** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 السرد والجنون: لعبة التمثلات القصوى في الفقدان لمحمد أسليم

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الكرخ
فريق العمـــــل *****
الكرخ


عدد الرسائل : 964

الموقع : الكرخ
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4

السرد والجنون:  لعبة التمثلات القصوى في الفقدان لمحمد أسليم Empty
05062012
مُساهمةالسرد والجنون: لعبة التمثلات القصوى في الفقدان لمحمد أسليم

السرد والجنون:


لعبة التمثلات القصوى في الفقدان لمحمد أسليم


محمد أمنصور



1 - ناثر ساحر:


1-1-إن المرء ليحتار
أمام كتابات محمد أسليم الإبداعية، فهو يصر على أن يقود قارئه إلى ممالك الصمت،
حيث المناطق المخيفة والمرعبة في وجود الإنسان: الموت، الجنون، المرض، الألم،
الشر، القبح، العنف… وبداية بالعناوين، تظهر الغرابة والخروج الجارف عن المألوف
(حديث الجثة/كتاب الفقدان/سفر المأثورات) [1].حديث
وكتاب وسفر. مدارات خارج أجناسية تجد مسكنها في "النثر" بالمعنى الرحب
للكلمة. فأسليم ناثر
Prosateur وساحر sorcier يرفض أن يموقع كتاباته ضمن تاريخ جنس أدبي بعينه؛ وهو الأمر الذي
يدفع المرء إلى مراجعة علاقته بمفهوم الأدب، وبالخصوص مع كتابة تقطع علاقتها مع كل
المقولات الأجناسية (المؤسساتية/المدرسية): الرواية – القصة القصيرة – الحكاية..
إن كتاب الفقدان –من هذا المنطلق- يتخذ موقعا وسطا بين سؤال الأدب وسؤال الفكر،
بين قضايا السرد وقضايا المعرفة العلمية، بين السؤال التأملي وسؤال المرض
النفسي-العقلي (الجنون). فهو منفلت، يدفع قارئه جديا إلى التفكير في إعادة تعريف
الكتابة الأدبية، خصوصا عندما يصر على إعلان تأبي التحقق النصي على هوية أدبية
واضحة ومحسومة: "ومن ظن أن هذا الكلام أدب فهو مخطئ، لأنه فيما يعتقد أنني
كاتب هذه الصفحات يغيب عنه أن الكتابة هي التي تكتبني، وأن معنى أن يكون الإنسان
أديبا هو أن يجعل –أو يُجعل- على فمه كمامة، ثم يقال له: "عقدنا لسانك. أنت
الآن شبه ضرير فتكلم، فيتكلم بكلام، يسمى رواية أو قصة أو شعرا..، تقاس جودته بنوع
الكمامة التي وضعها أو وضعت له. أما أنا فما وضعت على فمي كمامة ولا مخلاة، ولا
حملت أصابعي بأقلام، ولا آويت في صفحاتي نصوصا ولا لصوصا. أنا إنسان يتألم
ويتكلم"[2].



1-2-تفرض الإشارة في
العنوان الفرعي للكتاب (مذكرات شيزوفريني) طرح أسئلة من قبيل: -إذا كانت
"الشيزوفرينيا"
La chizophrénie أو الفصام جوهريا هو عبارة عن "اضطراب يصيب الأنا، أي خلخلة
للحدود بين الأنا والعالم الخارجي" وكان "الذي يعاني ويتألم من
الشيزوفرينيا ينسحب من جزء من الواقع، يعوض عالما يكون قد نفاه وفقده بواقع
الهذيان والهلوسة"، أو كانت الشيزوفرينيا دائما مرضا عقليا فيه "تتكلم
الذات، لكننا لا نتوصل إلى تشييد أي عالم مرجعي انطلاقا من خطابها"[3]؛
فهل نكون مع كتاب الفقدان أمام إبداع فني-جمالي أم يتعلق الأمر بمجرد تجميع
لمجموعة وثائق في المرض العقلي أو النفسي؟



