2013-11-17 مفهوم الخصوصية الثقافية في الخطاب الأنثروبولوجي المعاصر
|
| |
.1-نــــزوع الهـويـة :
لقد تحدث [كانط] في كتابه نقد العقل الخالص عن مبدأين يستند إليهما العقل البشري في التفسير العلمي ،مبدأ التجانس الذي يحاول ردّ الظواهر المتابينة إلى حد مشترك ،ومبدأ التّنوع الذي يبحث عن الاختلاف والتمايز وعدم التشابه. ويذهب [كانط] إلي أنه لا تعارض بين المبدأين لأنهما لا يعبران عن أي اختلاف انطولوجي، أي اختلاف في طبيعة الأشياء في ذاتها وماهيتها,ولا يمكن للمعرفة الإنسانية الوصول الي هدفها إلا إذا اتبعت المبدأين معًا. مبدأ المشابهة ومبد أ الاختلاف [1].
لكن رغم الاهتمام المتواصل للعقل الإنساني بالمشابهة والاختلاف أو الهوية والتّمايز،فإن النزوع نحو اختزال إحداهما في الأخر من قبل العلوم الاجتماعية كان هو السائد لفترة تاريخية طويلة نظراً لمحـاولتها تقليد العلوم الطبيعية في الرؤية والمنهج .وبهاجس القطيعة مع الفلسفة واللاتناهي والابتعاد عن الميتافيزيقا،راحت هذه العلوم تخوض مغامرة تشيء فيها كينونة الإنسان وتنمذج التمايزات الثقافية بنفس الطريقة المستعملة عند علماء البيولوجيا في تصنيفيهم للكائنات الحية .ويصف [كلود لفي شتراوس] النتائج التي أدت إلي هيمنة النزعة التطورية في الأنثروبولولوجيا الكلاسيكية بقوله ” فالتأويل التطوري في مجال النياسة يشكل إمتدداً مباشراً للتطورية الحيوية هكذا تبدو الحضارة الغربية بمثابة التعبير المتقدم في تطور المجتماعات البشرية، كما تبدو المجموعات البدائية كناية عن (بقايا) خلفتها مراحل سابقة يتكفل تصنيفها المنطقي بالكشف عن سياق ظهور تلك المجتمعات عبر الزمن ” [2]. هكذا أدت هذه النزعة إلي إسقاط نظام من التصورات والمفاهيم المنقولة من حقل معرفي إلي حقل أخر دون النظر لخصوصية الإنسان ككينونة وجودية، بل تم حصره ومحاصرته كتناه جوهري تماماً كما تم التعامل مع الأشياء في العلوم الطبيعية .
.2-تفكير الاختلاف : من الجوهر الي الشكل :
إن السؤال المفتوح الذي مازال يطرح نفسه على البحث الأنثروبولوجي هو لماذا تحافظ المجتمعات على أشكالها وصورها وبنياتها الرمزية والثقافية رغم تحولاتها العنيفة أو الهادئة في التاريخ ؟ يرجع الفتح المعرفي للخطاب الأنثروبولوجي المعاصر في الإجابة الإشكالية عن هذا السؤال إلي علم اللسانيات و فلسفة اللغة المعاصرة والتحليل النفسي، حيث كانت نظرية [دي سوسور] حول إعتباطية الإشارة وعلاقة الدال بالمدلول وعدم التطابق الماهوي،أو الهويّاتي بين الكلما ت والأشياء تخلخل التمركز العرقي والعقلي في علوم الإنسان عامة والأنثروبولوجيا خاصة، لأن التفكير في اللغة تفكير في كينونة الإنسان في الوجود، هذه الكينونة التي رأى [شتراوس] أنها لا يمكن أن تتجلى أو تتمظهر إلا بواسطة اللغة بوصفها نظام من الرموز والإشارات، كما لا يمكن للأنثروبولوجيا أن تكون علماً دقيقاً إلاإذا ركزت على الكشف عن الأنظمة الرمزية للمجتمعات التي تدرسها .
لقد كانت النتيجة المهمة التي إستخلصها [ دي سوسور] من فكرة إعتباطية الإشارة ـ هي أن اللغة ليست نظام من الأمور الجوهرية الثابتة بل من الأشكال غير المستقرة، إنها نظام من العلاقات بين الوحدات التي تشكلها. وهذه الوحدات ذاتها تتشكل هي الأخرى من الإختلافات التي تميزها عن سواها من الوحدات التي لها بها علاقة [3]-إنقلاب إبيستمولوجي في ميدان الدراسات الإنسانية . وقد نحى نفس المنحى السوسيري [أرنست كاسيرار] في تصوره للرموز عندما رأى : “.. التعبير الرمزي عاملاً مشتركاً في كل الأفعال الحضارية ،أي الأسطورة والشعور واللغة والفن والدين والعلم.” [4].
