الكرخ فريق العمـــــل *****
عدد الرسائل : 964
الموقع : الكرخ تاريخ التسجيل : 16/06/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4
| | الدولة المدنية ... آفاق وتصورات | |
بقلم- رائد قاسم | 1 |
يعتقد البعض أن معظم الأنظمة العربية التي سقطت أخيرا في ثورات الربيع العربي، أو التي في طريقها للسقوط، كانت أنظمة علمانية بحثه، كالنظام السوري مثلا. بيد أن النظام الحاكم في دمشق على وجه الخصوص هو نظام تولتاري بوليسي على غرار الكثير من أنظمة العالم الثالث، يقوم على العلمانية كمظهر والبعث كشرعية آيدلوجية، بينما هو في حقيقته يقوم على حكم الطائفة وسلطة الأسرة الحاكمة، ويتضح ذلك جليا في المناصب السياسية والأمنية والعسكرية العليا، والتي جميعها متمركزة في الطائفة العلوية وال الأسد المنتمية إليها، لذلك فان حزب البعث والعلمانية ليست سوى جلد يكتسي به النظام ليكون جميلا ومقبولا أمام الدول الأخرى، ويكتسب شرعية لوجوده في الداخل السوري المتعدد القوميات والطوائف.
من ناحية أخرى فان المعارضة الإسلامية في البحرين وعلى لسان زعيمها الشيخ علي سلمان يتساءل في لقاء على قناة الجزيرة عن الضمانات التي يجب عليه أن يقدمها ليثبت انه لن ينقلب على النظام الملكي في حال تحول البحرين للملكية الدستورية، التي يتوقع أن تسيطر من خلالها حركة الوفاق الإسلامية على السلطتين التشريعية والتنفيذية، يتحدث الشيخ السلمان بهذا الكلام وهو مرتديا عمامة رجال الدين الشيعة! بكل أبعادها وارثها التاريخي الموغل في الصنمية، وبكل هولها التقديسي الطائش.
إن الدولة المدنية تعني بكل بساطة إيجاد مرجعية مستقلة للدولة عن الانتماءات الفرعية للمجتمع، بحيث تكون مرجعية محايدة متفق عليها، من خلال عقد اجتماعي مركزي، وهو ما يعرف بالدستور، دو قابلية للتغيير والتطوير والتحديث، وفقا لقواعد متفق عليها، يضمن استقلالها عن الهويات المذهبية أو الطائفية أو القبلية أو العرقية، ويؤدي إلى تحييد قوانين الدولة وأنظمتها عن القوانين الدينية والتعاليم الروحية المتضاربة والمتناقضة في معظم الأحيان، وتحويلها إلى مؤسسة عامة، ذات مهام ووظائف محددة ومعينة، وذات سلطات واضحة المعالم والأسس.
يمكن في هذا الصدد ضرب عدد من الأمثلة التوضيحية المبسطة، فالتعليم الديني ليس من مهام الدولة، بل من مهام الأسرة والمجتمع، فكل أسرة لها أن تعلم ابناءئها عقيدتها الروحية، من دون تدخل من الدولة بشكل عام، ومن دون فرض جهة ما في المجتمع لنظام تعليمي يحتوي على مواد دينية لاتجاهها المذهبي، وليس على الدولة أن تمنع احد من الإفطار في أيام شهر رمضان، باعتبار الصيام واجب ديني، إلا أن يكون هذا الإفطار مندرجا تحت إطار مخالفة قانونية مبينة، مندرجة تحت بند ارتكاب الجنحة التي لا لبس فيها، وإعلان دخول شهر رمضان أو حلول الأعياد الدينية ليس من مهام الدولة، ولكنه يقع على عاتق المؤسسات الدينية الاجتماعية، ويقع على عاتق مؤسسة الدولة وضع الأنظمة التي تحترم هذه المناسبات، من دون التقيد بمذهب ديني معين، باختصار الدولة المدنية لا مرجعية دينية لها، بل مرجعية دستورية قانونية صرفة، فلا مفتي للجمهورية! وليس من مهامها إعلان شهر رمضان! أو حلول العيد! أو أمر الناس بالصلاة أو الصيام، وإنما توفر لهم كافة النظم القانونية التي تمكنهم من أداء هذه الشعائر الدينية، وتطبيق قوانينهم العقائدية بكل سهولة ويسر.
إن الدولة المدنية تقف على مسافة واحدة من كافة الطوائف والأعراق والمذاهب، وتتعامل مع مواطنيها وفقا لشخصيتهم القانونية المعتبرة، المبنية على العهد الدستوري، وفي المقابل يتعامل المواطنين مع مؤسسة الدولة على هذا الأساس أيضا، بعيدا عن مرجعياتهم الدينية والأيدلوجية.
إن الدولة المدنية من مهامها تنظيم وضبط النزعات الدينية والانتماءات الروحية، لكي لا يحدث بينها تعارض وتعارك، في إطار هامش الحرية المتاح في المجتمع، لا التدخل في شئونها، أو تبني إحداها، بنفس القدر الذي لا يجوز للقوى الدينية التدخل في شئون الدولة انطلاقا من أيدلوجيتها الدينية وتعاليمها الروحية.
إن الدولة العربية الإسلامية التي أسسها النبي محمد (ص) ليست نموذجا يحتدا، نظرا للاختلاف الشامل وشبه المطلق بين شخصية النبي ومكانته الروحية والإنسانية ، وبين غيره من القادة السياسيين، رغم أن النبي كان معصوما في شخصه فقط، بل ويعتقد الكثير من أتباع المذاهب الإسلامية بأنه معصوما في الوحي والتبليغ لا في قيادة الدولة، ومن الطبيعي القول أن من كان تحت قيادة النبي من القادة العسكريين والعمال وحكام الأقاليم لم يكونوا معصومين، وكانوا يرتكبون الأخطاء كسائر البشر، وسرعان ما انفصمت عرى الوحدة والتلازم بين القيادة الروحية والسياسية بعد عهد الخلفاء الراشدين، خاصة بعد التوسع الكبير في الدولة وزيادة أعبائها ومهامها، وتعقد شئون المجتمع وتوسعها، فغذت القيادة السياسية مستقلة عن القيادة الدينية، وتقلصت إلى حد ما واجبات الدولة ومهامها، واستمر هذا الاستقلال طوال العهود التالية لعهد النبي (ص)، مع وجود علاقة تجاذبيه تلازمية بينهما بشكل عام.
من ناحية أخرى فان المجتمع العربي الإسلامي عند دراسة فترات ازدهاره وتطوره وتفوقه على المجتمعات الأوربية والأسيوية المجاورة له، فان جذورها ترجع إلى انفتاحه العلمي والثقافي الشامل، وتعدده الاجتماعي والديني والعرقي، حيث تمكن من استيعاب الأقليات والأنماط والثقافات الإنسانية وتفاعل معها بشكل جيد، ما وفر مساحة لا باس بها من الحرية، تجاوزت بكثير قوانين المؤسسة الدينية والأعراف الاجتماعية السائدة، وغدت الدولة راعية لهذه المساحة وضامنة لها، ما أذى إلى قدرت المجتمع العربي على المساهمة في تنمية الحياة الإنسانية، وإيجاد موقع له في التاريخ ، وخرج من رحمه العديد من العلماء في مختلف العلوم والمعارف، لا سيما في الطب والفلسفات والفلك والكيمياء، وتمكن من تكوين نظام حضاري متقدم في تلك الفترة، خاصة في حواضره المهمة في بغداد وقرطبة.
لقد كان أساس هذا النموذج الحضاري هو استقلالية الدين عن النظم المركزية الأخرى، وتحوله إلى سلطة من عدة سلطات ونظام من عدة أنظمة، لا نظام مركزي لاهوتي حديدي، وتحول العديد من أنظمته وقوانينه إلى شان فردي واجتماعي في إطار هامش من الحرية، واقتصار دور الدولة على واجبات ومهام اقل مما كانت في العهود السابقة. ولعل نموذج النبي يوسف دليلا آخر على ذلك، فالنبي يوسف أصبح وزيرا في الدولة الفرعونية الوثنية، حيث عين وزيرا للخزانة والشئون الاقتصادية، ولم يعمد إلى فرض نبوته وقناعاته الروحية على الدولة والمجتمع، وظل يمارس دوره كمواطن مصري يعمل في سلك الدولة فترة طويلة من حياته، بالرغم من كونه نبيا، ولم تحدث مواجهة حقيقية بين احد الأنبياء والدولة في مصر إلا حينما أعلن الفرعون رمسيس الثاني نفسه اله، حيث تصدى له موسى في محاولة لإقناعه بالعدول عن تجراه على السماء، إلا انه عاند وكابر ، حتى قضى غريقا في سيناء، إلا إن مصر الفرعونية لم تتبع دين النبي موسى وظلت على وثنيتها وحافظت على ازدهارها، إلا إنها غذت أكثر تسامحا في العهود التي أتت بعد عهد رمسيس الثاني.
إن الإسلام والمسيحية دين المجتمع لا دين للدولة، وان محاولة جعل احدهما دين للدولة، أو احد مذاهبها، يعني الدخول في آتون الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية، مثلما تعاني منها اليوم عدة بلدان في الشرق الأوسط، كالعراق ومصر ولبنان وسوريا، والمفارقة أن كافة أبناء الطوائف الإسلامية والمسيحية كالسنة والشيعة، والكاثلوك والبروتستانت، علاوة على اليهود والبوذيين وغيرهم، يعيشون في وئام في البلاد الأوربية بشكل عام، ونفس هذه الطوائف تعيش في نزاعات وصراعات دموي لا تنتهي في البلدان العربية والإسلامية، ذلك أن البلدان الإسلامية والعربية يمتزج فيها الدين بالدولة، فينتج عنه صراعات دموية، فكل طائفة تسعى إلى الاستيلاء على الدولة والنظام العام، وصبغه بقوانينها وأنظمتها وتعاليمها، بينما مؤسسة الدولة والنظام العام في البلدان الأوربية (والتي تضم ذات المكونات الروحية والدينية للمجتمعات الشرقية) مستقلة وذات نظام مغاير للأديان والأنماط الروحية ، والنظام العام المركزي نظام مستقل وجامع لمختلف المكونات والأنماط الدينية والاجتماعية، لذلك سقطت المجتمعات العربية في وحل النزاعات المدمرة، بينما تمكنت المجتمعات الأوربية من تجبنها، واستطاعت تحقيق ازدهار وتنمية هائلة في مدة قصيرة نسبية.
إن الدولة المدنية ليس من واجباتها إدخال مواطنيها الجنة ! فتلك مهمتم لا مهمتها، وإنما واجبها هو تنظيم شئونهم وسوس أمورهم في كل ما تكلف به بحكم الواقع، أما شئونهم الدينية والروحية فليس للدولة فيها شان إلا بمقدار شانه القانوني والتنظيمي، فشانهم الديني والروحي والمذهبي لهم وحدهم يطبقونه ويعيشونه وفقا لما يؤمنون به ويتمنونه لأنفسهم، فالحجاب والصلاة والصيام ومعظم الواجبات والقوانين الدينية من سلطة الناس على أنفسهم، إلا ما خرج عن ذلك بإجماع ودليل وبرهان قاطع. انه مثلما لا يجوز منطقا وذوقا أن ننسب منتج ما، كالسيارة أو الطائرة إلى دين من صنعه فنقول سيارة مسيحية أو طائرة بوذية ! فانه قد حان الوقت لان لا ننسب الدولة لدين مواطنيها في بلداننا العربية، بل إلى الوطن الذي تديره وتحمل اسمه، بكل ما يحمله من أبعاد وهوية وتاريخ وارث إنساني وحضاري، أما الدولة الدينية فقد ظهرت بسبب افتقاد أنظمة الحكم في القرون الماضية لشرعية ممارستهم للحكم والسلطة، فكان الدين بمؤسساته ورجال دينه هو الطريق نحو تتبيث أركان الحكم ودعامة أساسية للسلطة. ولكن في عصرنا الراهن فقد هدى الله الإنسان للديمقراطية والدستورية والحرية والدولة المدنية، بعد قرون طويلة سالت فيها دماء البشرية وقضى من أبنائها الملايين ممن زج بهم في الصراعات على السلطة ومقاومة طغيانها وقمعها، وبهذه الهداية انتقل الفكر السياسي الإنساني من السلطة المطلقة إلى السلطة الدستورية المدنية، بكل ما فيها من بحبوبة العيش وتحرر للإنسان من قيود الهيمنة والقهر.
على العرب أن يجروا هذه العملية الجراحية المؤلمة، لا بد لهم من أن يفصلوا بين الدين والدولة، لكي يصبح كل منهما في مسار خاص، حتى يتمكنوا من الخروج من عارهم الوجودي وذلهم الحضاري وتخلفهم الإنساني، وإلا فإنهم ما أن يطيحوا بنظام، حتى يبتلوا بنظام آخر اشر منه ، فالصحراء لا يمكن أن تنبت عنبا أبدا.
|
| |
|