إن انتساب نصوص كتاب
الفقدان إلى النثر لا يعني –بالضرورة- تصنيفها ضمن أنماط الخطاب العلمي أو الطبي
أو غيرهما من الخطابات غير الأدبية. ولو أن الكون الدلالي الذي تنسجه يصب في منحى
خطاب المرض النفسي أو العقلي. فمنذ الوهلة الأولى، يجعل الكتاب من قوة الإيهام
بـ"صدق التعبير" لعبته الكبرى لإخفاء مجموع تفعيلاته اللعبوية لطاقات
الحلم والفكر والخيال واللعب. وبهذا المعنى، فإن الشيزوفرينيا/الجنون في كتاب
الفقدان يشكل استعارة كبرى تؤسس لجمالية النثر عبر أسلوبية تراهن على "تصدع
الرؤية" من منطلق التمثل الشامل للوضع النفسي-العقلي للمريض الشيزوفريني.



يذهب ميشيل فوكو إلى
أننا نستطيع القول بأن مضمون المرض هو مجموع ردود الفعل الهروبية والدفاعية التي
بواسطتها يستجيب المريض للوضع الذي يجد نفسه فيه، بينما يوضح بيير جاسيرم في
السياق نفسه، أن: "الذهان يعبر عن صراع نفسي يشكل توافقا بين الرغبة والدفاع،
ويوجد أصله في طفولة المريض. إن الذهان قبل كل شيء انفصال بين "الأنا"
والواقع، تاركا "الأنا" تحت سيطرة الغرائز. إنه إعادة بناء هذيانية
délirante لواقع مطابق لهذه الغرائز. وهو في الأخير طريقة في الدفاع خاصة ضد
واقع يعيشه المريض باعتباره واقعا لا يطاق"[4].
على أن مجمل النظرة الموضوعية إلى المرض العقلي تشير إلى أنه ظاهرة ارتدادية في
تكوين الشخصية، يمكن إدراكها من خلال فرعين كبيرين: فرع الأمراض العصابية
les
névroses
وفرع الأمراض
الذهانية
les psychoses. وغالبا ما يرتكز العصاب على تدهور قطاع واحد من قطاعات الشخصية،
كما أنه يرتبط إلى حد كبير باضطرابات مرحلة الطفولة. أما الذهان فيمس مجمل
الشخصية، وهو عبارة عن انفصام حاد بين الأنا والواقع كثيرا ما يؤدي إلى سيطرة
الغرائز أو الدفعات الأولية على الأنا، وإعادة صياغة الواقع بطريقة خيالية تتلاءم
مع هذه الدفعات"[5]،
فكيف تمثلت كتابة محمد أسليم في هذا المؤلف كل هذه الأبعاد في نصوص تتعذر على كل
تصنيف؟



2 - قناع فيلسوف:


2-1-تنبني مجموع
العلاقات التي تنسجها الذات المتلفظة في سردها لتجربة المرض على ردم الهوة بين
قطبي مجموعة من الأزواج: (صحة/مرض – عقل/جنون – حقيقة/وهم – ذهان/عصاب –
أنا/جسد…إلخ)، وهي المحاور الموضوعاتية التي تتفرع عنها مختلف الأنوية الدلالية
التي تنسج تخييل النص. ونقول "تخييل النص" لأن القول بالعكس يقودنا في
اتجاه مسدود، من شأنه أن يجعل من شخص المؤلف "مريضا" تقوم نصوصه مقام
الشهادة على مرضه! والحال أن مبدأ الفصل بين المؤلف الفعلي والسارد هو وحده
الإجراء الملائم لأية مقاربة مهما كانت منطلقاتها خارج التحليل النفسي. أو ليس
"اللامجنون: الكاتب، المعلق، الطبيب..إلخ –دائما- هو من يتكلم عن
الجنون؟"[6].



