مَنْ خلق مَنْ، الله خلقَ
الإنسانَ أم أنّ الإنسانَ هو مَن خلق آلهته؟ ومن يتحدّث عن من مثلاً في
حكايات ألف ليلة وليلة؟ هل هي شهرزاد من تروي الحكايات الألف والواحدة أم
أنّ هذه الحكايات هي التي تُقدّم لنا شهرزاد كقاصة لها؟ أليست شهرزاد
مُجرّد شخصية يضمّها كتاب ألف ليلة وليلة؟ أم هي خالقة الحكايات ومقدّمتها؟
هنا يُصبح المخلوق خالقاً والخالق مخلوقاً؟ كيف كنّا سنعرف الحكايا الألف
والواحدة لولا شهرزاد؟ ولو لم تكن شهرزاد هل كانت ستكون حكايات ألف ليلة
وليلة؟ والعكس: هل كانت شهرزاد لتكون لو لم تكن الألف ليلة وليلة؟ من خلق
الآخر؟ طبعاً يمكن أن يقول الشخص إنّه يمكن أن يكون هناك شخصية بديلة عن
شهرزاد يكتبها المؤلف (ليس لألف ليلة وليلة مؤلّف واحد) يمكن أن تقصّ لنا
الحكاية، ولكنّ ذلك لن يحلّ المُشكلة، فالشخصية البديلة ستكون هي المخلوق
الذي يخلقُ ما خلقه. ثم لنتصوّر أنّ هناك روائيا إنسانا يكتب عن شخصية
روائيّ مُفترض يخلقها بمخيلته وهذه الشخصية الروائية المتخيّلة مشغولة
بكتابة رواية تخلق هي شخصياتها. بمعنى آخر: تكون شخصية الروائي المُفترض
الثاني هنا مخلوقة من قبل ذهن الروائي المُفترض الأول الذي خلقه في الأصل
كاتب الرواية الذي اختار موضوع روايته الحديث عن روائي يكتب عن روائي داخل
روايته. ولكنّ سؤالاً مُباغتاً يقفز إلى الذهن فجأة: إذا كانت الشخصيات
الروائية التي كتب عنها الروائي الافتراضي الثاني هي مُجرّد كلمات في ذهن
الروائي الافتراضي الأول الذي هو ليس في النهاية سوى مجرّد كلمات مكتوبة
على الورق تفتق عنها ذهن الروائي الأصلي الذي يجلس خلف مكتبه ليكتب
الرواية. الآن ماذا لو لم يكن هذا الروائي "الأصلي" سوى مجرّد كلمات مكتوبة
ومرسوم مصيرها من قبل كاتبٍ مجهولٍ آخر. لا شكّ أنّ هذا قد يحيل هنا إلى
فكرة الله عند المؤمنين بما في ذلك فكرة "المكتوب" أي القدر وما هو مكتوب،
فإنه سيتحقق لا مهرب من ذلك (المكتوب على الجبين لازم تشوفو العين) أو فكرة
اللوح المحفوظ في الإسلام أو فكرة الكتاب الأصلي الذي حوى كل شيء ثم فُقد
كما يروي التراث الصوفي اليهوديّ.
حسناً لو قبلنا
بفكرة أن حياتنا والأحداث التي تدور معنا هي مُجرّد تخيلات لكاتب يتحكم
بمصيرنا وأننا لسنا سوى مجرّد كلمات يخلقها هو ويحدِّد بها حياتنا، فإن
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل حقّاً يُسيطر الكاتب أو الخالق هنا سيطرة
تامة على مصير شخصياته التي يخلقها بذهنه؟ أم أن هناك حياةً فعلية تتمتع
بها شخصيات الرواية تجعلها في استقلالٍ نسبيّ قد يصبح استقلالاً كاملاً عن
خالقها ومؤلفها؟ أي هل تجد الشخصيات هُنا هامشاً تتمرّد من خلاله على سُلطة
المؤلف لتخط مصيرها بنفسها؟
يُقدِّم لنا الأدب
أمثلة واضحة على تفلُّت الشخصيات من سُلطة المؤلف وفرض مساراتها الجديدة
عليه. إنها تخرج عن كونها مُجرّد كائنات افتراضية مُتخيَّلة في ذهن مؤلفها.
قد يرسم الروائي أو الخالق في ذهنه الخطوط العريضة لشخصياته ويتصور لها
بداية معينة ونهاية معينة، ولكن كثيراً ما تفلت الأمور من يده. يروي
غابرييل غارسيا ماركيز في أحد حواراته أنه لم يُرد أن يموت بطل روايته
"مائة عام من العزلة" أورليانو بوينديا، ولكنّ اطراد الأحداث أجبر ماركيز،
بل وفاجأه بموت بيوينديا. يروي بوينديا أنّ خيوط الشخصيات تفلتت من يده
وفجأةً وجد أنّ موت بوينديا صار حتميّا. ومع أنه حاول - وهو المؤلف - تفادي
هذه النتيجة إلا أنّ الشخصية في النهاية قد رسمت مصيرها بنفسها. يروي
ماركيز أنّه نزل إلى الطابق الأول حيث كانت زوجته مرسيدس والدموع تغسله
فعرفت هي للتوّ أن بوينديا قد مات فاحتضنته وهو يبكي بحرقة قائلاً أن الأمر
خرج من يده. ما هو هامش المخلوق ليتفلّت من قدرية الخالق ويخطّ طريقه
بنفسه؟ سؤال يظلّ فلسفيّاً بامتياز لأنه مفتوح على المفاجأة.