عندما سألت نيتشه عن الربيع
العربي حملق بي حملقة مرعبة أفزعتني فتراجعت الى الخلف خطوة أو خطوتين
مخافة أن يضربني. كان ذلك أثناء لقائي به في سويسرا حيث كان يتسلق الجبال
الشاهقة بحثا عن الهواء الطلق غير الملوّث بأنفاس البعض، وبالأخصّ رجال
الدين. ومعلوم أنه لا يستطيع أن يتفلسف بحرية إلا عندما يكون الأفق مفتوحا
أمامه والبشرية تحته لا لاهوت ولا كهنوت.. ولهذا السبب فإنّ جبال سويسرا
ومناظرها الخلابة تناسبه تماما. قال لي: أين هو الربيع العربي؟ هل ترى أنت
ربيعا في عودة كل هؤلاء المشائخ الى الساحة واحتلالهم للبرلمانات والوزارات
والفضائيات؟ هل راشد الغنوشي ربيع؟ أو محمد بديع؟ أو رئيس الاتحاد العالمي
لجماعات الاخوان المسلمين؟ هذا ناهيك عن الدكتور العرعور وما أدراك ما
العرعور وفصاحته التي لا تضاهى.. هل هذا هو مفهومكم للربيع يا عرب؟ والله
أنا وإياكم لسنا على نفس الكوكب..
قاطعته فورا: دكتور نيتشه أرجوك! لا تهاجم شيوخنا الأجلاء وعلماءنا الأفاضل. هذا خط أحمر!
لم يعبأ بكلامي رغم دفاعي المستميت، هو الذي فكّك المسيحية من أوّلها
الى آخرها حتى وصل الى يسوع المسيح تقريبا. ومعلوم أنه فتك بالقديس بولس
فتكا ذريعا وشرّحه تشريحا..فما بالك بمشائخنا؟ ويا ويل لمن يقع في براثن
نيتشه! حتى سقراط وتلميذه أفلاطون مسح بهما الارض مسحا. حتى كانط جعله
أضحوكة للعالم كله، وأمضى حياته وهو "يتسلَّى" به..من سلم من لسانه السليط
ما عدا فولتير وغوته وبعض الآخرين؟
وفجأة غيّر قليلا من لهجته أو وجهته
وأضاف: هل تعتقد بأنّ شخصا مشغولا بالقضايا الفلسفية الكبرى من أمثالي
يمكن أن يهتمّ "بالحوادث المتفرّقة" كالربيع العربي وسواه؟ هذه الأشياء
ليست إلا زوبعة في فنجان أو فقاعات تطفو على السطح. يلزمني زلزال يهزّ
الكون كالثورة الفرنسية لكي يدخل في دائرة اهتماماتي الفلسفية.
مرة أخرى قاطعته صارخا: دكتور نيتشه أرجوك! أرجوك ثمّ أرجوك! الربيع
العربيّ هزّ العالم كلّه وزلزل عروش الطغاة وحكم المخابرات والمافيات
والعائلات، وأنت تقول لي بأنه زوبعة في فنجان؟ لقد أرعب الحكام العرب لأوّل
مرّة في التاريخ وأشاع في الجوّ مناخا محبّبا من الحرية والحماسة
والانعتاق. لقد كان صرخة احتجاج رائعة صادرة من الأعماق. لقد أثبت أنّ فكرة
التغيير والخروج من المستنقع الديكتاتوري الآسن ممكنة. ولم يبخل علينا
بالضحايا والشهداء وأطفال في عمر الزهور..ألم تسمع قول شاعرنا الكبير:
وللحرية الحمراء باب بكلّ يد مضرّجة يدقّ؟ بصراحة إنّي لا أفهم موقفك بل
وأستنكره كل الاستنكار. عندما سألت هيغل قال لي شيئا آخر..
فأجاب: ومن هو هيغل هذا؟ أنت تعلم أنّي لا أعترف به وأن صديقي الفكري أو
بالأحرى أبي الروحي هو شوبنهاور، عدوّه اللدود في جامعة برلين. هل تعتقد
بأنّه سيضحك عليّ بقانونه الجدلي الذي يبرر المجازر والكوارث البشرية بحجّة
أنّ العامل السلبيّ ضروريّ لكي تتقدّم عجلة التاريخ الى الأمام؟ إنّه يهضم
كل شيء صديقك هيغل هذا. إنّه بالوعة! لماذا لا نبرّر الطائفية والعنصرية
والذبح على الهوية أيضا بحجّة أنّ كلّ ما هو واقعي عقلاني؟ لماذا لا نبرّر
اغتصاب النساء وذبح الأطفال وبقر بطون الحوامل؟ لا،لا.أرجوك. حلّ عني أنت
وأستاذك هيغل الذي بهرك أكثر مما ينبغي. أعرف أنك واقع تحت تأثيره
المغناطيسي. وهو ابن حرام له جاذبية لا تقاوم. ولكني قضيت عليه بالضربة
القاضية عندما أسست فلسفة معاكسة تماما لفلسفته أو قل خارجة عن نطاق تأثيره
الطغياني الذي عمّ كل ألمانيا ولم ينج منه إلا مثقف واحد هو: محسوبك. أنا
أكبر عبقرية فلسفية – وشعرية!- في تاريخ ألمانيا. فلماذا تريدني أن أخضع
له؟
قلت له: مفهوم دكتور. أنت أعظم شخص على وجه الأرض. ولكننا بحاجة
إلى من يشرح لنا ما يحصل حاليا. سمعتك مؤخرا تقول بأن الفيلسوف هو طبيب
حضارات. بمعنى أنه هو وحده القادر على تشخيص أمراض الأمة ووصف العلاج
المناسب لها. فما هو مرضنا نحن العرب يا ترى؟ لقد حار بنا الأطباء بعد أن
عرضنا أنفسنا على كل دكاترة العالم شرقا وغربا دون أي
نتيجة. لقد أصبحنا مهزلة في نهاية المطاف أو أضحوكة للقاصي والداني. لا
أحد يعرف ما هو سرّ الداء العضال الذي أصابنا على غفلة من الزمن. فهل يمكن
أن تهتم بنا أيضا مثلما اهتممت بالألمان والفرنسيين والأوروبيين بشكل عامّ؟
هل نستحقّ أن تلقي علينا نظرة خاطفة؟ هل يمكن أن نحظى منك بخمس دقائق فقط؟
قال لي: بصريح العبارة أنتم العرب لا تستحقون أن تدخلوا في دائرة
اهتماماتي حتى الآن. ولا أعرف ماذا أفعل بكم. أنا لا أستطيع أن أضيع وقتي
في حالات سريرية ميئوس منها. الناس يتقدّمون الى الأمام وأنتم ترجعون الى
الخلف. سوف أترككم تتفككون وتنهارون حتى تشبعوا تفككا وانهيارا. سوف أترككم
تذبحون بعضكم البعض الى ما شاء الله. لا يوجد حلّ آخر. ربما بعد أربعين أو
خمسين سنة سوف أهتم بكم. أما الآن؟ أنتم العرب لم تصلوا بعد الى نقطة
الصفر، إلى أسفل القعر، فكيف يمكن
أن ألقي عليكم نظرة؟ أنتم مستسلمون ليقينياتكم التراثية المطلقة،
وعصبياتكم الطائفية المغلقة. وأنا لا أستطيع أن أتناقش مع أناس جامدين من
هذا النوع، أناس يدورون في حلقة مفرغة منذ ألف سنة تقريبا. منذ ظهور نص
الاعتقاد القادري الذي أباح دم المعتزلة عام 1017 وأنتم
غارقون في مستنقع الجهل، أعداءً للعلم والفكر. بحياتكم كلها لن تشمّوا
رائحة الديمقراطية ما لم تعتذروا عن هذا النص وآلاف النصوص الارهابية
الأخرى التي تلته وكفّرت الفلسفة والمنطق والعقل. هل تعلم بأن منظمة
"القاعدة" ناتجة عنه مباشرة؟ لقد زرع بذرة الاستبداد اللاهوتي - السياسي في
تاريخكم على مدار ألف سنة متواصلة. ومنذ ذلك الوقت وأنتم سجناء داخله لا
تستطيعون منه فكاكا. فمن لا يعترف بالتعددية الدينية كيف يمكنه
أن يعترف بالتعددية السياسية؟ من يحتقر الأديان الأخرى ويكفر معتنقيها
علنا جهارا، ليلا نهارا، ويبيح دماءهم شرعا، هل يمكن أن يشكل حضارة
إنسانية؟ قل لي بالله عليك: كيف يمكن
أن تصبحوا ديمقراطيين؟على من تضحكون؟ كل ديمقراطية وحرية ونزعة انسانية
منكم براء! عندما تؤلفون كتابا واحدا ضدّ القرون الوسطى الحنبلية كما فعل
سبينوزا أو فولتير أو أنا مثلا فسوف أهتم بكم. عندما تنتفضون على معبوداتكم
ومقدساتكم وتحطمون أصنامكم - أقصد مشائخكم - وليس فقط طغاتكم وزعماءكم
فسوف أهتم بكم. عندئذ سوف يحصل ربيع عربي، سوف تزهر الحقول… أما قبل ذلك
فلا. متى سيظهر فيكم مفكر بركاني مثل نيتشه؟ أنا لست إنسانا، أنا
الديناميت!
ثم أضاف لا فض فوه:
أنتم أكثر الشعوب كسلا في التاريخ وأكثرها تكرارا واجترارا،
والأنكى من ذلك أكثرها انتفاخا! ولا أعرف لماذا تنتفخون وتتعجرفون يا عرب؟
ماذا قدمتم للبشرية منذ ألف سنة حتى تتعجرفوا؟ فبعد انهيار حضارتكم
الكلاسيكية وعصركم الذهبي لا طبّ ولا صيدلة ولا هندسة ولا اكتشافات علمية
ولا نظريات فلسفية..لا شيء، لا شيء..أنتم فعلا لاشيء. لقد كفّر فقهاؤكم
الفلسفة والفلاسفة حتى لم تقم لهم قائمة على مدار التاريخ. هل يعقل أن تعيش
أمة بأسرها مدة ألف سنة بدون فلسفة؟
أين نحن؟ حتى الآن في معظم بلدانكم وجامعاتكم لا توجد أقسام للفلسفة ولا
لتاريخ الأديان المقارنة. حتى الآن لا تدرّسون دينا آخر غير دينكم رافضين
مقارنته بالأديان الأخرى، ولا تنفتحون على أحد، ولا على شيء. إنكم تدورون
على أنفسكم في حلقة مفرغة..عيب عليكم. عار عليكم. والله اني لأخجل بكم أمام
الأمم ولا أعرف كيف أدافع
عنكم. لقد أصبحتم عالة على البشرية. لقد عطلتم المنطق والعقل بل وحتى
تجرأتم على انكار قانون السببية الذي يمسك الكون أيام كبيركم الغزالي.
فماذا بقي لكم؟ ثم كرستم الجهل المقدس والأساطير اللاهوتية كثوابت راسخة لا
تناقش ولا تمس.وكلما فتح أحدكم فمه لكي يتنفس صرختم قائلين: حذار! ثوابت
الأمة، مقدسات، خطوط حمر، ألغام، لا تقترب! ثم سيَّجتم أنفسكم بالأسلاك
الشائكة، ورحتم تكررون نفس المقولات الصدئة على مدار القرون كالببغاوات. بل
ورحتم تستمتعون بذلك وتفتخرون على العالم وكأنكم اكتشفتم كنه الأشياء أو
مجرات الفضاء. فماذا أستطيع أن أفعل بكم؟ قل لي بالله عليك: ماذا أستطيع؟
صحيح أن مفكري عصر النهضة والعصر الليبرالي العربي حاولوا تصحيح ذلك،
ومحاولاتهم تشكر. ولكن العقبة اللاهوتية الكأداء كانت أكبر منهم بكثير
فأجهضت النهضة وتراجع المتراجعون. من يستطيع أن يناضل ضد ألف سنة من
الانحطاط والجمود الفكري؟ من يستطيع أن يوقظ أمة بأسرها نامت على التاريخ؟
وعلى صخرة يقينياتكم اللاهوتية المعصومة تكسرت كل المحاولات. اسمع كلماتي
جيدا أيها الجاهل المغرور: الربيع العربي لن يحصل إلا عندما يتم تكنيس كل
ذلك..أعطيك موعدا بعد عشرين أو ثلاثين سنة فقط.
قلت له: أنت متفائل أكثر من اللزوم دكتور نيتشه..
فرد بسرعة: لا تقاطعني أيها الأحمق! لا، لست متفائلا. أنا لا ألقي
الكلام على عواهنه. أنتم محاصرون بالحداثة العالمية من كل الجهات. وعاجلا
أو آجلا سوف تستيقظون غصبا عن أبيكم وسوف تبتدئون بطرح التساؤلات على
أنفسكم. أنت تعلم أني حطمت كل اليقينيات الدوغمائية المقدسة الراسخة في
الغرب منذ ألفي سنة في كتابي "غسق الأصنام والمعبودات"، وفي كتبي الأخرى
أيضا. لقد حطمت كل الأوهام الميتافيزيقية الغربية من الافلاطونية الى
المسيحية بل وكل المثاليات السماوية أو المعتبرة كذلك. كل هذا عادي جدا
وبشري، بل وبشري أكثر من اللزوم. كيف تجرأت على المقدسات المسيحية؟ كيف حطمت
عقلية الكهنة والأفكار اللاهوتية المعبودة منذ ألفي سنة؟ كل ما كان البشر
يعتبرونه الهيا سماويا عرّيته على حقيقته، كشفت عن بشريته وأرضيته. أنا
أكبر زلزال في تاريخ الفكر.هل قرأت كتابي المهدى الى فولتير زعيم التنوير
الأوروبي؟ لماذا لم يظهر عندكم فولتير واحد حتى الآن؟ أنت تعلم أني لا
أتفلسف إلا والمطرقة في يدي لكي أحطم الأصنام والمعبودات: أي كل العقائد
الطائفية المقدسة التي تجعل الناس يذبحون بعضهم بعضا على الهوية.أنا أكبر
قطيعة في تاريخ الفكر البشري: ما قبلي وما بعدي. وأخشى أن أقضي عليكم اذا
ما فعلت معكم نفس الشيء. بصراحة أنتم غير قادرين على تحمل وقع ضربات
المطرقة الفلسفية النيتشوية. أخشى أن يؤدي تفكيك يقينياتكم الشعبوية
الجبارة ومقدساتكم الطائفية المهترئة التي يبثها شيوخ الفضائيات على مدار
الساعة الى فقدانكم للتوازن النفسي وانهياركم العقلي بكل بساطة.
بصراحة أنتم لا تستحقون أن تكونوا في الصف الأول الابتدائي. ولا أعتقد أني سأقبل بكم كتلاميذ صغار في المدرسة الفلسفية الألمانية..
عندئذ خفت أكثر وارتعبت. وعندما رأى ملامح الهلع ترتسم على وجهي أشفق
علي وقال لي هذه الكلمات التي لن أنساها: أعلم أنكم، أيها العرب، بحاجة لأن
تلتصقوا بذاتكم التراثية كل الالتصاق قبل أن تنفصلوا عنها لاحقا. (وهذا هو
معنى الربيع العربي حاليا. إنّه ربيع معكوس ظاهريا فقط. ولكنه قد يشكل
بفعل الانعكاس الديالكتيكي واحتكاك المتضادات قفزة هائلة الى الأمام.
انتظروا: وراء الأكمة ما وراءها..وراءها سقوط الاستبداد والحزب الواحد وحكم
التعسف والاعتباط. وبالتالي فلن تذهب تضحيات المتظاهرين السلميين ودماؤهم
الطاهرة سدى.). ثم استطرد قائلا:
إنكم تدركون بشكل غامض أنكم
ستفارقون هذه الذات التراثية المتكلسة، المتحنطة، المتحجرة يوما ما، تدركون
أن لحظة القطيعة معها قادمة لا محالة. ولكن هذه القطيعة أصعب عليكم من
مفارقة روحكم، بل وتكاد تتقطع لها نياط قلوبكم.. سوف تبكون عليها دما
ودموعا، أعرف ذلك. هل تعتقد بأن انهيار الأصولية المسيحية في الغرب كان
سهلا علينا؟ من الذي أعطانا الإسفنجة لكي نمسح الأفق كله؟! هل تعتقد بأن
أكبر انقلاب على إله القرون الوسطى (حيث أنزلناه من عليائه ووضعناه تحت
الاقامة الجبرية بل وأحلناه على التقاعد نهائيا) كان عملية بسيطة؟ مائتا
سنة حتى بلعنا القصة، وبالكاد! وقيل بأنه توفي في غرفة العناية الفائقة دون أي مقاومة تذكر من كثرة الهرم والشيخوخة. فقد كان بلغ من العمر عتيّا!…
والآن أتساءل: كيف يمكن أن تنفصلوا عن ذاتكم التراثية وهي أقرب اليكم من حبل الوريد؟ كيف يمكن
أن تفارقوها وقد عشتم معها أو عليها منذ مئات السنين؟ أنتم العرب كدودة
القز التي لم تخرج من الشرنقة بعد. بل وتخاف إذا ما خرجت أن تموت بدلا من
أن تتحول الى فراشة وتطير! ولذلك فلا تتجرّؤون حتى الآن على إحداث القطيعة
مع العصور الوسطى الإسلامية مثلما فعلنا نحن مع العصور الوسطى المسيحية.
كلما أوشكتم على ذلك أصبتم بالهلع فتراجعتم الى الخلف فورا: مستغفرين،
نادمين، تائبين. نعم إنّي خائف عليكم، على توازنكم النفسي..ها قد مرّ ألف
وخمسمائة سنة دون أن
يظهر مقدّس آخر جديد! من يستطيع أن يقطع حبل السرّة مع اللاهوت؟ من يستطيع
أن ينتصر على نفسه، أن يستقل عن آبائه وأجداده؟ من يستطيع أن يؤسس مقدسا
جديدا: مقدس الحداثة والعلمانية؟ آه أيتها الحقيقة يا أكبر كذبة في
التاريخ! لا أستطيع أن أقول أكثر مما قلت يا عرب ولا أن أفصح أكثر مما
أفصحت. يا لغبائكم التاريخي المتراكم! يا ويلي معكم! لم يستعص عليّ أحد في
العالم إلاكم. حتى الجامعة العربية أصبحت مدعاة للشفقة والرثاء بعد أن
انهارت كل السقوف والجدران ولم يبق منها إلا حائط أو حائطان يتداعيان ..
وأعتقد أن أفضل خدمة يمكن أن أقدمها لكم هي إطلاق رصاصة الرحمة عليكم، لكي
ينهار ما تبقى. ينبغي أن تعرفوا قيمتكم الحقيقية على مسرح العالم المعاصر:
ليس الأعاريب عند الله من أحد…
لقد انكشف ضعفكم وهوانكم أمام العالم كله عندما وصلتم الى مرحلة التهالك
على أبواب الآخرين لكي يحلوا لكم مشكلتكم. بل ووصلتم الى مرحلة التهافت أو
حتى تهافت التهافت كما يقول فيلسوفكم الكبير ابن رشد. والله إنّي لأشعر
بالخجل عندما أراكم.
ولكن هذه مرحلة إجبارية لا بدّ منها. سوف تموتون
ألف موتة قبل أن تهضموا القطيعة الابيستمولوجية مع ذاتكم التراثية وتقطعوا
حبل السرة مع اللاهوت المقدس. ينبغي أن تعودوا الى الوراء لكي تقفزوا الى
الأمام (هذا هو أيضا معنى الربيع العربي. إنّه ليس انتكاسة الى الوراء إلا
ظاهريا فقط. ضع هذا في ذهنك أيها التقدمي السطحي. قلت لك وراء الأشياء ما
وراءها. فدماء الذين سقطوا على مذبح الاستبداد سوف تبرعم قريبا). أنتم
ضحايا أنفسكم بالدرجة الأولى. وأنا لا أستطيع أن أفعل لكم شيئا سوى أن
أتمنّى لكم المزيد من التدهور حتى تصلوا الى أسفل القعر. ثم أضاف مطمئنا:
لا يمكن أن تنفصلوا عن التراكمات التراثية، عن الاستلابات الماضوية، إلا
بعد أن تشبعوا التصاقا بها. تداويت منها بها. ينبغي أن تصلوا الى مرحلة
الاشباع التراثي الكامل. ينبغي أن يشبع التراث من التراث. دعوا المشائخ
يصولون ويجولون على شاشات الفضائيات حتى يعمّ الظلام كليا وتختنقوا برائحة
اللاهوت والكهنوت. لا يوجد حلّ آخر. بعدئذ يمكن أن ينقلب التراث على ذاته
ويفقد مصداقيته ويحيّد نفسه بنفسه وتتنفسون الصعداء لأول مرة في تاريخكم.
بعدئذ يمكن أن ينبثق ردّ فعل معاكس في أعماقكم وتبتدئ مرحلة الصعود من أسفل
القعر، أو أسفل البئر، لا فرق. أما قبل ذلك فلا. هذا قانون تاريخي.
قلت له: ولكن هذا ما قاله لي هيغل حرفيا..
فأجابني: أعلم ذلك. هيغل ليس مخطئا من هذه الناحية. ولكني هاجمته لأن
شخصيته كانت طاغية أكثر من اللزوم. وعندما ظهرت أنا في ألمانيا كان أمامي
حلان: إمّا أن أخضع لتأثيره المغناطيسي وأصبح أحد تلامذته كبقية مثقفي
ألمانيا، وإمّا أن أنحرف عنه كليا لكي أرى ما لم يره وأشكل فلسفة جديدة لا
علاقة لها به. وقد اخترت الحلّ الثاني. ولم يغفروا لي فعلتي تلك حتى الآن.
ولذا فإنّهم يتهمونني بأني شخص "لا عقلاني"، بأني خرجت على العقلانية
الكانطية – الهيغلية المقدسة والمعصومة. بل ووصل الأمر بهم الى حد اتهامي
بتدمير العقل كليا كما فعل ذلك الأصولي الماركسي المتزمت جورج لوكاتش. هل
قرأت كتابه: نيتشه وتحطيم العقل؟ إنه مترجم الى لغتكم العربية على ما
أعتقد. وهو تلميذ لذلك الغبي كارل ماركس الذي تنبّأ بالثورة البروليتارية
العالمية وتدمير الرأسمالية في حين أن العكس هو الذي حصل تماما. فطبقة
البروليتاريا تبرجزت وأصبحت تمتلك السيارة والثلاجة والغسالة ولم تعد بحاجة
الى ثورة ولا من يحزنون. لقد انتصرت الرأسمالية على ماركس وفندت معظم
نبوءاته. والرأسمالية لا أحد يستطيع أن ينتصر عليها. ولكنها قد تدمر نفسها
بنفسها في حركة انتحارية جنونية اذا لم تنتبه الى أخطائها الفاحشة وجشعها
القاتل وانعدام كل المبادئ الأخلاقية والإنسانية من مشروعها. العالم على
حافة الخطر. وقد أعذر من أنذر.
في نهاية المطاف لا أعرف لماذا دفعني خبثي أو بالأحرى تهوري الى طرح
السؤال التالي عليه. قلت له بعد طول تلعثم وتردد: دكتور نيتشه: هل تسمح بأن
أطرح عليك سؤالا شخصيا لا علاقة له بالموضوع؟ فأجاب: قل ما تشاء ولكن على
عجل، لا أستطيع أن أضيع وقتي معك أكثر مما فعلت. قلت له: لماذا هجوت تلك
العبقرية الحسناء "لو أندريا سالومي" بشكل مقذع بعد أن كنت مولها بها؟ هل
حرقت قلبك الى مثل هذا الحد؟ ما ان لفظت هذه الكلمات حتى اكفهر وجهه وامتقع
وراح يتلمس عصاه. وعندئذ تملكني الرعب فقفزت من أعلى جبال الألب الى أسفل
الوديان السحيقة مخاطرا بأن تنكسر رجلي على أن يخبطني خبطة عشوائية تقضي
عليّ قضاء مبرما.