لبكاء الرجال حرقة جارحة
محمد بنعزيز
الأربعاء 06 يونيو 2012 - 14:36
في
السادسة مساء غادرت المكتب الذي أعمل به في الرباط وأنا أحمل حقيبتي التي
أحضرتها معي كي أسافر مباشرة دون العودة إلى المنزل، ركبت الحافلة حتى
محطة الطاكسيات قرب صومعة حسان، وجدت بشرا كالنمل، علي أن أسافر مهما كان
الثمن لأرى أبي وأمي في عيد الأضحى الذي يحل غدا، كان الجو مفعما برائحة
الشواء وبدفء اللقاءات العائلية، لذا كان الناس يبدون قريبين من بعضهم رغم
التنافس الشرس على الأماكن الشاغرة في السيارات القليلة.
تركت
حقيبتي الثقيلة عند ماسح الأحذية الجالس في الزاوية لأطارد السيارات، جاء
شخص يسأل عن ركاب، ارتبت فيه فقال إنه لا يريد إدخال السيارة إلى المحطة
كي لا يكسر المتزاحمون الأبواب، تفاهمت معه فوجهني إلى سيارة مرسيدس بيضاء
متوقفة في الجهة المقابلة للمحطة، بجانب حي الملاح، قريبا من جدار الطين
الذي بناه الموحدون، أخذت حقيبتي وسرت نحوها، وجدت أربعة ركاب جالسين في
المقاعد الخلفية ثلاثة رجال وفتاة، بدا لي شعر الفتاة جميلا، تأسفت لأني
لن أجلس بجوارها، وضعت حقيبتي في الصندوق الخلفي للسيارة وجلست في المقعد
الأمامي لوحدي، سويت المرآة لأرى وجهي ولأتأمل وجه الفتاة التي تجلس خلفي،
قررت أنها من ذلك النوع الذي يمكنني التوصل معه إلى اتفاق بسرعة، فكرت أن
أطلب منها أن تنتقل للركوب بجانبي، سيبدو طلبي محرجا لنا معا، سيكون حظي
أفضل لو جاء صاحب السيارة بأنثى أجمل تجلس قربي لتؤنسني في الطريق، خاصة
وأني أكره الحديث مع الرجال أثناء السفر...
أجلس متوترا، كان
الصمت ثقيلا، أبحث عن موضوع لأبدأ به الحديث، اشتكى أحد الركاب من تأخر
السائق، لم تتدخل التي تجلس خلفي، ألقيت عليها نظرة في المرآة، تلوح
مرتاحة، أتصيد المناسبة لمحادثتها، قلت:
- لا يقدر المغاربة قيمة الزمن.
بقيت الآنسة المستهدفة صامتة لأن الزمن لا يعنيها إلا إن أصبح تجاعيدا،
شفتاها بارزتان كموزتين متلاصقتين، ليتها تقول شيئا يساعدني على دعوتها
للجلوس قربي، التفت لأرى ما تلبس فالتقت عينانا وتفاءلت.......
عاد
السائق بشخص بدين، اختلطت أوراقي وحزنت لفرصة التسلية الضائعة، صعد البدين
قربي فأحسست بخصري ينكمش، أخذ منا السائق المبلغ المتفق عليه، أدار المحرك
وأقلع...
في الطريق، شغلتني المحنة التي خلقها لي جاري عن متابعة
الراكبة خلفي في المرآة، تنهدت مرارا لأعبر عن غيظي، التفت إلى السائق
بعينين متسائلتين دون أن يتكلم، نظرت إليه فوجدته كهلا تغطي وجهه تجاعيد
عميقة داكنة وغائرة تختزل محن عمر بكامله، تزحزحت في مكاني لخلق فسحة حيث
أجلس، وجدت الراكب جنبي نائما تعلو وجهه علامات رضى غير مبرر، فكرت أن
أوقظه ليبتعد عني قليلا، حركته من ذراعه فنظر إلي، تحرك ليظهر لي أن
المكان بالكاد يكفيه، نزع حذاءه وتابع نومه...
وضع السائق شريطا شعبيا وزاد من السرعة ، تحسست لذة الطريق عندما تجتمع السرعة والموسيقى ذات الإيقاع الجميل والكلمات الرائعة :
اللي عندها وليد واحد
جات الموت داتو،
قولو لأختي صبري
قولو لأمي صبري ...
