د.علي الصكر
(المرأة أكثر حنانا من الرجل وأسهل انقيادا للبكاء. في نفس الوقت هي
أكثر غيرة وأشد مشاكسة وأكثر عرضة للزجر والضرب من الرجل وأقل حياء
واحتراما للذات وهي أكثر كذبا في الحديث وأكثر خداعا وذات ذاكرة حافظة
بدرجة أكبر من الرجل.
هي أيضا أكثر يقظة وأشد انكماشا وأصعب في حثها على
الفعل ويكفيها قدر أقل من الغذاء). سجل أرسطو راية الخطير هذا قبل أكثر من
ثلاثة قرون سبقت ميلاد السيد المسيح. وينبغي الاعتراف بأسى بأن هذا الرأي
الذي حمل من الذم للمرأة أكثر من المدح لا يزال يحظى بقدر وافر من القبول
والاستحسان. لكن مبادئ الدرس الفلسفي تعلمنا أن نتداول الرأي ضمن سياقه
ألظرفي ذي الصلة الوثيقة بسياقه الفلسفي السائد وكونه يصدر عن تلميذ
أفلاطون النجيب المخلص لمثالية أستاذه وبحثه الدائم عن الفضيلة والكمال.
تورد
الباحثة سوزان براونملر رأي أرسطو الشهير في مقالها المعنون (العاطفة) ضمن
مجموعة مقالات لباحثين في النسوية حررها جون هاري وايفلين أشتون تحت عنوان
(النوع: الذكر والأنثى بين التميز والاختلاف) صدر عن الهيئة العامة للكتاب
2007 بترجمة رصينة للباحث الدكتور محمد قدري عمارة. تناقش الباحثة رأي
أرسطو استنادا إلى وعيها الحداثي بالشأن النسوي وتأثراته المجتمعية فترى أن
البكاء وذرف الدموع يتم تشجيعه، عادة، في النساء بينما يطالب الرجل
بالتماسك والسيطرة على نفسه وعواطفه، فالبكاء الذي ينتج بعده الإحساس
بالراحة لا يوصف عادة للرجال كوسيلة لرفع معنوياتهم لأن الشعور بالراحة
الناجم عن الدموع (سوف يهدمه الإحساس غير المريح بان فقدان التحكم بالنفس
أمر ليس رجوليا).
أما التعبير عن الغضب والهياج فغالبا ما يتم تفهمه في
السياق الرجولي والصفح عنه كأمر منطقي وعادل. بل ربما سينظر له في أحيان
كثيرة باعتباره (بطولة أو كاستجابة صحيحة لاهانه تمس الشرف). لكن غضب
المرأة سيبقى مستهجنا في نظر المجتمع والمرأة التي تنقاد للغضب (لا تكون
جذابة بل قاسية وخبيثة وغامضة). لكن الباحثة براونملر تلاحظ أن الدراسات
النفسية التي رصدت ظاهرة البكاء عند الأطفال لم تميز بين الجنسين إطلاقا.
فالأطفال عموما ذكورا وإناثا يبكون تلقائيا استجابة للشعور بالجوع أو العطش
أو الألم أو الخوف من قبل أن يبدأ وعيهم بالنوع. ما الذي إذن - سيجعل
المرأة أكثر انقيادا للبكاء والرجل أكثر انقيادا لرباطة الجأش والحزم برأي
فيلسوف الإغريق الشهير؟ وإذا كان الطب الحديث قد أكد على أسس بيولوجية
وإفرازات غددية معينة تتسبب في البكاء فهل أن هذه الغدد وتلك الحقائق
البيولوجية هي ذاتها التي تجعل من المرأة (أكثر كذبا وخداعا)؟
من
الرائدة النسوية سيمون دي بوفوار يختار المحرران مقالا بعنوان (المرأة
باعتبارها الآخر) وهو مقال يتناسق تماما مع أطروحاتها المبكرة في كتابها
(الجنس الاخر ) الذي ظهر عام 1949. وبدورها ترفض دي بوفوار مقولة (النقائص
الطبيعية) للمرأة التي جاء بها أرسطو وحملها من بعده فلاسفة معاصرون مثل
ميشيل رينيه الذي يرى أن المرأة (كائن نسبي)، وراسل في زعمه أن جسم الرجل
له معنى في ذاته خلافا لجسم المرأة حيث أن الأخير (تنقصه أشياء مهمة في
التكوين). تلاحظ دي بوفوار أيضا أن البشرية كلها تعامل كذكر كما يفهم من
استخدام كلمة رجل في الانكليزية (Man) التي يفهم منها الجنس البشري عموما
بينما تمثل الأنثى (القطب السالب) فقط.
ومن ثيمة الإشارة اللغوية
ودلالتها المفهومية سندلف إلى مبحث (اللغة والتحيز الجنسي) حيث تناقش
الباحثة روبين لاكوف (لغة النساء) باعتبارها من المحددات التي يفرضها
المجتمع عبر تشجيعه المرأة على التميز الدقيق في استخدام اللغة بطريقة
ممتعة لطيفة وعبارة ناعمة وإلا فإنها (تتصرف كرجل). ترى لاكوف أن اللغة
تتحيز بشكل عام - لصالح الرجل وتورد الكثير من الأمثلة دعما لرأيها. فكلمة
Lord مثلا تعني (رجلا يكتسب قدرات فائقة في مجال معين عادة ما يكون غير
جنسي) ولكن النظير المؤنث لها Lady لا يمكن استخدامه على هذا النحو فهي
كلمة محددة بمدلولها الجنسي في الانكليزية والذي يعني عشيقة Ladylove . وأن
كلمة فتاة Girl أصبحت من البدائل الشائعة لكلمة امرأة لكننا نادرا ما نسمع
أن رجلا تخطى مرحلة النضج يشار إليه كولد Boy . بينما النساء من كل
الأعمار فتيات وتأتي ضمن هذا السياق اللغوي الإشارة إلى (فتيات الليل).
ويصح الشيء نفسه على كلمتي عانس Spinster وأعزب Bachelor فالأعزب صفة
محايدة لا تثير التحفظ بتاتا بينما تستخدم كلمة عانس ازدراء. وأن يكون
المرء أعزب تعني - ضمنيا أن له حق الاختيار بين الزواج أو عدم الزواج مما
يجعل (الأعزب) جذابا في الأدبيات الشائعة لكن العانس لا يسعى إليها أحد فهي
(سلعة غير مرغوبة) لكبر سنها. ويتضمن المعنى المجازي لكلمة (أعزب) الحرية
الجنسية بينما تشير كلمة (عانس) إلى ما يشبه الترهب والحرمان. وبذلك تستنتج
لاكوف أن اللغة (تكيل بمكيالين) إذ تشير إلى المرأة ليس بهويتها المستقلة
بل بمدى اقترانها بالرجل. ونستطيع بدورنا أن نورد أمثلة كثيرة من العربية
لترجيح هذا الرأي إذ أننا لا نزال، عبر استخدام اللغة تورية، نستر اسم
المرأة بأكثر من الأغطية والأردية التي تستر بدنها. فهي كريمة فلان وأم
فلان وحرم فلان وبعد موته ستبقى مشدودة إليه فيشار إليها كأرملة فلان. ومن
المعروف أن مجرد التصريح أو ذكر اسم الأم لا يزال يعد شتيمة لاذعة في أغلب
مجتمعاتنا العربية .
ينوه التقديم للكتاب بأنه يضم مقالات لكتاب من
الرجال أيضا ذلك (أن إدراك مظاهر التفرقة والتميز وتردي أوضاع النساء
وتحريرهن من القهر الاجتماعي سينعكس ايجابيا على الرجال والمجتمع ككل) وهو
ما نعنيه أيضا عند الإشارة بل الإشادة بالجهد المعرفي الدؤوب المتمثل في
ترجمة هذا الإصدار اغناء لمشروعنا الحضاري العربي ومواكبة لمعطيات الحداثة
في العالم من حولنا