هيثم حسين
رهائن الخطيئة/ فصل من رواية
28/08/2011
|
غلاف الرواية |
ظلّ أحمِى ينام في الصالون، طيلة أربعين يوماً بعد وفاة عمّه، بينما كانت
زوجته تنام في الغرفة. وبعد انقضاء الأربعينيّة بليلة واحدة، كانت ليلة
الخميس، تأخّر أحمِى في المسجد، ثمّ بقي بعدها في مجلس المختار، لحين
انتهاء السهرة، جاء بعدها إلى البيت، وعندما دخل إلى الصالون، لم يجد
فرشته كالعادة، تطيّر خيفة أن تكون زوجته قد أُصيبت بمكروه، ذلك أنّه لم
يعهدها متجاهلة تسوية فراشه والتدقيق على نظافته طيلة الفترة الماضية. دقّ
باب الغرفة الخشبيّ، الباب الذي يفصل ويوصل بين الصالون والغرفة، ثمّ دخل،
كان خجله يطغى على كلّ شيء فيه، ذاك الخجل الذي يصبح وبَالاً على صاحبه في
كثير من الأحيان، رغم علمه أنّ الخجل مكروه بالنسبة للرجل، ومطلوب بالنسبة
للمرأة، وهذا ما تدعمه الذاكرة الشعبيّة من خلال المثل القائل: «المرأة
الخجول تساوي قرية، والرجل الخجول يساوي بومة».. لكنّه بقي وفيّاً لخجله
المَرضيّ، ولم يستطع المبادرة بفعل أو تصرّف أو حركة..
عندما يئِست زوجته من مبادرته التي بدا أنّه لن يقوم بها، بادرت هي
بنفسها، بعد أن نصحتها جارتها بوجوب توحيد فراشهما، من دون أن توغل في
التفاصيل.. بادرت ولم تبادر في آن.. لم تكن تعرف ما يتوجّب عليها أن
تفعله، كما أنّه بدوره كان جاهلاً بكلّ ما يجب عليه فعله، فلم ينفرد
بامرأة طوال عمره، كما كان دائم القمع لشهواته ورغباته، دائم التعوّذ من
الجسد وموبقاته، مهملاً كلّ شيء في جسده.. تفاجأ بزوجته قد أعدّت عشاء
فاخراً، بالنسبة لوضعهما، كان عبارة عن لحم الدجاج موضوعاً على صحن
البرغل، مدعوماً باللبن والخضار، وكان تفاجؤه الأكبر، بزوجته التي غيّرت
ملابسها السوداء الشاحبة، وارتدت ثوباً أحمرَ مخطّطاً بخطوط ملوّنة،
ومرقّعاً في طرفه الأيسر السفليّ بقماشة بيضاء مربّعة الشكل، بدت كأنّها
رقية ضلّت مكانها، فاستبدلت القرب من العنق، بالاستعلاء الملازم لها، أو
توسّد الصدر الذي تكثر منه، لم يكن اكتشافه الترقيع، شطارة منه، بل لأنّه
كان مركّزاً بنظره على الأرض خجلاً من التدقيق في ملامح زوجته التي أصابها
التغيّر المفاجئ.. لاحظ انطلاقتها الحذرة، وتشجيعها له، على الاستعجال في
العشاء، كي لا يبرد مرّة أخرى، لأنّها اضطرّت إلى تسخينه مرّتين، كونه
تأخّر أكثر من المعتاد.
كان إلحاحها يعني الكثير لأحمِى، الذي تشجّع بدوره، ثمّ بدأت الحركة تدبّ
في أوصاله، غسل وجهه ويديه، صلّى على النبيّ عدّة صلوات، بَسمل، ثمّ اقترب
من المائدة، راجياً زوجته أن تشاركه، أحسّ بنشوة غريبة تسري في جسده، حاول
أن يقمعها كعادته، لكنّ جوعه كان أعظم من إرادته، أكل كما لم يأكل من قبل،
تفتّحت رغباته المخدّرة النائمة في قاع روحه وجسده، فكان يتصوّر زوجته تلك
الدجاجة التي أكلها، كان يفترس لحم فخذها، كان يعجن صدرها الأبيض بأسنانه،
يهصره هصراً، قبل أن يقضي عليه، وكان اللبن بالنسبة له تلك الجرعة التي
يختم بها مأدبته، يبثّ الانتعاش في داخله.. كما كان الشاي بعد ذلك العشاء
الفاخر، ختام العَظمة عنده، لكنّه بعد أن استمتع بشرب الشاي مع زوجته
متبادلاً معها الحديث عن أحوال الدوابّ، وعن صحّة الجَدي الصغير، ثمّ
نتفاً غير مترابطة عن بعض القرويّين، لم يكن يفهم ما تقوله، كما لم تكن
راغبة في فهم وإيضاح ما يسأل عنه، لأنّهما كانا مشغولين بالكامل بما سيتبع
في ليلتهما..
