مصطفى أنكزدم الزيارات: 7750
تمهيد
عرفت النظرية اللسانية التوليدية التحويلية تطورات هامة حاول من خلالها منظروها تقديم نمذجة مثالية لأهم الاواليات التي تحكم وتتحكم في سيرورة الملكة اللغوية، التي هي عبارة عن بنية مجرة " أمبريقية " تحتاج – بالإضافة الى اليات معرفية أخرى – إلى نماذج لسانية تفسر كيفية اشتغالها داخل الذهن .
من هنا توالت مجموعة من النماذج اللسانية في أبعادها التوليدية كان اخر ما بلغته الابحاث اللسانية في هذا الاطار ظهور ما يعرف بالبرنامج الادنى الذي يعد تتويجا لمختلف الجهود اللسانية التي وفرها اللساني الأمريكي" نعوم تشومسكي" , بالإضافة الى كونه نموذجا أكثر تطورا ودقة خاصة في محاولة تمثيله ونمذجته للسلوك اللغوي داخل الدماغ البشري .
أما عن هذا النموذج ( البرنامج الادنى) فيمكن القول بأنه شكل امتدادا لنظرية الربط العاملي " من جهة الكشف عن الخصائص العامة للملكة اللغوية وتدقيق اليات اشتغالها والمبادئ العامة المتحكمة في بنائه ".
فما أهم المستجدات التي جاء بها البرنامج الأدنى ؟ وما هي المبادئ النظرية التي قام عليها ؟ وكيف تتم عمليات الاشتغال داخل بنياته ؟ ...
الاواليات الاساسية لاشتغال البرنامج الادنى
1- الاشتقاق والنسق الحوسبي .
حاول " تشومسكي " أن يبني تصوره عن البرنامج الأدنى انطلاقا من وجود مكون مركزي في نظام الملكة اللغوية المتمثل أساسا في النسق الحوسبي الذى يولد مجموعة من الموضوعات التركيبية ويجعلها تتخذ أشكالا صوتية أو منطقية كل ذلك وفق تظافر مجموعة من الاليات الأساسية في البناء التمثيلي للكفاية اللغوية.
بهذا يتبين أن النسق الحوسبي " ... يولد الأوصاف البنيوية التي تشترط معلومات حول خصائص كل مفردة لسانية من صوت ومعنى حتى تدرج ضمن مختلف الأنساق التمثيلية الصوتية والمنطقية " 1 .
وما تجدر به الاشارة أن النسق الحوسبي يشتغل وفق ما يضطلع عن المعجم باعتباره الية أساسية في هذا البناء التمثيلي ،فهو الأساس الذي يوفر مجموعة من الوحدات المعجمية "التي تتضمن حزمة من السمات مثل السمات الصوتية والسمات الدلالية "2 وغيرها، وهي التي تتولد عنه اشكال جديدة انطلاقا من عمليات حوسبية تتم في منطقة العمل .
كما أن السمات التي تتضمنها الوحدات المعجمية لا تعدو أن تكون سمات متنبأ بها انطلاقا من الطبيعة المقولية للوحدة المعجمية ، أما السمات الأخرى مثل سمات الاعراب والتطابق ( الشخص العدد الجنس ) " فهي ضمن اختصاص المبادئ العامة "3 .
ان المعجم، اذن، يوفر مجموعة من العناصر أو الموضوعات التركيبية غير منظمة أو" وحدات معجمية غير متناهية "4 و الحاملة لسمات طبيعية لأنها لم تدخل بعد في سياقات تركيبية جديدة تكسبها سمات مختلفة .
بها يحتاج المعجم الى وسيط بينه وبين النسق الحوسبي الذي لا يبلغ المعجم بشكل مباشر وانما بواسطة (مكونية ) تتمثل أساسا في التعداد الذي يتضمن مختلف العناصر المنتقاة من المعجم والمصفوفة فيه، ذلك أن التعداد ينتقي أكثر من وحدة أو عنصر معجمي لتتغير كلها بشكل تام بعد ان تأخذ حالات اعرابية مناسبة تتوزع بين أن تكون :صوتية – صرفية – تركيبية ...
هكذا يتبين ان الوحدات المعجمية التي تنتقل من المعجم الى النسق الحوسبي تكون تامة التصريف ،أي أن هذا الاجراء الاشتقاقي (6) الذي يتم في المعجم يتضمن وحدات جوهرية مثل الأفعال والأسماء والصفات والظروف والحروف ، ومن وحدات وظيفية تملك خصائص أو سمات نحوية محضة ، مثل المصدر والزمن والجهة ...، وهذا مخالف لما عرف في نظرية الربط العاملي 7" التي اعتبرت أن البناء الصرفي للكلمات يتم في التركيب عبر قاعدة نقل الرؤوس " ،أي أن الافعال تكتسب لواصقها الصرفية في التركيب .
بالإضافة الى ذلك فان أهم ما يميز البرنامج الادنى هو "اعتماده على الاختصار في تشكيل الوحدات المعجمية داخل منطقة العمل "8 ، اذ يحتفظ ببعض العناصر المعجمية المنتقاة في التعداد ويسقط بعضها ، فهو بذلك لا يشغل سوى العمليات الضرورية في العملية التركيبية .
فكل هذه العمليات تقع داخل منطقة العمل التي تتضمن ما يعرف بالتركيب الظاهر الذي تصاغ فيه مجموعة من الاجراءات التركيبية والصرفية ... قبل ان تأتي العمليات البعدية او ما يعرف بالتركيب الخفي الذي يضطلع عن نقطة التهجية التي يقع فيها انشطار للنسق الحوسبي الى تمثيلات صوتية واخرى منطقية ، وكل ذلك بعد " أن يتم انتقاء مجموعة من العناصر أو الوحدات المعجمية في الجمل ككل"9 واخضاعها لمجموعة من المبادئ التي تحكم الية اشتغال النسق الحوسبي .
2- المبادئ الاساسية للنسق الحاسوبي :
ان النسق الحاسوبي محور أساس في اشتغال الملكة اللغوية ، ذلك أنه تضبطه مجموعة من القوانين والضوابط الدقيقة التي تحكم مختلف العمليات الأساسية التي تطبق وفق اليات دقيقة لتحقيق الوحدات المعجمية التي يتم انتقاؤها من المعجم وتصنيفها على شكل مصفوفات موسومة داخل التعداد(10) قبل أن تتم عملية الاشتقاق أو توليد البنى التركيبية وتحقيقها في المستويين الوجاهيين الصوتي – الحسي و المنطقي – القضوي .
كل هذه العمليات التي تتم في النسق الحاسوبي تجعل هذا الأخير يخضع لمبادئ عامة أهمها : مبادئ الاقتصاد في الاشتقاق والتمثيل ومبدأ التأويل التام .
الاقتصاد في الاشتقاق :
لما كان البرنامج الادنى في تصوره العام يسعى الى تقديم نمذجة مثالية للملكة اللغوية متجاوزا بذلك كل التعقيدات التي شابت النماذج المتقدمة في النظرية التوليدية ، حاول ان يعتمد مبدأ الاقتصاد في التحويلات قياسا على الاقتصاد في المستويين التمثيليين ، فلا يمكن أن تتم هذه التحويلات الا اذا كانت ضرورية ، ومن دون خطوات اضافية ومن دون فائض في التطبيق.11
كما أن هذا الاقتصاد يخضع لمجموعة من المبادئ الاساسية يمكن عرضها على الشكل التالي :
مبدأ الجشع :
يعد هذا المبدأ من المبادئ الأساسية التي جاء بها" تشومسكي" من أجل ضبط الية اشتغال النسق الحوسبي ، " ولتأكيد أن المقولات لا تنقل الا لإشباع حاجاتها الصرافية الخاصة ..." 12 ، فهو بذلك لا يمكن ان يعد مبدأ عاما ينطبق على باقي المقولات أو مقارنا بين الاشتقاقات المختلفة، فصعود مركب الى موقع معين لا يمكن أن يتم اذ سبق وان فحصت سماته في موقع اخر استنادا الى القاعدة الصورية لهذا المبدأ التي تقول : " لا تصعد à ولا تنقلها الا اذا كانت الخصائص الصرافية ل à لن تلبى في مكان اخر داخل الاشتقاق " .
مبدأ الارجاء :
بموجب هذا المبدأ " تفضل العمليات التي تتم في بين نقطة التهجية والصورة المنطقية ، اي النقل الخفي ، العمليات المكشوفة والظاهرة التي تقع بين نقطة التهجية والصورة الصواتية "13.
وهذا المبدأ مخالف لمبدأ الجشع من حيث تفاضله بين الاشتقاقات من حيث التكلفة، ويقول هذا المبدأ " اذا امكنك الانتظار يجب ان تنتظر "(14).
هذه المبادئ ، اذن ، وغيرها ليست مقيدة بل تتدخل في أي موقع وفي اي مرحلة من مراحل الاشتقاق ، أما الصنف الاخر من هذه المبادئ فهو مقيد بمستوى الصورة الصوتية او بمستوى الصورة المنطقية وهو الذي يوسم ب"مبدأ التأويل التام" .
مبدأ التأويل التام :
انطلاقا مما تمت الاشارة اليه سابقا خاصة ما تعلق بالتمثيل والاشتقاق وكنهما يخضعان معا لضابط الاقتصاد دون عناصر حشوية ، فللمركبات الاسمية مثلا سمات إعرابية وجب فحصها داخل الاشتقاق، ويعني فشلها في هذا الفصح أن البنية التي ترد فيها غير مؤولة سواء في الصورة الصِّواتية أو في الصورة المنطقية .
ولتفادي كل ذلك اعتمد " تشومسكي " مبدأ يقوم أساسا حتمية تأويل " كل عنصر في الصورتين الصوتية والمنطقية " (15).
وبأجرأة هذا المبدأ تكون التمثيلات الوجاهية الصوتية والمنطقية تامة دون أن تتضمن عناصر حشوية ، وتجعل بذلك مختلف الاشتقاقات والتمثيلات خاضعة لمبدا الاقتصاد وهو المبدأ الذي قام عليه البرنامج الادنى في اطار النظرية اللسانية التوليدية التحويلية .