التفت
إلى النافذة : أشجار الكاليبتوس العملاقة تجري إلى الوراء، حقول القمح بين
الخضرة والصفرة أواخر الربيع، لكن الجالسة خلفي تشغلني أكثر من مناظر
الطبيعة، تنهدت من جديد فسألني السائق عن السبب ، قلت:
- الزمان.
قال ضاحكا:
- أنت صغير وتبكي من الزمان؟
خشيت أن يصمت فقررت متابعة الكلام علّ الراكبة خلفي تشارك في الحديث ، قلت:
- ما حاس بالمزود غير اللي مضروب به.
- عندك كريدي؟
- لا.
-عندك أولاد؟
- لا.
مزوج؟
- لا.
- احمد الله ............
تمتمت بالحمد وتابع السائق:
-عندي أولادي والمدرسة والكراء والضرائب والتأمين والغلاء والمازوت...والحمد لله على كل حال .
قلل من السرعة وقد تشكلت أمامنا قافلة من السيارات، تباطأ السائق حتى توقف، بدت له علامة حمراء فقال: "المخزن قاطع الطريق".
وصل دورنا تقدم نحونا أحد مراقبي الطريق:
- خرقت حدود السرعة.
رد السائق مندهشا :
-لا، الطريق عامرة ..........
-هذه صورة الرادار، تسير مائة وعشرين . هات الأوراق ........
فتح السائق درجا أمامي وأخرج ظرفا قدمه للمراقب، أخذ المراقب رخصة السياقة
ورد الباقي لصاحبه، أخرج السائق السيارة إلى جانب الطريق وأوقفها في ظل
شجرة كاليبتوس ونزل، قصد المراقب، مد له يده مقبوضة وصافحه، نزلت ووضعت
ظهري على جذع الشجرة، كان جذعا عملاقا نما وتقوى لمآت السنين، أحاول قراءة
الكلمات المحفورة في الجذع وأراقب حوار السائق والمراقب، يبدو من خلال
حركات الأيدي المتوترة أن المصافحة الأولى لم تكن كافية ، تحدث السائق
بحدة ثم بمسكنة... يمنعني ضجيج المحركات من سماع ما يقال، طال الجدال وفي
الأخير كرر السائق المصافحة إياها فتسلم رخصته وعاد، ركبنا...
جلس
السائق في مقعده صامتا ، بدت لي تجاعيده أكثر غورا ، أخرص الشريط وألقى
برأسه على المقود، كان على وشك البكاء، قلت وطعم المرارة يملأ حلقي:
- " الغالب الله."
فانفجر الكهل في وجهي يشتم ويهدد"أخذ مني مائة ....الطريفة معروفة...عشرة هي الطريفة...هذا معروف".
ينطق
الكلمات بصعوبة وغيظ، ضرب المقود وقد علت وجهه بوادر الحمى، بدت السيارة
كروح واقعة تحت ثقل صخرة خرافية، أشعر أن الألم يكاد يقتل الرجل، كانت
حركاته ثقيلة ووجهه مصدوما وكلماته دامية، أدار المحرك بتردد لنسير، بقي
بفكر للحظات ثم أوقفه، ألقى برأسه من جديد على المقود، سمعت هسيس بكاء،
لدموع الرجال حرقة جارحة، لم أستطع الكلام، صمتت كصخرة، في المرآة لمحت
شفتين متقلصتين وقد أحمرهما وغطى الأفق، رفع السائق رأسه فجأة من المقود
وقال بحدة لكل الركاب:
- انزلوا... انزلوا... ما نسمح لهم فرزق أولادي...بغيت لهم الفنا والنار والشطابة وعذاب الدنيا والآخرة.
انتبه الراكب البدين من نومه:
- "ما المشكلة؟"
نظرت
إليه بدهشة، نزلنا وتسلمنا نقودنا من السائق، لم يكن الجو مساعدا على أن
نتجادل أو نحتج، كان جدار ذل سميك قد أحاطنا ونحن نتفرج، ركب السائق
سيارته وأدار المحرك، تراجع إلى الخلف قدر خمسين مترا ثم أقلع إلى الأمام
بسرعة خيالية تجاه شجرة الكاليبتوس العملاقة، اصطدمت السيارة بالجذع
وتحولت إلى شظايا، تناثر بركان الدم على وجوهنا ...ابتعدنا ، احتقن الأفق
وتفشى الألم في الهواء، من تحت كومة الحديد المشتعلة انهمر خيط دم قان
يقصدنا وقد سيطر علينا حزن مطلق وآلمني أن تنفجر السيارة على الشجرة لا
على الذي أخذ منه رزق أولاده...