يسجّل
للشعب التونسي أنّه هو من امتلك الشجاعة ضد نظام الديكتاتور زين العابدين
بن علي ( 23 عاما في السلطة فقط )، وأطلق الشرارة الأولى لثورة الشعوب
العربية الحالية ضد الطغيان والاستبداد والفساد التي أعطيت صفة ( الربيع
العربي )،
مع أهمية الاعتراف بدور الجيش التونسي في إطلاق هذا الربيع
الذي بدأ من تونس، لأنّ رئاسة أركان الجيش التونسي لو سمعت ونفّذت أوامر
الهارب زين العابدين بالتصدي للمتظاهرين وقمعهم بقوة السلاح والمدرعات كما
يحصل في سوريا واليمن، لوجدنا أنّ تونس تعيش منذ يناير الماضي نفس الوضعين
السوري واليمني الآن، حيث الجيش الذي ما يزال غالبيته مواليا للطاغية يتصدى
للمتظاهرين المدنيين بكل أنواع السلاح والقتل، ونفس الموقف يسجّل بنسبة من
النسب للجيش المصري إزاء ثورة الغضب المصرية ضد نظام حسني مبارك. وبعد
شهور قليلة من الهروب الذي يليق بزين العابدين بن علي، جرت يوم الثالث
والعشرين من أكتوبر 2011 أول انتخابات ديمقراطية نزيهة في تونس باعتراف كل
المراقبين الدوليين والتونسيين، إذ وصفها رئيس بعثة مركز كارتر بأنها (
كانت سلمية وحرّة وشفافة ).وبذلك عبّر الشعب التونسي عن توقه لديمقراطية
حقيقية من خلال هذه النسبة العالية من المشاركين في الانتخابات، إذ بلغت
78% وهي نسبة عالية جدا لا تحصل أحيانا في بعض الانتخابات الأوربية.
هل كانت النتائج صدمة للبعض؟
نعم، كان فوز حزب النهضة الإسلامي برئاسة راشد الغنوشي بحوالي
42 % ( 90 مقعدا ) من مقاعد المجلس التأسيسي (البرلمان ) صدمة لبعض القوى
السياسية التونسية والعربية، خاصة أنّ حزب النهضة سيطرت عليه إعلاميا فكرة
التشدد، مع عدم تجاوز أو نسيان التهميش والقمع الذي كان يتعرض له الحزب
وأعضاؤه طوال أكثر من عشرين عاما زمن الديكتاتور الهارب، وراشد الغنوشي
نفسه ظلّ مبعدا من وطنه سنوات طويلة، ولم يعد من منفاه البريطاني إلا يوم
الثلاثين من يناير الماضي بعد أيام من هروب زين الهاربين بن علي. ومن زاوية
ثانية لم تكن هذه النتيجة التي فاز بها بها حزب النهضة صدمة لغالبية
المجتمع التونسي، بدليل أنّ هذه النسبة هي التي صوتت للحزب في هذه
الانتخابات النزيهة الشفافة بشكل من النادر أن تشهده الأقطار العربية، خاصة
إذا تذكرنا التجربة الجزائرية التي ألغيت فيها نتائج الانتخابات التشريعية
في ديسمبر 1991 مخافة الإعلان عن االفوز المتحقق بالغالبية للجبهة
الإسلامية للإنقاذ، وإثر هذه الإجراءات التعسفية دخلت الجزائر في أتون حرب
أهلية راح ضحيتها ما يزيد على 150 ألف من المواطنين والجيش وقوى الأمن،
خاصة أنّ تجربة عبد العزيز بوتفليقة في الحكم لا تختلف في قمعها ومصادرتها
للحريات عن تجربة زين الهاربين بن علي.
هل هناك تخوف من حكم حزب النهضة؟
فاز الحزب ب 90 مقعدا من بين 217 مقعدا عدد مقاعد المجلس
التأسيسي، ورغم أنّه أكثر الأحزاب نسبة في الحصول على المقاعد، إلا أنّه لن
يستطيع وحده تشكيل الحكومة الجديدة التي ترضي الغالبية العظمى من الناخبين
التونسيين، في ظل أنّ ( حزب المؤتمر من أجل الجمهورية ) بزعامة المنصف
المرزوقي فاز ب 30 مقعدا، ويليه ( التكتل الديمقراطي ) بزعامة مصطفى بن
جعفر ب 21 مقعدا. وقد بدأ حزب النهضة على الفور مشاوراته مع كافة الكتل
النيابية لتشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة ورئاستها التي غالبا ستؤول
للحزب، بينما رئاسة الجمهورية ربما تسند لشخصيات من الكتل البرلمانية
الأخرى مثل المنصف المرزوقي أو مصطفى بن جعفر أو أحمد المستيري.
هذه التعددية في المناصب السيادية وبموافقة حزب النهضة
ومشاوراته مع كافة الكتل البرلمانية، تعطي انطباعا مهدئا عن المستقبل الذي
سيقود له الحزب من خلال تجربته مع القمع والتغييب الذي تعرض له، وسنوات
المنفى البريطاني لرئيسه راشد الغنوشي، حيث تعرف ميدانيا لسنوات طويلة على
ما تقود إليه الديمقراطية الحقيقية، وحرية المواطن في التعبير والتعددية
السياسية النزيهة. ومن النتائج المشجعة على هذا التفاؤل أنّ المتخوفين من
استلام الحزب للحكم والسلطة، يطرحون في أولويات تخوفهم مستقبل مساواة
المرأة التونسية مع الرجل التي حققتها في ظل تشريعات الرئيس بورقيبة، وقد
كان جواب حزب النهضة غير المباشر على هذه التخوفات من خلال عدد النساء في
قوائمه الانتخابية، وفوز نسبة عالية منهن ضمن إل 90 مقعدا التي فاز بها
الحزب. وقد أكّد أكثر من قيادي في الحزب بما فيهم راشد الغنوشي نفسه، أنّ
الحزب سوف يقف ضد الاستبداد واحتكار السلطة، وسوف يحترم حقوق المرأة
التونسية ومساواتها في كافة الميادين. هذا ومما يعطي ضمانات أكثر لهذه
التعهدات، وجود شركاء فاعلين للنهضة في الحكومة الجديدة ممثلين في حزب
المؤتمر من أجل الجمهورية و التكتل الديمقراطي، كما أنّ المجلس يضم معارضة
أغلبها من اليساريين والليبراليين لهم حوالي 25 % من مقاعد المجلس الوطني
التأسيسي، الذي ستكون مدته لسنة واحدة يضع خلالها الدستور التونسي الجديد.
تجربة قيد الاختبار
إنّ التطمينات الصادرة عن الأحزاب الثلاثة الفائزة بغالبية
مقاعد المجلس الوطني التأسيسي، تعطي الانطباع أنّنا أمام تجربة إسلامية
معتدلة وسطية، خاصة أنّ هذه الأحزاب الثلاثة تضم العديد من الأعضاء
المتنورين الذين لن يضحوا بالخطوات الديمقراطية التحررية التي حققتها
التجربة التونسية خاصة في مجال حقوق المرأة ومساواتها بالرجل في كافة
الميادين. ورغم العديد من المخاوف التي أفصحت عنها قيادات نسائية تونسية
بسبب الفوز الكاسح لحزب النهضة الإسلامي، إلا أنّ التفاؤل له مبرراته خاصة
أنّ الحزب وشركاؤه في الحكومة الجديدة، يدركون أنّ عمق التجربة التونسية في
ميدان حقوق المرأة ليس من السهل الالتفاف عليها، كما أنّهم يفهمون بوضوح
أنّ المجتمع الدولي يراقب عن كثب نتائج هذه الانتخابات في واقع الحياة
التونسية، وهذا المجتمع الدولي لن يسمح ولن يتعاطى مع حكومات تعود بالشعب
التونسي للوراء أو تخلق تطرفا جديدا كما فعلت حركة طالبان في أفغانستان. و
كما قال وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه إن "هناك خطوطاً حمراء لا يجب
تجاوزها، وتتمثل في مبادئ حقوق الإنسان والتناوب الديمقراطي والمساواة بين
المرأة و الرجل"، رابطا الدعم الاقتصادي لبعض الدول العربية ومنها تونس
بمدى محافظتها على هذه المبادىء والخطوط، وهذا ما يفهمه ويعرفه حزب النهضة
الإسلامي قبل غيره من الأحزاب، فتوقعي هو أنّ هذا الحزب وشركاؤه سيحاولون
تقديم تجربة وصورة الحكم الإسلامي الوسطي المعتدل الذي يحترم الجميع
بمساواة كاملة، تجعل لتونس حضورها الدولي الذي تستحقه، كما هي التجربة
الأردوغانية في تركيا ذات الخلفية الإسلامية أيضا.
فلننتظر العام القادم،
وهو عمر المجلس التأسيسي المنتخب والدستور الذي سيضعه ويقرّه،
لنرى إن كان تفاؤلي هذا في محله، أم كان خطأ فادحا، وخيّب حزب النهضة
الإسلامي وشركاؤه في المجلس التأسيسي ظنّ غالبية الشعب التونسي وخاصة
المرأة التونسية.