مقدمة لا بدّ منها :
يا شباب سورية : لقد ألقت أقدار التاريخ على عاتقكم مسؤولية الاضطلاع
بتحقيق الاستقلال الثاني لوطنكم . مسؤولية تحرير الإنسان المواطن وإرساء
أسس مجتمع الحرية والكرامة والعدالة، وقد تصدّيتم لهذه المهمة بكل كفاءة
واقتدار وتحضّر.. يشهد لكم بذلك العالم كله .
منذ أول يوم لانطلاق هذه
الانتفاضة، قبل ستة أشهر، برهنتم على الدوام عن تصميم لا يلين، وعزم لا
يعرف التردد، وعن إرادة صلبة وواعية بحجم ونوعية التضحيات المطلوبة من أجل
الوصول إلى الهدف المنشود..
عبّدتم، وما زلتم، طرق هذه الثورة التي احتضنها والتحم بها شعبكم بدماء
الشهداء الزكية التي تسفح كل يوم في ساحات وشوارع مدننا وقرانا من قبل
عصابات أمن النظام الهمجي المستبدّ، ومن قبل كتائب وقطعات المؤسسة
العسكرية التي انتهكت حرمة الواجب الوطني للجيش السوري في الدفاع عن سيادة
البلاد واستقلالها وتحرير أرضها المحتلة .
عبّدتم، وما زلتم، طريق هذه
الثورة، أيضاً، من خلال معاناة عشرات آلاف الجرحى والمعتقلين والمشردين
والمفقودين.. ذلك لأنكم آمنتم أن هذه الثورة لا تستهدف استبدال سلطة غاشمة
قائمة بسلطة أخرى، لكنها الثورة التي تستهدف صنع حياة جديدة ومستقبل آخر
لشعبكم . مستقبل لا يبنى إلا بثمن غال وتضحيات جسام.. ولأنكم أدركتم، في
الوقت نفسه، أن إجهاض هذه الثورة، أو تعثرها، أو وقوفها في منتصف الطريق
.. ستكون النتائج وبالاً على وجود شعبنا ووحدته الوطنية وعلى مستقبله إلى
أمد بعيد .
يا شباب الثورة السورية :
بوعيكم وتصميمكم وتضحياتكم لا بدّ أن
ينبلج قريباً صبح الغد الأفضل لشعبكم. غد يستعيد فيها الشعب ذاته ويمتلك
قدراته وإمكاناته غير المحدودة .
بفضل إرادتكم الصلبة والواعية التي
فجّرتم فيها ثورة شعبنا، كما فجّر قبل ذلك شباب تونس ومصر واليمن وليبيا
ثورات بلادهم الشعبية، جعلتم شعوب العالم الأخرى التي كانت تنظر إلى أمتنا
ومجتمعاتنا كحالة خاصة تتسم بالقصور والعطالة وتعيش خارج مسار التاريخ
مستعصية على قابلية التطور والديمقراطية والحداثة.. ينظر اليوم إلى شعوبنا
المنتفضة نظرة تقدير وإعجاب وثقة في أنها عائدة إلى أخذ موقعها في مسار
التاريخ .
هكذا يا شباب سورية فإنكم تؤكدون كل يوم بالمثال الحي الذي تقدّمونه
الحقيقة الأساسية التي استخلصتها البشرية عبر كفاحها الطويل على مرّ
العصور، وهي أن تاريخ العالم في جوهره لم يكن إلا التجسيد الواقعي لمسار
تطور الوعي بالحرية التي هي قبل كل شيء آخر : ماهية الوجود الإنساني.. وها
أنتم تؤكدون على طريقها الاستعداد الدائم لتقديم التضحيات المطلوبة . هذا
يعني أن انتصار هذه الثورة أصبح مرتبطاً بوجود الشعب السوري كله، وبوجود
كل مواطن فيه .
يا شباب سورية :
لقد ذهب البعض، وربما بحسن نيّة، في وصف ثورتكم
بأنها عفوية، مقطوعة الجذور عن مسار الكفاح الوطني الديمقراطي في سورية
الذي تواصل منذ أكثر من نصف قرن ..ثورة أطلق شرارتها حدث معيّن.. غير أن
مثل هذا التوصيف الذي قد يكون مبعثه الإعجاب والتقدير للدور الذي اضطلعتم
به لا يتفق مع واقع الحقائق الموضوعية، ولا مع أولويات حقائق الاجتماع
السياسي بشأن الثورات وظروف قيامها، وتراكماتها، وأسبابها البعيدة
والقريبة . فالثورة في عصرنا الراهن ليست بالتأكيد هبّة شعبية عارضة في
وجه سلطة مستبدّة، أو نظام متخلف يفقد الشرعية، بل هي فوق ذلك تجسيد
لإرادة الشعب في بناء مجتمع بديل في كل الجوانب السياسية والثقافية
والاجتماعية والاقتصادية.. والثورات التي نجحت في تحقيق مشاريع النهضة
إنما تسلّحت بالرؤية الصائبة لطبيعة تحدّيات الواقع وتعقيداته، وكذلك
بالوضوح الكافي لبناء صورة المستقبل المنشود.
والثورة السورية الحالية قد نضجت ظروفها نتيجة تراكم دروس وعبر التجارب
والمحاولات السابقة في تاريخ الشعب السوري بحثاً عن التغيير والتقدم
والديمقراطية، والتي أخفق بعضها ونجح بعضها الآخر. ونتيجة المعاناة
المديدة لسياسات القهر والاضطهاد والتمييز التي مارسها النظام الحالي من
جهة، وكذلك عوامل القصور والتخلف والإعاقة التي تتسم بها أوضاع المجتمع من
جهة ثانية .
الثورة السورية الحالية التي تتميّز عمّا سبقها من ثورات عاشها شعبنا
منذ المراحل الأولى للكفاح ضد الاستعمار المباشر بشمولية أهدافها التحررية
ووحدة أداتها التي هي الشعب كله . هذه الثورة قد نضجت ظروفها وتبلورت
هويتها واكتسبت وعيها في خضمّ مخاض شاق امتدّ لأكثر من أربعة عقود،
وتضافرت فيه أدوار كل من النخب الفكرية والثقافية وجميع الأحزاب والقوى
السياسية الوطنية والديمقراطية ولجان حقوق الإنسان.. تلك الأحزاب
والمنظمات التي لم تتردد أو تبخل في تقديم قوافل الشهداء والمعتقلين
والمنفيين قسرياً .
يا شباب سورية :
إذا كنتم تؤكدون إرادتكم كل يوم من خلال تصاعد حجم
وفعل الانتفاضة الشعبية السلمية، وحدة حراكها وخطابها.. والتي هي بلا شكّ
العامل الحاسم في صنع الانتصار المنتظر، فإن هذه الإرادة التي برهنت
للجميع، حتى الآن، عن مستوى عالٍ من الوعي والحنكة والدراية في التعامل مع
التحدّيات التي استجدّت، ستكون دائماً أقدر على مواجهة المهمات الملحة
سواء في مرحلة العمل لإسقاط النظام، أو في المرحلة الانتقالية لبناء
النظام البديل.. كلما كانت صورة الماضي القريب ماثلة أمامها، وكلما كانت
دروس وعبر هذا الماضي مستوعبة في وعيها .
وإذا كان واجبنا الأول،
نحن جيل الآباء الذين سبقناكم في رحلة العمر، وبغض النظر عن أوضاعنا
الحالية: أشخاصاً كنا أم أحزاباً أم هيئات، أن نضع الآن أنفسنا تحت تصرفكم
وأن ندعم ثورتكم، ثورة شعبنا كله، بكل ما أوتينا من جهد وقدرة، وبكل ما
توفر لنا من تجربة وخبرة، فإننا لنبرأ بأنفسنا أن نمارس عليكم دور
الوصاية، أو ندّعي أهليتنا لتوجيهكم..
لكننا، وانطلاقاً من الحرص على إحراز النصر بأقل التكاليف، وأفضل
الصيغ، نشعر أن من واجبنا، أيضاً، وعبر التفاعل والحوار بيننا، أن نضع بين
أيديكم بعضاً من خلاصة وحصاد حقبة تاريخية عاشها جيلنا . حقبة الأهداف
الكبرى والآمال العريضة التي كانت تحفّز وتغذّي كفاح شعوب أمتنا على طريق
تحررها الشامل . الجيل الذي خاض معارك التحرر المختلفة وفي مختلف الجبهات،
وواجه التحديات الصعبة ، وكان حصاد تلك الحقبة التاريخية ما هو ماثل
اليوم، سواء على صعيد كل قطر، أم على صعيد القضايا المركزية للأمة، وفي
مقدمها قضية فلسطين، أو الوحدة العربية .
الوعي السليم لا يمكن أن يُكتسب دون ذاكرة تختزن وتستوعب دروس ووقائع
التاريخ، ولا يمكن لأجيال الحاضر والمستقبل أن تمتلك الرؤية الصائبة وهي
تسعى لبناء المستقبل المنشود الذي تطمح إليه دون معرفة كافية بتاريخ
مجتمعها، واستخلاص العبر والنتائج من تجاربه ومن تجارب الشعوب الأخرى .
ولا شك أن مثل هذه الضرورة تتضح أهميتها إذا تذكرنا مدى التشوية والتخريب
والتجهيل الذي ألحقته أنظمة الاستبداد الشمولي في برامج الثقافة والتعليم،
ومدى ما نجم عن ذلك من آثار سلبية على وعي المجتمع عامة، والأجيال الناشئة
بصورة خاصة .
من هذا المنطلق فإن غاية ما أهدف إليه من هذه الرسالة هو أن أضع أمام
شباب سورية الذين يصنعون ثورتها الآن، وجهة نظر متواضعة أستعرض فيها
بإيجاز، وبالموضوعية التي أحرص عليها ما استطعت إليها سبيلا، المراحل
والمنعطفات التاريخية التي مرّت بها سورية منذ الاستقلال وحتى الوقت
الحاضر، وما قدّمته تلك المسيرة من حصائل ومن دروس مهمة لا بدّ من وعيها
جيداً لتجاوز ما قد يعترض هذه الثورة من مطبّات ومزالق، والمساعدة في
إنجاز مهمات الانتقال من نظام الاستبداد الشمولي وبناء دولة الحق والقانون
ـ الدولة المدنية الديمقراطية المجسّدة لإرادة شعبنا في مواصلة التقدّم
الحضاري، وفي الحياة الحرة الكريمة .
مرحلة ما بعد الاستقلال عرفت
سورية منذ أن ظفرت باستقلالها الوطني في السابع عشر من نيسان عام 1946 ،
وحتى يومنا، أنماطاً متعددة للسلطة وأنظمة الحكم. والحال إن الأسباب
والعوامل الرئيسة التي كانت وراء التباين في طبيعة تلك الأنظمة يمكن
استعراضها كما يلي :
أولاً ـ مستوى التطور السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي في
المجتمع السوري على امتداد هذه الحقبة التاريخية، ويدخل هنا في الاعتبار
وضع الطبقة الوسطى وباقي الفئات الشعبية من جانب، ودور كل من المجتمع
المدني والمجتمع الأهلي من جانب آخر.
ثانياً ـ طبيعة الأهداف والمصالح التي عبّرت عنها وتبنتها الأحزاب
والنخب السياسية والفكرية في سورية، والوعي الذي تسلحت به وهي تعمل لتحقيق
تلك الأهداف والمصالح، وكذلك مدى فاعليتها وتأثيرها في الممارسة واقعياً .
ثالثاً ـ وفي هذا الإطار احتلت الأهداف العامة والقضايا المركزية
للأمة، وفي مقدمتها تحرير فلسطين وتحقيق الوحدة العربية والاشتراكية،
الأولوية على ما عداها .
لقد اتسم الفكر السياسي القومي، بمختلف تياراته، بقصور كبير عندما نظر
إلى الكيان السوري كمرحلة عارضة تفتقد مقومات المشروعية، ووضع الرابطة
القومية والعروبة في تناقض مع الوطنية السورية، الأمر الذي كان وراء
الإخفاق في استكمال بناء الدولة الوطنية الديمقراطية .
رابعاً ـ طبيعة التحديات الداخلية والإقليمية والدولية التي واجهها
الشعب السوري في كفاحه من أجل تحقيق أهدافه في منطقة من العالم تشكل وضعاً
خاصاً واستثنائياً من الناحية الاستراتيجية للمصالح الدولية.
تميّزت الفترة الأولى بعد الاستقلال والتي لم تستمر أكثر من ثلاث سنوات
بنظام للحكم قادته البرجوازية الوطنية الكبيرة والمتوسطة التي تحالفت مع
الإقطاع وكبار الملاك . وقد وفّر هذا النظام، وإلى حدّ كبير، مناخاً من
الحريات الديمقراطية الأساسية مثل حرية الإعلام والصحافة والنشاط السياسي
والعمل النقابي، كما وساعد هذا المناخ بدوره على نمو وانتشار الوعي
السياسي وتعظم دور الأحزاب الوطنية، وازدياد تأثير الرأي العام في حياة
البلاد ومستقبلها، وانتهت هذه المرحلة عام 1949 في أعقاب النكبة واحتلال
فلسطين وذلك بحدوث ثلاثة انقلابات عسكرية متتالية من نفس العام .
هكذا عاشت سورية تحت وطأة الأنظمة العسكرية مدة خمس سنوات لتطوى صفحتها
من تاريخها الحديث بعد عودة الحياة الديمقراطية مطلع عام 1954 .
لم
يكتب لتجربة الوحدة بين سورية ومصر التي قامت نهاية شباط 1958 أن تعمّر
أكثر من ثلاث سنوات ونصف وانتهت كما هو معروف في الثامن والعشرين من أيلول
1961. لقد قابل المجتمع السوري، آنذاك، بحماس بالغ وجماعي تحقيق الوحدة
بإلغاء الحياة الديمقراطية السورية، ولم يرَ في الأخيرة شرطاً لازماً
وضرورياً لاستمرار دولة الوحدة ونموها فكانت النتيجة انهيار الوحدة وخسارة
الديمقراطية . وهكذا فإن الطرفين الأساسيين في بناء تلك التجربة الوحدوية،
وهما نظام عبد الناصر من جهة، وحزب البعث العربي الاشتراكي من جهة أخرى،
إنما يتحملان المسؤولية الأولى في فشلها، الأمر الذي يبيّن بصورة ملموسة
الآفاق التي أمكن للقوى القومية في تلك المرحلة أن تقود المشروع النهضوي
إليها وذلك عندما راهنت على إمكانية الفصل بين مهمات التحرر الوطني، وفي
مقدمتها صيانة الاستقلال الوطني والوحدة، وبين مهمات التحرر الاجتماعي في
الحرية والديمقراطية والعدالة، وأجازت أنظمتها لنفسها أن تكون وكيلة عن
الشعب في تقرير مصيره وصنع مستقبله .
لقد كانت فترة الحياة الديمقراطية الدستورية التي عاشتها سورية إبّان
الخمسينات، بالرغم من قصرها، فترة ذهبية في تاريخ سورية الحديث حيث ازدهرت
الحريات الديمقراطية ونشطت الأحزاب السياسية والحركات النقابية وبقية
منظمات المجتمع المدني، كما انتعش موقع ودور الطبقة الوسطى وانعكس كل ذلك
إيجابياً في تعزيز أسس الوحدة الوطنية، وعاش السوريون سنوات من الأمل
والثقة بقدرتهم على مواصلة مسيرة التنمية والتقدم في كافة المجالات،
ومواجهة التحديات، كما نمى لديهم شعور من الاعتزاز والثقة بمسؤوليتهم
الخاصة بالاضطلاع بدور ريادي متميز على صعيد قضايا الأمة العربية والمنطقة
.
كان حكم الانفصال الذي سارع منذ أيامه الأولى إلى تصفية المنجزات
الاقتصادية والاجتماعية التي تحققت خلال فترة الوحدة، من خلال ديمقراطية
شكلية عرجاء، تطوراً عارضاً في تاريخ سورية الحديث، إذ لم يكتب له أن
يستمر طويلاً، فقد جعلت القوى المهيمنة في نظام الانفصال والسياسات التي
انتهجتها هذه المرحلة في تضاد مع تطلعات الشعب السوري في الحرية
والديمقراطية والعدالة، خاصة عندما فصلت بين الحريات السياسية
والديمقراطية وبين المكتسبات الاجتماعية التي رمت لمكافحة الاستغلال
وتقريب الفوارق بين الطبقات .
جاء انقلاب الثامن من آذار عام 1963 نتيجة تحالف واسع بين مجموعات من
الضباط البعثيين والناصريين والمستقلين، وقد عرف هذا الانقلاب منذ الأسبوع
الأول على قيامه صراعاً متبادلاً بين الأطراف التي لم يكن يوحدها، عملياً،
إلا اتفاقها على الخطوة الأولى، أي : إسقاط السلطة القائمة . لقد انتهى
هذا الصراع المدمّر بانفراد البعثيين بالسلطة وتدشين ما يسمى بتجربة الحزب
الواحد، أو الحزب القائد، جرياً على ما كانت عليه الحال في البلدان التي
كانت تسمى آنذاك دول المعسكر الاشتراكي، وفي عدد غير قليل من بلدان العالم
الثالث .
لكن إلى أي مدى كانت تلك الأنطمة في بلدان العالم الثالث،
ومنها سورية، تتماثل أو تتشابه مع غيرها من الأنظمة الشمولية في البلدان
الاشتراكية ؟..
وفي هذا السياق يُطرح السؤال التالي أيضاً : إلى أي مدى كانت بنية
المجتمع السوري وأوضاعه تتماثل أو تتشابه مع غيره من مجتمعات البلدان
الاشتراكية وبلدان العالم الثالث الأخرى ؟.
الواقع أنه كانت هناك فجوة كبيرة في مستوى التطور المجتمعي في كافة
مجالاته بين دول المعسكر الاشتراكي من جهة وبين دول العالم الثالث ومن
بينها سورية من جهة أخرى . هذا التفاوت في مستوى التطور انعكس بدوره على
طبيعة وبنية أنظمة الحكم وعلى ممارساتها في بلدان العالم الثالث، يضاف إلى
ذلك العامل المشترك لكل تلك الأنظمة وهو غياب أبسط مظاهر حرية الرأي
والحياة الديمقراطية، وهذا ما أدى إلى انبعاث الروابط والعصبيات ما قبل
الوطنية من جهوية وطائفية وإثنية، كما قاد بدوره إلى هيمنة الظاهرة
العسكرية على أنظمة الحزب الواحد، باعتبار أن الجيش هو المؤسسة الأكثر
تنظيماً وانضباطاً، والأكثر قدرة وتأثيراً في الحياة العامة والإمساك
بزمام السلطة .
لقد انتهت تجربة الحزب الواحد أو القائد، وكذلك تجربة التنظيم السياسي
الواحد في كل من مصر وسورية بنهاية عام 1970 نتيجة ما سمي بالحركة
التصحيحية التي قادها حافظ الأسد، وبعد رحيل عبد الناصر انتهت تلك التجربة
لأن هذين النظامين لم يستطيعا تجاوز أزمتهما الذاتية المتفاقمة بسبب
بنيتهما وقصور ممارساتهما ، والتي كانت أخطر مظاهرها تغييب دور الشعب ووأد
الحياة الديمقراطية، وضاعف من حدّة هذه الأزمة الانعكاسات الخطيرة التي
تركتها هزيمة الخامس من حزيران عام 1967 ، والاحتلال الصهيوني للمزيد من
الأراضي العربية .
لقد كانت هزيمة حزيران في حقيقتها هزيمة مجتمعية تشمل مختلف الميادين
العسكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية، كما وكانت في الوقت نفسه
اختباراً جدّياً لمدى فاعلية النظام الرسمي العربي، وبخاصة في صيانة الأمن
القومي العربي . والمدخل الوحيد لمواجهة آثار تلك الهزيمة ونتائجها، والذي
لم تطرق بصورة جدية وكافية أبوابه، كان بلا شك التغيير الجذري في بنية
وسياسة هذين النظامين بما يكفل عودة الشعب إلى استعادة إرادته وتسيير
شؤونه من خلال بناء دولة مدنية ديمقراطية، وإرساء حياة دستورية سليمة .
حصاد عقود الاستبداد في
سورية بالذات، وفي أعقاب ما سمي بالحركة التصحيحية نهاية عام 1970 التي
قادها وزير الدفاع حافظ الأسد، قام نظام جديد يختلف نوعياً عمّا سبقه،
مثلما حدث في مصر أيضاً بعد ما سمي بثورة مايو التصحيحية عام 1971 التي
قام بها السادات باستهداف تصفية إنجازات وتراث التجربة الناصرية .
ونحن هنا إذ نسجل هذه الحقيقة الموضوعية فليس هدفنا الدفاع عن مرحلة
معينة، أو أنظمة أو أحزاب معينة، أو أننا نقوّم اليوم تجارب الحزب الواحد
أو الحزب القائد تقويماً إيجابياً في المجتمعات التي حكمت فيها.. فالواقع
الذي ينبغي الإقرار به، وبنظرة علمية ونقدية لتلك التجارب التي جاءت في
ظروف تاريخية خاصة بها، أن حصائلها، على العموم، كانت سلبية . بل ويمكن
القول أنه فيما عدا مراحل الكفاح من أجل الاستقلال والتحرر الوطني، فقد
كانت حصائل تلك التجارب كارثية بالنسبة لمستوى تطور تلك المجتمعات مقارنة
بغيرها من المجتمعات الأخرى التي سبقتها بأشواط في مضمار التقدم والحداثة .
لقد راهنت بعض الأحزاب والقوى السياسية السورية على النظام الجديد،
وأملت أن يسير في طريق الإصلاح والانفتاح على الشعب، وبلغ الأمر بها أن
شاركت في مؤسسات السلطة، علماً بانها كانت مشاركة واجهية وشكلية لأنه لم
يكن لها أية صلاحيات تذكر، ثم عادت أدراجها إلى صفوف المعارضة عندما تأكدت
من حقيقة هذا النظام وخطأ مراهنتها تلك، إذ لم تمض سوى سنوات معدودات على
نظام حافظ الأسد حتى تبلورت بنيته واتضحت هويته كنظام فردي عائلي، ونظام
مافيوزي شمولي، وإن ظل يتلطى وراء راية حزب البعث، ويكرّس ذكره في الدستور
والقوانين كقائد للدولة والمجتمع .
ومن وجهة نظرنا فقد أكدت الوقائع الملموسة أن في مقدمة ضحايا هذا النظام التي استهدفها منذ قيامه ثلاث :
الأولى : كانت إنهاء حزب البعث عملياً كمبادئ وأهداف وكخط سياسي ووجود .
وثانيهما
: الجيش السوري الذي خضع لعملية ممنهجة في محاولة لتغيير تركيبته وحرفه عن
واجبه الوطني إلى جيش تنحصر مهماته في حماية النظام .
وثالثها : الوحدة
الوطنية حيث عمد النظام إلى إثارة العصبيات والمخاوف المتبادلة بين طوائف
المجتمع السوري، وإيهام معظمها أن مصيرها مرتبط ببقاء النظام واستمراره .
والواقع أن تنظيم حزب السلطة طوال العقود الأربعة الماضية من عمر نظام
الاستبداد الشمولي كان وما يزال يفتقد إلى ابسط مواصفات أي حزب من حيث
دوره ومن حيث حياته الداخلية وحقوق أعضائه أو صلاحيات مؤسساته الشكلية، بل
تحول إلى جهاز تنفيذي من أجهزة السلطة . لقد تغولت السلطة نفسها على
الدولة وعلى الحزب وعلى القوات المسلحة وتماهت في كيان شخص واحد ومن حوله
شلل من المساعدين والمنتفعين الذين اختيروا على أساس الولاء المطلق وليس
على أساس الكفاءة أو ثقة الشعب بهم، ومثل ذلك ينطبق على قيادات المنظمات
أو النقابات المهنية والشعبية التي يتمّ اختيار أعضائها،بعد أن تمّت عسكرة
المجتمع وإلغاء أية فسحة لممارسة حرية الرأي والمبادرة الفردية في أيّ من
الميادين ..
لسنا هنا إذاً بصدد التقويم الإيجابي أو السلبي لأي حزب
أو تنظيم سياسي في الساحة السورية، فقد كنا نرى نحن في " تجمع البعثيين
الديمقراطيين الوحدويين" ومنذ أن غادرنا الأطر الحزبية التقليدية قبل
ثلاثة عقود، ان التطورات التي استجدّت في نطاق المجتمعات العربية، وعلى
صعيد المنطقة كلها، والزلزال السياسي والإيديولوجي الذي حدث على الصعيد
العالمي وكانت أبرز تجلياته انهيار المعسكر الاشتراكي وانتهاء حقبة الحرب
الباردة، هذه التطورات النوعية قد استدعت من كافة التيارات السياسية
وتنظيماتها الحزبية في سورية، سواء منها القومية أم الاشتراكية أم
الناصرية أم الماركسية أن تجدد نفسها جذرياً، وأن تتغيّر بنية وشكلاً
وممارسة حتى تستطيع الاستجابة لمهمات المرحلة التي تغيّرت نوعيا عن
المرحلة السابقة، اي إبّان صعود التيار الوطني والقومي في الخمسينات
والستينات .
هذه الضرورة الملحة التي كنا نرى أن تستجيب لها الأحزاب الوطنية في
الساحة السورية حتى تتمكن من مواصلة تحمل مسؤولياتها التاريخية، كانت
بالنسبة لنا تنطلق من رؤية أشمل، وهي أنه على طريق تحقيق هدف شعبنا
المرحلي والانتقال من ليل الاستبداد إلى حياة الحرية والديمقراطية.. لا
بدّ من بناء الأداة المؤهلة والقادرة على تحقيق هذا الهدف المركزي، وهي
الكتلة الوطنية التاريخية الجامعة والمؤطرة ضمن تيار وطني ديمقراطي واسع
التي تستند إلى وجود الطبقة الوسطى أساساً، والتي هي قوام بناء المجتمع
المدني، وصمام الأمان لضمان الاستقرار الاجتماعي، هذا بالإضافة إلى
الطبقات الشعبية الأخرى وكل الأحزاب والهيئات الوطنية والديمقراطية .
لقد واصل النظام السوري الفردي الشمولي منذ قيامه
انتهاج نفس السياسات عملياً، وبرع في لعبة استخدام الشعارات الوطنية
والقومية، مثل شعارات التحرير، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، والتوازن
الاستراتيجي مع العدو الإسرائيلي وشعارات المقاومة والممانعة وغيرها.. كل
ذلك من أجل خدمة هدفه الأساس، ألا وهو تأبيد بقائه واستمراره إلى أطول أمد
ممكن حيث عمد بعد رحيل الفرد المؤسس إل إعادة إنتاج نفسه عبر مسرحية
التوريث التي شكلت بحد ذاتها امتهاناً خطيراً لكل القيم والأعراف الوطنية
والدستورية التي اتسم بها تاريخ سورية الحديث، كما شكلت سابقة مستهجنة على
صعيد النظام العربي الرسمي ودعوة لبقية أنظمة الاستبداد العربية المكناة
بالأنظمة الجمهورية أن تسير على نفس المنوال .
مسؤوليات في مستوى التحديات والتضحيات
يا شباب سورية :
هذه هي التركة الثقيلة التي تواجهها ثورتنا
الآن، والناجمة عن الأزمة المجتمعية العميقة والمركبة التي أدّت إليها
سياسات النظام الحالي .
لقد بات يتوقف على انتصار هذه الثورة وتحقيق
أهدافها في إسقاط السلطة القائمة وبناء النظام الديمقراطي المنشود مصير
شعبنا حاضراً ومستقبلاً، وجدارته في أن يعيش حياة العصر مثل بقية شعوب
العالم المتحضر ويسهم بدوره المنتظر في خدمة قضايا أمته المركزية، وفي
توطيد أسس السلام والعدل والأمن .
يا شباب الثورة الثورية :
لقد أعطيتم منذ اليوم الأول لانطلاق هذه
الثورة التي تكمل الآن شهرها السادس صورة صادقة عن هويتها . عن أهدافها
وغاياتها، وعن القيم والمبادئ التي تحملها وتسعى لتجسيدها.. في أنها ثورة
شعب مضطهد مستلب الإرادة ومستباح الحقوق . شعب يتطلع إلى حياة الحرية
والكرامة والعزة كغيره من الشعوب، وما زلتم في كل يوم، ورغم أسلوب السلطة
الوحشي، تؤكدون على هذه الصورة وتتمسكون بثوابت هذه الثورة كثورة سلمية
حضارية . ثورة شعب بمجموعه وليست ثورة فئة أو طبقة أو مجموعة أقوامية أو
إثنية لوحدها أو طائفة بعينها، وهي الثورة التي تجد أن من حقها أن تحظى
بدعم كل أحرار العالم وكل المنظمات الدولية والإنسانية .
والثورة السورية ينتظر منها أن تضيف دروساً جديدة في مسار كفاح الشعوب
العربية من أجل التحرر الشامل والمستقبل الأفضل وبناء مشروع الدولة
المدنية الديمقراطية الأنموذج .
إن هذا الموقف لا يصدر عن نظرة وطنية ضيقة، ولكنه ينبع أساساً من إدراك
موضوعي لحقائق التاريخ وللدور الذي اضطلعت به سورية عبر تاريخها القديم
والحديث وما حملته من مسؤولية خاصة وموقع متقدم في النضال العربي التحرري
وعلى صعيد هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم ـ واجبنا الأول في هذه
الظروف الاستثنائية الحاسمة يحتمّ علينا جميعاً، نحن السوريين داخل وخارج
الوطن، أن نرتقي بممارساتنا ومساهماتنا في هذه الثورة إلى المستوى الذي
ينسجم مع تضحيات شعبنا، والمستوى الذي يتناسب مع احتياجات هذه الثورة
ومستلزماتها من أجل تحقيق الانتصار .
يا شباب سورية :
أنتم اليوم من خلال تصميمكم الذي لا يلين،
وتضحياتكم التي لا حدود لها إنما تعبّدون طريق الظفر والنجاح لثورتكم .
أنتم اليوم تدقون باب التاريخ من أجل أن يستعيد شعبكم إرادته ويمتلك مصيره
ويواصل مسيرته نحو حياة الحرية والديمقراطية والتقدم .
وأنتم اليوم يا شباب سورية بوعيكم وإدراككم تعلمون أن إسقاط هذا النظام
الفاشي ليس إلا الخطوة الأولى في مسار بناء البديل المطلوب . بناء الدولة
الوطنية المدنية الديمقراطية لكل أبنائها دون أي تمييز أو استئثار أو
إقصاء . فالثورة التي تنتشر ألويتها اليوم في كل المحافظات السورية . في
المدن والأرياف.. هي في ماهيتها وفي أهدافها عملية خلق وبناء لمجتمع جديد
وقيم جديدة . مجتمع يكون في مستوى العصر. مجتمع تسوده قيم التنوير
والحداثة وفي مقدمها قيم الحرية والعقلانية والعلمانية .
الثورة السورية هي القاطرة التي تقود كفاح شعبنا نحو القيامة المنتظرة
. نحو الخلاص من حياة القهر والاستبداد والفساد . نحو الغد الأفضل.. وأنتم
يا شباب سورية محرّك هذه القاطرة وقيادتها . أنتم الذين ندبتم أنفسكم عن
وعي وتصميم وإيمان لهذا الرهان المصيري، وأنتم الذين تصدّيتم بكل ثقة
وعزيمة لهذا الخيار ..
وما من شك في أنكم لمنتصرون بإذن الله ..
---------------