** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
مفهوم الغير في الخطاب الفلسفي بين الالتباس والوضوح  I_icon_mini_portalالرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 مفهوم الغير في الخطاب الفلسفي بين الالتباس والوضوح

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
هشام مزيان
المشرف العام
المشرف العام
هشام مزيان


التوقيع : مفهوم الغير في الخطاب الفلسفي بين الالتباس والوضوح  Democracy

عدد الرسائل : 1762

الموقع : في قلب كل الاحبة
تعاليق : للعقل منهج واحد هو التعايش
تاريخ التسجيل : 09/02/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 25

مفهوم الغير في الخطاب الفلسفي بين الالتباس والوضوح  Empty
08062012
مُساهمةمفهوم الغير في الخطاب الفلسفي بين الالتباس والوضوح

يعد
مبحث الغير من أهم المباحث الفكرية التي انشغل بها الخطاب الفلسفي قديما
وحديثا. وبالتالي، لا يمكن الحديث إطلاقاً عن الغير أو الآخر إلاَّ في
علاقته مع الذات والأنا. ومن ثم، لم يظهر مفهوم الغير إلاَّ حديثاً مع
هيجل الفيلسوف الألماني الذي ناقش تصورات الغير وإشكالاتها رداً على
الفيلسوف الفرنسي ديكارت صاحب التمركز الذاتي وفلسفة الأنا.


أما
الفلسفة اليونانية فلم تطرح قضية الغير في علاقتها بالأنا كما طرحها
الفلاسفة المحدثون والمعاصرون كديكارت، وهيجل، وسارتر، وميرلوبونتي،
وبيرجي، ومالبرانش، وهوسرل، وجيل دولوز، وماكس شيلر، ولاشولييه، وكاتاري،
ومارك جيوم، وكلود ليفي شتراوس، وجوليا كريستيفا...، بل كانت هناك مفاهيم
منطقية تناولتها فلسفة أفلاطون وأرسطو كمبدإ الوحدة في علاقته بمبدإ
الكثرة، و(الهوهو) في علاقته بمفهوم الاختلاف. أي إن الفلسفة اليونانية
ناقشت مفهوم الغير ضمن تصورات منطقية وأنطولوجية بحتة، فلم يكن همها هو
مقابلة الأنا بالغير، بل معرفة موقف الإنسان من الوجود والبحث عن أصل
العالم والاهتمام بالميتافيزيقا الكوسمولوجية (الكونية). أي التقابل بين
الإنسان والعالم، والتقابل بين الشعب اليوناني والشعوب الأخرى المجاورة
التي كانت تعتبر في منظور اليونانيين شعوباً أجنبية وأقواماً من العبيد
والغرباء الذين يستحقون أن يستعبدوا، ويستغلوا في مرافق الإنتاج كآلات
وحيوانات تحصد اللعنة الإلهية. وبالتالي، لم تناقش الفلسفة اليونانية
خصوصية الذات، ومستوى وعيها بمكوناتها الفردية وكينونتها الوجودية
والأخلاقية في حضور الغير أو الشخص الآخر.


إذن،
ما هو مفهوم الغير لغة واصطلاحا؟ وهل وجود الغير ضروري للأنا؟ وما طبيعة
الغير؟ وما هي علاقة الأنا بالغير؟ هل هي علاقة إيجابية أو سلبية؟ وهل
علاقة الأنا بالغير قائمة على أساس المودة والصداقة أم على أساس التغريب
والإقصاء؟ هذه هي الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في ورقتنا الفلسفية
هاته.


1- مفهـوم الغير لغة واصطلاحا:

يعرِّف ابن منظور الغير في كتابه: (لسان العرب) بقوله: (الغير: الاسم من التغير. وغير عليه الأمر: حوله. وتغايرت الأشياء: اختلفت. والمتغير: الذي يغير على بعيره أداته ليخفف عنه ويريحه. وغير الدهر: أحواله المتغيرة)(1).

والمقصود
من هذا الاشتقاق اللغوي أن الغير هو الشخص المغاير والمخالف أو الآخر
المخالف للذات. ويحضر الغير في المعاجم الفرنسية بدلالة الآخرين والأشخاص
المختلفين والمتقابلين.


وعليه، فالآخر (l'autre) ليس هو الغير الذي يحيل على مفهوم الشخص، بل هو أعم منه، فقد يطلق على الأشخاصautre personne))، أو الأشياء (autre chose) على حد سواء.

ويرى
سارتر أن الغير هو الآخر. وبالتالي، فالغير هو ليس أنا، بل هو آخر مقابل
للذات المفكرة. وكل أنا تتحول إلى غير حينما تصبح موضوعا قابلا للمعرفة
والإدراك والتشييء، وكل غير يتحول بدوره إلى أنا، حينما تصبح بدورها ذاتا
عارفة تمارس الإدراك الموضوعي.


وتتحدد
دلالات الغير بكل وضوح وجلاء في الخطاب الفلسفي الحديث والمعاصر عندما
نستحضر سياقيا الصراعات الموجودة حاليا بين الأفراد والشعوب والإثنيات
والعرقيات والأقليات، وكذلك حينما نستدعي ما يسمى بالتطهير العرقي،
والتمييز العنصري، وصراع الحضارات (صامويل هنتغتون)، ونهاية التاريخ
(فوكوياما).


2- هل الغير ضـروري بالنسبة للأنـا؟

ثمةموقفان أساسيان متناقضان من وجود الغير، فهناك من يرى أن الغير غير ضروري بالنسبة للأنا كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي ديكارت Descartes، وهناك من يرى أن الغير ضروري بالنسبة للأنا كالفيلسوف الألماني هيجلHegel، والفيلسوف الفرنسي سارتر Sartre.