- أين ستنام يا أحمد..؟! قالت له ذلك. وانشغلت عن إجابته بأنّ همّت بتوضيب
الغرفة، وتنبيهه إلى موضع نومه من دون أن تصرّح بذلك. ثمّ أخذت عدّة
الشاي.
كانت قد قرّرت مكان نومه بجانبها، حيث قد أتمّت ذلك. لكن يبدو أنّه لا
يمكن للمرأة أن تتخلّى عن هاجسها في أن تكون المرغوبة المشتهاة، لا
المبادِرة. وهذا ما تتعلّمه المرأة بحدسها وطبيعتها، وليس بالضرورة أن
ترتاد مدرسة أو أن تستقي معلوماتها من أحد ما أو أن تنهل من كتاب أو وسيلة
إرشاد أو تعليم معيّنة، فواقعها يعلّمها من دون أن يكون لأحد خيار فيما
يجري، وكثيرات من نساء القرى، ولاسيّما العجائز منهنّ، لا يتحرّجن فيما
بينهنّ، وحتّى في المجالس التي تجمع الجنسين، أن يفشين بأشدّ الخصوصيّات،
بل ويردّدن كثيراً من الشتائم، وهذا ما يجعل الكثيرات من الشابّات
المبتدئات يخفين رؤوسهنّ بين سيقانهنّ وهنّ يبتهجن ضمناً، ويصطنعن الخجل
ظاهراً، بل ويتمنّين ألاّ ينقطع الحديث أو يتغيّر الموضوع المحبّب بقدر
منعه..
عندما عادت من المطبخ الملاصق للصالون، الذي هو الحمّام نفسه، بإجراء
تعديل طفيف عليه، وذلك أن خصّصوا زاوية الباب بحوالي متر تقريباً، وأطلقوا
عليها تسمية الحمّام تجاوزاً، كالعادة المتّبعة في الكثير من البيوت
الطينيّة، التي كان يخصّص أصحابها، تلك الزاوية للغسيل أو الاستحمام،
«السَرشوك»، حيث يكون بمقدور الماء الخروج بسهولة إلى الخارج عبر الثقب
الصغير في أقصى الزاوية، بعد صقل الحمّام بالإسمنت بشكلٍ منحدر، كي لا
تتجمّع فيه المياه.. أي بشكل أحدث وأكثر تطوّراً عمّا كانت عليه في بيتهم
في عامودا.
- ألن تغيّر ملابسك..؟ أخرجت لك ملابس أبي النظيفة، وهي في الصالون. «قالت له ذلك من دون أن تنظر في عينيه».
هي تدعوه إلى فراشها إذاً، فلماذا التأخّر وهي زوجته وحلاله. قام نشطاً،
بعد اضطرابه الظاهر، ثمّ أسرع ليتوضّأ، وبالإيقاع الديناميكيّ نفسه، سارع
إلى الصالون كي يغيّر ملابسه، كانت قد وضعت له علبة العطر الصغيرة بجانب
الثياب، كي يتعطّر بها، كان العطر؛ عطر الصوافي، نفسه الذي كان يتعطّر به
فيما سبق، وهذا ما أسعده أكثر، وأشعره بنشاط مضاعف، كان لا يفتأ يحمد ربّه
ويشكره على النعم التي أنعم بها عليه.. لم ينتبه إلى أنّ ثياب عمّه كانت
ضيّقة عليه قليلاً، وهذا ما أبداه أصغر ممّا هو عليه، أو لربّما أظهره
بعمره الحقيقيّ، بعيداً عن تكلّف الوقار المُضفَى من خلال تلك الثياب التي
يحرص على ارتدائها، وتتكفّل بتكبيره عقداً على الأقلّ.
عندما عاد إلى الغرفة، وجد أنّ زوجته قد أطفأت القنديل الكبير، وأبقت
الصغير بإضاءته الخفيفة مشتعلاً، كما كانت قد أفردت له السجّادة بالقرب من
الفراش، وانسلّت في فراشها، مستلقية على ظهرها، متوجّهة بنظرها صوب السقف،
اختلطت عليها المشاعر وتضاربت المتناقضات في روحها، لم تعرف أبداً مشاعر
كالتي شعرت بها.. كانت مزيجاً من كلّ شيء معاً، وهذا ما أربكها أكثر..
انساق مأخوذاً، وهو يهلّل لله، مردّداً آية الكرسي قبل أن يؤدّي ركعتيه،
وراء ذلك الشعور اللذيذ، الذي انتابه عندما دخل إلى الغرفة، أحسّ أنّه على
عتبة الدخول إلى الجنّة نفسها، فهل يُعقَل ما يراه، غرفته ذات الإضاءة
الخفيفة تتحوّل إلى مدينة برمّتها، تحوي كلّ ما يشتهي المرء ويتمنّى، كان
الضوء مركّزاً على السجّادة، فسارع إلى تأدية ركعتين سنّة الزواج، أدّاهما
مرّتين، لأنّه خَربط فيهما، حيث كان مشتّت الذهن، ساهياً غير مركّز، وهذا
ما دعاه إلى إعادتهما، ساهياً عن أدعيته المختصرة حول الاستغفار والرجاء
والتذلّل عند تمنّي الأمنيات أو سرد الرغبات.. ومعظمها آخرويّة.. لا ترتبط
بدنياه إلاّ بخيوط غير مرئيّة..
بعد أن اطمأنّ إلى أنّه قد أدّى واجبه تجاه ربّه، حاول أن يلتفت إلى نفسه،
ليؤدّي حقوقها عليه، اقترب من الفراش، جاهداً أن يخفي ارتباكه وتلعثم
جسده، لكنّ حالته كادت أن تفتضح من خلال ما اجتاح جسده من ارتجاف أوصاله
واصطكاك فكّيه، حاول أن يستحضر كلّ الأحاديث التي كان يسمع أبناء السوق
يتحدّثون بها، وكان يستنكرها، ويسترق السمع إليها في آن، لأنّه ظنّ أنّها
قد تسعفه في ليلته، لكنّه لم يفلح في تذكّر أيّ فكرة أو جملة منها، خانته
ذاكرته، قبل أن يخونه جسده..
كان الصمت سيّد ليلتهما، كان يلعن نفسه وتقاعسه، كأنّ لسانه قد انعقد، وما
عاد إلى الكلام أو البوح سبيلاً.. اكتشف أنّ زوجته قد أزالت حجابها الذي
كان ملتصقاً برأسها ليل نهار، بدا شعرها المطموس مغرياً جدّاً بالنسبة
لأحمِى، استثاره منظرها المشتهي على استحياء، في ليلة الخميس المباركة.
حمد ربّه مرّة أخرى..
استجمع كلّ طاقته، كمن يحاول النيل من عدوّه بتركيز نظره عليه، إذ ركّز
طاقاته كلّها في التفكير بحركاته ومبادراته التي يجب أن يقوم بها، حاول أن
يختلق حركة في فراشه، عسى أن يلامس قدمه قدمها، وهكذا رويداً رويداً بدأ
جسداهما بالاقتراب، في ظلّ الصمت الطاغي، والعتمة الساترة الحاجبة. شكرها
كثيراً في قرارة نفسه، لأنّها قد خفّفت الإضاءة، كي لا يكشف الضوء عريه،
كانت خشيته من أن يرى هو جسده، في حالته التي هو عليها، والخشية المضاعفة
كانت من النظر إلى جسدها الذي سيتوجّب عليه الحرث فيه..
أليست حرثه، وأرضه، وماله وملكه، فلمَاذا يجبُن عن المبادرة..؟!
فجأة ودون مقدّمات أحسّ أحمِى بدوار يكاد أن يغيّبه عن عالمه، عندها لم
يكتشف كيف انقلب ليحضن زوجته، مقبّلاً وجهها كيفما اتّفق، ممرّراً لسانه
وشفتيه على كلّ وجهها، متنعّماً متلذّذاً، مغمض العينين، لم يستدلّ على
شفتيها، فقد كان في بداية الاكتشاف، سها عن إطباق الشفاه على بعضها، لم
يكن قد سمع بمداعبة اللسان للسان، سها عن ارتشاف الرضاب، غفل عن المداعبة
الدقيقة المركّزة والهمس الرقيق الدافئ، كان الضوء الخفيف يتقلّص شيئاً
فشيئاً، وهو في هَمكة صراعه مع الجسد الذي كان يلعنه، ومع النفس التي كان
يقمعها. كان طافح الجنون، ثائر النفس، مرتبك الجسد، لم يكتشف أنّ عضوه بقي
مرناً، ولم يتوتّر كتوتّر صاحبه، لم يتنرفز، لم يشتدّ، ولم تتعصّب عروقه،
كاد أن ينطفئ ويفقد وعيه، لولا أن سارعت زوجته إلى دفعه دفعاً خفيفاً، كان
كافياً لإعادة صوابه إليه، حيث كانت ترى فيه، من خلال عينيها التي
أغمضتهما، صورة أبيها، أوحت بها ثيابه التي لم تستطع أن تتخلّص من هيبته
الكامنة فيها، وعطره النفّاذ الذي كان يشي بقدومه، لعنت نفسها آلاف
المرّات لأنّه تبادر إلى خيالها صورة والدها يهمّ بتقبيلها أو ملامستها،
ظلّ ضميرها يؤنّبها ويعذّبها، لأنّ تفكيراً سيّئاً كذلك التفكير قد تسرّب
إلى ذهنها.. لكنّها لم تكن متحكّمة في خيالاتها، ولا في تلك الصور البذيئة
التي كانت تظهر، وتتمظهر، وتتجسّد بها..