2-2-تدرج مجازات
الجنون، و"التأملات الجسدية" أو "الذهولية" ومختلف الصور
الغريبة والتشبيهات المنبنية على التشويه والتحريف، تدرج هذا السرد ضمن أفق تخييلي
معنف بطاقة هائلة موجهة نحو "ترميز العالم وتعجيزه وتأثيثه
بالاستعارات". نقرأ: "خلصوني من رعب هذا الهدوء بوضع مكبري صوت بحجم
جزيرتين: أحدهما في القطب الشمالي والآخر في القطب الجنوبي"[7].
"الأرطان [= أقراص ] تهدئني فتحيلني إلى مركب من هر وديع وكائن لم يخلق بعد؛
كائن مبرمج لنهاية القرن المليار بالتقويم الضوئي"[8].
"أنا دينصور! ففي رأسي يثوي دماغ وزنه عشر كيلوغرامات ونصف فكرا، وعما قريب
سيتضاعف مئات المرات، وسأحتاج في حمله إلى شاحنة ترافقني أينما حللت وارتحلت"[9].
"فكأن ما من شيء يقع عليه بصري إلا ويصدني بعلامة استفهام تكون في البداية
صغيرة بحجم بعوضة أو نملة، إلا أنها بمدى استغراقي في التفكير تكبر إلى أن تصير
بحجم فيل أو دلفين"[10].
"فما من أنثى إلا وفيها شيء مني، وما من ذكر إلا وفيه شيء منها. ما يفرق
بيننا سوى لحية أحملها في وجهي وتحملها في حجرها"[11].



إنه "التوحش الاستعاري"، سمة السرد
ونكهته، وهو متخلل بأسئلة ذات طابع تأملي، تجعل من الكتابة الأدبية ملتقى ممكنا
للجمع بين الجنون والفلسفة، بين الهذيان والفكر، مما يؤهلها لأن تكون حصيلة
تركيبية لانصهار رؤيتين: أدبية وتأملية: "إن الكون برمته إن هو إلا ركام من
الأجوبة المحتملة عن سؤال لم يصغ بعد، وإنكم لم تساقوا إلى هنا لتأكلوا وتشربوا
وتتناكحوا وتتوالدوا وتموتوا كقطعان البهائم، بل جيء بكم خصيصا لكي تجيبوا عن
السؤال التالي: "ما هو السؤال الذي كان الكون، وكنتم معه، جوابا محتملا
عنه؟". فعن أي سؤال يجيب وجود هذا الكون؟ بل من سيطرح هذا السؤال وعلى من
سيطرحه؟"[12].
فبإمكان أي فرد، حتى وإن لم يتجاوز عمره ستة أشهر، أن يؤزمني إلى أن أضع وجودي
بكامله موضع تساؤل، وأصعد رأسا إلى الأسئلة الكبرى من ضرب: إذا كنا آيلين حتما إلى
الموت، فلماذا نتهافت على الحياة؟ بل، هل هذه الحياة جديرة بأن تعاش؟ لماذا، بدلا
من أن تأخذ البشرية سبيل القعود والتأمل في الموت، اختلاف المخلوقات والموجودات،
وحدود اللغة، ومعنى الجنس، والمرض، والحياة…إلخ، وتمضي فيه قرونا طويلة، ثم تختار
بعد ذلك النمط الوجودي الملائم –على ضوء ما ستهتدي إليه من أجوبة- أقبرت تلك
الأسئلة كافة وزجت بالجماعات والأفراد في هذه القمامة قائلة: "أحيوا، تناكحوا
وتوالدوا وتكاثروا، فما الحياة إلا أكل وشرب ولباس وعمل ونكاح وتوالد"![13].



إنها الأسئلة والأفكار
الحادة. الكلمات الناتئة. الهلوسات والهذيانات التي تصطخب مزلزلة أنساق اللغة
والجسد والعقل. ففي جواب متناغم مع أصداء الصوت النيتشوي الهادر، القائل بأن
"الفرد لا يصير –حقيقة- ذاته إلا بفقدان هويته المحددة"[14].
نيتشه الذي كتب في 4 يناير 1989 للناقد دانو جورج براندي: "منذ أن اكتشفتني
ليس عجيبا أن تجدني؛ فالصعوبة الآن هي فقداني"[15].
ففي تجاوب وتصادي مع هذا الصوت المزلزل الحكيم، تتقدم سيرورة الكتابة كالسيل
الجارف، كالنار التي لا تبقي ولا تذر: "مدارات الفكر تحتضر، وغابات الأحاسيس
تنتشر، ووهاد القلب تنكسر. قيامة من لا قيامة له، وعقل من لا عقل له. وهاد القلب
تضطرب، هذي القصيدة تنعطب، أمواج فكر تنتحب، وتلتهب وتنسكب، أخطاء قتل ترتكب،
فتنقلب وتنعطب، فلا تقول أنعطب، ولا تقول أنتحب، ولا تقول أنسحب، متفعلن متفعلن،
كفى كفى، ثم كفى، متفعلن متفعلن. طرق طق طق. من اعتقد أن هذا رجز أو رمل أوسعته
لكما وركلا. فما هذه الأصوات إلا وقع كاعب العاهرة التي أقعدتني قبل قليل كي أدون
هذا الوحي. أدونه بمعنى أجعله دون ما هو في الحقيقة، والحال أنه يدنى منه دون أن
يدنى عليه"[16].