ديكارت: وجود الغير غير ضروري للأنا:

يرى
الفيلسوف الفرنسي ديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة أن الأنا هي الأساس في
المعرفة، وهي تستغني كامل الاستغناء عن الآخر والواسطة المعرفية. ويعني
هذا أن الذات المفكرة تستطيع أن تصل إلى الحقيقة واليقين عن طريق التفكير
والشك من أجل البلوغ إلى الهدف المعرفي المنشود. لذا، يطرح ديكارت مفهوم
الكوجيتو: (أنا أفكر، إذن، أنا موجود. أو أنا أشك، إذن، أنا موجود).


والمقصود
من هذه القولة التي تشبه عصارة المسار الفلسفي لدى الغزالي صاحب كتاب
(المنقذ في الضلال) أن الشك أو ممارسة التفكير التأملي هو الطريق الوحيد
للوصول إلى اليقين والحقيقة. ويمكن أن يشك الإنسان في كل شيء: الله،
والنفس، والطبيعة... ولكن شيئاً واحد لا يمكن الشك فيه هو أن الإنسان
يمارس الشك والتفكير. وبما أن الإنسان يشك ويفكر فهو موجود. وبالتالي،
فالله موجود والطبيعة موجودة بدورها. ومن هنا، فالذات المفكرة هي جوهر
الكينونة الأنطولوجية للإنسان، وهي المعيار الاستدلالي على وجود الأنا
الواحدية. وبتعبير آخر، فالأنا هي التي تثبت وجودها بدون أن تحتاج إلى
الغير، والغير بدوره في حاجة ماسة ليثبت وجوده عن طريق العقل والاستدلال
والبرهان المنطقي. ويصل ديكارت إلى أن الأنا مستقلة عن الآخر والواسطة
الخارجية، ويمكن أن تعيش بمفردها مستغنية عن وجود الآخر الذي هو في حاجة
إلى الاستدلال على وجوده الكينوني والمنطقي. ويترتب عن هذا أن الغير غير
ضروري بالنسبة للذات والأنا. ويقول ديكارت عن الآخر أنه من الضروري أن
يبرهن على نفسه بالمنطق الاستدلالي والتفلسف الأنطولوجي: (...أنظر من
النافذة فأشاهد بالمصادفة رجالا يسيرون في الشارع، فلا يفوتني أن أقول عند
رؤيتهم إني أرى رجالا بعينهم، مع أني لا أرى من النافذة غير قبعات ومعاطف
قد تكون غطاء لآلات صناعية تحركها لوالب، لكني أحكم بأنهم ناس: وإذا، فأنا
أدرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت أحسب أني أراه بعيني)(2).


ونستنتج
من هذا أن ديكارت يشك في الآخر، ويعتبر وجوده الافتراضي خاضعا للاحتمال
والشك الاستدلالي. ومن ثم، يؤمن ديكارت بالفلسفة الواحدية أو فلسفة الأنا
على حساب الغير، باعتبار أن الأنا هي الموجودة يقينيا، وهي الضرورية
أنطولوجيا. وبالتالي، يمكن للذات الأنا أن تعيش في غنى عن الغير الخاضع
بدوره للشك والاحتمال.


هيجـل: وجود الغير ضروري للأنا:

يعتبر
الفيلسوف الألماني هيجل أن الوعي هو أساس وجود الذات والآخر. ولقد ظهر
الإنسان وجوديا وكينونيا مع ظهور الوعي والإدراك والعمل. ويتكون هذا الوعي
من خلال العلاقات الجدلية الموجودة بين الفكر والواقع، وبين الذات والآخر،
وبين الأنا والموضوع. ويعني هذا أن الإنسان يدرك وجوده وقيمته وكينونته من
خلال وجود الآخر أو الغير باعتباره وسيطا ضروريا للذات.


ومن
الأدلة القاطعة على ضرورة الغير بالنسبة للأنا لدى هيجل نظرية جدلية السيد
والعبد. فكل من السيد والعبد يحاول كينونيا واجتماعيا وميتافيزيقيا أن
يحقق وجوده وحياته وحريته عن طريق الصراع الجدلي والمخاطرة لتفادي الموت
والاندثار. فالسيد لا يمكن أن يحافظ على مكانته الاجتماعية والمصيرية
إلاَّ بالصراع مع العبد والانتصار عليه. وينطبق هذا على العبد الذي لا
يمكن أن يحقق ذاته إلاَّ بالصراع مع السيد من أجل أن يفرض ذاته. والمقصود
من هذا أن الصراع الجدلي هو السبيل الوحيد لتحقيق: الوعي والوجود الحقيقي
للذات. ولا يتأتى هذا الوجود إلاَّ عبر الصراع مع الآخر. وبالتالي، فوجود
العبد مقترن بوجود السيد، ووجود السيد أيضا مرتبط بوجود العبد.


وللتوضيح
أكثر، فالسيد مرتبط بالعبد مرتين، والعبد بدوره رهين بالسيد مرتين. فالسيد
يحس بالانتشاء والافتخار والزهو حينما يسمع العبد يسيده ويعلي من مكانته.
ومن ثم، فالسيد في حاجة إلى العبد ليتحقق من مكانته الاجتماعية، ويتأكد من
تميزه الطبقي. زد على ذلك أن السيد لا يمكن أن يعيش بدون العبد (الغير)،
لأنه هو الذي يفلح أرضه ويزرعها، ويجد في توفير الطعام والشراب له، ويعينه
على قضاء حوائجه وتحصيل مآربه.


والعبد
بدوره يحس بفرح شديد حينما يعلم أن سيده لا يمكن أن يستغني عنه مادام أداة
للإنتاج ووسيلة لتسييد مالكه. وفي نفس الوقت، يحس العبد أنه بدون سيده
سيضيع هباء منثورا، ولن يجد ما يقتات به، ولا من يشغله ويؤويه، فالسيد هو
الذي يتحكم في رزقه وعيشه ومستقبله.


وبناء
على ما سبق، نرى أن السيد لا يمكن أن يستغني عن العبد، ولا العبد يستطيع
أن يستغني عن السيد. وبالتالي، تترجم لنا هذه العلاقات التقابلية جدلية
السيد والعبد وفلسفة الحياة والموت. ونستشف من كل هذا أن الغير ضروري
بالنسبة للأنا أو الذات، ولا يمكن لها أن تعيش في غنى عن الغير كما قال
ديكارت، بل الغير ضروري وواجب لوجود الأنا والذات على حد سواء كما يقول
هيجل. وبالتالي، فإذا كان ديكارت فيلسوف واحدي وأنوي، فإن هيجل فيلسوف
غيري يؤمن بضرورة وجود الآخر لتحقيق: كامل الوعي والإدراك الإنساني.


وفي
هذا السياق يقول هيجل موضحا جدلية السيد والعبد ومؤكدا أهمية الغير في
حياة الذات والأنا: (تتمثل عملية تقديم الذات لنفسها أمام الآخر بوصفها
تجريدا خالصا لوعي الذات، في إظهارها أنها ليست متشبثة بالحياة. وهذه
العملية مزدوجة: يقوم بها الآخر كما تقوم بها الذات. وأن يقوم بها الآخر
معناه أن كلا منهما يسعى إلى موت الآخر. وأن تقوم بها الذات يعني أنها
تخاطر بحياتها الخاصة. يتحدد سلوك كل من وعيي الذات (الفردين البشريين
المتواجهيين) إذن، بكون كل منهما يثبت ذاته لنفسه، كما يثبتها للآخر
بواسطة الصراع من أجل الحياة والموت. إنهما مجبران بالضرورة على الانخراط
في هذا الصراع؛ لأنَّ على كل منهما أن يسمو بيقين وجوده إلى مستوى الحقيقة
بالنسبة لذاته وبالنسبة إلى الآخر. فالمخاطرة بالحياة هي وحدها التي يتم،
بواسطتها، الحفاظ على الحرية، وبها وحدها يقدم الدليل على أن وعي الذات
ليس مجرد وجود، وليس موجودا على نمط مباشر مثل نمط وجود الأشياء...ولا
انغماسا أو تشبثا بالحياة. صحيح أن الفرد الذي لم يخاطر بحياته، قد يعترف
به كشخص، ولكنه لا يبلغ حقيقة الاعتراف به كوعي لذاته مستقل. كذلك يكون
على كل فرد عندما يخاطر بحياته الخاصة أن يسعى إلى موت الآخر؛ لأنَّ الآخر
لم يعد أسمي منه قيمة، وإنما تتجلى له ماهيته كآخر يوجد خارجا عن ذاته،
وعليه أن يلغي وجوده الخارج عن ذاته)(3).


وهكذا،
يرى هيجل عكس ديكارت أن الغير ضروري بالنسبة لوجود الأنا والذات على حد
سواء، بيد أن العلاقة بينهما علاقة سلبية قائمة على العدوان والصراع
الجدلي.


3- معرفة الغير:

من
المعروف أن الأنا -باعتبارها ذاتا مفكرة ومدركة- تحاول أن تعرف موضوعا ما،
وقد يكون موضوع المعرفة الذي تريد أن تعرفه الأنا أو الذات العارفة معطى
مجردا أو معطى ملموسا حسيا، وقد يكون الموضوع المدرك معرفيا ذاتا أو شيئاً
ماديا. وإذا كانت الذات العارفة تتسم بالحرية والوعي والإرادة والقصدية،
فإن الغير المقابل -باعتباره موضوعا للمعرفة الذي يشبه المادة الخاضعة
للدراسة والمراقبة- يفقد كل خصائصه الطبيعية والمكتسبة كالعقل والمعنى
والحرية والإرادة. وبالتالي، يصبح موضوعا قابلا للتشييء والاستلاب من قبل
الأنا العارفة المدركة. ومن هنا، هل يمكن أن تقوم معرفة ما بين الأنا
والغير؟ وهل الغير ضروري لمعرفة الأنا لذاتها؟ وهل المعرفة التي تنشأ
بينهما ممكنة أو مستحيلة؟ وهل علاقة الأنا بالغير سلبية أو إيجابية؟ وما
هي أسس هذه العلاقات المثبتة بين الأنا والغير؟


سارتر: الغير ضروري، ولكنه جحيم:

إذا
كان هيجل يرى أن الغير وسيط ضروري بالنسبة للأنا ولوعيها الإدراكي
والأنطولوجي والميتافيزيقي والاجتماعي والتاريخي والإنساني. ومن ثم،
فالعلاقة بين الأنا والغير ليست إيجابية، بل هي علاقة سلبية قائمة على
الصراع الجدلي القائم على مخاطرة الحياة والموت، ولا يمكن لأي واحد منهما
أن يحافظ على حياته وبقائه إلاَّ عبر الصراع الجدلي الذي يعطينا في الأخير
منتصرا ومنهزما، ويفرز لنا اجتماعيا وطبقيا ثنائية السيد والعبد. فإن جان
بول سارتر
Sartre يرى
بدوره أن الغير ممر ضروري ووسيط لا يمكن الاستغناء عنه في مجال المعرفة
الإنسانية. فالذات لا يمكن أن تعرف كينونتها إلاَّ عن طريق الغير الذي
يراقبها، ويستطيع تقويمها بشكل جيد ودقيق. كما أن الغير يتدخل كثيرا في
حياة الأنا، ويعرف مجموعة من التفاصيل الدقيقة عن الذات المرصودة من قبل
الغير أو الآخر. لذا، قال سارتر في كتابه (الوجود والعدم) قولته المشهورة:
(أنا، والآخرون إلى الجحيم). ومن هنا، فالمعرفة بين الأنا والغير مستحيلة
وغير ممكنة، وهي مبنية على العدوان والصراع، على الرغم من كون الغير وسيطا
ضروريا للأنا على مستوى المعرفة والإدراك.


هذا، ويورد لنا سارتر مثال: (النظرة Regard Le)
للاستدلال على جحيمية الآخر وتطفله السلبي. فالطفل، مثلا، عندما يكون
وحيدا في مكان ما يختاره بإرادته، فإنه يلعب بكل حرية، ويتصرف بعفوية
مطلقة، ويعبر من خلال هذا اللعب الطبيعي عن إرادته ووعيه ووجوده وشخصيته
الشعورية واللاشعورية. لكن في حالة حضور الآخر الذي يراقبه، تتجمد حركاته،
وتتصلب عضلاته، فيتوقف عن لعبه، ويحجم عن أداء حركاته العفوية الفطرية.
ومن هنا، تحس الذات أن الغير يقيدها ويحولها إلى موضوع مشيإ ومستلب.


وعليه،
فالغير بالنسبة لسارتر جحيم أنطولوجي وعدم سلبي. ويقول سارتر في هذا
الشأن: (يقوم في أصل مشكلة الغير، افتراض أساسي، وهو أن الغير هو الآخر،
بالفعل، أي الأنا الذي ليس هو أنا. هنا ندرك سلبا أو نفيا يتخذ صورة بنية
مكونة: يكون (أنا ما) غيرا (..)، فالغير هو ذلك الذي ليس هو أنا، ولست أنا
هو. هذا الـ(ليس) (النفي) يشير إلى عدم يدخل كعنصر فصل معطى بين الغير
وبيني أنا. بيني وبين الغير عدم يفصل بيننا ويباعد بيننا. وهذا العدم لا
يستمد أصله مني أنا ولا من الغير، ولا من العلاقة المتبادلة بين الغير
وبيني أنا، بوصف هذا العدم غيابا أول للعلاقة)(4).


وإذا
كان بعض الدارسين يعتبرون هيجل هو أول من طرح مسألة الغير أثناء مناقشته
لفلسفة الأنا لدى ديكارت، إلاَّ أن جيل دولوز يرى في كتابه (منطق المعنى):
(أن نظرية سارتر، في الوجود والعدم، هي أولى نظرية عامة حول مسألة الغير،
لأنها تجاوزت الخيار التالي: هل الغير موضوع أم هل هو ذات؟ يعتبر إسهام
سارتر إسهاما رائدا للبنيوية؛لأنه أول من تصور الغير كبنية خاصة أو محددة
غير قابلة للاختزال في الموضوع وفي الذات)(5).


وعلى
العموم، فسارتر يؤكد استحالة وجود علاقة إيجابية بين الذات والغير مادام
هذا الغير جحيما يتطفل على الذات إرصادا وتبئيرا ووسيطا.


ميرلوبونتي: العلاقة بين الأنا والغير إيجابية، وأساسها التواصل:

هناك
في المقابل من يعارض الطرح الفلسفي القائم على استحالة المعرفة بين الأنا
والغير لدى هيجل وسارتر، وخير من يمثل هذا الطرح المعاكس الفيلسوف
ميرلوبونتي
Merleauponty الذي
يرى أن العلاقة بين الأنا والغير ممكنة وإيجابية. وبالتالي، فهي قائمة على
التواصل والتعاون والأخوة. وأساس هذا التواصل هو اللغة؛ لأنَّ باللغة
يتحقق التعارف بين الأنا والغير.


فكم
من مرات عديدة داخل القطار أو الطائرة أو الحافلة أو سيارة الطاكسي، يدخل
الإنسان، بعد تردد وخوف وخجل، في حوار قصير أو مستفيض مع الغير الآخر في
مواضيع شتى، فتتولد بينهما معرفة أخوية إيجابية
!
يقول ميرلوبونتي في هذا الصدد: (إذا ما ربطتني صلة بشخص مجهول لم ينبس بعد
بكلمة، فإنني أستطيع أن اعتقد أنه يعيش في عالم آخر لا تستحق أفعالي
وأفكاري أن توجد فيه. لكن ما أن ينطق بكلمة حتى يكف عن التعالي علي: هو ذا
صوته وهي ذي أفكاره، هو المجال الذي كنت اعتقد أنه يستعصي علي بلوغه، فلا
يعلو كل وجود معين على الآخرين بصورة نهائية إلاَّ حين يبقى عاطلا، ويتوطد
في اختلافه الطبيعي)(6).


كما
أن الغير ضروري بالنسبة لميرلوبونتي، لأنه لا يمكن للأنا أن تتأقلم مع
الوجود -وبالتالي، تتكيف معه سلبا وإيجابا- إلاَّ بحضور الغير. فإذا
أردنا، مثلا، أن نرفع سيارة ما، فالذات بمفردها لا يمكن أن تتحمل ثقل ذلك
الرفع إلاَّ بمساعدة الآخر ومؤازرته الإيجابية.


وهكذا،
نجد ميرلوبونتي -عكس سارتر- يعترف بالعلاقة الإيجابية الممكنة بين الأنا
والغير، وأن هذه العلاقة قائمة على أساس التعارف والتواصل (اللغة)
والتعاون والأخوة.


ماكس شيلر: العلاقة بين الأنا والغير إيجابية، وأساسها التعاطف:

يرى ماكس شيلر Max Scheller -في
كتابه (التعاطف: طبيعته وأشكاله)- أن وجود الغير ضروري بالنسبة للأنا؛ ذلك
أن الغير هو الذي يعرفنا بخبايا النفس والذات شعوريا ولاشعوريا. فالطبيب
النفساني هو الذي يساعد المريض على فهم نفسيته وتفسيرها على ضوء أسبابها
الذاتية والموضوعية. ومن ثم، فالغير وسيط ضروري للذات لتعرف موضوعها
القابل للإدراك.


ويذهب
ماكس شيلر إلى أن العلاقة الموجودة بين الذات والغير هي علاقة إيجابية
ممكنة أساسها التعاطف لا التنافر. أي لابد للغير أن يقيم علاقات نفسية
وجدانية مع الذات الأخرى المقابلة أساسها التعاطف الوجداني الداخلي
المتين، ومشاركة الأنا في أفراحها وأتراحها ضمن كلية لاتتجزأ فيه الذات
إلى جسم ونفس، وظاهر وباطن، وعقل ومادة. وبتعبير آخر، أنه من الضروري أن
نعايش الآخر في مشاعره وانفعالاته وأحاسيسه كيفما كان نوعها باهتة أو
عميقة عن طريق المماثلة التي تعني أن الآخر مماثل لنا.


ومن
هنا، يرفض ماكس شيلر العلاقات القائمة على النبذ والكراهية والحقد
والتنافر والتغريب والإقصاء، ويدعو في المقابل إلى علاقات وجدانية باطنية
إيجابية أساسها التعاطف البناء والعطاء الوجداني المثمر والمشاركة
الفعالة. كما يرفض ماكس شيلر بشكل مطلق تقسيم الذات إلى أجزاء ثنائية
منفصلة أثناء الإدراك المعرفي، بل علينا أن ننظر إلى الغير الآخر نظرة
محترمة كلية موحدة يلتحم فيها الداخل والخارج، والظاهر والباطن، والجسم
والروح في بوتقة وجدانية لا تخضع بشكل من الأشكال لأي نوع من التقسيم أو
التجزيء المصطنع. يقول ماكس شيلر في هذا السياق: (إن أول ما ندركه من
الناس الذين نعيش وإياهم، ليس هو أجسادهم (ما لم يتعلق الأمر بفحص طبي
خارجي)، ولا أفكارهم ونفوسهم، بل إن أول ما ندركه منهم هو مجموعات لا
تنقسم ولا تتجزأ، ولا نسارع إلى تجزئتها إلى شطرين، أحدهما مخصص للإدراك
الداخلي، والآخر للإدراك الخارجي. بوسعنا أن نتوجه، بكيفية فرعية، نحو
الإدراك الخارجي أو نحو الإدراك الداخلي. ولكن هذه الوحدة الفردية
والجسدية (المعطاة) لنا في المقام الأول تمثل، قبل كل شيء، موضوعا يكون في
ذات الوقت في متناول الإدراك الخارجي والإدراك الداخلي: الواقع أن هذين
المحتويين يتعلق أحدهما بالآخر ويترابطان برباط جوهري يستمر ويبقى حتى حين
أحاول أن أدرك نفسي. ويستقل عن كل ملاحظة وعن كل استقراء)(7).


ومن هنا، فماكس شيلر يرى أن العلاقة الموجودة بين الأنا والغير هي علاقة إيجابية ممكنة يتحكم فيها التعاطف الوجداني الكلي.

جيل دولوز: العلاقة بين الأنا والغير إيجابية، وأساسها الإدراك:

يرى جيل دولوز J.Deleuze في
كتابه (منطق المعنى) أن الغير ضروري بالنسبة للأنا، ولكن جيل دولوز لا
ينظر إلى الغير من منطق شخوصي إنساني وميتافيزيقي، بل ينظر إليه من وجهة
بنيوية محضة. فيرى أن ثمة العديد من الأغيار المقابلة لعنصر الأنا. ولكن
العلاقة القائمة بين الأنا والغير إيجابية قائمة على التكامل الإدراكي. أي
إن الأنا لا يمكن أن تدرك كل العناصر المحيطة بالشيء المرغوب إدراكه،
فلابد من الاستعانة بالغير على مستوى المعرفة والإدراك. فإذا أخذنا على
سبيل المثال الشجرة، فالذات لا يمكن أن تدرك منها سوى زاوية معينة، بينما
الزوايا الأخرى من الموضوع المدرك موجودة، ولا يمكن القول بعدمها واستحالة
وجودها مادمنا لا ندركها من زاوية معينة. ومن هنا، يتدخل الغير الآخر
ليدركها من منظوره الخاص. ويعني هذا أن الغير يساعد الذات في المعرفة
والإدراك والتحصيل الموضوعي. فالطالب الذي يعرف الرياضيات يدرك مالا يدركه
طالب الآداب، والعكس صحيح أيضا. وبالتالي، فالغير يكمل الذات في الجانب
المعرفي الإدراكي. ومن هنا، نتحدث عن مدرك فعلي وهو الأنا، ومدرك ممكن
هامشي هو الغير الوسيط والمكمل. كما ينقسم المدرك الممكن إلى قسمين على
مستوى الحضور والغياب: مدرك تخييلي حينما يغيب وجوده تحضر صورته ذهنيا
ووجدانيا لدى الأنا، ومدرك فعلي يتسم وجوده بالحضور في المكان والزمان
اللذين تحضر فيهما الذات العارفة.


وهكذا، فإن الغير: (بوصفه بنية هو تعبير عن عالم ممكن، إنه هو الشيء المعبر عنه مدركا بوصفه لم يوجد بعد خارج ما يعبر عنه.)(8).

وعليه،
فوجود الغير ضروري للأنا عند جيل دولوز من خلال تصوره النسقي البنيوي، كما
أن العلاقة بين الأنا والغير إيجابية قائمة على التكامل الإدراكي.


4- الصداقة والغرابة من أوجه العلاقة بين الأنا والغير:

تتمثل
علاقة الأنا والغير في الخطاب الفلسفي قديما وحديثا في أهم تجلياتها
الواضحة في ثنائية الصداقة والغرابة. فـالعلاقة بين الذات والآخر قد تكون
إيجابية مبنية على الصداقة والمحبة والمودة، وقد تكون سلبية قائمة على
الإقصاء والتغريب والتهجير والتنافر. وتحضر هذه العلاقة بشكل جيد في
مجتمعاتنا المعاصرة التي بدأت تعرف صراعات حادة وسجالات طاحنة، فينتج عنها
تغريب الآخر كينونيا ووجوديا وأخلاقيا وإنسانيا، وتصفيته جسديا ومعنويا
حقدا وكراهية وعدوانا وتمييزا.


أ- العلاقة بين الأنا والغير أساسها الصداقة:

مفهوم الصداقـة:

من
المعلوم أن الصداقة في اللغة العربية مشتقة من الصدق وحسن القصد، وتدل
معجما واصطلاحا على العلاقة التي تجمع بين قريبين أو شخصين متجاورين أو
متباعدين على أساس الإخلاص والمحبة والفضيلة، فتساهم هذه العلاقة في
تحقيق: التقارب والتآلف والمودة والمحبة وحسن الرضى بين الطرفين
المتوادين. كما تعبر الصداقة عن الحقيقة والكمال والفضيلة والقوة، وتدل
أيضا على علاقة الحب والمودة والإخلاص التي تجمع بين شخصين متفاهمين
ومتآلفين. لذا، فالسؤال الجوهري: لماذا يترابط الأنا بالغير برباط الصداقة
والمحبة والمودة؟


أفلاطون: الصداقة حالة وجودية وسطى

يناقش الفيلسوف اليوناني أفلاطون قضية الصداقة في محاورة ليزيس Lysis
باعتبار أن الصداقة هي علاقة محبة ومودة تجمع بين الأنا والغير، أساسها
حالة وجودية وسطى بين الكمال المطلق والنقص المطلق، وبين الخير المطلق
والشر المطلق. ويعني هذا أن الكائن الكامل المطلق ليس في حاجة إلى صديق،
والناقص المطلق أيضا لا يرغب أحد في مصادقته. وبالتالي، فالذي في حاجة إلى
صداقة الغير هو الجامع بين النقص والكمال من جهة، ويتأرجح بين الخير والشر
من جهة أخرى. وبتعبير آخر، يقول أفلاطون: (لا توجد صداقة بين الطيب
والطيب، ولا بين الخبيث والخبيث، ولا بين الطيب والخبيث. ذلك لا يجوز في
ضوء محاجتنا السابقة. يبقى...أن هذه الصداقة تقوم بين ما ليس طيبا ولا
خبيثا من جهة وبين الطيب وما في طبيعته من جهة أخرى.ذلك لأنه لا يمكن أن
تقوم، فيما افترض، صداقة نحو ما هو خبيث)(9).


ومن هنا، فالصداقة هي حالة وجودية وسطى تتوق فيها الأنا إلى الكمال النسبي بعد إحساسها بالنقص الجزئي. وبمعنى
آخر، أن الصداقة الحقيقية هي التي تجمع واقعيا وإنسانيا بين الأنا والغير
على أساس حالة وسطى وجودية تتراوح بين الكمال والنقص المطلقين من جهة،
والخير والشر المطلقين من جهة أخرى.


أرسطو: الصداقة فضيلة

يرى
أرسطو -الفيلسوف اليوناني- أن الصداقة في أبعادها الواقعية والأخلاقية
والمدنية والسياسية والاجتماعية أنواع ثلاثة: صداقة المنفعة، وصداقة
المتعة، وصداقة الفضيلة. فصداقة المنفعة وصداقة المتعة زائلتان ومتغيرتان
وغير ثابتتين مادامتا قائمتين على أساس براجماتي مرتبط بتحقيق: شهوات
الذات وتحقيق: مآرب ومصالح الأنا. وكل قيمة أخلاقية قابلة للفناء والزوال
والتبدل والتغير فهي غير حقيقية. وبالتالي، لا تستحق أن تكون قيمة جوهرية
ثابتة. لذا، فصداقة الفضيلة هي صداقة تراد لذاتها بعيدا عن كل مصلحة ومتعة
ومنفعة زائلة. ومن هنا، فصداقة الفضيلة هي من أحسن الصداقات على مستوى
القيم والأخلاق، وتتسم بالكمال والسعادة والفضيلة. ولو أخذ بها الناس لما
كانت هناك صراعات وحروب ومحاكم لفض النزاع بين المتخاصمين. وحينما تتحقق
صداقة الفضيلة تتولد عنها تبعا صداقة المنفعة وصداقة المتعة. وفي هذا يقول
أرسطو: (لو تعلق المواطنون بعضهم ببعض برباط الصداقة لما احتاجوا إلى
عدالة إذا بلغت حد الكمال ظهرت من طبيعة الصداقة. إن الصداقة ضرورية. ماذا
أقول؟ إنها رائعة. فنحن لا ندخر جهدا في امتداح من يتخذون الصداقة شعيرة
لهم، ونعد كثرة عدد الأصدقاء من المزايا المشرفة. بل إن البعض ليرى أن
الإنسان الشريف والصديق الحق هما شيء واحد.)(10).


وهكذا،
فالصداقة الحقة عند أرسطو ليست هي الصداقة المثالية كما عند أفلاطون، بل
هي صداقة واقعية ومدنية قائمة على الفضيلة من خلال البحث عن الجمال والخير
والكمال والسعادة الفضلى.


ب- العلاقة بين الأنا والغير أساسها الغرابة:

مفهوم الغرابة:

من
المعروف أن الصداقة لا تتحقق سوى في المجتمعات الصغيرة كالعشيرة والقبيلة
والدولة / المدينة كما هو الحال في اليونان، وحتى إن وجد الغرباء والغير
البعيد أو الأجنبي، فإنه لا يمكن أن يؤثر على تماسك المجتمع أو يعكر صفو
وحدته؛ لصعوبة الاندماج في بنية المجتمع الذي لا يعترف إلاَّ بالسكان
الأصليين.


بيد
أنه في المجتمعات الكبيرة المفتوحة على الأجانب والغرباء والثقافات
الأخرى، يكثر الأغيار والآخرون والمهاجرون، فتكون العلاقات داخل هذه
المجتمعات مختلفة ومتفاوتة ومضطربة تخضع لمجموعة من العلاقات الايجابية
والسلبية تجاه الغير. وكل من يحاول أن يعكر الصفو على أفراد المجتمع
المضيف، فإنه يتعرض بلا محالة للطرد والإقصاء والتغريب والنبذ والرفض.


ومن
هنا، فالغريب هو المجهول، والغامض، والمتوحش، والمتخلف، والإرهابي،
والمجرم، والمهمش، والمخيف. علاوة على ذلك، فهو ذلك الرجل الأجنبي الذي
ينزل ضيفا على بلد الاستقبال، فيقع في موقفين متقابلين: إما أن يتم
استقباله بشكل إنساني جيد تحقيقا لمبدأ المعايشة والمماثلة والمشاركة
الوجدانية واحتراما لحقوق الإنسان العامة والخاصة، وإما يتم رفضه وطرده
ونبذه حينما يدخل هذا الغريب في صراع مجتمعي وقيمي وحضاري، أو يعلن تمرده
وخروجه عن قوانين وأعراف وتقاليد ذلك المجتمع المضيف.


جوليا كريستيفا: لا للإقصاء والتغريب!

ترى جوليا كريستيفا Julia Kristeva
أن وحدة المجتمعات مجرد وهم وسراب، وأن المجتمعات تعيش غربتها قبل أن ينزل
بها الغرباء. ويعني هذا أن الغربة -تقول كريستيفا- تسكن ذواتنا ونفوسنا
قبل أن نتعرف على الغرباء والأجانب. وبالتالي، فعلينا ألا نسقط مشاكلنا
وهمومنا على الأغيار والغرباء والآخرين، وننسى نفوسنا المنطوية الغريبة
وتصرفاتنا الشاذة.


وعليه،
فليس الغريب، الذي هو اسم مستعار للحقد وللآخر، (هو ذلك الدخيل المسؤول عن
شرور المدينة كلها...ولا ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم
إلى الجماعة. إن الغريب يسكننا على نحو غريب.إنه القوة الخفية لهويتنا،
والفضاء الذي ينسف بيتنا، والزمان الذي يتبدد فيه وفاقنا وتعاطفنا. ونحن
إذ نتعرف على الغريب فينا نوفر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته. إن الغريب،
بوصفه عرضا دالا يجعل الـ(نحن) إشكاليا وربما مستحيلا، يبدأ عندما ينشأ
لدي الوعي باختلافي، وينتهي عندما نتعرف على أنفسنا جميعا على أننا غرباء
متمردون عن الروابط والجماعات.)(11).


وهكذا،
ترفض جوليا كريستيفا مبدأ الإقصاء والكراهية والحقد وتغريب الأغيار
الأجانب ونبذ الغرباء المهاجرين و الدخلاء. وتقول جوليا كريستيفا صارخة:
(لا للإقصاء والتغريب
!).

مارك جيوم: العلاقة بين الأنا والآخر أساسها التسامح

يذهب مارك جيوم M. Guillaume
إلى أن العلاقة التي ينبغي أن تجمع بين الأنا والغير أو بين الذات والآخر
أو بين ثقافة وأخرى ليس هو النبذ والإقصاء والتغريب والصراع والحرب
والسجال والعداء، بل الإنصات إلى الحوار والتسامح والاحترام المتبادل؛
لأنَّ الآخر، أولا، يماثلنا في الكينونة البشرية. وثانيا، فالوجود الفردي
والبشري والاجتماعي والثقافي والعلمي فيه نقص واستلزام لحضور الغير
لتحقيق: التكامل والتعاون الحقيقي. يقول مارك جيوم: (يظل الآخر، دوما، غير
قابل؛ لأنَّ يرد أو يختزل إلى الأنا، وغير قابل للفهم، إلى الأبد. إنه في
آن واحد مختلف، بكيفية جذرية، مشابه لغيره في وضعه. الآخر هو منبع هذه
الضروب من عدم الفهم الذي يحيي الفكر وينعشه، بدلا من أن يكبحه ويجمده،
وهو يبدد كل أمل في المعرفة المطلقة. إنه تفاهم ووفاق لا محدود، لأنه، على
التحديد، يترك، دوما، بقية من عدم الفهم. يقوم في أساس كل كائن مبدأ نقص
وعدم كفاية. وهذا النقص لا يكون في وسعي أنا حتى أن أضعه وحدي، وإلا صرت
مكتفيا بذاتي.


وهكذا، يرتبط مبدأ الشعور بالنقص بالضرورة القصوى للغيرية الجذرية، الغامضة والمستغلقة.

...ينبغي أن يفهم الوفاق والتفاهم مع الآخر كما تفهم العبارة (التفاهم مع العدو))(12).

ويعني هذا أن العلاقة بين الأنا والغير عند مارك جيوم قائمة على الحوار والتفاهم والتسامح والتكامل والاحترام والتقدير.

كلود ليفي شتروس و التكامل الثقافي

يشتغل كلود ليفي شتروس C.L. Strauss في
المجال الأنتروبولوجي والثقافي. لذا، فهو يرى أن مستقبل العلاقات بين
المجتمعات الفردية والبشرية والثقافية فيما بينها ينبغي ألا يقوم على مسخ
حضارة الآخر وتغريبها وطمسها ومحاربتها وعولمتها والقضاء عليها، بل لابد
للشعوب من الحفاظ على ثقافتها واستقلالها وهويتها مع المساهمة ضمن الكل
الثقافي والحضاري. أي لابد من تحقيق: التكامل الثقافي بدلا من إذابة ثقافة
الآخر داخل ثقافة الأنا. ويدعو كلود ليفي شتروس في كتابه (الأنتروبولوجية
البنيوية) إلى الاحتكام إلى مبدإ تكامل الثقافات قائلا: (إن الإسهام
الحقيقي للثقافات لا يكمن في قائمة اختراعاتها، بل في الفارق المميز الذي
تكشف عنه فيما بينها. إن الشعور بالعرفان والتواضع الذي يستطيع كل عضو من
أعضاء ثقافة معينة، بل يجب عليه، أن يستشعره نحو جميع الثقافات الأخرى، لا
يمكن أن يتأسس إلاَّ على الاقتناع التالي: إن الثقافات الأخرى مختلفة عن
ثقافته، اختلافا تتنوع أشكاله أشد ما يكون التنوع، وذلك حتى وإن كان لا
يدرك طبيعة هذا الاختلاف.)(13).


وهكذا،
يرى كلود ليفي شتراوس أن علاقة الأنا بالغير على مستوى الثقافي قائمة على
أساس التكامل والتبادل واحترام خصوصيات الآخرين وهوياتهم الثقافية.


خاتمة:

ونستنتج
مِمَّا سبق ذكره، أنه إذا كان وجود الغير غير ضروري عند ديكارت في إطار
فلسفة الكوجيتو، فإن هيجل -على العكس- يرى أن وجود الغير ضروري كما توضح
ذلك نظريته جدلية السيد والعبد.


وإذا
كان هيجل يرى أيضا أن علاقة الأنا بالغير علاقة سلبية قائمة على الصراع
الجدلي، وإذا كان سارتر يرى أنها مبنية على أساس العدم والعدوان، فإن
ميرلوبونتي يرى أنها علاقة إيجابية قائمة على أساس التواصل اللغوي. في حين
نجد ماكس شيلر يرى أن هذه العلاقة مرتكزة على أساس التعاطف والتعايش
والمشاركة الوجدانية. أما جيل دولوز، وهو ينطلق من مقاربة بنيوية، فيؤكد
إيجابية العلاقة بين الأنا والآخر من خلال التكامل الإدراكي بين المدرك
الفعلي والمدرك الممكن.


هذا،
وتعد الصداقة والغرابة من أهم أوجه العلاقة الموجودة بين الأنا والآخر.
وإذا كان أفلاطون يرى أن الصداقة هي الحالة الوجودية الوسطى بين الكمال
والنقص المطلقين، والخير والشر المطلقين، فإن أرسطو لايعترف سوى بصداقة
الفضيلة. وفي نفس الوقت، يغض من قيمة صداقة المتعة وصداقة المنفعة؛ لأنَّ
هاتين القيمتين الأخلاقيتين زائلتان وفانيتان.


وعلى
مستوى الغرابة، فقد رفضت جوليا كريستيفا كل العلاقات الإنسانية القائمة
بين الأنا والغير، والمبنية على أساس الإقصاء والتغريب والحقد والتهجير.


ومن
جهة أخرى، يدعو مارك جيوم إلى الأخوة والتسامح والحوار والاحترام المتبادل
بين الذات والآخر مع نبذ السجال والعداء والحروب الطاحنة والصراع الحضاري.


وفي
نفس السياق، نستحضر فلسفيا كلود ليفي شتراوس الذي يدافع عن ثقافات الشعوب
مهما كانت قوتها وضعفها، ويحث على ضرورة استقلالها الثقافي هوية وخصوصية.
ويرفض، في نفس الوقت، كل سياسة عدائية تحاول طمس ثقافات الآخرين عبر
تشويهها ومسخها وتغريبها وعولمتها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

مفهوم الغير في الخطاب الفلسفي بين الالتباس والوضوح :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

مفهوم الغير في الخطاب الفلسفي بين الالتباس والوضوح

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» الخطاب الفلسفي العربي
» العرب و الحرية ، ذلك الالتباس الكبير!
» مفهوم الخصوصية الثقافية في الخطاب الأنثروبولوجي المعاصر بهادي منير
» علي الحسن أوعبيشة 0inPartager Share on Thumblr إن الهدف الأساسي من هذه الورقة ليس هو البحث في مشروعية الخطاب الوهابي أو العكس، وليس سعيا لإدراك معالم هذا الخطاب أو استكناه خصائصه ومميزاته، إنها لا تجيب عن سؤال ماهي داعش؟ أو ما هو الخطاب الوهابي؟ بقدر ما
» مفهوم مفهوم الإرادة العامّة والتأسيس الأخلاقي والقانونيّ للحريّة والتسامح

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: