مبارك السادس
عبد الحليم قنديل
3/8/2010
كانت النبوءة ساخرة مريرة، لكن المدهش أنها تتحقق
الآن بالحرف، بعد عشر سنوات، وعلى مسافة أربعة آلاف يوم من حافة النطق
الأول.
كنت وقتها مديرا لتحرير جريدة 'العربي' القاهرية زمن رئاسة
تحرير الراحل عبد الله إمام، كنا في أواخر 1999، وكان مبارك يسعى لاختطاف
رئاسته الرابعة، ولم تكن المعارضة لمبارك كما هي عليه الآن، وإن بدت علامات
الزهق ظاهرة من بقائه الطويل المزمن في كرسي الرئاسة، وقتها أعددت ندوة
'مائدة مستديرة' نشرت في جريدة 'العربي'، كان العنوان : الرئاسة. . تجديد
أم تأبيد ؟، والمشاركون ـ غيري ـ أربعـــة كبار من تيارات مصـــر الإسلامية
والناصرية واليسارية والليبرالية، ضياء الدين داود ممثلا للناصريين،
وطـــارق البشري ممــــثلا للإسلاميـــين، والراحل عبد العظيم أنيس ممثلا
لليساريين، ثم الراحل سعـــيد النجار ممثلا لليبراليين، والأخير كان صاحب
النبوءة المفزعة، كان الرجــل من أساتذة الاقتصاد الليبراليين الكبار،
وكانت كلماته رائقة واثقة متمهلة كأنه يتلقى وحيا سماويا، وألقى بقنبلته
كأنه يخوفنا من عذاب النار، قال النجار : أنه لاحظ شيئا طريفا يلفت نظره
كرجل اقتصاد، فكل خطط الدولة الاقتصادية تنتهي في عام 2017، وهو شيء بالغ
الغرابة، فالخطط تعد وتوضع في العادة، وبحيث تنتهي الى رقم مقفول، خمسي أو
عشري، كأن توضع إلى عام 2010 مثلا، أو إلى عام 2020، أو حتى الى عام 2015،
لكن توقيت الخطط بحيث تنتهي في عام 2017 يلفت النــــظر، ويـــبدو غريبا من
زاوية الاقتصاد، وإن بدا لافتا من زاوية السياسة، وداعيـــا للتفكر في
حكمته، ففي عام 2017 تكون فترة الرئاسة السادسة لمبارك قد انتهت، والمعنى ـ
النبوءة الذي ألقى به سعيد النجار في وجوهنا المترقبة، هو أن مبارك ينوي
البقاء في الرئاسة إلى هذا التاريخ.
رحل سعيد النجار ـ بعد النبوءة ـ
إلى رحاب ربه، وترك لنا بؤس العيش مع حكم حسني مبارك، كان النجار ليبراليا
أصوليا، ترك عمله الذي استمر لمدة طويلة في البنك الدولي، وعاد إلى مصر مع
إطراد التحول إلى الخصخصة، كان ظنه أن تحولا اقتصاديا ملائما من وجهة نظره
يجري في مصر، وبدا لفترة مشايعا لمعاهدة السلام مع إسرائيل ومضاعفاتها، ثم
كان 'انقلابه الوطني' على ما يجري كله، فقد أدرك أن ما يجري لا علاقة له
بقواعد الاقتصاد حرا كان أو اشتراكيا، وأن 'النهب العام' هو العنوان الأدق،
وحمل جمال مبارك الذي التقاه في ندوة اقتصادية رسالة لأبيه الرئيس، قال له
: قل لأبيك أنكم تحكمون بلدا لاتعرفون قيمته، بعدها صمت الرجل، ولملم
أوراق عمره، ومات وفي قلبه غصة، لكن حسني مبارك لم يمت إلى الآن، بل ويستعد
لاغتصاب الرئاسة السادسة في 7 ايلول/سبتمبر 2011.
وربما نحتاج إلى
استعادة أجواء جابرييل غارثيا ماركيز، وإلى الخيالات الكابوسية لروايته
الشهيرة 'خريف البطريرك'، وهي تحكي عن ديكتاتور لاتيني لا يموت في مواعيد
البشر، ويولد مجددا في مواعيد النعي الدوري، يدهس بحضوره المراوغ أجيالا
وراء أجيال، وحين تجيء النهاية لايصدقها أحد، وربما نحتاج إلى واقعية
ماركيز السحرية كي نحتمل ما يجري في مصر، فالرئيس مبارك ـ أطال الله عمره ـ
قصف أعمارنا، وسيكون في الثالثة والثمانين عند خط بداية الرئاسة السادسة،
وربما يكملها نكاية فينا، وفي أولادنا وأحفادنا، ويكون وقتها في التاسعة
والثمانين، اللهم إلا إذا كانت لله إرادة أخرى، وعجلت بمواعيد الختام على
غير توقع من الكاتبين والقارئين.
والأنكى أن بعض من ينسبون أنفسهم
زورا لمعنى المعارضة المصرية، ويقومون بأدوار محسوبة كمفرغات صواعق، يقولون
لك : لامانع من فترة رئاسة سادسة للرئيس مبارك، وعلى أن يتعهد بإطلاق
الحريات العامة، وكفالة نزاهة الانتخابات لمن سيأتي من بعده، وهو شيء أشبه
بعشم إبليس في الجنة، فليس الذي صنع المأساة هو الذي ينهيها، والحدأة لا
ترمي الكتاكيت، فهؤلاء يتغاضون عن الوضع الذي انتهى إليه نظام مبارك، وهو
وضع 'التخشب الرمى' بلغة الأطباء الشرعيين، فالميت الذي يموت قابضا يده،
يستحيل على أي قوة في الأرض أن تفك قبضته، ويبعث على هذه الهيئة، تماما
كنظام مبارك الذي انتهى إلى قبض اليد، وإلى موت سياسي قبل الموت المؤجل
إعلانه، فقد كف نظام مبارك من زمن عن أن يكون له معنى السلطة، فالسلطة ـ
بأي معنى سياسي أو أسري ـ تطلب الإذعان مقابل الإشباع، وقد آلت سلطة مبارك
إلى تداعي تاريخي، ولم تعد لها مقدرة الإشباع بأي معنى، لا معنى سياسي ولا
اقتصادي ولا اجتماعي ولا وطني، لم يعد لديها ما تدفعه، وانتهى حسابها في
بنك التاريخ إلى صفر كبير، ومع انعدام القدرة على أي إشباع، أو على تجديد
قواعد اجتماعية أو سياسية، مع الوصول لقاع العدم، تطلب الإذعان المجاني،
وهو ما يفسر الهيئة التي انتهت إليها، وظهورها بمظهر الرأس العائلية
المعلقة على خازوق أمني متضخم ومتورم، وهي الهيئة التي تبدو عليها الآن،
وتبعث عليها يوم الحساب، فقبضة يد الميت لاتنفك، ولا حل سوى بقطع اليد
نفسها، فهي لا تملك أن تحرك إصبعا، ولا أن تجري تعديلا في الدستور على
النحو الذي تروج له نخبة 'مفرغي الصواعق'، ولسبب بسيط، وهو أنها أجرت آخر
تعديل قبل قبض يدها الأخير، وانتهت إلى تقنين 'الديكتاتورية العائلية' في
الدستور، وتحويل الرئاسة إلى شراكة عائلية مغلقة، وبحكم الأمر الواقع قبل
نص الدستور، فالحكم للأب والابن والأم، وعلى أن يظل اسم مبارك الأب على
واجهة المحل مادام حيا، وهو ما يفسر أشياء بينها مصير النجل جمال مبارك،
فهو شريك ـ من زمن ـ في رئاسة فعلية، لكن الأب لايسمح له بأن يكون عنوانا
للرئاسة الرسمية، ويستبقي العنوان لاسمه، فالبطريرك في خريفه لا يثق بأحد،
وحتى لو كان ابنه، ولا يضمن ألا تنقلب دورة النجوم، وألا تنزلق قدمه من قبة
العرش إلى زنزانة السجن، فمبارك يعرف - بالغرائز ـ أعظم الخطايا فيما جرى،
وهي جريمة سرقة بلد وتجريف ثرواته وأرضه ومصانعه، ويعرف أن نظامه لا يستحق
أن يحكم بل أن يحاكم، ويسعى بالغرائز لتجنب أسوأ المصائر، يسعى لكسب ثقة
الراعي الأمريكي الإسرائيلي، وتجديد أوراق اعتماده كخادم أمين، والتحصن في
بروج مشيدة تحرسها قوة أمن داخلي تقترب من حاجز المليوني عسكري، والبقاء
على كرسي الفرعون حتى آخر نفس، فهو يريد أن يبقى في القصر حتى ينتقل إلى
القبر فلا يسائله أحد في الحياة الدنيا، وقد روى الإعلامي المصري عماد
الدين أديب قصة ذات مغزى ظاهر، الرجل مقرب جدا من العائلة، وتحدث قبل شهور
عن ضمانات الخروج الآمن، وقال : أن مبارك فكر في ترك الرئاسة عام 2005،
لكنه ـ بحسب رواية أديب ـ تراجع، وكان السبب تصريح للمتحدث باسم كفاية، وهو
كاتب هذه السطور، والذي هدد وقتها بمحاكمة مبارك بعد خلعه.
ولا علاقة
لتصميم مبارك على البقاء بحادثة أو ظاهرة البرادعي، فقد أطاح مبارك الأب
بطموح ابنه الرئاسي قبلها بزمن، ودعمته جمـــاعة الأمن في الجيـــش
والمخابرات وقوات وزارة الداخلية، والتي تعاند نفوذ جماعة 'البيزنس'
الملتفة من حول الابن، وتخــــوض ـ من وراء ستار ـ معركة مماليك الاب ضد
مماليك الابن، وتروج لدعوى 'الاستمرار سبيل الاستقرار'، وتتخوف من انفجار
سياسي واجتماعي لو جرى تولية الرئاسة رسميا للابن، وقد تصاعد النزال منذ
أواسط العام 2009، وعاد مبارك من زيارة واشنطن في اب/أغسطس 2009، وقد حزم
أمره، كثف زياراته لوحدات الجـــيش، وقلص من ظهور ابنه جمال مبارك في وسائل
الاعلام، وبدأ يروج لشخصه مجددا، وتحدث عن برنامجه الانتخابي، ويتنقل
بشبابه المستعاد من مدينة إلى مدينة، ويكرر المشاهد الهزلية ذاتها التي
سبقت اغتـــصابه الخامـــس للرئاسة في 7 ايلول/سبتمبر 2005، وقتها خلع رباط
عنقه، وأعدوا له ' لقاءات الاخصاص ' مع عينات منتقاة من المواطنين، وشرب
معها الشاي الذي تعده له أجهـــزة الامـــن، تمــــاما كما تعد له
'الكومبارس' الذي ينافسه في فيلم كارتون انتـــخابي، وتحجز له مقعد الفوز
الذي ينتظــــره مبارك السادس بعد مبارك الخامس.
وربما لم يبق غير
قراءة الفاتحة علينا وعليكم، إلا إذا كان للأقدار رأي آخر