إنه الإطراد السردي
التدميري الذي يجعل من مبدأ التفكيك مدخلا لنمو وتشعب محكي للجنون: (تفكيك وحدة
الأنا/تفكيك وحدة العقل/تفكيك وحدة الجسد/تفكيك نسقية ومنطق اللغة، ثم تفكيك النسق
المرجعي بما هو عالم خارج نصي تتمثله شخصية مريضة، أو في حالة تذكر لأحوال وتقلبات
مرض الشيزوفرينيا. وهو الأمر الذي يجعل من مرضها/ جنونها، مسرحا مكثفا لكل الوقائع
والتمثلات السردية. وبهذه المعاني جميعها "إذا نظرنا إلى الأدب كي نتدبر دور
الجنون فيه(…) وجدنا أن المجنون الأدبي، في أغلب الأحوال، ليس سوى فيلسوف يرتدي
قناعا، ومن ثم، فإن دور المجنون في الأدب يظهر جليا على أنه دور فلسفي. كما أن
مفارقة الجنون هذه –أي كون الجنون أدبيا في الفلسفة وفلسفيا في الأدب- مفارقة
واضحة على نحو لا تخطئه العين. كما يبدو أن أفكار الفلسفة والأدب والجنون أفكار يتصل
بعضها بالآخر اتصالا أصيلا ثابتا. لذلك، فإن الجنون قد يفسر إشكالية العلاقة بين
الفلسفة والأدب"[17].



3 – ألم وكلام:


3-1-إذا شئنا اختزال كل
نصوص كتابالفقدان في جملة واحدة تكون بمثابة النواة الصلبة لكل نسيجه السردي،
سنحددها في قول السارد: "أنا إنسان يتألم ويتكلم". فما بين الألم
والكلام مسافة ما بين المعنى والشكل. المعنى يحيل على غياب قوانين السببية والفكر
المنطقي، بينما يحيل الشكل، في توحش سطحه المجازي، على حضور مفهوم معين لجمالية
الفوضى. يحيل ملفوظ "الإنسان يتألم" على "الأنا" من منظور
فلسفة الوعي المغلوط؛ الأنا المجروحة في نرجسيتها، الأنا المنغلقة على نفسها،
المنشطرة بين شعورها ولا شعورها، بين الحقيقة والوهم، وبين داخلها وخارجها. أما
ملفوظ "الإنسان يتكلم"، فيحيل على اللغة، ليس فقط لغة الشيزوفريني –التي
سواء أكانت متمركزة حول الأنا أم لا فهي تعكس صعوبة في أن يتوقع ذاته ويشكل نفسه
بوصفه كائنا كاملا ومستقلا في الحياة الواقعية"[18]-
وإنما أيضا اللغة من منظور جدلية العلاقة بين الرغبة والموت؛ أو اللغة كموقع/جسد
تتنازعه قوتا الإيروس والتاناتوس..! ناهيك عن التجاذب بين شهوتي الصحو والفقدان،
بين قوة الاتصال بالواقع والمعقول وقوة الانفصال والقطيع.. معهما، مما يتيح للغة
بما هي مسرح للجنون أن تتحول إلى آلة لتدمير الأفكار وتفكيك الصور. أو ليس
"على الكلمات يمارس الشيزوفريني كل قوته الإبداعية والتدميرية"؟[19].



