كلما فكرت بحداثة المجتمع الغربي وبما
ينتجه من تناقضات، تأكدت يوما ً بعد يوم بأن نواح كثيرة من هذه الحداثة
تظل ناقصة ، بل الأحرى متناقضة ، ولم تحل حقا ً المعضلات المجتمعية ، وأن
ما من جدوى في الشعارات الكبيرة و"الإنسانية" ، لأسباب بشرية صرفة، فالبشر
بشرٌ! لطالما أثرتُ أسئلة شائكة في جريدة "النهار" (كما عبر مقالات في هذه
الصفحة بالذات) تتعلق بتعقيدات النسيج الغربي السوسيولوجي، مع سوسيولوجيين
أوروبيين من ألمانيا وفرنسا وأوروبا الشرقية وغيرهم، إضافة إلى مؤرخين
فرنسيين كبار وأعضاء في البرلمان الألماني وإلى ما هنالك. فما لاحظته في
النهاية، هو أن المشكلات تبدل وجهها فحسب، والمعضلة الأساسية تبقى على
حالها. فالتناقض سيدُ الموقف، إذ ثمة جوانب غير قليلة في التصرف الغربي لا
تنسجم مع بعضها البعض، لا سيما الغرب الأوروبي منه. وبالمناسبة لا يزال
الكثيرون عندنا يظنون أن الغرب غرب واحد، في حين أن الولايات المتحدة
البروتستانتية، كما اوروبا الشمالية – البروتستانتية أيضا ً- ، ليست اوروبا
الجنوبية ( مبدئيا ً الكاثوليكية نشأة ً) في طريقة تفكيرها، والتي تختلف
أيضا ً عن أوروبا البحر- متوسطية (ولن أضيف أوروبا الشرقية فهي موضوع على
حدة)، ولكل جزء شخصيته وطريقته.
لكن ثمة في الغرب إجمالا ً ، شمالا
ً وجنوبا ً من دون تمييز، فئة ، وتحديدا ً اليساريون، يمارسون
الديكتاتوريات النفسية الإجتماعية على من لا يشبههم، وهي ديكتاتوريات تكون
في أحيان كثيرة سطحية، ثقيلة الدم ومتسلطة، وهم الذين يتباهون بالإنفتاح
والتقدمية وعدم العنصرية والديموقراطية. فنراها (هذه الديكتاتوريات) تفرض
على من لا يقاسمها الرأي، سطوتها وأداءها ونموذجها، إلى درجة أن من يرغب،
من باب الحرية الشخصية ، في مواصلة مثلا ً إيمانه بمسيحيته ، يواجه أغلظ
التهكم والتهتك. فأين الحرية الفردية المزعومة ؟! أخبرني سوسيولوجي ألماني
كبير خلال أحد لقاءاتنا، كيف أن وزيرة ايرلندية كاثوليكية قالت لوزير
فرنسي علماني (الحوار نشرناه في جريدة "النهار" قبل حوالى ثماني سنوات)،
قالت له إذا ً بعد أن سخر من الإيمان المسيحي الذي لا يزال قائما ً لديها
ولدى
الإيرلنديين : " إنها هي على الأقل تتمتع بحرية الشك، بينما
الفرنسي العلماني الملحد ، فلا !". هذا نموذج مما يمارسه خطأ ً أناس
يتمتعون بالفكر العلماني لكنهم لا يتمتعون بالليونة، حيث التمسخر ممن لا
يشبههم يطغى على النفوس كمطرقة أقرب إلى الفاشية. الخطأ يكمن في فرض وجهة
واحدة دون سواها، وجهة من يظن أنه يملك الحقيقة.
بالمناسبة، من ناحية
أخرى، وبعيدا ً عن العلمانية، فالبروتستانتية ذاتها من سلطة سياسية ومالية
في شمال الكرة الأرضية، تمسك مطرقة التمسخر في وجه من ليس منها، أي في وجه
المذهب المسيحي الآخر، فارضة سطوتها. سألت مرة أحد الكتاب البريطانيين في
حوار -"للنهار" أيضا ً- ، ان لماذا هذا المذهب يسخر دائما ً من الفاتيكان
ومن الكاثوليك عامة، ففوجئت بفكاهته، عندما قال إنه ليس لشيء سوى لأن عالم
الفاتيكان يوحي بأسرار كثيرة فيحفز تاليا ً الخيال. لكن عندما قلت له إن
الأفلام الأميركية هي أكثر من طريفة، هي الأحرى تبعث جوا ً من الكره، فلم
يجب) !
لكن من ناحية أخرى، كم من باحث غربي علماني انتقد دين نشأته
(المسيحية ككل) في حوارات معي، انطلاقا ً من "عقلانيته " المزعومة، وفي
الوقت ذاته مدح أو اعتنق أديانا ً عالمية أخرى. فكان لي أن سألته " لماذا
يكون الأوروبيون إجمالا ً علمانيين في المسيحية ومؤمنين في أديان أخرى؟!".
لم يكن لديه جواب طبعا ً!
وفي سياق هذا "التسلط" ذاته ، أثرت قبل
سنة في هذه الصفحة تحديدا ً، موضوع تسلط الأقليات على الأكثريات في الغرب،
حيث تضطر الأخيرة على ربط لسانها ولجم أفكارها لصالح الأولى الشاكية
الباكية بحجة أنها أقلية
وتاليا ً مفروض على الثانية احترام مشيئتها !
فمن يجرؤ في الغرب مثلا ً على أن يشكو من تسلط النساء الفيمينست في كل
منشآت الحياة اليومية والعملية ؟! فلو فعل، لتعرض لأبشع أنواع النقد
والتهميش الإجتماعي. ومن يجرؤ على أن ينتقد المثليين ؟! فالمثلية من
المقدسات الممنوع المساس بها، وكأن المجتمع الغربي نسي أن مبدأ الحرية ليس
قائما ً على منح حقوق البعض على حساب البعض الآخر! فأين حرية الآخر في
النقد ؟!
وفي السياق ذاته، ما يثير التساؤل، هو أن "المنحرف - الثائر"
(أي المثلي) يلجأ إلى أكثرأنواع الحياة بورجوازية في الرتابة والتقليدية ،
بينما مَن هم غير "منحرفين" هم الذين يعيشون الحرية الكبرى وثوراتها
الإجتماعية. فنعرف كيف يسعى المثليون إلى الزواج والإرتباط وتبني الأولاد
وتشكيل عائلة ، بينما مَن هم غير مثليين يفضّلون الحب خارج مؤسسة الزواج
وتوابعها ! تناقضات وكره ٌ للذات ، هذا ما بات الغرب يقدمه لنا.