ومنه فإن فعل الرموز كفعل الأشياء المادية في التاريخ، لأن التعبير الرمزي يركز الإنفعال ويكثفه، بحيث لا تتحول هذه الإنفعالات إلي سلوك فقط في الأسطورة والدين واللغة والفن و العلم ،بل إلي أعمال : “لا تتعرض إلي الإضمحلال، إنها تستمر وتبقى، و لا يحدث أي رد فعل فيزيائي أكثر من أثر ملطف وسريع وقتي، بينما قد يتحول التعبير الرمزي إلي قوة دافعة”[5]. هكذا أصبح التفكير بالمشابهة والاختلاف أو بالأحرى بالمشابهة في الاختلاف، و الاختلاف في المشابهة يفتح ويؤسس لإبيستمية جديدة للخطاب الأنثروبولوجي المعاصر والعلوم الإنسانية المعاصرة. لقد كان لعلم اللغة المعاصر وفلسفته فضل وأهمية كبرى في رفع التصور التعسفي لعلاقات الكلمات بالأشياء، وزحزحة الثنائيات المفهومية ( بيدائي / متحضر، غير منطقي / منطقي، شرق / غرب، متوحش / مدني ….إلخ ) لبنية الخطاب الأنثروبولوجي الكلاسيكي، حيث أصبح الدرس الأنثروبولوجي يؤكد على عدم إضفاء الباحث لمنطقه وإيديولوجيته على المجتمعات التي يدرسها، أن لا يأخذ هذه المجتمعات كشاهد على سلامة منطقه وإيديولويته، معتمداً السلم التفاضلي الذي يؤسسه مفهوم التطور والتقدم.مع العلم أن الظواهر الاجتماعية والثقافية إذا انتزعت عن نسقها الخاص الذي تؤلف متغيراً من متغيراته أصبحت أمر عجبا [6]. وهو نفس الأمر الذي وقع فيه الخطاب الأنثروبولوجي الكلاسيكي.
.3- ليفي شتراوس : التأسيس والقطيعة :
لقد تحول البحث مع [لفي شتراس] في الأنثروبولوجيا نتيجة تأثره بالثورة المعرفية في علم اللغة الي الإهتمام بالدال بوصفه ظاهراً مادياً على حساب المدلول ذو الطبيعة المتعددة، ” لأن الدال الواحد لابدّ أن ينتج مدلولات مختلفة لشخصين مختلفين، مدلولات تحمل مكاناً دلالياً مختلف الحدود بسبب إختلاف التجارب، كذلك سينتج الدال الواحد مدلولات مختلفة للشخص الواحد في أوقات مختلفة، لأن تركيب العلاقات القائمة في المكان الدلالي غير ثابت، والبنيوية تدعونا للاستمتاع بتعددية المعاني التي ينتجها لنا ذلك، ولرفض التفسير الأحادي أو التعسفي للرموز. “[7] وقال ليفي شتراوس أن المجتمعات الإنسانية مكونة على شكل نماذج أو بنيات، وإمكانية تفسيرها في كليتها لا يتم إلا على أساس نظرية في التواصل ذات منطلق معرفي وليس إثني، وقد حدد الشروط المنهجية لبناء النموذج كما يلي :
1- المنطلق يتصور على أساس منظومة متكونة من عناصر تغيركل عنصر منها يستلزم تغيربقية العناصر الأخرى.
2- يتشكل كل نموذج نتيجة التحولات التي حدثت في النموذج الأصلي أو النماذج الأخرى [تحول = نموذج جديد ]
مما سبق يمكن توقع كيفية “رد فعل النموذج عند تغير أحد عناصره….[كما] يجب بناء النموذج بحيث يستطيع عمله تسويغ جميع الوقائع الملاحظة. ” [8].