4 – الأنا آخر[20]:
أو من التحليل النفسي إلى الأنطولوجيا



4-1-في نصوص كتاب الفقدان
شخصية رئيسة (مريض وكاتب) تراوح مذكراتها بين وصف مرضها وإيراد كتاباتها ورسائلها.
إنها "سيرة" للمرضى، أو مذكرات شيزوفريني كما ينص العنوان الفرعي على
ذلك. وهي نصوص سردية تتخللها حكايات طريفة وغريبة لكائن عجائبي يجعل من انشطارية
وتعدد مرايا ذاته الشيزوفيرينية مطية لصياغة رؤية هذيانية لعالم مقلوب. عالم لا
يدرك أو يتمثل إلا في إطار قفص الذات المسكونة بالخيالات المتطرفة والشكوك
والنوايا الرهيبة: "سيدتي/لا تحية ولا يحزنون/وقبل،/فإني أنا، وأنا لست
أنا"[21].
"لقد اعتقدت أن ذلك الفرد لم يكن إلا أنا، فاستغربت من سيرنا مفترقين، ولذلك
أمسكت به ملحا بالدعاء: "أنت هو أنا، فتعال إلى حيث أنا ذاهب"، رد الشخص
مرارا بأنه لا يعرفني، لا إنه كلما نطق بكلامه عقبت قائلا: "وإذن فانفتح حتى
ألجك، وأحل فيك فترى إلى أي حد ما أنت إلا أنا(…) كنت موقنا بأنني لم أكن إلا طيف
نفسي"[22].
"كنت أيامها أشخاصا عديدين لا أدرك منهم الآن إلا اثنين: أحدهما اسمه أحمد،
والآخر اسمه محمد؛ أحدهما قريب، والآخر بعيد.. –أي الاثنين كان القريب وأيهما كان
البعيد؟- صه يا أحمد! أ إيهاما بأنك صرت شخصا ثالثا يحكي عن أحمد ومحمد؟/ -نعم،
أنا يعقوب/- أأحمد أنت أم محمد؟/ -الله أعلم!/- وإذا، فقل "نحن جمع"
وكفى/-نحن جمع وكفى!.."[23].



يعجز الشيزوفريني عن أن
يلم بالتجربة الآنية في شموليتها. تبدو له الأشياء كما لو كانت خاطئة، زائفة
واهية، وأحيانا مشوهة، بعيدة وغريبة. فهو يشعر بأنه تائه باستمرار"[24].
ومن هذا المنظور، يكون المكون الأساس الذي يتم التنويع عليه في كل النصوص هو هذا
المبدأ الانشطاري في الإدراك والتمثل؛ في إدراك الذات لنفسها، لعلاقاتها بالمحيط،
وفي تمثلها للحياة، للواقع باعتباره كابوسا مفزعا، أشلاء لكون ممزق نظامه الوحيد
هو الفوضى.



في سياق هذه الرؤية
الشيزوفرينية للذات الساردة التي تمارس فعل التذكر، هنالك تلك العلاقة المتوترة،
المضطربة، المقلوبة بالعالم الخارجي بما فيه من إنسان وحيوان ونبات وجماد. علاقة
تستهدف إعادة صياغة الصلات بين الذات ومفردات العالم بما يتلاءم مع مقولات الذهان
بمختلف مكوناتها: البارونوية والكاتاتونية والميتومانية أيضا. فالخاصية المحورية
للسرد تتمثل في تشغيل وهيمنة آلية التمثل للحالات القصوى، مما يولد صورا وأوضاعا
ومواقف تصب جميعها في الاتجاه المعاكس لمبدأ التطابق. إن العدو الأول للشيزوفريني
هو التطابق أو الانسجام؛ فهو يرفض أن يتطابق دال اسم مع مدلوله. يرفض أن تتطابق
التسمية مع حاملها. يرفض تطابق جسده مع روحه. يرفض أن يتطابق عقله مع وجدانه. وفي
المقابل، فهو لا ينتصر إلا للانشطار والتشظي والتعدد والتناقض والتعارض:
"أيها الإنسان بداخلي! أتظن أني من الغباوة بحيث لم أفطن إلى تمويهك علي
وتمرير نفسك باعتبارك أنا؟ أخطأت الخطأ كله إن ظننت ذلك. هيهات هيهات أن تكونني أو
أكونك"[25].



