي تشتَّت معانيه، واختلطت، وتوزعت، وأضيفت إليها كلمات فكثرت ألفاظها واتسعت معانيها. غير أن الضبط الدلالي لهذه الكلمة، سيجعلنا -على سبيل التجاوز- نقصُر الكلام على التراث المتروك لنا من الأجيال العربية السابقة. وهذا التراث أغلبه -إن لم يكن كله- مكتوبٌ في كتبٍ قديمة بخط اليد، هي المعروفة بالمخطوطات. وهناك بالطبع نقوشٌ على المساجد، وهناك بعض الرسائل المكتوبة على أوراق البردي. ولكن الغالبية الغالبة على تراث الأوائل الذي تركه لنا السابقون، هو المخطوطات. وهناك مسارٌ طويل يمتد بالنص التراثي ما بين حالتيْ المخطوط والمنشور أو بعبارة أخرى: ما بين انزواء ِ النصِّ التراثيِّ في مخطوطة منسية بإحدى الخزانات الخطية العتيقة، ونَشْرِ النص إلكترونياً في صورة رقمية معاصرة. هو مسارٌ مليء بالمشكلات التي تبدأ من حيث يبدأ، أعني من حالة المخطوطة المتوارية في الخزانات الخطية. فهناك، مشكلاتٌ كثيرة تتعلَّق بنظم حفظ المخطوطات، وهي النظم غير المطبَّقة في معظم الخزانات (خصوصاً العربية) وتتعلَّق بالنقص الشديد في الفهارس الدالة على محتوى المخطوط لهذه الخزانة أو تلك، وتتعلق بالقصور الشديد في أعمال الترميم اللازمة للمخطوطات، ناهيك عن عدم علمية وحِرفية أغلب (الترميم) الذي جرى هنا أو هناك، إن كان قد جرى - أصلاً- هنا أو هناك.ومع خروج النصِّ إلى النور، وانتقاله من حالة المخطوط إلى المنشور؛ تظهر مشكلات كثيرة تتعلَّق بقواعد النشر التراثي، وهي قواعد قَلَّ مَنْ يراعيها. وتتعلَّق باختلاف مناهج الناشرين والمحقِّقين في التعامل مع النص، وهي مناهج قد تناسب هذا النص بالذات، دون غيره، أو لا تناسبه.. وهناك مشكلات تتعلق بالغاية والمراد من نشر النص! فقد تكمن (غالباً) غاياتٌ غير نبيلة وغير علمية، وراء نشر النصوص؛ تلبيةً لأغراض سياسية أو أيديولوجية أو مذهبية، تتوجه إلى المخزون التراثي بساق عرجاء.وللنشر الإلكتروني مشكلاتٌ تتعلق بمناسبة الصيغة الرقمية للنص، أو بعمليات الضبط، أو بإتاحة النص رقمياً على شبكة الإنترنت أو على أسطوانة مدمجة أو في مكنـز تراثي إلكتروني.. وبالطبع، لا تعني كثرة مشكلات هذا الدرب، الدعوة لهجرانه بالكلية، وإنما على العكس تماماً، تدعونا لمزيد من الاهتمام وبذل الجهد الصادق لحلِّ المشكلات المتناثرة على درب الانتقال بالتراث من صورة المخطوط إلى صور متعددة للنشر التراثي.ولسوف نتعرض فيما يلي -بشيء من التفصيل- إلى تفاصيل هذه المشكلات التي أشرنا إليها، سعياً لإمعان النظر الممهِّد لاستكشاف الحلول العملية لهذه المشكلات الكثيرة. وأول ما نتوقف عنده، هو حالة الجهالة العامة بذلك المخزون المعرفي الهائل المسمى تراثاً.التراث المجهول: كان هذا العنوان عنواناً لكتاب أصدرتُه قبل قرابة العشرين عاماً، عرضت فيه لمجموعة كبيرة من (المتون) التراثية المخطوطة، التي تؤكد أهميتُها ويؤكد إهمالهُا، جهلَنا بكنوز تراثنا. وفي مقدمة هذا الكتاب، أوردتُ مسوِّغات القول بأن تراثنا مجهول.. فهو مجهولٌ بحكم الواقع الإحصائي، وذلك؛ لأنَّ إحصاء ما نُشر من التراث -محقَّقاً أو بدون تحقيق- ومقارنته بما لم يزل مخطوطاً، وبما ضاع مع الزمان؛ يدل على أن نسبة المنشور المعلوم من التراث، لا يزيد على خمسة بالمائة من مجموع التراث، أو هو أقل من ذلك. وتراثنا مجهولٌ؛ لأنَّ معظم المكتبات الخطِّية المحتوية على المخطوطات، لا تزال بحاجةٍ إلى فهارس وصفية تحليلية دقيقة.. ناهيك عن افتقادنا للفهرس الموحد للمكتبات التي تمت فهرستها بالفعل. وتراثنا مجهولٌ، بحكم منطق الإلغاء والتغييب، وهو المنطق الذي ساد حتى أباد النظرة الموضوعية للتراث، تحت تأثير التوظيفِ الوقتيِّ لجانبٍ من التراث -خدمةً لأغراض الدول والجماعات والأفراد- وإهدار الجانب المقابل له. علماً بأن التراث رَحْبٌ متنوع، ولابد من معرفة (الخريطة التراثية) لتحديد موقفنا النقدي للتعامل مع المخزون التراثي، في ضوء ما ذكرناه عن الأشكال الثلاثة للتراث، ودون المسارعة إلى توظيفه في خدمة أغراض آنية، لا تلبث أن تتغير، مخلِّفةً وراءها كَمّاً من التشوُّه المعرفي والرؤية الناقصة والمتناقصة للتراث. ومثال ذلك، أن بلداً يدخل تجربة (اشتراكية) حيناً من الزمان، فيخاصم التراث الروحي والصوفي، وتتكئ العملية التراثية على قراءة متعسِّفة للتراث لاستخراج (النـزوع اليساري في التاريخ) أو (اليسار في الإسلام) أو (الاشتراكية والثورة في التاريخ الإسلامي).. ومع هذا الانتقاء المؤقت، تغيب الرؤية الموضوعية. وسرعان ما تتغير الظروف الدافعة إلى هذا الانتقاء المؤقت، ويتم انتقاءٌ آخر (مؤقت أيضاً) خدمةً لأغراضٍ آنية أخرى! فتكون الحصيلة النهائية لهذا العمل التراثي غير المخطَّط، هي غيابُ الرؤية التراثية العامة، وصعوبة اتخاذ الموقف النقدي الصحيح من التراث. وتراثنا مجهولٌ بحكم الاغتراب الثقافي عنه، وذلك؛ لأنَّ التراث العربي/ الإسلامي ظل ممتداً في الزمان والمكان، امتداداً طبيعياً مرَّ بمنحنياتٍ كثيرة، وارتفع وانخفض في معدلات التحضر، لكنه لم ينقطع.. حتى جاءت الحملة الفرنسية، ومن بعدها الاستعمار، ومن بعده وسائل الاتصال المعاصرة والهيمنة الإعلامية. ليلوي ذلك كله أعناق الأجيال الحديثة -بقوة- بعيداً عن تراثها المتصل، وليوجِّهها بقوة نحو سياق الحضارة الغربية وثقافتها، فيتضاءل الوعي العربي بالتراث، ويصير مجهولاً لدى معاصرينا، بل هو عند بعضهم: مذمومٌ مكروهٌ مرتبط بالتخلُّف الحضاري.وللخروج من حالة الجهالة إلى أفق الوعي بالتراث، هناك خطوات أساسية لابد لنا من إنجازها وهي خطوات متراكبة متتالية، أولها الفهرسة التي هي: استكشاف للمخزون المخطوط واستبصار لجوانب الخريطة التراثية. ثم هناك خطوة النشر سواء كان ورقياً أم إلكترونياً، وأخيراً مرحلة الفهم والاستيعاب والتطوير، وهي المرحلة التي ينتقل فيها التراث (مخطوطاً ومنشوراً) من حالة النص إلى حالة الخطاب. ولنبدأ فيما يلي بالخطوة الأولى والصعوبات التي تحيق بها. مشكلات الفهرسة:لفهرسة المخطوطات مشكلاتها الجمَّة التي أدَّت بالباحثين إلى الانصراف عن هذا الدرب الوعر، الذي هو واحدٌ من أكثر الأعمال مشقة، وأقلِّها مجداً.. ومع ذلك، فإن العملية التراثية لاتتم على نحوٍ جاد، إلاَّ إذا ابتدأت بالفهرسة. ونعني بالعملية التراثية هنا، مجموعة الخطوات المتراكبة، المتراتبة، التي تؤدي في النهاية إلى وعي حقيقي بالتراث؛ وهي خطوات: الفهرسة، التحقيق: والنشر، الدراسة والبحث.. فإذا لم تأخذ العملية التراثية سيرتها وسيرورتها على هذا النحو، صارت ضرباً في عماية! إذ كيف تكون الدراسة والبحث التراثي، من دون اعتمادٍ على نصوص تراثية محقَّقة تحقيقاً علمياً؟ وكيف يكون التحقيق: العلمي، من دون تعرُّف الخـريطة التراثية الفعلية، من خلال فهارس المجاميع الخطية؟ومن هنا تأتي بداهة البدء بالفهرسة، وتأتي ضرورة النظر في مشكلات الفهرسة، لحلِّها، ودفع العملية التراثية -بأكملها- إلى الأمام. ولن نخوض هنا فيمشكلات الفهرسة فقد عرضنا لهذا الموضوع تفصيلاً في بحث مفرد قدَّمناه في ندوة دولية سابقة، ووضعناه كاملاً على موقعنا التراثي على شبكة الإنترنت www.ziedan.com ومن ثم فحسبنا فيما يلي الإشارة إلى مجمل الأمر، وعَدِّ الآتي: أولاً: مشكلاتٌ إدارية ترجع في الغالب إلى تعدُّد الجهات التي تقتني المخطوطات، فبعضٌ من المجاميع الخطية بيدِ أفراد، وبعضُها في مؤسسات. والمؤسسات بدورها، بعضها غير حكومي والبعض الآخر حكومي. والحكومية تتوزَّع في أغلب البلدان، بين عدة وزارات.. وهكذا. ولذا تخضع فهرسة كل مجموعة خطِّية، لمعايير، وموافقات، تختلف في كل مرة؛ وترتهن بتفهُّم من بيدهم أمر المجموعة الخطية المراد فهرستها. ثانيـاً: مشكلاتٌفنية تتلخَّص في انعدام التوحيد القياسي لبطاقة الفهرسة، وتفاوت مستوى المفهرسين، والخلط ما بين القائمة الحصرية والفهرس العلمي، وصعوبة نشر الفهارس، وبطء توزيعها.. إلخ. ويلحق بهذا النوع الأخير من المشكلات، مشكلاتٌ يمكن وصفها بأنها نفسية! إذ لا يلقى المفهرسون تقديراً، كهذا الذي قد يجده المحقِّقون والدارسون. مع أن الفهرسة هي الأصل والمنطلق. ولا تفوتنا هنا، الإشارة إلى أن التوثيق هو عمادُ الفهرسة. ولا نبالغ إذا قرَّرنا أن التوثيق هو الفهرسة كلها! ذلك؛ لأنَّ جميع خطوات الفهرسة، من وصفٍ للمخطوطة، وذكرٍ لأولها وآخرها، وإيراد عدد أوراقها ومسطرتها ومقاسها -ناهيك عن عنوانها الصحيح ومؤلفها- هي جميعاً عملياتٌ توثيقية لهذه المخطوطة أو تلك.. ولايخرج عن ذلك، وفقاً لنظام الفهرسة الذي نتَّبعه؛ إلاَّ خطوة واحدة هي التصنيف باعتبارها الخطوة الوحيدة التي تنصبُّ على مضمون المخطوطة، بقطع النظر عن كِيانها المادي. غير أنَّ مصطلح (التوثيق) جرى بين العاملين في ميدان التراث، مصحوباً بدلالة خاصة، هي تحديداً: توثيق عنوان المخطوطة، ومؤلِّفها. وهو أمرٌ -كما سنرى- ليس بالهـيِّن.والتوثيق يتم في أغلب الأحيان اعتماداً على مصادر ومراجع تراثية مشهورة، فإن كان المطلوب توثيق عنوان، كان الرجوع لأعمالٍ مثل: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة، وذيله إيضاح المكنون لإسماعيل باشا البغدادي، ومن قبلهما الفهرست لابن النديم.. هذا بالإضافة إلى عديد من الببليوجرافيات والبيوجرافيات، التي قد يُستعان بها أيضاً عند توثيق المؤلِّفين، بعد مصادر مباشرة لتوثيق المؤلف، مثل معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة، والأعلام لخير الدين الزركلي، وتاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان.. وغير ذلك. وهناك العديد من الصعوبات التي تصادف خطوتيْ توثيق العنوان وتوثيق المؤلِّف، ولسوف نسعى فيما يلي لحصر هذه الصعوبات - أو بالأحرى: المشكلات- التي قد تصادف الخطوتين. وتجدر الإشارة، قبل الخوض في التفاصيل، إلى نقطتين أساسيتين تتعلَّقان بالقضية التي نحن بصددها.. ونعني بذلك: أولاً: هناك طائفة من المخطوطات لا تخضع للمعايير التقليدية للفهارس، ولا للنظم المتعدِّدة للفهرسة.. وهي بالتالي، لاتثير مشكلات فنية فيما يتعلق بتوثيق العنوان والمؤلف؛ ومن ذلك المصاحف.. فقد توجد المستنسخات القرآنية كاملةً أو غير كاملة، وفي كلتا الحالتين لاتواجه المفهرس أية صعوبات في التوثيق! فحسبه أن يذكر الملامح والصفات التي يجدها في كل مخطوطة، وبداية ونهاية كل نسخة غير كاملة.. ويضع ذلك كله في قائمة مستقلة. ومن الأفضل أن تنفصل هذه القائمة عن بقية الفهرس، وتوضع بأوله، تبجيلاً وتشريفاً لمحتواها.. ويدخل في هذا الباب، بقية الكتب السماوية: الأناجيل، والتوراة. وقريبٌ مِمَّا سبق كُتب الصِّحَاح. إذ تستلزم فهرستها -بالإضافة إلى الوصف- ذِكْرَ العناوين التي تكون في الغالب الأعم، مشهورة. أو وَضْعَها تحت عنوان تقديري فضفاض، هو: أحاديث شريفة. وقد يُذكر معها راويها، أو جامعها، من دون إشارةٍ إلى المؤلِّف، وإلا صار الأمر سخيفاً ومضحكاً، كأن يُقال: أحاديث شريفة لسيدنا محمد بن عبد الله e.ولا مجال في الحالتين السابقتين، للكلام -بالطبع- عن نسخة بخط المؤلِّف! ولكم يتندَّر د. محمود الطناحي، بين التراثيين، بأن أحدهم طلب منه يوماً، مخطوطة قرآنية.. بخطِّ المؤلِّف. ثانياً: إن الصعوبات والمشكلات التي ذكرناها في بحثنا المشار إليه سابقاً (مشكلات توثيق العنوان والمؤلف) لم تكن من قبيل التصوُّرات النظرية أو التأمُّلات فيما يمكن أن يصادفه المفهرس عند توثيقه العنوان والمؤلف، وإنما كانت نتاجُ خبراتٍ عملية، ومواقف عاينَّاها أثناء فهرستنا لما يقرب من ثمانية عشر ألف مخطوطة، موزَّعة على مكتبات: جامعة الإسكندرية (1690 مخطوطة) رفاعة الطهطاوي (1481مخطوطة) بلدية الإسكندرية (قرابة 6000 مخطوطة) مسجد أبي العباس المرسي (قرابة 2700 مخطوطة) بلدية دمنهور (266 مخطوطة) مسجد المحلي برشيد (104 مخطوطة) المعهد الديني بطنطا (3000 مخطوطة) المسجد الأحمدي بطنطا (2700 مخطوطة) مجموعة المعهد الديني بالإسكندرية (1785 مخطوطة). وما من شك عندي في أننا لم ننجزْ بعدُ هذه الخطوةَ الأولى (الفهرسة)! وإن كنا قاب قوسين من إنجازها. فقد نشطت في السنوات الأخيرة، عملية فهرسة المخطوطات، وظهرت فهارس جيدة لعشرات الآلاف من المخطوطات التي كانت منسية في الخزانات الخطية. وإذا استكملت هذه الخطوة التأسيسية بنجاح، يمكن آنذاك تعرف الخريطة التراثية والانتقال إلى الخطوة التالية التي تعقب تعرُّف النص التراثي، أعني عمليات التحقيق: والدراسة والفهم.. وهي جميعاً (عمليات النص) حيث الشاغل الرئيس فيها هو النص التراثي. فإذا اكتمل الأمر، صار من الطبيعي -آنذاك- الانتقال بالتراث من النص إلى الخطاب، من الوعي إلى المشاركة، من التثقيف إلى المثاقفة. مشكلات النشر:من الدلائل الحاسمة على سيرنا (العشوائي) في ميدان التراث، أن خطوة النشر سبقت عندنا الفهرسة! مع أن (المنطقي) كان العكس؛ لأنَّ النشر يبدأ باختيار النص، واختيار النص يبدأ بتعرف المحتوى، ولا يمكن تعرف المحتوى التراثي -أو ما تبقى لنا منه- إلاَّ بالفهارس. ومع ذلك، شرع باحثونا ومشايخنا التراثيون في نشر النصوص، من دون اعتناء بإخراج الفهارس.وقد زاد من طين هذا الخلط بلةً، أن اختيار النصوص للنشر، كان يخضع في الغالب لاعتبارات غير علمية، وبالأحْرى (أيديولوجية) فالعلمانيون يلتقطون (ابن رشد) فيجعلون منه عنواناً للعقلانية؛ ثم يلتقط الفريق المضاد لهم (ابن تيمية) ويخرجونه من سياقه التاريخي، ليجعلوا منه شاهداً -وموجِّهاً- للعصر الذي نعيش فيه! وتظل الهوة تتسع بين هذه الأشكال الشوهاء من الخطاب التراثي المعاصر؛ أعني تلك الأشكال التي لم تُؤسَّس على وعيٍ جيد بالنص التراثي، في شموله وتنوُّعه وتناقضاته وعلاقاته العضوية وتَسَانديته، بحيث تستكشف (السلفية) في ابن رشد، والتقدمية عند ابن تيمية، فتكف بالتالي عن اعتقال النص التراثي الذي تم انتقاؤه في إطارٍ محدَّدٍ يهدف إلى إنتاج خطاب (أيديولوجي) نفعي مؤقَّت. وقد ارتبطت حركة النشر التراثي -بالإضافة إلى عمليات (التوجيه) التي أشرنا إليها- بواقع ثقافي عربي (عام) محدَّد تاريخياً وجغرافياً. فمع انقضاء النصف الأول من القرن العشرين، خفتتْ عملياتُ النشر الأوروبي للتراث العربي، وتراجعت النشرات الاستشراقية عما كانت عليه في السابق. وفي موازاة ذلك، نشطت المطابعُ العربية في القاهرة وبيروت خلال النصف الآخر من القرن العشرين، وتوالت الطبعاتُ التراثية، وتتالت الدراسات والبحوث في مجالات تراثية شتى. بيد أن الطفرة العربية كانت كَميَّةً أكثر منها نوعيةً؛ فقد استسهل الناشرون إخراجَ النصوص دونما بذل الجهد المطلوب لتحقيقها وتحريرها، فحفلت المكتبة العربية المعاصرة بفيضٍ عارمٍ من النشرات العربية المتواضعة. ومن ناحية أخرى تمت عمليات واسعة من النهب المنظَّم للنشرات التراثية الأقدم عهداً، قامت بها بعضُ دور النشر المصرية واللبنانية، فقامت بإصدار ما لاحصر له من الأعمال التي سبق نشرُها في أوروبا ومصر، بعد نزع أسماء محقِّقيها! بل وتشويه النشرات بإسقاط مقدماتها الدالة على هؤلاء المحقِّقين.. وكان لتطور تقنيات النشر، بالتصوير، أثرٌ بالغٌ في انتشار النشرات المزيفة، مِمَّا كان له أثرٌ بالغ في تشتيت عمليات الضبط الببليوجرافي.. وسيكون له -مستقبلاً- أثرٌ أبلغ! خاصةً مع دخول عملية النشر التراثي إلى الأفق الإلكتروني، وهو ما سنتوقف عنده بعد قليل. غير أن نشاط النشر (العربي) للتراث (العربي) لم يكن كمَّاً سلبياً في مجمله، وإنما صاحبته فحسب، تلك الظواهر السلبية التي لا تقلِّل بحالٍ من مجمل التقييم النهائي لحركة النشر العربي، وهي الحركة التي أتاحت الإطلالَ على المخزون التراثي الهائل الذي ظل محتجَباً بين رفوف الخزانات الخطية العتيقة(1). ولاشك في أن الجامعات العربية، والمؤسسات الثقافية، ومراكز البحوث، بل وجهود الأفراد المخلصين؛ ساعدت جميعها في تنشيط عمليات النشر التراثي المعاصر.. سواء في شكل المطبوع (الورقي) أو الأشكال غير التقليدية للنشر، مثل الكتاب المسموع. ففي مطلع التسعينيات، بدأ المجمع الثقافي بأبو ظبي تجربةَ نشرٍ تراثيٍّ رائدة، تم خلالها إصدار ما يقرب من ثمانين كتاباً - أغلبها تراثي- على أشرطة كاسيت أتاحت الاستماع إلى هذه النصوص، وبالتالي مكَّنت المستمع إليها من ضبط حركات الكلمات على نحو جيد، لاسيما فيما يتعلَّق بالنصوص الشعرية.. وتأتي أهمية هذا النوع من النشر، ليس فقط من جهة الضبط اللغوي للألفاظ - في زمن تراجعت فيه اللغةُ وانسلخت من الألسنة- وإنما أيضاً من حيث التكلفة المنخفضة للإنتاج، وبالتالي القدرة على الانتشار الواسع للكتب المسموعة التي هي أقل تكلفةً بمقدار الثُّلث عن الكتاب المطبوع، وأسهل إنتاجاً وتوزيعاً بمقدار كبير عن مثيلتها المطبوعة. وفي العقد الأخير من القرن العشرين، حدثت في مجال المعلومات طفرةٌ كبيرة يمكن تسميتها: ثورة الوسائط المتعدِّدة. وفيها اقترنت الصورةُ، بالصوتِ، بالنَّصِّ المطبوع؛ واندمجت معاً في منتج واحدٍ، بدأ انتشاره في المنطقة العربية على هيئة ألعاب فيديويَّة، ثم مالبث أن تطوَّر الأمر مع التحسين المستمر لأجهزة الكمبيوتر الشخصي، وتم إنتاج برامج تراثية على أقراص ليزر (أسطوانات مدمجة) أتاحت نشرَ نصوصٍ تراثية، ماكان لها أن تُنْشر ورقياً إلاَّ بجهدٍ هائل وإمكانات مالية ضخمة. كما ظهرت مجموعة فهارس إلكترونية للمجموعات الخطية، بخطوة رائدة من مركز معلومات مجلس الوزراء المصري IDSC نتج عنها الفهرسُ الإلكتروني لدار الكتب المصرية، ولمجموعة المخطوطات العربية بجامعة برنستون الأمريكية.. ودخل معهد المخطوطات في هذا المضمار -بعد لَأْيٍ- وتمَّ إعداد قاعدة بيانات إلكترونية لمحتوياته الميكروفيلمية. وفي مكتبة الإسكندرية وتحقيقاً لأحد أهم الأهداف التي أُنشئت المكتبة من أجلها، تم الربط بين القديم والجديد، بإدخال العملية التراثية في الأفق الإلكتروني المعاصر، وذلك عبر مشروعات عدَّةٍ للنشر الإلكتروني، أهمها: المكتبة الرقمية للمخطوطات. وهو مشروعٌ يلتقي فيه هدفان من أهم الأهداف التي تسعى إليها مكتبة الإسكندرية؛ الأول هو العناية بالتراث، والثاني هو مواجهة التحدي الرقمي الذي يطرحه علينا الواقع المعاصر. التراث والتكنولوجيا المعاصرة:لاشك في أن العملية التراثية -بخطواتها المتعاقبة- قد تأثرت مؤخراً بالطفرة المعلوماتية والمشروعات (الرائدة) التي أشرنا إليها فيما سبق. ولم تقتصر هذه المزاوجة بين التراث والتكنولوجيا المعاصرة على الأمثلة المذكورة، وإنما تعدت ذلك إلى مجموعة الأعمال الرامية إلى فهم الماضي والوعي به. فعلى صعيد الفهرسة والتوثيق، أمكن الاعتماد على القدرات الفائقة الكامنة في الكمبيوتر، ومعالجة برامجه وإعداد قواعد بيانات تفصيلية للفهرسة الوصفية وللمؤلِّفين وللمكتبات.. مِمَّا نتج عنه مؤخراً، مجموعة فهارس إلكترونية على درجةٍ عاليةٍ من الدِّقة، صدر بعضُها عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء، من خلال: مشروع فهرسة مخطوطات مصر (دار الكتب المصرية) كما استطاع المركز أن يوظِّف هذه التقنية المتقدمة لإنجاز مشروعات أخرى خارج حدود مصر، مثل فهرسة مخطوطات جامعة برنستون، وإعداد أسطوانة مُليزرة لمجموعة مخطوطات صنعاء. كما تقوم مكتبة الإسكندرية بجهدٍ في هذا المجال من خلال مشروعاتها لفهرسة المجاميع الخطِّية النادرة بالمدينة، حيث يتم تخزين البيانات الوصفية للمخطوطات على الكمبيوتر، للاستفادة من مخرجاتها عند طباعة الفهارس الورقية وعند مراجعة البيانات والكشف عن محتوى المكتبتين، بحسب القدرة العالية للأجهزة على الاسترجاع.وما يحدث في مصر الآن يحدث مثيلُه في عدة بلدان عربية. ففي مركز الملك فيصل بالسعودية، وفي مكتبة الأسد بسوريا (على سبيل المثال) تم استحداث نُظُم أخرى من البرامج لاستخدامها في الفهرسة الوصفية للمخطوطات، وقد أُنجزت عدة مشروعات في هذا المجال. ولا يقتصر دور التكنولوجيا المعاصرة على إسهام الكمبيوتر في الفهرسة، فهناك العديد من التقنيات الخاصة بالحفاظ على المخطوطات، ابتداء من النسَّخ الميكروفيلمي، أو بالميكروفيش، أو بالصورة الرقمية Digital Copy والحفظ على الأسطوانة المليـزرة C.D... وفي الفترة الأخيرة، تم تقديم العديد من نماذج المخطوطات المحفوظة بالإسكندريـة، من خلال صفحة Home Page لمكتبـة الإسكندريـة www.bibalex.gov.eg على الإنترنت. وفي مجال التحقيق: والنشر أسهمت تقنيات الطباعة المتقدمة في تسهيل عمليات الإخراج الفنى للنص المحقق، وإعداد كشَّافاته بصورةٍ أدقَّ وأيسر، وتقديم النماذج الخطِّية مع النص المحقَّق.. وغير ذلك من العمليات الرامية إلى إبراز النص التراثي في ثوبٍ أخَّاذ. ونخلص مِمَّا سبق إلى القول بأن الصلة بين التراث والتكنولوجيا في عصرنا الراهن هي من القوة بحيث لا يمكن فصل أحد الجانبين عن الآخر؛ فإذا كانت التكنولوجيا المعاصرة هي نتاج تراثٍ تطوَّر عبر تاريخ طويل، فالرؤية التراثية اليوم؛ هي نتاج اعتمادٍ رشيد على التكولوجيا وتطويعها في خدمة التراث.. ومن هنا يمكن الكلام عن الآفاق المشتركة بينهما، علماً بأنه لا يمكن تقديم (تصورات مستقبلية) على نحوٍ ذي بال، أعني على نحوٍ يستحق النظر، والمناقشة، ثم التنفيذ؛ دون انطلاق هذه التصورات المستقبلية من حقائق العصر وملامح المستقبل. فلابد أولاً من إلقاء نظرةٍ شاملةٍ على واقع الحال، واحتمالات الآتي، وفي ضوء ذلك يمكن أن: نرسم خطوات المستقبل. خاصةً أن المشهد الثقافي (العالمي/ العربي) يتَّسم اليوم بجملة صفاتٍ، هي الناتجُ الطبيعيُّ لحركة التغيُّر الإنساني على الصعيد القطري والعالمي.. فمن جملة هذه الملامح العامة، التي تلخِّص واقع الحال: (أ) المعلوماتية:نحن نعيش بحقٍّ عصر المعلومات؛ فمن تدفُّقٍ هائل للمعلومات عبر الشبكات المحلية والعالمية، إلى حشدٍ هائل لملايين المعلومات في قواعد البيانات الكمبيوترية (الحاسوبية) إلى آلاف الساعات من البثِّ التلفزيونى المنهمر من الأقمار الصناعية، إلى قدرةٍ فائقة على استحضار المادة المعلوماتية عبر قنوات اتصالٍ فائقة السرعة كالفاكس والبريد الإلكتروني، إلى عشرات الكتب ودوائر المعارف المضغوطة على قرصٍ أسطوانى مُليزر.. إلى غير ذلك من تجليات عصر المعلومات. وبإمعان النظر في هذا الملمح الأساسي للعصر يتضح لنا أن المعلوماتية ليست منجزات تقنية في تلك المجالات فحسب، بل المعلوماتية أولاً: أسلوبٌ للتفكير، ونظامٌ إدراكي يخالف ما درجنا عليه طيلة المراحل السابقة. ولقد عانيت ذلك وعاينتُه بالفعل حينما ابتدأتُ استخدام الكمبيوتر، في مجال التراث ذاته، فوجدتُ الأمرَ يمتد في غوره حتى يصل لنظام التفكير ذاته.. مثال ذلك: أننا فيما سبق، كنا نرتكن إلى الدور الكبير للذاكرة الفردية، فمن مئات الأبيات الشعرية التي نحرص على حفظها، إلى آلاف المعلومات التراثية التي نحرص على إمساكها ذهنياً، إلى ترتيب معين للمعارف يبدأ بالكليات ويتعرَّف (الكتاب) ابتداءً من (العنوان).. وهكذا! بيد أن الأمر مع الكمبيوتر (الحاسب) مختلف، فالذاكرة الفردية لا يعوَّل كثيراً عليها، إنما المعوّل على الإتقان الآلي للمدخلات والمخرجات، ما نضعه داخل الجهاز وكيف نستخرجه منه، ما تحت أيدينا من بيانات وما يمكن أن نصل إليه من بيانات أخرى، وكيف يمكن توسيع الحقول وتخصيص البرامج الإلكترونية لاستيعاب المزيد من ذلك كله؟ والناتج النهائي لهذه العملية الآلية: ذاكرةٌ تتسع في الجهاز مقابل ذاكرةٍ تضمحل في الفرد، إعادةُ تركيبٍ للمعلومات في الجهاز مقابل نسقٍ محدِّدٍ للاستدعاء عند الفرد، حركةُ اليد على الأزرار مقابل حركةِ العين بين سطور الكتب.. وغير ذلك. ولسنا هنا في معرض نقد هذا (الجديد) أو نقضه، للانتصار لأسلوب قديم في مقابل نظام جديد للفكر، فالأمر فات أوانه، ونفذ السهم؛ إذ صار العالم وسارت حركة التاريخ وفقاً لهذا الجديد.. الجديد الذي، إن لم نتواءم معه، صرنا خارج العالم وطرحتنا حركةُ التاريخ. تلك واحدةٌ. (ب) التحوُّلية:وتلك واحدةٌ أخرى، من السمات العامة للحاضر والمستقبل، على الصعيدين القطري والعالمي، وعلى الصعيدين النظري والعملي.. ولنمعن النظر فيما كنا قد درجنا عليه من إعطاء الأولوية للثبات في مقابل التغير، وللرسوخ في مقابل التحول.. فنحن: أُمَّةُ السَّنَد (كما قال الإمام الشافعي) ونحن المستمسكون بالأصول (في الدين واللغة والتقاليد الاجتماعية) ونحن الثابتون على المبادئ (حتى لو كان المبدأ تليداً غير معاصر).. وهكذا؛ وذلك هو الذي يعطينا في النهاية الأساسَ العميقَ لما نسمِّيه الهوية. بيدَ أننا -وإن كنا المستمسكين الثابتين الإسناديين- لابد أن نلاحظ أن العالم قد اختلف أمره، إلى النقيض من ذلك. فعلى الصعيد السياسي نرى العالم ونظامه (الجديد) الذي هو في الحقيقة: تنظيم غربي (متجدِّد) بحسب الأغراض والأحوال. وتحت مظلة هذا التنظيم المتجدد للعالم، نرى أعداءَ الأمسِ اليوم أصدقاء. ونرى معاركَ اليومِ، تنشب بين حلفاء الأمس. ونرى التقاربات بين الأقطاب التي كانت متباعدة، والتباعد بين ما كان مقترباً، ومقترناً، من الأقطاب. باختصار، نرى المسرح الدولي تتبدَّل فيه الأدوار وتتحول على نحوٍ نفعيٍّ يمكن وصف العالم معه بالهوس البراجماتي (النفعي). وعلى الصعيد الثقافي نجد ذات الملمح، فهذا المفكر الذي ظلَّ طوال عمره كثير الذود عن الفكر الاشتراكي، يتحول بالكلية إلى حيث اليمين (كما فعل الكثيرون من مفكري العرب).. وهذا الفيلسوف يقضي عمره في الكلام عن الوجودية ثم يتحول تماماً إلى الماركسية كما (فعل سارتر).. وهؤلاء المساكين من مفكري السلطة في كل بلد عربي، يهيم بهم التوجُّه السياسي كلَّ يومٍ في وادٍ جديد.. وتتسع مقولة التغيُّر جوهرَ الحياة لتبرِّر مالا حصر له من تحولات فكرية واجتماعية! باختصار: نرى ساحة الفكر المعاصر وقد صارت ميداناً لتبدُّل المواقع، وللمعارك المحدودة، وللتنقُّل بين المذاهب والرؤى. هل نزيد من الأمثلة الدالة على سمة التحولية التي صارت ملمحاً أساساً للعالم اليوم؟ وهل نحن بحاجة للتدليل على ذلك بالنماذج التي لا حصر لها، من تحولاتٍ تبدأ من تغيير اللغة وتعديلها في بعض البلدان، وتنتهي بتغيير الشخصية ولون البشرة لدى بعض الأفراد؟ أظنُّ أن المسألة ليست بحاجةٍ لمزيد إيضاح.. وما المراد هنا، إلاَّ بيان أن العالم: متحوِّلٌ.ومرةً أخرى، فإن ذلك لا يعني الانتصار لهذا الملمح العالمي الجديد، على حساب نقيضه الذي درجنا نحن عليه فَوَهَبنا هويتنا.. كما لا يعني الدعوة إلى المساومة بين ما في أيدينا وما هو في العالم (إذ نحن جزء من هذا العالم) وإنما البيان هنا، لاستبيان الواقع وتبصُّر خطواتنا في المستقبل. (ج) العولمة / المثاقفة:لاشك في أن العالم يتجه اليوم إلى المزيد من العولمة أو (الكوكبية) بمعنى أن تتزايد درجة الترابطية بين شعوب العالم، سواء من طريق الاتفاقيات الدولية في مجال الثقافة (كمشروع اليونسكو: ذاكرة العالم) أو مجال الاقتصاد (كالسوق الأوروبية واتفاقية الجات) أو المجال السياسي (كالتجمُّعات القطرية العربية).. أو من طريق وسائل الاتصالات التي تلغي المسافات بين الأفراد والأمم، وتتجاوز بسرعتها الفائقة تباعد الأماكن. وفي إطار هذه (الكوكبية) تتم عملية المثاقفة (وهي ترجمة لم تستقر بعد لكلمة Acculturation) بمعنى أن يتم التفاعل الثقافي بين الجماعات، لا على النحو القديم المعتاد - حيث كانت ثقافتان تقتربان، فتؤثر إحداهما في الأخرى أو تسود عليها - وإنما على نحو جديد، تحتشد فيه الثقافات المتعدِّدة لتدخل بشكل سريع في عملية تفاعل تطرح فيه كل ثقافة مالديها من رؤى ونظم واتجاهات، فتتماس الخيوط (أعني: المكونات الثقافية) لتصنع ضفيرةً ثقافية جديدة، تكون لها صفة العالمية.وفي عملية المثاقفة الحالية نرى -على سبيل المثال- الثقافة الغربية سواءٌ في إطارها الأوروبي الكلاسيكي أو في تجلِّيها الأمريكي الجديد، تطرح نفسها من خلال كافة قنوات الاتصال: الكتاب - البرامج التليفزيونية- الفيلم- الدراما.. إلخ؛ جنباً إلى جنب ثقافات أخرى آتية من الشرق الأقصى والأدنى والأوسط (ولا أدرى أقصى عن مَنْ، وأدنى لمن، وأوسط بالنسبة لمن) فتتداخل هذه الثقافات لتشكِّل مزيجاً ثقافياً يتم من خلاله تفكيك التماسك العضوي بين عناصر الثقافة الواحدة، لصالح المزيج الثقافي الجديد.. فمثلاً: الثقافة العربية الإسلامية، نمطٌ ثقافي كان حتى وقت قريب، له عناصره ومكوناته المترابطة عضويا؛ فاللغة، والدين، والتقاليد، والأزياء، وطرائق التفكير والسلوك.. ينتظمها جميعاً إطارٌ واحدٌ هو المسمَّى بالثقافة العربية الإسلامية، لكن عمليات المثاقفة الدؤوب أدت إلى خلخلة هذا الترابط العضوي، بحيث تَمَّ استبقاءُ بعض العناصر (كاللغة والدين) من الثقافة الأصلية، واستعارةُ عناصر من الثقافة الغربية (كالأزياء وبعض أنماط السلوك) ليدخل ذلك في مزيج جديد، بفعل عمليات المثاقفة التي لا تقتصر على ثقافتين فقط، وإنما -كما أسلفنا - تحتشد خلالها ثقافات العالم المعاصر، محمولة على أجنحة الإعلام بوسائله الحديثة المتعددة، وفقاً لبرامج طرحٍ خاصة تختارها هذه الجماعة أو تلك لتشارك بثقافتها الخاصة في عملية تشكيل الثقافة الإنسانية الجديدة! (د) تصنيع المعرفة:حتى وقت قريب -وعلى امتداد التاريخ المعروف للإنسان- كان ينظر إلى المعرفة على أنها (اكتشاف) بمعنى أن الحقائق كامنة في العالم، وعلى الذهن البشري وحركة العلم، اكتشاف هذه الحقائق الكامنة.. بيد أن الأمر اليوم صار مختلفاً، إذ صارت المعرفة إنتاجاً وتصنيعاً مبرمجاً!في العالم المعاصر يتم توجيه الذهن نحو إطارٍ معرفيٍّ معين، وفقاً لمنظومةٍ محدَّدةٍ للبحث.. فلم تعد حركة المعرفة تسير وفقاً للتلقائية القديمة، وإنما صارت هناك برامج محددة للمعرفة. فهناك مشكلات بعينها مطروحة أمام العقل، وهناك مسارات محددة لتراكم الخبرة، وهناك مؤسسات تقود حركة العلم، ومؤسسات أخرى تُوجِّه الفكر. وفي مقابل الرؤية المعرفية الكلية، صارت الأولوية للإنجازات التقنية المتخصِّصة. وفي مقابل الكشف العلمي، صار المهم هو التطوير الجزئي وتحسين التطبيقات.. في مقابل العلماء، أصبح لدينا: المشتغلون بالبحث العلمي.والمأزِقُ المعرفي الخطير الذي تعاني منه البلاد غير المتقدمة اليوم، هو عدم قدرتها على اللحاق بالدول المتقدمة في سيرها الحثيث لإنتاج المزيد من المعرفة، ناهيك عن الاستغلال الغربي لحالة اللهاث الذي لا تجد الدول المتخلفة بُدَّاً منْ.. باختصار: كانت المعرفة دوماً هي الشيء المتاح، لكنها اليوم في يد الغرب سلاح.ولكي تُنتج المعرفةُ، فلابد من منظومة فكرية سابقة، يسمِّيها بعضُ فلاسفة العلم المعاصر، النموذجَ Paradigm.. وهذا جانبٌ آخر من المأزق المعرفي الخطير الذي تعاني منه البلاد غير المتقدمة؛ إذ لا تملك هذه البلاد نموذجها المعرفي الذي يمكن وفقاً له، إنتاج المعرفة في سياقٍ مغايرٍ لسياق الإنتاج المعرفي الغربي، بل لا يمكنها أن تطرح المشكلات المعرفية الأساسية إلاَّ في الإطار الذي تسمح به المنظومة الغربية. | |
|