مكونات الخطاب الشعري وخصائصه اللسانية
يتطلب وضع آليات منهج لقراءة الخطاب
الشعري الوقوف على تحديد بنياته من جهة، وتعيين ما يتناسب معها من عتبات
القراءة،ليكون لكل مركّب في بنية ما، أداة إجرائية. وأتصور الخطاب الشعري
ثلاثي البعد، ومتعدد العناصر، كما سيبدو من خلال مبحث بنية الخطاب/النص.
تقتضي بنية الخطاب وجود بنيات كليّة،هي في حد ذاتها من خصائصه الفنية
والتركيبية. ولعلّ البنية اللغوية والبنية الإيقاعية أكثرها شيوعا في
المعرفة العامة،لأنّ البنية السردية تقوم عنصرا ثالثا، يتضافر معهما في
وحدة تكوينية.
1- البنية اللغوية:
تقع البنية اللغوية على امتداد
عناصر اللغة في الخطاب الشعري، من الصوت إلى المعجم إلى التركيب. فالصّوت
اللغوي مركّب صغير وظاهر لا يهتمّ بمخرجه وصفاته في الدراسة النّقدية
الشّعريّة كثير من الدّارسين، رغم أنّها ترسم معالم نغمة الخطاب الشّعري،
وتحدّد بعض مساراته، وتعيّن فحواه في تردّدها و تكرارها. والحديث عن
الأصوات بحث في الخطاب من الأسفل إلى الأعلى(1)بعد قراءات متعدّدة
للخطاب،يتبعها إحصاء صوتي، تتحدّد معه مخارجها وصفاتها(2)ودلالاتها التي
تحمل ما يحمله الخطاب من معنى؛ لأنّ "النسيج الصوتي لبيت ما ولمقطع شعري و
لقصيدة ما يلعب دور'تيار خـفي للدلالة'"(3)، ولذلك يعلّق محمد مفتاح على
البيت الأول من رائية ابن عبدون قائلا:"...وكثير منها يرجع إلى حيز واحد
وهو الحلق(أ،ه،ع،ح) وهي تدلّ هنا على معنى أساسي وهو الحزن والزجر"(4)
ويردف أيضا: "تتابع العين يوحي بالعنعنة التي تفيد الاستمرار والترتيب
والانتقال من درجة إلى درجة، ويدلّ تتابع الهمزة على التألم والرثاء"(5).
وفي تعليقه على البيت الرابع منها يقول: "ومنه صوت النون الذي يعني الغنّة
والغمّة والأنّة والأنين"(6).
ويؤكد شفيع السّيد "على الدور الذي
تؤديه الأصوات القصيرة والممدودة في الإيحاء بطبيعة الحركة النفسيّة"(7)،
من خلال غياب المد في الشّطر الأول من البيت الأول من قصيدة"أغنية
للخليج"موحيا باللهو والمرح والدّعة، بينما جاء الثاني مغمورا بالمدّ
ليوحي بدوام النبش عن الذكريات وما يصاحبه من ألم يمحو لحظات المرح القصير.
يشبه هذا العمل ما قام به محمد مفتاح وهو يحلل "نـونية أبي البقاء
الرندي"(8). وقد سعى حبيب مونسي إلى تحديد دلالات الحروف وتوافقها مع الدفق
الشعري،جامعا صفة الحرف وشكله الكتابي، وإيحاءه الدلالي(9).إنّها
الرّمزيّة الصوتيّة والتّوتر الصوتي بإيقاع تداعي الحروف والدلالة التي
يحملها الحرف منفردا، ثمّ تردّدا مكثّفا في الخطاب الشّعري، لتعطي اختصارا
للموضوع المحمول فيه، فقد اشتق محمد مفتاح من تكرار الحروف في الرائية
جملة: "لا نجاة من الممات" وعلّق عليها قائلا إنها: " لا تتناقض مع معنى
القصيدة أو البيت"(10)، وهو-وإن كان عملا ظنيا-لم يكن ميسورا لولا إيحاء
تكرار الأصوات. ولعلّ هذا الوضع يطرح إشكال اعتباطية العلامة، وهو إشكال
يصعب دحره لقيام أسباب الخلاف فيه إلى الآن. فلو اقتصر الاعتماد على مفاهيم
سوسير(F.de Saussure) لكان هذا الطرح مرفوضا؛ فما يربط بين الحرف
والدلالة عنده رابط، وإنّما هو التواضع لا غير، وهو ما لم يناقشه أصحاب هذا
الاختيار بالشكل الكافي، وقد بدا إجرائيا محققا لأهداف إيراده، متماشيا مع
مضامين الخطاب. وهو الدليل المادي على اعتماده؛ لأن الدليل النظري يتطلب
تقبل فكرة "لا تقديس لفكر البشر،ولا خروج عنه إلا بدليل"، بدليل أن سوسير
نوقشت أفكاره ونقدت، و ردّ بعضها. والقول باعتباطية الدال والمدلول يبقى
قائما على أساس فكرة التواضع الأولى، لينتفي بعد ذلك ويكون ضروريا؛ حيث
يقتضي كل دليل لغوي -إضافة إلى الدال والمدلول- وجود مرجع في الثقافة
الاجتماعية يُتَّكَأُ عليه لتحديد دلالته تأويلا حسب السياق. وإذا كان
الصوت لا دلالة له؛ فإنّ الاهتمام به وإحصاءه والبحث في رمزيته، مضيعة
للوقت لا تحقق فائدة، ولا تحصّل معنى، ولا تبرّر هذه الممارسات ذاتها. وعلى
النقيض كان مذهب جون كوهين(John Cohen) في تجزئة المعنى، ليعدّه متضمنا في
كل حرف من حروف الكلمة(11) (المعجم)، يوافقه محمد مفتاح عادّا رمزية
الأصوات من اللعب الذي يفوق الجد(12).
والمعجم(13) صيّغ تكون في كثير
من الأحيان مفاتيح للخطاب الشعري، يتحكم فيه عنصرا الهيمنة (التشاكل)
والتقابل؛ لأن المعجم قبل كل شيء لعب بالكلمات. وهو الحاصل داخل سياق لغوي
يكسب الكلمة قيمتها الدلالية(14)، ويكشف عن طريقة توظيفها وتحوّلاتها،
صانعة نواة الدّلالة الكليّة للخطاب، وراسمة التّوجه الزّماني المقصود فيه،
إنّها خاصية التحوّل التي بنى عليها الغدّامي نموذج الخطيئة
والتكفير(15)وعناصره الستة كما سيأتي مع الثنائيات(Binarités)، وفي تحليله
قصيدة "يا قلب مت ضمأ" فيما أسماه "مدار الإجبار التجاوزي"(16)، وقد كان
يجري في ذلك على "تشريح الألفاظ للوقوف على سلوكها اللغوي في مواقعها على
قاعدة التوزيع والتقويم لإبراز قيمة الكلمة في موضعها وصلاحيتها وقدرتها
على القيام بوظيفتها الدلالية"(17)، وإذا كان الأمر يقتضي إحصاء وتأويلا؛
فإنّ ذلك مما يميز المنهج اللساني البنيوي عموما، لتكون الأحكام مبنية على
أسس علمية تستند إلى قوّة اللغة.
إنّ المعجم في حدّ ذاته مكوّن مهمّ
للخطاب الشعري، كونه عنصرا من عناصر البنية اللغوية، ولذلك لا يستغرب
تسميته بالمختبر اللفظي عند محمد بنيس(18)، ويضفي عليه صفة القداسة
اللغوية؛ لأنّه يكوّن المسكن الذي يحوي الانفعال الشعري. من هذا المنطلق،
تكون دراسة المعجم على خاصيتي التشاكل والتباين، ذات توجه خاص مبني على سمة
التناقض الباعثة في حقيقتها على المدّ الشعري، فيكون البحث حينئذ في
الوحدات اللغويّة، وفي صيغة الكلمات أسماء وأفعالا، من عناصر الطبيعة إلى
الحواس الخمس إلى الصيغ الصرفية المميزة، تنضاف إليها حركية الأفعال. وهو
أيضا بحث في خصائص التحوّل والتقابل، داخل التشاكل والتباين. ومع هذا البحث
يسهل العبور إلى الوحدة الأكبر في الخطاب، إنّها التركيب وبجميع أنواعه.
التركيب"قطاع
من النحو يصف القواعد التي من خلالها نؤلف في جمل الوحدات الدالة"
(19)،وهو على هذا يهتم بأبنية الكلام بما يساوي تقريبا الجملة(20)مشحونة
"بطاقات دلالية وتأثيرية كبيرة"(21)، يجري عليها قانون التشاكل والتباين
والمقابلة، وفي هيأتها تبدو ملامح التناص، وقد تخرق العرف اللغوي، لتصير
انزياحا يستدعي فكّ شفرته امتلاك معرفة لغوية وغير لغوية؛ لأنّ المبدع ينحو
إلى إدهاش القارئ في تأليفاته واختياراته الواعية، وبخاصة إذا كان توزيعها
على مساحة الخطاب، يخضع لقوانين داخلية يقتضيها نظامه الدقيق، فالحقيقة
العلمية في الاختيارات الكتابية خاضعة للتصور الذاتي والمعرفي، الذي يجعل
من الخطاب في كليته لغة واحدة، ويصنع فيه محسّنا لغويّا يقوم على
اللّعب(Ludisme)، ليكون وجوده -اللعب- ليس ضرورة في صناعة الشعر، كما هو
ضرورة لفهمه ورسم معانيه.
ويقوم التركيب على أساس النحو، وهو قابل
للانزياح(Ecart)، لقبول المجاز محرّكا في البناء اللغوي، بما يخلق صوّرا
شعرية تجمع بين الحسي والمعنوي في تمرّد على النظام العام للغة. ومن هنا
تأتي الصوّر بلاغية ورامزة وغامضة؛ حيث تتعدّد الأولى إلى التشبيهية
والاستعارية، وتتعدّد التشبيهية ذاتها إلى الحقيقية والنفسية(22)... وكلها
أنواع معروفة في بلاغتنا العربية تؤدي وظيفة الصورة الفنية؛ لأنّ الصورة
"صراع بين قواعد التركيب وبين التصوير المجرد"(23)الذي ينحو إلى "تمثيل حسي
للمعنى"(24)يخرق قانون الكلام، ويقوم في كل خطاب على أسس مختلفة، يصنعها
نظامه الخاص-كما سبقت الإشارة إليه-، وعادة ما يكون هذا النظام من حيث
قواعده قاصرا شعريا على تمثيل المعنوي حسيا، فيكون الانزياح مخرجا تفرضه
الحاجة الشعرية، وتستجيب له الطاقة الانفعالية. إنّه التحوّل في صورة أخرى،
تحوّل دلالي يأتي بناء على التحوّل البنائي، وقد يكون التعبير عن إحساس
تعبّر عنه اللغة العادية في زمن الانفعال الشعري بلغة تصويرية غير الصورة
الأيقونية(25)، تصويرا بعيد المذهب، ومبالغا فيه بما لا يساوي شعرا. وتنحو
الصورة أيضا في سياق النص من الجزئية إلى الكلية، أو مركبة من صورتين
جزئيتين في جدل دلالي"تتعاشقان لتنجبا صورة ثالثة جديدة مختلفة
مؤتلفة"(26)، وهي أيضا تجسيم تجعل من الذهني محسوسا، وتجسيد تؤنسن ما هو
غير إنساني، أو هي تراسل حواس، تحققّ بحاسة ما يجب تحقيقه بأخرى.
إن
التعبير بالصوّر يتعدّى التركيب إلى الخطاب في حدّ ذاته، ليعبّر عن صورة
فعّالة خارج اللغة، فقد صار الشعر عبورا من المعاني الإشارية إلى المعاني
الإيحائية بما يضمن تحوّلا دلاليا، والخطابات ليست "تعبيرا وفيا عن عالم
غير عادي ولكنها تعبير غير عادي عن عالم عادي"(27)؛ لأن "القصيدة الجيدة هي
بدورها صورة"(28)يراد لها أن تعيش في الأذهان(29)، وتفترض تجاوز الواقع
الماثل في الخطاب إلى واقع يشير إليه. والمشار إليه لا يعدو أن يكون صورة
مرموزا لها، لتؤدي وظيفتها التي أنشئت من أجلها خارج المنطق العادي ولكن
داخل منطقها الخاص(30)، ليبقى المعنى الحقيقي محجوبا وراء ستار الرموز، وهو
ما يتطلب في القراءة حدسا، يستشف من بناء الخطاب مراميه الرمزية، ويسقط
المنطوق منه على غير المنطوق، ويرسم معالمه بدقة وأناة. والرمز أمام الغموض
يسير سهل، فقد صار التعبير إلى رفض العالم برفض العقل ورفض المنطق، وإن
كان هذا الفعل-في حقيقته-موقفا عقليا، كون الخطاب اللاعقلي فيه من التصميم
والبناء والتدرج ما في أي قصيدة غنائية جيدة(31). ويعد كوهين ما في العبارة
الشعرية والعبارة اللامعقولة متساويا من حيث عدم الملاءمة تشابها تركيبيا
لا معنويا؛ فالأولى قابلة للتخفيض، بينما لا يصح ذلك مع الثانية(32)، فهي "
لا تقدّم وفقا للعلاقات اللغوية التي تشكّلت فيها دلالة يمكن إدراكها على
أي مستوى"(33). وهو ما يذهب إليه كوهين في تعيين الحد الفاصل لحرية التركيب
المنتهية عند المجاوزة اللغوية والمخالفة النحوية؛ أين تختفي قابلية
الفهم(34)، لخروج الشعر من المنطق إلى اللامنطق، وحينئذ "ينبغي للمعنى في
وعي المتلقي أن يفـقد ويتم العثور عليه في آن واحد " (35)، وهنا يقع
التحوير المعنوي للشكل اللغوي المتحوّل(36)، فيكون للعبارة معنى إذا أمكن
عرضها على معيار الحقيقة(نعم/صحيح)و(لا/خطأ)، لتكون غير الصحيحة من الجمل
تقبل التحوّل إلى جملة صحيحة لقبول المسند إليه المسند واحدا من الإسنادات
الملائمة، و لا تتحوّل غير المعقولة لعكس السبب السابق.
ويدرك المعنى
بإدراك الواقعين المعطى(Donné) والمدرك(Perçu)؛ ففي الأول شراكة بين كل
الناس، لأنه الماثل بين أيديهم، وفي الثاني خصوصية المبدع، التي تسيّج
الواقع بالصبغة الذاتية، فإن لم يقف القارئ على هذا الإدراك الخاص، فاته
إدراك المعاني المقصودة. والرمز يجمع بين النصين الحاضر والغائب(37)؛
الحاضر في صورته البسيطة المدركة من أولى القراءات، التي تصنع أفق توقع ضيق
لا يتسع لفضاءات الشعر، وغالبا ما يكون مخالفا لحقيقة الموجود، كحال
الخطابين المختارين، فهما في المعرفة العامة غزل وتغن بالمرأة.
والغائب
في صورته البعيدة التي لا تدرك إلا بعد القراءات المتوالية، لتصنع أفقا
جديدا للتوقع يعدّل الأول ويتعداه(38). والتعديل هو جوهر نظرية القراءة كما
سيأتي، حيث تجتمع اللغة والمسافة الجمالية والمركز الخارجي في سياق واحد.
ليتأخر توظيف هذا المركز كون الدراسة نصية لا تأبه بكل محيط خارج محيط
الخطاب، فيكون دليلا على صحة التوجه المنهجي، في سيرورة التحليل من النص
إلى خارجه. من هنا يكون الخطاب و المعنى على خط التوازي؛ فكل عنصر لغوي من
الخطاب يحمل شيئا من المعنى، وهو الذي يمتدّ في البنيتين السردية
والإيقاعية، وهما من مكوّنات الخطاب الشعري كما سيأتي، وفيهما يكون التشاكل
معنويا داخل بناء مركّب، تنسجه لغة الشعر والسرد والإيقاع، ويربط بينها
عنصر التوتر؛ لأنّ الخطاب"يحتفظ بآثار دقيقة، متشابكة، معقدة،إذا تولتها
القراءة بالفحص،وجدت فيهاما يفصح عن التوترات التي أنشأت النص (الخطاب)،
[و] أملت هندسته،وحددت مقصدياته،وجعلته منفتحا على القراءات المتعددة"(39).
2- البنية السردية:
وأمّا البنية السّردية في الخطاب الشّعري
فتبدو من تواجد عناصر السّرد والحكي فيه؛ فالشّاعر في طرحه الانفعالي يقصّ
قصّة بشخصياتها وأحداثها وما تعلّق بها من زمن سردي ومكان وعقدة وانفراج،
حاملة موضوعها المتنامي بحوافزه الأولية و تحفيزاته التشكيلية، برؤية سردية
تمتدّ من التبئير إلى العوامل في علاقاتها الثلاث. وهي العوامل ذاتها التي
يؤكد عليها محمد مفتاح (40) لأدائها دورا بارزا في الشعر؛ إذ"كل نص شعري
هو حكاية،أي رسالة تحكي صيرورة ذات"(41)، و رغم ذلك فهو لا يدرسها بنية
سردية قائمة بذاتها داخل الخطاب الشعري، بل يدرسها ضمن التحليل اللغوي،
مؤكدا على العوامل كما حددها غريماس (Greimas)، ليستخلص علاقة
التواصل(relation de communication) وما تحتويه من قصدية
(intentionnalité)، وعلاقة الرغبة(relation de désir) وما تقتضيه من اتصال
وانفصال، وعلاقة الصراع (relation de lutte) وما تستوجبه من معارضين
(opposants) ومساعدين (adjuvants)، وهو ما يصنع صراعا دراميا.
ويورد
جيرار جنيت (G. Génette)في كتابه"مدخل إلى النص الجامع"ما مفاده تواصل
الشعر مع فن الرواية من خلال حديثه عن الأجناس الأدبية؛ ففي تعريفه لهذه
الأجناس تبرز العلاقة بين الشعر والقصة في قوله: "الشعر الغنائي هو ذات
الشاعر، وفي الشعر الملحمي(أو الرواية) يتكلم الشاعر باسمه الخاص، بوصفه
راويا، ولكنه أيضا يجعل شخصياته تتكلم..."(42). إن هذا النص أكثر من صريح
في تعيين العلاقة بين الفنين، وهي العلاقة الضاربة في الزمن إذ ينقل عن
تودوروف(Todorov) عزوه هذه التعاريف إلى أفلاطون ليؤكد "الغنائي:الآثار
التي يتكلم فيها الكاتب وحده.الدرامي:الآثار التي تتكلم فيها الشخصيات
وحدها.الملحمي:الآثار التي تمنح الكاتب والشخصيات-على السواء-الحق في
الكلام"(43). بل أكثر من ذلك فهو يدققّ مع أفلاطون الذي يجعل الفخر أوفى
نموذج "للقصيدة المنصرفة إلى السرد"(44).
ويعزو إلى أرسطو
اعتبار"الدرامي السامي يحدد المأساة.والسردي السامي يحدد الملحمة.أما
الدرامي الوضيع،فيناسب الملهاة..."(45)وهو هنا يقوم بتقسيمات تتسم بصفتي
الوضاعة و السمو،كما تتسم بالتفريق بين الدرامي والسردي،على الرغم من أنّ
الأمر-وفي جميع الحالات- لا يخرج عن كونه حكاية، تتناوب فيها الشخصيات
الأدوار، وتقوم فيها بجملة الأحداث التي تتمخض عنها المأساة أو الملهاة،
وإنما يركز"جنيت"على هذه الفروق لأنه يرصد الأجناس الأدبية، ويمايز
بينها(46). ولكن الاستشهاد هنا يقوم عل اعتبار الشعر يشمل كل هذه الأنواع
الأدبية، ولذلك يؤكد بأنّ "المادة الأساسية لأنواع الشعر الأخرى هي
الأحداث"(47)، وهي التي تمثل عنصرا رئيسا في القصة، مما يقوي العلاقة بينها
و بين الشعر. هذه العلاقة التي تبدو أكثر صلابة حين تقرأ العبارة "إن
التعريف الأولي للنمط السردي الصرف(...)هو أنّ الشاعر يمثل ضمنه موضوع
التلفظ الوحيد، المحتكر للخطاب، دون أن يتخلى عنه لفائدة أي شخصية
أخرى"(48)؛ فالشعر على هذا أصل كل الأنواع الأدبية، وهو ما يقوم دليلا على
مذهب السرد في الشعر. ويشير عبد الملك مرتاض إلىهذه الصورة في حديثه عن
المماثل والقرينة-وهو يحلّل قصيدة "شناشيل ابنة الجلبي" للسياب- حينما يأخذ
من لفظ "أذكر" مماثلا لزمن يمتد في الذاكرة، يتوقف عند مكان (قرية)،
متكاثر الشخصيات، له فيه حب وحبيب(آسية)(49). وكأنّ بين مفتاح في إجماله
ومرتاض في تفصيله تعالق بيّن، يختمه الأخير في آخر تحليله قائلا: "ليظل
الكلام جاريا في سياق سردي خالص"(50). وهو السياق الذي لا يفرد له مستوى من
التحليل كما فعل مع المستويات الأخرى. بينما راحت بشرى البستاني تتبع
آثار البنية السردية في شعر نازك الملائكة على امتداد أربعة دواوين(51).
وهو امتداد يوحي بالشيوع عند الشاعرة، كما يوحي به عند صاحبة الكتاب، فتجزم
بأنّ "حضور العناصر الحكائية ليس جديدا على الشعر"(52)،فهي موجودة منذ وجد
هذا الفن.وتمثيلا لذلك المد السردي تنطلق المحلّلة من الصورة السردية
والصورة الوصفية لدراسة قصيدة"مرّ القطار"، التي تحكي انتظار حدث ما، بما
يؤجّج ثنائية الاتصال والانفصال(53).ومن ثمّ كانت حركة القطار وحركة راكبيه
رمزا لنفس تضطرب بقلق الانتظار(54).ووقوفا عند هذه المفاهيم،تتجلى عناصر
السرد والوصف على محور التباين،وعلاقة الرغبة كما عند غريماس ظهورا عينيا.
ورغم هذا الاهتمام الواضح بالبنية السردية لذاتها؛ فإنّ المحلّلة أخذت
الموضوع من بابه اللغوي كما فعل محمد مفتاح من قبل.وليس ما سبق إلا تدليل
على الوجود،والاعتراف الصريح والضمني بهذه البنية في الخطاب الشعري.وقد صحّ
هذا التقدير على ألسنة المحلّلين،وثبت بالنظر في تشكيل الخطابات الشعرية
وبنائها،وصار السرد من مميزاتها وخصائصها.
وعلى هذا الأساس؛تأتي البنية
السردية قائمة بذاتها تحلّل على دائرتين: أولاهما دائرة القص (55)وتتضمّن
الوحدات الشكلية وفيها: الموضوع والمكان والزمان والحدث الدرامي صراعا
ورغبة،والشخصيات والتصفية النهائية.كما تتضمّن الوحدات النفسية وفيها:
الصدفة والمفاجأة والانفعالات الوجدانية والتشويق العاطفي. والثانية دائرة
السرد (56)، وتتضمّن الحكي والتبئير والحوافز والتحفيز ووجهة النظر.ويجمع
الكل في علاقات نموذج غريماس العاملي،على هيأة تشكيل مركّب لشتات عناصر
البنية،اختزالا واختصارا.وبهذا يكون الخطاب قد أخذ من بنيتيه اللغوية
والسردية ولم تبق غير البنية الإيقاعية.
3-البنية الإيقاعية:
الشعر
والإيقاع وجهان متلازمان،لا ينفصل أحدهما عن الآخر-وإن كان يتعدى الشعر
إلى الأعمال السردية- فهو قاسم مشترك بينهما،لا يدعو لغرابة إذاكان تعالق
البنيتين اللغوية والسردية على نحو ما وصف سابقا.والإيقاع لا ينكر في
الشعر، بل هو من خصائصه الدقيقة، التي تجعله شعرا وتخرجه من دائرة الكلام
العادي.
وعلى هذا الأساس؛ بدا تحديد الفضاء في الخطاب الشعري ضرورة
تتحدّد معها معالم أخرى تتعدّى إلى الدلالة،وتضيف لها ما يربط بين الأشكال
الكتابية والشعور النفسي وبخاصة في الشعر الحديث،فتجد بذلك العلامات
السيميائية الشكلية دلالاتها داخل البنية اللغوية،كحال الفاصلة والحذف
الكاسرين للتفعيلة،وما يليهما دلالة إيحائية، وما خفي من علل الزيادة
والنقصان وما تحمله من مدلولات لا تتنافى مع محمول حاملها. وارتباط نوع
القافية بصفتها،وما تبديه من توتر خفي ينضاف إلى كتلة التوترات داخل
الخطاب، وما يوحي به شكلها من إيحاءات. هذا المعطى ما كان ليحصل ويعيّن
مراميه لـولا البحث في الوزن وتقطيع الخطاب كلية. وعليه؛ فإنّ الفضاء
يشـكله المكان النصي(57)بحثا في امتلاء البيت والمقطع ثم القصيدة، ليتعيّن
بذلك المسكن الشعري الذي يرتضيه الشاعر لاحتواء انفعالاته، فهي تجربة
كتابية قبل كل شيء. ولا مكان بدون حديث عن الوقفة(58)بأنواعها التامة
والمركبية الدلالية ووقفة البياض؛لأنّ تحديد الوقف يعيّن المكان،ليمتلئ
البيت بوزنه،أويتجاوزه إلى غيره،أو يمتدّ في مقطع كامل، ويوافق الامتلاء
الوزني الامتلاء الدلالي؛لأنّ الشعر"يعبر عن جمل مختلفة من الناحية
المعنوية بجمل متشابهة من الناحية الصوتية"(59)،وهو ما يكفله التقطيع
وسيلة.
ومن الإيقاع التكرير،وهو هنا ليس كتكرير الاتساق النصي أو
كتكرير التشاكل المعجمي، وإنما هو التردّد المنتظم وغير المنتظم لوحدات
صوتية متكاثفة ظاهرة كما في الأصوات والألفاظ والتراكيب،وخفية كما في الوزن
والقوافي.وأولّ مدارات التكرير ما خص الأصوات وتناسب مع تكاثفها
وتردّدها،ليخرج التقدير من اللغة إلى الإيقاع؛لأنّ صفة الصوت من همس وجهر
وانفجار واحتكاك(60)تؤدي دورا هاما في تحديد مخرج الانفعال الشعري، وطريقة
مواكبة التلفظ له، وما يرسمه الوضع من انسجام أو عدمه بين الموضوع كمحرك
أساسي للذات الشاعرة والقالب الإيقاعي الموسيقي الموازي له.
وقد تؤدي
الحركة(فتح وضم وكسر) مع الروي في كل مقطع دلالته، ليس لغة فقد سبق الحديث
عنها، وإنما صوتا موسيقيا يحمل عذوبة الشعر وخشونة التوتر بين دلالة الصوت
وصفته وحركته الصوتية. فلو اجتمع التاء وهو مهموس انفجاري شديد، فيه رقة
وضعف(61) مع الكسر الدال على اللطافة والجمال(62)، لكان بينهما تناسب
وانسجام، وإن اجتمع مع الضم-وله دلالة الخشونة والقوة(63)-لكان بينهما
تعارض واختلاف. ولو اجتمع النون وهو مهموس رخو يحمل دلالة الألم
والخشوع(64)مع الضم، لكان بينهما انسجام وتوافق، فإذا اجتمع مع الكسر لطّف
هذا الأخير من نغمة الحزن، وعدّل من الوقع الحاد، ليكون بينهما تعارض يحمل
التوتر. وفي اختيار الروي المتغير من مقطع لآخر دلالات صوتية تجمع بين
اللغة والإيقاع؛ فنغمة الحزن تتطلب ما دلّ عليها من الأصوات، كما تستلزم
نغمة الانفراج ما يدلّ عليها. وسواء وقع الأمر اختيارا واعيا أو وضعا غير
واع، تكون الصورة الشعرية موافقة أو معارضة للصورة الصوتية. وفي كلّ تجمع
الصورتان حقيقة المحاكاة (65)تصويرا أو توترا. وإذا كان التوافق بين
الصورتين من دواعي الصدق إفراغا وصبا للعواطف والانفعالات على وجه الحقيقة؛
فإنّ التعارض من دواعي التهوين وإظهار التوازن أمام الغير على وجه
الترميز. والتشكيل الموالي يوضّح ذلك:
صورة شعورية
دواعيه توافق تصوير توتـر تعارض دواعيه
صورة صوتية
حقيقة محاكاة رمزا
مطابقة/تقبيح/تحسين
وتضفي
تردّدات الألفاظ والتراكيب على الخطاب إيقاعا خاصا بفعل تنوّع التشكيل؛
فقد يكون للترابط، -وهو بذلك جامع بين اللغة والإيقاع-، كما يكون للتركيز
أو لفت النظر(66). وقد يكون تاما عند تكرير البيت، ويكون غير تام إذا في
الثاني بعض الأول، وقد يأتي بالإضافة إذا زاد في الثاني عن الأول(67). ومنه
التكرير الحر ليفوق الترابط إلى صناعة وحدات لغوية "تسري في جسد النص
كبذور مشعة فاتنة بألوانها القزحية ولمعانها البلوري، فيكون كامل النص هو
مكان اللعبة الإيقاعية، تنعدم فيه الحدود والمراتب والموانع"(68). وليس
وجودها لغويا الآن، بل إيقاعي يرسم حركتها على امتداد الخطاب، بفعل تكررها
العددي المتناسب أو غير المتناسب مع غيرها. ولا يخلو خطاب من تكرير وحدات
متساوية وزنا يصنع هو الآخر فعلا إيقاعيا يخص كل خطاب على حده، وغالبا ما
يكون في نهايات الأبيات ونهايات أشطرها أو يتوزّع هنا وهناك، وواقع التكرير
أنه لفظي (صوت /لفظ /تركيب) ووزني (صيغة صرفية).
يميز الإيقاع صراع
الوزن القديم منه رتابة و توازنا وحديثه اضطرابا وحركة، إذا اجتمعا معا في
خطاب واحد، كلون آخر للتوتر الأسلوبي خارج المعاني والدلالات، وهو التوتر
الذي يمتدّ إلى القوافي وصفاتها، والكتابة الصوتية وما تحدثه من أثر في
بناء الخطاب من خلال المقاطع الصوتية، طويلها وقصيرها، مفتوحها ومغلقها مما
يصنع توترا يقوم على صراع الوعي الأول والوعي الجديد بفعل تغير الأفق و
تبدل الإطار؛ "فقد خرجت الذات من شخصية لتدخل أخرى"(69)، ويكون الاختيار
الأسلوبي الواعي مقابلا للتشكيل الإيقاعي اللاواعي، لوقوعه خارج إرادة
الاختيار تتحكم فيه المواقف الباعثة للانفعال دون أن يفقد صفته الذاتية،
فهو"ذاتي موضوعي"(70)يختلف من انفعال لآخر عند الشاعر الواحد ناهيك عن
تعدّد الشعراء وما يتبعه من تعدّد الإيقاعات واختلافها، بما لا ينفي
تشابهها تناصا، ليؤدي إحساس القارئ دور المحوّل فيسبغ عليه صـفات الحركة
اختزالا " إلى: بطيء/بين بين/سريع،وطويل/بين بين/قصير"(71)، ليقارن بين هذه
الصفة و بين الموقف المعبّر عنه بما يحدث توازنا بفعل التماثل بينهما، أو
اضطرابا بفعل التضاد والتعارض يترجم الحال النفسية للشاعر المنعكسة داخل
الإطار العام للقول الشعري. وعلى هذا الأساس؛ يكون الإيقاع جامعا بين
الحركة/ الصفة والحالة النفسية والوقع الصوتي.والتشكيل الموالي يبيّن هذا
التوجه:
الحركة/الصفة الحالة النفسية
سريع-----------------
سرعة بين بين----------------
بطيء-----------------
موقف
انفعال شعري إيقاع
طويل-----------------
مسافة بين بين ----------------------
قصير-------------
تماثل التوازن ا
لاضطراب
تضاد/تعارض
وإذا كان التوازن لا
يتعدّى الاحتمالات الثلاثة التي يحويها التشكيل؛فإنّ الاضطراب يطرح ستة
احتمالات بين الموقف والصفة الإيقاعية،و التوازن يطرح احتمالاته الثلاثة،
فكل عنصر سرعة يرتبط مع كل عناصر المسافة.وهذه حال الشعر وطبيعته،تجعل
التضاد والتناقض أكثر اتساعا من التوازن.
من هنا وجمعا بين البنيات الثلاث،تظهر الخطاطة الموالية الخطاب الشعري كالتالي:
تفـــــــــاعل
بنية إيقاعية بنية سردية
(تشاكل)(تباين) بنية لغوية (قصدية)
أصوات/معجم/تراكيب متكلم/مستمع/حدث
مسكن شعري بنيات دلالية تقنيات السرد
موسيقى شعرية ثنائيات/موجهات
تنـــــــــاص؟
ولعلّ
من مزايا الخطاطة المقترحة أن تحيط ما أمكن بالخطاب الشعري في دوائره
الثلاث، محققة النموذج الفكري بصوّره الجزئية والكليّة و المركّبة في قراءة
باطنية، والبرنامج السردي في قراءة نفسية شعرية لاستبطانها ذوات الشخصيات
وانفعالاتهم الوجدانية(72) الموافقة للحدث الدرامي، كما تحقق أيضا الكشف عن
التجربة الشعرية(73) في علاقتها بالمسكن الكتابي، لتعليل العلامات
السيميائية الظاهرة على سطح الخطاب، وترتبط ارتباطا عضويا بالتقطيع الوزني
والظواهر العروضية وما يثيره ذلك من دلالات تتساوق مع المعنى الكلي وطبيعة
النموذج المحمول، فتتناسب التجربة الشعورية والمسكن الكتابي الحاوي
للانفعال الشعري. وعليه يتطلب هذا البناء آليات منهج توازيه وتسايره.