-1-
يحتاج
المجتمع كي يتميّز عن غيره من المجتمعات، أو كي يبدو أرقى من المجتمعات
الأخرى أو أفضل منها، أو ببساطة كي يكتسب شخصية سياسية فريدة، إلى فكرة أو
صدمة غير معقولة تقوده وتقترح عليه أهدافاً أبعد بكثير من إمكاناته
الحقيقية، كذلك لا يتطور المجتمع أو يتجدد إلا إذا حمل همّاً أو قلقاً أكبر
من حجمه الحقيقي بكثير. هكذا نهضت ثورات الربيع العربي في حياة المجتمعات
العربية وهكذا انبثقت الرؤى والأحلام التي كانت المرجل الذي غذّى ومازال
يغذّي الثورات العربية الراهنة.
-2-
حين
لا نملك شيئاً لا يتبقى لنا سوى أن نثور، أن نحلم بامتلاك الكلّ، أن نطمح
بالانتقال من اللاشيء إلى كل شيء، وهنا تصبح اليوتوبيا ثدي الثورة، فمنها
تتغذى وبها تنمو وتتطور، وكل ثورة تتأسس على مستقبل عقيم لا أواصر له ولا
امشاج مع الحلم، هي ثورة باهتة ومبتورة ومفتقرة إلى الوهج والحياة.
عبر
هذا الفهم تشكّل يوتوبيا الثورة طريق الشعوب في استعادة حيويتها، فهي مهمة
جداً في ارتياد أقانيم المستقبل، لأنها تمثل المنهل الثرّ الذي لا يغيض
أبداً، وهي التي تدفع بوهج الثورة إلى الأمام، بل أكاد أجزم أن أعظم
الثورات التي قامت في التاريخ، هي تلك التي امتطى أصحابها أجنحة الحلم
والمستقبل، ليهيموا في فضاءات ليست تلك التي كانوا عليها لحظة الثورة، همهم
من ذلك أن يعيشوا الأشياء والأفكار التي لم يبق في ظل الدكتاتور إلا ظلها
وصداها.
ولا تقف الثورة عند هذا الحد من التدليل،
فهي تعمل من جهة أخرى، على انتزاع نوع من الاعتراف الحقيقي بالآخر، لاسيما
أنها تهدم بهديرها العارم دائرة الذات المغلقة حول ذاتها، وتدمر تلك
الهالات المصطنعة التي يخلعها الإنسان على نفسه ومن أجل نفسه، وهنا تبدو
الثورة بوصفها نوعاً من إرغام الذات على مغادرة عرش استعلائها والزجّ بها
في خضم الفعل الجماعي الذي تتكسر دونه كل المتعاليات والهالات المزيفة،
وكأني بالثورة تدفع بالناس إلى وثبة جماعية، فتضعهم في لمحة صوفية خارج
ذواتهم، وترغمهم على الوقوف جنباً إلى جنب وتقربهم أجساداً وأرواحاً؛ إنها
أشبه ما تكون بقيامة دنيوية يقف فيها الناس ويجتمعون على أعتاب عالم جديد
ومختلف.
-3-
عندما
يحين موعد ثورة ما، فإن كل شي يساهم في نجاحها حتى أعداؤها، لا الرصاص ولا
البوليس يستطيعان إيقاف تقدمها أو إرجاء نجاحها، إنها تريد فتستطيع…
لكنها
كلما أفلحت في ذلك ازداد خطر إصابتها بالإرهاق، وقد يؤدي انتصارها إلى
إفراغها من مضمونها الذي هو بالمحصلة مخزونها من الأحلام والطموحات، مما
يهدد في النهاية وعود الخلاص والنجاة التي كانت تحت تصرفها، فإذا هي تنحط
إلى مستوى الثرثرة والكلام الفارغ.
لذلك فبقاء
الثورة مشروط بالآليات التي يجب أن تنفق من خلالها هذه الثورة مدخراتها من
اليوتوبيا، فمادامت الثورة محافظة على جعبتها من الأحلام وربما الأوهام،
فإنها تظل قادرة على إغراء كل الأطياف الاجتماعية التي لم تجرّبها أو لم
تقتنع بعد بجدواها.
قد تتراجع الثورة هنا وتتقدم
هناك، إلا أنها بما تحمل من أحلام لا نظير لها لدى أي سيناريوهات أخرى، لن
تلبث أن تغطي كامل جغرافيتها التي وجدت فيها، هادمة كل الأوثان والمقدسات
المترنحة والمتهالكة، مقترحة على الناس وفي كل مكان مطلقاً جديداً جديراً
بموتهم من أجله.
-4-
تبدو
الثورة اليوم بحد ذاتها، الشيء الوحيد الذي يستحق المغامرة، هذا إن كنا
مؤمنين ولو بشيء بسيط من الوهم بمستقبل أفضل، لذلك فليس علينا سوى التماهي
معها والاندغام في لجتها و السباحة في تيارها، فما من فضاء سياسي جديد قادر
على إنقاذ ما تبقى من وجودنا إلاها، و لننتبه أيضاً أنه حتى الوقوف ضد
الثورة، يخفي إيماناً لا لبس فيه بمستقبلها نفسه، لذلك يبدو أننا بتنا
محكومين بالثورة.
ومن جهة أخرى فإذا كانت الثورة
وهماً مغلفاً بمجموعة من الأحلام، فهذا لا يكفي لنفيها أو الابتعاد عنها،
ما دامت تحدياً مرفوعاً في وجه الدكتاتور، لذلك يجب التعامل مع الثورة
بوصفها وهماً لا بدّ منه أو بمعنى آخر نوعاً من التفاؤل الإجباري، فالقدرة
على القيام بثورة تعني في مجمل ما تعنيه القدرة على إنتاج يوتوبيا وأيّ
مجتمع قادر على إنتاج يوتوبيا هو مجتمع حيّ.
لذلك
فهذا التردد والتأرجح الذي يسم أغلبنا، وإن بنسب متفاوتة، ليس عيباً فينا
أو في الثورة ذاتها، لاسيما أننا متفقون أن الضرائب التي سندفعها في حال
رحيل الدكتاتور هي أقل بكثير من تلك التي سندفعها في حال بقائه، لذلك فحتى
لو كنا نسعى إلى دمار مجتمعاتنا، على الرغم من يقيننا الكامل بأن المجتمع
الذي سينوب مكانه سيكون أكثر لبساً وإشكالاً، فإن ذاك- وأقصد الثورة- هي
آخر ما يستطيع شعب من الشعوب القيام به والتطلع إليه في مجتمع لم يبق لأحد
من أبنائه ما يكفي من الهوامش والمساحات ليكون إنساناً حقيقياً.
والواضح
أيضاً أن الثورة ليست جيدة أو سيئة في ذاتها، فكل شي يتوقف على لحظة
تطورها وتحولها إلى قدرة على الفعل والإبداع والتجديد، فالثورة التونسية
على سبيل المثال، كان لها فعل المنشّط الذي دفع المجتمع التونسي إلى الأمام
وساعد في المزيد من الانفتاح، لكن فعلها في اليمن كان أقل توفيقاً، لذلك
فليست الثورة فعلاً خاطئاً هنا وصائباً هناك بل هي معجّل للمسارات، ولا
تكتسب المجتمعات حيويتها بسببها بل من خلالها. أي من خلال المسالك
والمسارات التي يخط أبناء المجتمع ملامح وجودهم من خلالها وبها.
لنفكر في تأثيرات الثورة المصرية حتى الآن. لقد وجهت ضربة قاسية للنظام القديم وشلته و أجهزت على بعض اطيافه،
لكنها في المقابل كانت نعمة على الإخوان المسلمين الذين ظهرت أجنداتهم
ومكبوتاتهم السياسية بمجرد الاحتكاك بها، وأعني بذلك أن الثورة المصرية لم
تنجح في إحياء مجتمع ميت بقدر ما نجحت في أن تحيي الأحياء أصلاً، وفي ضوء
هذا لم تمنح الثورة على كبر حجمها أي وعود بالخلاص –على الأقل حتى الآن-
لمجتمعات لم تقرر الخلاص بعد، كما في الحالة اليمنية والسورية على سبيل
المثال، حتى ليبدو أن الثورة تبحث عن أحياء وناجين في هذه المجتمعات لتهبهم
وعودها الحقيقية بالخلاص.
-5-
إن
الإنسان المعاصر صغيراً كان أم كبيراً مستكين وهادئ في جوهره، وهو راضٍ
إلى أقصى الحدود بالوضع الاجتماعي المستقر الذي يتموضع فيه، وهذا ليس
بغريب، لاسيما أن الخروج عن الوعي السائد ليس أمراً متاحاً أو ممكناً في كل
الأوقات، ولكل الأشخاص، ولكن هذا الإنسان نفسه ما أن يُهدد في جوهر وجوده
أو يُحرم من أهم مزايا هذا الوجود وهي الحرية والكرامة، حتى يُرغم على يقظة
وعي هو في العادة عاجز عنها. إنه لا يستعيد كينونته إلا إذا أفلست أو قَبل
بإفلاسها بالمعنى الوجودي والرمزي، وهنا لا بديل عن الثورة.
إن
الثورة والحالة المتحققة هذه، تقوم بإرجاع الإنسان إلى عُريّه الأصلي، أي
إلى حيث يُعاد التساؤل عن جدوى وجوده ومعناه، فتعيد الثورة بذلك تحرير
الإنسان من الأوهام الزائفة التي رسمها حول نفسه؛ إنها تحرره وجودياً
وإنسانياً وتمنحه بعده الحقيقي وتعود به إلى مجموعة القيم التي خانها
أصلاً، ومع أن الثورة بهذا المعنى تتخذ صفة الكابوس الذي لا ينفك يرهق
صاحبه، إلا أنها تعد بأكثر مما تأخذ، مادام الكابوس بالمحصلة ليس سوى بداية
اليقظة الوجودية ذاتها.
تكشف الثورة عن جدواها
إذن انطلاقاً من كونها عامل دمار وتفكيك. وحتى لو بدت ضارة في البداية، فإن
لديها ما يُكفّر دائماً عن سيئاتها، كونها الوحيدة التي تعرف أي نوع من
الخوف يجب أن تستعمل لزعزعة عالم الدكتاتور، إنها تمنح بفوضاها المقدسة،
أملاً بالحياة للمحتضرين الذي هم على فراش النهاية، فضلاً عن أنها تبعث
الروح في الجثث الهامدة، بل إنه ليس من المبالغة القول: إنها تجعل من
اللاشيء كل شيء، بل ومن اللاوجود وجوداً حقيقياً وأصيلاً، فأولئك الذين لا
يملكون شيئاً، أصبحوا بفضل الثورة مُضائين بفقرهم ومُنارين بعوزهم، فلا
يتألمون لذلك، بل يتخذون منه مصدراً لفخرهم واعتزازهم.
باختصار
نحن لا نعرف اليوم إلى أين تجري الثورة، ولكننا نعرف بدقة أنها متلهفة إلى
حل مشاكل المجتمع بكل تناقضاته وملابساته، وهذا يعني أن موقعنا من
المستقبل رهن بما تقرره الثورة أو تقوم به، لذلك فأن نكبح الثورة أو نقف
ضدها يعني أن نطلب من الزمن التوقف، أو أن نسحب من الأحداث إمكانية الحدوث،
وأن نزعم لأنفسنا القدرة على إعفاء الشارع من الحلم و معه الفعل، لكن
الشارع استعد لتلك اللحظة، فلا هو أقل قدرة على المضي في الطريق ولا هو أقل
إيماناً بالمطلق، لذلك لن يغفر هذا الشارع أي شيء يقف في طريقه، حتى ولو
كان مجرد نظرة مشوبة بالاستهزاء.