إن الخطاب الأنثروبولوجي المعاصر لا يتصور المجتمع الإنساني كنموذج هرمه المجتمع الغربي والمجتمعات الأخرى تمثل بقايا المستويات الاجتماعية التاريخية التي مرّ بها النموذج الغربي أثناء تطوره التاريخي .كل مجتمع في نظر [ليفي شتراوس ] نموذج له نسقه ومنظومته الفكرية و الثقافية، التي تتكفل دوماً بإعادة ترتيب علاقته مع تاريخه عن طريق الفعل العقلي المولد لتلك الأنساق والمنظومات، إنه فعل رمزي من حيث أن “الرموز لا تمتلك دلالة باطنية وثابتة وهي ليست مستقلة إزاء ظرفها فدلالتها هي أساساً موضعية . “[9] إ ن هذا الفعل العقلي الذي يعيد ترتيب العلاقة بين المجتمع ومنظومته الرمزية، أطلق عليه[شتراوس ]مفهوم الفعالية الرمزية التي تحول الأفعال الثقافية إلي ” تمرد على الفوضى ،وحركة مقاومة اللامعنى. ” [10] إنه الفعل الذي ينحو نحو الدلالة في كل الأحوال بطريقة لاوعية، سواء كان ذلك في الميثولوجيا أو الدين أو الفن ،إن المسألة لا تعدو أن تكون إلا طلباً للتواصل.
إن الدرس الأنثروبولوجي المعاصر يعلمنا أن محاولة فهم الإنسان في الوجود فهماً علمياً لا يستند إلي أفكار منمطة، والتحجج بهذا المنهج أو ذاك، أو هذه الرؤية أو تلك، و إ نما يمكن الاستفادة من جميع فروع العلوم الإنسانية.من هذا المنطلق يؤكد [ليفي شتراوس ]على ” عدم الخلط بين ما هو طبيعي وما هو ثقافي لأن هذا الخلط معناه الفشل في إدراك ما هو إنساني. “[11] لأن يعيد تشكيل الطبيعة في بنية ذهنية بواسطتها تتميز مجموعة بشرية عن مثيلتها.
.4- رمزية اللغة والأسطورة :
توجد هناك علاقة تكامل بين تفكير [ليفي شتراوس ]والشعوب التي تروي الأساطير حسب [دان سبيربر]،لأنه يمثل ما هو مجسد عن طريق “إحدى صفاته المجردة ، وهذا ما يجعله قادراً بشكل خاص على حل عقد التفكير لدى شعب يميل ـ على العكس من ذلك ـ إلي تمثيل الصفة المجردة شيء مجسد يملكها ، أي شعب يميل إلي ذلك الشكل من أشكال المجاز المرسل الذي يذكر(ا لمجسد بدلاً من المجرد) . ” [12] تعود طريقة تفكير [ليفي شتروس ]في الأساطير والرموز إلي تأثره بالأبحاث اللسانية لـ[رومان ياكوبسون ] الذي تعلم منه كيف أن التفسير يجب أن يذهب إلي اكتشاف الثابت خلف التنوع، والتشابه الكبير بين التحليل اللغوي وتحليل الأساطير، حيث يبين [شتراوس ]هذه العلاقة في تقديمه لكتاب [رومان ياكوبسون محاضرات في الصوت والمعنى ]قائلا : “يمكن لآن أن يثار السؤال عما إذا كانت خصائص الفونيمات** كافة تعاود الظهور في تلك الكيانات التي سميناها (ميثيمات)(mythemes)** : وهي العناصر التي ينشأ منها الخطاب الأسطوري، وهي كذلك ـ باستخدام صيغة يطبقها ياكوبسون على الفونيمات ـ (علامات تمييزية خالصة وبلا مضمون) .ويجب أن نميز دائماً معنى أو معاني كلمة ما في اللغة من (الميثيم) الذي يمكن لهذه الكلمة أن تشير إليه كلياً أو جزئياً….يمكن تعيين معناها من خلال علاقات التبادل والتقابل ـ فقط ـ التي تشترك فيها بالميثيمات الأخرى ضمن هذه الأسطورة و بتعبير دقيق، فإن المعنى لا ينتسب إلي أي ميثيم مفرد وإنما هو نتيجة لتأليفها. ” [13]
إن الوحدات والعناصر الأساسية المكونة للأسطورة لها نفس الوظيفة كمثيلتها في اللغة، رغم تركيبها المعقد الذي يميزها في التعبير عن اللغة المباشرة، لذا فإن الشبكة الرمزية التي تؤلف الخطاب الأسطوري لا تعطي معنى ما، إلا في إطار الصور والأشكال التي تقدمها ثقافة معينة عن العالم والوجود. وهكذا فإن الدال الأسطوري يروى بمعاني متعددة رغم التشابه الموجود، بين أساطير الشعوب المختلفة، وعلى الأنثروبولوجي أن يكتشف ما وراء هذه المعاني المتعددة،القوانين أو الرموز و الدوال المنتجة لهذه المعاني، وبالتالي يكون قد حدد إحدى الكيفيات التي تشتغل وتتحرك وتنتج بها ثقافة معينة. و من هنا كان هدف [شتراوس] هو البحث عن طريقة تفكير الذهن البشري في ثقافة ما، وقد عبر عن ذلك بقوله ” تشير كل شبكة علاقات إلي شبكة أخرى، وكل أسطورة إلي أسطورة أخرى. ولذا ما ثار السؤال :إلي أي معنى نهائي تشير هذه المعاني التي تتبادل مدلولاتها ـ لأنها لابد في نهاية المطاف وفي مجموعها من أن تشير إلي شيء ـ فإن الجواب الوحيد الذي ينجم عن هذه الدراسة هو أن الأساطير تدل على الذهن الذي طورها باستخدام العالم الذي يشكل الذهن نفسه جزءاً منه. “[14]
5.- الدين كمتخيل رمزي :
إن الإسلام كظاهرة دينية لا يمكن أن يختزل إلي مجموعة من الأفكار المجردة المفصولة عن الظواهر الاجتماعية والتاريخية التي عرفتها وتعرفها المنطقة الإسلامية، لأن التشكل التاريخي للظاهرة الإسلامية في مختلف مجتمعاتها يحوي عناصر نفسية و مخيالية و اجتماعية سياسية ألفت البنية الأنثربولوجية للإسلام المعاصر، لذا استطاعت فعاليته الرمزية أن تكشف عن نفسها في جميع تاريخ المجتمعات الإسلامية، رغم اختلافها الإثني واللغوي،وأن تتجلى في الأحداث الأكثر معاصرتاً لنا ويظهر ذلك من خلال حروب الاستقلال التي أضفيت عليها السمة المقدسة _ الجهاد، المجاهد، الاستشهاد، الشهيد…إلخ، و توظيف الآيات القرآنية والأحاديث النبوية (النص المقدس) الدالة على هذه المعاني _ رغم أن الحركات الوطنية( مثلا الجزائر) أخذت شكل التنظيم الحديث في اغلب هذه المجتمعات .كما أن أفول أشكال الاحتجاج المعاصرة أدى إلي ظهور أشكاله الدينية، مما يدفعنا إلي طرح الإشكال التالي : كيف يتولد شكل تنظيمي وعمل احتجاجي سياسي قديم من أخر حديث أو معاصر أم أن التنظيم والعمل الاحتجاجي المعاصر مجرد تجلي جديد لأشكال قديمة ؟
يقوم الفكر البشري بإضفاء أشكال متعددة على مضمون واحد عند إشتغاله بطريقة لا وعية، حسب [ليفي شتراوس] “وإذا كانت هذه الأشكال هي نفسها من حيث الأساس بالنسبة لكل، سواء كان قديماً أو معاصراً بدائياً أم متحظراً وهذا ما يتبين بصورة صارخة من دراسة الوظيفة الرمزية كما تتجلى في الكلام فإنه يجب ويكفي أن نصل إلي البنية الأوعية المتضمنة في كل مؤسسة من المؤسسات أو في كل تقليد من التقاليد حتى نحصل على مبدأ اجتهادي يصح تطبيقه على مؤسسات أخرى أو تقاليد أخرى . ” [15]
في وقت ليس بالبعيد كان _ ومازال_ الدرس الأنثروبولوجي يعلن عن نفسه أمام الجميع وأمام العلوم الاجتماعية
الأخرى، من هول ما حدث و ما يحدث في الجزائر ،التي عرفت شكل من أعنف أشكال التوتر الثقافي والسياسي والاجتماعي. الذي من أهم أسبابه : إهمال المتخيل الديني للمجتمع الجزائري، أو كيفية تجلي الإسلام من الناحية الرمزية في المجتمع الجزائري. حيث أعطيت للإسلام هوية نضالية في النصوص الرسمية للدولة الوطنية (الميثاق الوطني 1976) حتى يتم تبرير التصور السياسي السائد آنذاك للمجتمع والدولة،علماً بأن التبرير السياسي يستمد من آلية التفكير التي تحكم البنية الفكرية السائدة في مجتمع معين، لذا تكون طريقة التعامل مع المخيال الديني وفق هذه الآلية و طبيعتها ماضوية في المتخيل السياسي والديني للدولة الوطنية آنذاك، حيث أن الاستمرارية في إضفاء السمة المقدسة على الخطاب السياسي والمتمثلة في واحديته المستحضرة والمستشهدة بالماضي دوماً وفق التصورات الفكرية للوهابية_ الإخوانية الجديدة في الجزائر التي تسربت إلي بنية السلطة من مخيالها الديني وعملت على إعادة تشكيل المتخيل الديني للسلطة والمجتمع، بعد أن أدخلت السلطة والمجتمع في صراع مع مخياله الديني الذي أطر التاريخ السياسي والاجتماعي للمجتمع الجزا ئري، ولا تعني هذه الهوية على المستوى الرمزي والمخيالي إلا الجهاد، بمعناه السلمي والحربي. وهنا يأخذ الجهاد (مشروعيته) الذهنية، التي تكونت تربوياً في الأجهزة الإديولوجية للدولة،خاصة المدرسة والحزب الواحد اللذان عملا على تكريس وإنتاج وإعادة إنتاج الذهنية الواحدية، التي تحركها ثنائية المقدس والمدنس في رؤيتها للمجتمع والتاريخ والسياسة و الوجود عامة،مما أدى إلي تنميط المخيال الديني وفق تصورات وتأويلات فقهية متناقضة ومختلفة تماماً مع تاريخيته الصوفية المنفتحة على الوجود والتجربة الإنسانية، إنطلاقاً من المبادىء الدينية والفلسفية المؤسسة للخطاب الصوفي، الذي أخذ شكلا ومنحى اجتماعي وسياسي جديد في الشمال الإفريقي عامة والجزائر خاصة إبتداءً من القرن الثاني عشر الميلادي. لقد أهملت الأبحاث التاريخية أهمية الأنثروبولوجيا التاريخية و السياسية في الكشف عن المخيال الديني الذي أطر المقاومة ضد الإستعمار والحركة الوطنية وحرب التحرير ،بحيث أنه لا يمكن فهم ما حدث وما يمكن أن يحدث في الجزائر إلا بمحاولة الفهم والكشف عن علاقة المخيال الديني بالمخيال السياسي و تاريخياتهما.
كيف يمكن فهم تزامن إحتجاج وهجوم الحركات السيا سية الإسلامية(أو الإسلام السياسي) _ ذات الأصول الوهابية الإخوانية المعادية تاريخيا ًللتصوف بجميع أشكاله _ على رموز التصوف الطرقي و رموز الدولة الوطنية في الوقت الذي وظفتها كوسيلة للإتصال الجماعي؟ وما هي أسباب تزامن تمظهر التصوف الطرقي ومشروعية السلطة وهيمنة الدولة مع بداية أفول هذه الحركات (الإسلام السياسي)؟
قد يكفي للكشف عن هذه الظاهرة دراسة ظاهرة الخطابة في الخطاب الديني والسياسي وقوتها وأهميتها في تشكل الوعي الديني والسياسي لدى المتلقي، لأن الخطابة بالنسبة للخطاب السياسي والديني كالقانون في الفيزياء والرياضيات، لذا تمظهرت وتفاوتت الخطابات السياسية سواء بالنسبة للسلطة أو المعارضة من ناحية قوتها المجازية و الإحائية وفعلها في المتلقي، لأن السلطة و المعارضة ينهلان من نفس المخزون الرمزي ومحكومان بنفس المتخيل الديني الذي عملت الوهابية_الإخوانية الجديدة على تشكيله بعد الاستقلال بسيطرتها على منابر صناعة الوعي _ التاريخي و السياسي والديني _ (المدرسة، المسجد، الحزب الواحد، ولواحقهم مراكز الثقافة والنقابات.. إلخ ).
لقد قدم [جيلبير ديران][16] دراسة معاصرة مهمة لا يمكن تجاهلها في ميدان دراسة المخيال والمخيلة التي تعمل على تشكيل الإدراكات حسب القوانين الذهنية للتمثل المشتغلة بطريقة مجازية .من هنا تكون الخطابة ومجازها واللغة بشكل عام بالنسبة للإنثروبولوجيا المعاصرة عاملاً أساسياً في دراسة المخيال الديني والسياسي والمنظومة الرمزية للمجتمع الجزائري.