لم تدرِ بمصيبته في عدم انتصاب عضوه، إذ طلبت إليه، بتعنيف ملطّف أن يخلع
ثيابه، وبينما كان يخلع عنه ثيابه، تكوّمت تحت اللحاف وخلعت ثوبها
الخارجيّ، وأبقت على المشلح ذي الأكمام النصفيّة.. عندما خلع أحمِى
سرواله، لمس عضوه لمساً مستجدياً بيده، اكتشف أنّه لم يتنبّه في غمرة
انشغاله بالاستعداد لآخرته، إلى أن يحلق شعر عانته، الذي استطال وكاد أن
يخفي عضوه، بل ينسدل عليه ويكاد أن يغطّيه عندما يكون في حالة الارتخاء
كالتي كان فيها..
لم تجدِ الملامسات والمداعبات غير المتكافئة في التقريب بينهما، أو إنجاح
عملية التواصل بين الجسدين المدمنين على القمع والتصميت، اللذين تربّيا
عليهما منذ الولادة، بل ورثاه وراثة جيلاً عن جيل، أباً عن جدّ، ابنة عن
أمّ.
لم يكتشف أحمِى نفسه إلاّ وأشعّة الشمس تسقط على عينه، فتح عينيه على
وسعهما، انتتر من فراشه كالأبله، أو كالملدوغ، أخرج رأسه من باب الصالون،
وجد الحياة دابّة في جوانب القرية، كانت تلك المرّة الوحيدة التي لم يؤذّن
فيها أذان الفجر، كان سلطان النوم أقوى منه، رغم أنّ النوم كان قد جافاه
طوال الليل، بل كانت حمّى باردة تتناوب عليه، متماوجة مع تماوجات وتقلّبات
روحه وتقلّصات عضلات جسده..
- كلّ فجر تؤذّن، ولا أحد يصلّي في المسجد، على الرغم من أنّ الجميع
يستيقظون، لكنّهم لا يتكبّدون عناء المجيء إلى المسجد، وأداء الصلاة..
قالت له سَيْرِى ما قالته، محاولة أن تخفّف من توبيخه الذي لم يتوقّف
لنفسه، وتقريعه لسوء تصرّفه، وفيما كانت تواسيه، حرصت أن تقترب منه
بجسدها، واضعة يدها على رأسه، مطبطبة على ظهره، وهي ما تزال بلباس النوم،
فلا سرّ بقي مكتوماً بين الجسدين، اللذين تجاوزا حفلة التعارف، وتعمّمت
بشكل نسبيّ الخصوصيّة التي كانت تغلّف كلاً منهما وتحجبه عن الآخر.
لم يكن يتألّم لفشله، بقدر ما كان يتألّم لتأخّره عن أداء صلاة الفجر،
هوّل من ذلك، عساه يقلّص، بشكل لا شعوريّ، ومن دون تخطيط مسبق منه، من حجم
كارثته الشخصيّة في فشله ليلة العمر التي يتحرّق كلّ رجل شوقاً وانتظاراً
لها.. لكنّه أحسّ براحة نفسيّة وهي تسرد له ما كانت تسرده، غير مدرك أنّ
الراحة لم تأته من الكلمات بل من مسحها لرأسه، وطبطبتها على ظهره، كاسرة
كلّ الحواجز بينهما، مستسلمة له بكلّ ما فيها من شوق وحبّ ومواساة..
الليالي التالية كانت كفيلة بتقريب الجسدين أكثر من بعضهما، وتوحيدهما ذاك
التوحيد المرغوب، وتحقيق ذلك التداخل المشتهَى، لكنّ السنين لم تنجح في
رزقهما بطفل يملأ عليهما حياتهما، التي كان الاستيحاش يخيّم عليها..
والروتين اليوميّ يُبئسها..
* * *
• رواية (رهائن الخطيئة) للروائيّ السوريّ هيثم حسين، صدرت عن دار التكوين، دمشق، 2009م، ط1.