4-2-ولو شئنا إجمال أهم
المعالم التي حايثت الإنجاز السردي لـكتاب الفقدان أوجزناها في النقط التالية:



ـ نقد المفهوم الكلاسيكي للعقل والجسد.


ـ تسليط الضوء على إحدى
المقولات المركزية للحداثة، ونعني بذلك الجنون بما هو استعارة كبرى تعيد نسج شبكة
العلائق عبر مختلف أطراف الأزواج (صحة/مرض – ذهان/عصاب –سادية/ مازوشية –
جسد/عقل..)، وتحريرها من حمولتها السلبية التي تدرجها ضمن الممنوع، مع إعادة
إدراجها في سياق جديد للكتابة النثرية، هو كتابة الهامش.



ـ معارضة ومناقضة
"الأصولية الأدبية" التي تنحاز لمفهوم مؤسسة الجنس الأدبي، والانتصار
–في مقابل ذلك- لمفهوم "النثر المتوحش".



ـ إعادة اكتشاف مبدأ
الفرد بما هو موضوع لاشتغال السرد، وسبر أغوار الأنا باعتبارها مدخلا لتكريس
الجنون (الجنون كمسكن للكتابة).



ـ إيجاد منطقة معزولة
للكتابة الجمالية وسط روافد المرضي والصحي، العقلي والنفسي عبر البوح والاعتراف
والتذكر والحلم والهذيان، ليس باعتبارها أعراضا في وثائق للمحلل النفساني تخضعها
لجلسات العلاج النفسي، ولكن (الهذيان/الفقدان) باعتبارهما فرصة لتحرر اللغة من
قولبتها المؤسسية (البلاغة الكلاسيكية).



ـ تنسيب سلطة اللغة
التي لا تعود هنا تلك اللغة العربية أو غيرها، وإنما هي "لغة الجنون"،
وتجربة الجنون التي تجعل من الكلمات والجمل والخطابات مجرد تجليات للغة
"الحقيقة/الوهم" الكامنة أو المتوارية في تجربة الفرد/الكائن. ذلك الفرد
المريض، أو المسمى مريضا، والذي يجعل من الهذيان مدخلا لتمزيق كل الأقنعة: قناع
اللغة، قناع الجسد، قناع العقل، قناع المعنى، قناع المجتمع، قناع الأسرة، قناع
الحياة، وقناع الموت(…).



ـ تكريس مفهوم معين
لـ"الكتابة الإبليسية" التي تنتصر لقيم التمرد على كل أشكال السلطة
المؤسسية: سلطة الأب/مؤسسة الأسرة/سلطة الآخر/مؤسسة المجتمع/سلطة (أو مؤسسة)
اللغة-مؤسسة العلاج (المستشفى)!



5 – موت وجنون:


5-1-إن كتاب الفقدان
تأكيد لانتساب هذا "الناثر الساحر" إلى شجرة أنساب موغلة في
"الاختلاف": (لوتريامون، ساد، باطاي، أرطو، سيوران..). وبهذا المعنى،
فهو شهادة في الألم البشري بين الولادة والموت. صرخة احتجاج في وجه تناقض الطبيعة
مع الثقافة بمفهوميهما الأنثروبولوجي. إدانة شاملة لأوليات الوجود البشري. مساءلة
جذرية للبديهيات التي تنبني عليها أبجدية الحياة. عود بالفرد من لبوسه الاجتماعي
إلى وضعه الوجودي، إلى سؤال الكينونة بما هي تورط قاس ومؤلم بين حدي الجسد والعقل،
الصحة والمرض، الفقدان والصحة.. إنه انتقال لدى أسليم من تفكير الحياة في
"حديث الجثة" بواسطة الموت إلى تفكير الموت والحياة في كتاب الفقدان
بواسطة الجنون.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

السرد والجنون: لعبة التمثلات القصوى في الفقدان لمحمد أسليم :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

السرد والجنون: لعبة التمثلات القصوى في الفقدان لمحمد أسليم

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: