يا
للمفاجأة ما هذا العمى؟ كانوا جميعا هنا من أفلاطون، أرسطو، جاليلي،
ديكارت، كانط، هيكل…وكم كانت رقصة فرويد في حفلة الزار مقرفة وباعثة على
سخرية الضحك، حتى ماركس كان ينطّ بسبحة اليسار وسط الأحياء الشعبية لدور
الصفيح، حيث يتفرّج ماكس فيبر على عقلنة الفهلوة والشطارة وذكاء التحايل
وتدبير الحال في مجتمعات نموّ التخلّف. كلّ الفكر الحديث بحداثته وما
بعدها يجوب المدن والقرى، متأبّطا صيرورته وهو يصرخ في وجه جثث يعذّبها
قلق الخصاء "اقرأن" وتردّ دون خجل بصوت واحد وأيديها على بطونها المرتخية
"ما نحن بقارئات". وتواصل الحداثة صراخها المعتاد اقرأن باسم الفكر الحديث
الذي غيّر زمنكم من خلال تطوّر المواصلات البرية والبحرية والفضائية…
اركبن أو اركبوا ما شئتم من السيارات، الشاحنات، القطارات، الباخرات
والطائرات …انظروا كيف استغنيتم عن البغال والحمير وأزيحت عن العمل الشاقّ
كوسيلة للسفر والحرث وتجارة البخور، فاستعادت آدميتها الممسوخة بفضل
انتشار الدرجات الهوائية والنارية والآلات الرهيبة لقلب الأرض واستصلاحها.
أجل تأمّلوا بعمق تلك التكنولوجية الحديثة ففي ثناياها يتربّع عباقرة
القرن 17 وفلاسفة التنوير وهيكل…إنّهم بين ظهرانيكم وقد غيّروا مكانكم من
الكهوف والخيمة إلى الشقق والڤيلات الفخمة المجهزة بالآلات الكهربائية
الحديثة كالمبرّد والمكيّف…أنتم تعرفون ذلك بعقدة أثر الاستعراض المشهدية
التي ترزحون تحت سحر وطأتها المقلق، خوفا من خواء متأصل في الأعماق،
تحرّكه تماسيح رعب القلق المولّد لبركان العدوانية المتراكمة في تجاويف
القلب الموشومة بالفقر والقهر والحرمان. سطوة المظاهر تخنق أنفاسكم ولا
تستطيعون منها فكاكا ولا فرارا. تسخر الحداثة من جثث الفقمات الزاحفة على
مؤخّرات بطونها وكأنّها أشبه بالحلزون الذي يحمل معدته في قدمه..انظروا
نحن أقرب إليكم من حبل الوريد في الصحّة والطب بمستشفياته وعياداته
والتعليم بمدارسه ومعاهده وجامعاته وفي الاقتصاد والإعلام…تنقبوا أو
تحجّبوا بالعازل الطبّي الأسود الديني الذي يفضح لحظة جماع حبّ أو عهر
اخترتم فيها العقم أو دور الضحية التي يغتصبها الغزاة. إنهم هنا معكم
أولئك الرجال العظام الذين فجروا التقليد وأزاحوا سحر الديني وسطوته من
عليائه مجرجرا قدميه الحافيتين نحو عتمة المعابد المترهلة. رغما عنكم تربض
الحداثة على صدوركم، فهي مندسّة في المأكل والمشرب والمسكن والصحة
والتعليم…وأنتم لا تكفّون عن التسبيح بحمدها وتتنافسون في الفوز بمرضاتها
الاستهلاكية دون أن تكلفوا أنفسكم عناء الجهد والإنتاج. لم ولن تستطيعوا
الإفلات من قبضتها فالحداثة أمامكم ووراءكم وفي قعر منازلكم، تصنع
أحلامكم وتسيطر على إدراك أطفالكم بأفكار وقيم لم تجل بخاطركم، وهي تضحك
بسخرية شامتة من طريقة تخلصكم من أقنعتكم الدينية بأسرع وقت ممكن، عندما
تدخلون بيوتكم المجهزة بآخر موضة في وقت تضحكون على شعوبكم المقهورة
بالتحصّن في هوية التقليد والسلف الصالح. إنّها تراكم وأنتم لا ترونها ولن
تستطيع أقنعتكم الدينية أن تقف في وجه شروقها التنويري. وأينما وليتم
وجوهكم فثمة وجهها يستقبل ويتحدى ويسخر من جثث علمانية تهرب في أقنعة
دينية، وجبروت نصوصكم الطفلية في معجز سحر الأفكار وقدرتها الخارقة في درء
الشرّ وجلب الخير لم تعد قادرة على بسط البساط السحري لسندباد هذا الزمان
العولمي قصد السفر إلى القرون الأولى. كبسولة الزمن للعودة إلى الماضي
معطلة في متحف العلم الحديث.
لقد استنفدتم
حصتكم من الخيال الهوامي ورصيدكم غير كاف لإجراء مكالمة الهاتف المحمول
الديني. هكذا بنزوة سطوة اللسان أغلقتم باب توبة السماء في تحدّ غير مسبوق
للإله في تقرير يوم بعث وحساب "إنّ إلينا إيابهم ثمّ إنّ علينا
حسابهم". تتمسكون بالحياة الدنيا وتحبّون المال حبّا جمّا، وتدعون الناس
البسطاء للموت فوزا بجنة الرحمن. والمساجد لم تعد كما كانت فقد غيّرت
أصواتها وهي تفرغ أعماق فيض مظاهرها الإيمانية المحمولة عبر أجهزة مكبر
الصوت والسوط المجهض لولادة فجر جديد. إن ما تطلبونه يوجد خارج التغطية
للزمن الحديث. واضطراب الديمومة يلزمكم بترك رسالتكم في متحف العلبة
الصوتية للحداثة لعل ناسخا ينسخ هذا الزمن الممعن في سرعته الجنونية بما
قد يتجاوز سرعة الضوء.
يأتي المساء في المساء
حيث يفسح الإعجاز العلمي التكنولوجي، بصحونه المقعّرة فوق أسطح المنازل
والعمارات السامقة، المصوّبة نحو السماء حيث الأقمار الاصطناعية التي تعدّ
الأنفاس وتنسج الصور لتصنع الأفكار والآراء وتوجه الإدراك وتلتقط أبسط
الحركات، مكانا رحبا للإعجاز الفقهي لصاحبنا يوسف ذي الجبة البسيطة
المكتنزة بمليارات الدولارات وهو يتلمظ الكلمات كما ولو كان يدس في فمه
قطعا من شحم ولائم النفط، عندها ينتحب القمر مختبئا بخجل بين غيمة وأخرى
أكثر سوادا، تمسح دموعه وتربت على كتفه هامسة في أذنه أن يترجل، فقد حباه
العلم بعشرات الأقمار المستنسخة لتؤنسه وتخرجه من وحدة عزلته
المرهقة بدوران الغثيان المجهول الغاية، كما انقبض الكون مرددا "يوسف أعرض
عن هذا"، لكنّ الجثة المسكينة مثقلة بأقنعة الدين. مما جعل المشهد مقززا
بين احتضان مؤسسات المال والأعمال والتجارة لغنائم جهاد يوسف في نفاق
الكلام، والكون كله يصرخ في وجهه "كلا بل تحبّون العاجلة"، وبين ترنح كينز
في قبره من هول الصدمة لجثة فقيه تقاوم الحياة وهي تعرض موات الكلام على
الهواء، في وقت تندس جذورها في شرايين المال والثروة والسلطة والإعلام .
انهض
أيها الفقير المقهور ..انهض أيها المدثر بكوابيس جهل مقدس كتبته بطون
لئيمة شرهة إلى أبعد الحدود، وتلبست وجه القداسة ليطمئن الخليفة في امتطاء
صهوة الفقراء والمهمشين مثلك، ويسرّي عن نفسه بعشرات الجواري. أنت الآن
إمّا أن تكون حرّا كريما أو لا تكون. اقرأ وضعك لكي ترقى، إلى مستوى شعبك
الذي لا يلقى، إلا من النضال ثوبا أتقى، وسيقرؤك التاريخ أننا دائما بحاجة
إلى ثورة. افتح عيناك لترى الجرم المشهود ولقمة العيش التي تمرغك في
التراب، ومسخ الوحل والعفونة وبعدها يصرخون في وجهك: الحياة قسمة ونصيب
بما فضل الله بعضكم على بعض في الرزق أو قد يشتمونك أنت وأمثالك: قذرون،
أوباش، صعاليك …
انظر كيف يعيش أطفالهم وأين
يدرسون… لهم عشرات النساء بين الزواج ومتعة زواج السفر… أما أنت فلك الصوم
والقهر والذنب ومشاعر الإثم والعمى بما يفيد غضّ البصر… ولهم المناصب
العليا والثروات المنهوبة وربوبية المعامل والشركات والبنوك، ولك ما تبقّى
من الصدقة وزكاة الفطر ودعاء الإمام بالفرج والفرج في عليين والصبر، وأنت
لا تجرؤ على القول "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وإن كنت
تلوم دواخلك الصادقة في معرفة الحق أن صلاة الفقير جنب الغني صلاة باطلة،
لأنّ تمام الإيمان في تمام الحال، هكذا تفهم قول الإمام في أمره بتسوية
الصفوف "حاذوا بين المناكب والأقدام وسدوا الخلل" في التعبير والتفكير
والكرامة ونمط الحياة والشراكة والمشاركة في الوطن …