توماس اديسن لا يفكر بالكلمات
زيد الشهيد
شغلت حواريةُ الروح الدفين مع الظاهر الماثل في استكناه الجمال
واستخلاص مبررات التمتع بمفرداته الإنسانَ منذ أبصر تفاوت الأشكال وتنوع
المخلوقات، ووعي بفعل الإحساس المستنفَر قيمتها، بأثرها وتأثيرها. فخرج
بحصيلة أنَّ نتائجَ تلكَ الحوارية نسبيةٌ لا يمكن احتسابُها من بابِ المطلق
في التقييم... ظلَّ الجمالُ ثيمة لا يمكن حيازتها بأكملها، وليس بالمقدرة
الوصول إلي التعريف النهائي الخالص به. قد يُقال هوَ حرية ؛ أو أبجدية لحسن
الخلق ؛ أو انطباع للدواخل، أو مغايرة لكل ما هو قبيح وقميء، أو وهج
يتباهي بالسطوع ؛ أو رهافة تتحلي بالصفاء، أو عاطفة جياشة لقلب يريد أن
يبوح، أو جسد يريد أن يتباهي.
يتجلّي الجمالُ الظاهري للجسد من تناسق
أعضائه اعتماداً علي تناسب ينقله إلي خانة القبح إن حدثت الخلخلة.. ولكل
عضو من هذه الأعضاء سمة جمالية خاصة به، تخضع للنسبة والتناسب في التوصيف..
فيهم من يري الوجه هويةً للجمال. وفيهم مَن يفتتن بالجيد. وأخر يحدد قياس
الجمال من عرض الأكتاف وضمور البطن.
المرهفون حسّياً لا يشغلهم النظر
إلي الوجوه لتبيان الجمال ولا هم يذهبون رحيلاً وتفرساً إلي الأكتاف
والصدور إنما يقفون كثيراً عند محطة السيقان. فيها تتولي العيون مهمّة
السياحة الثاقبة بتتبّع متأني وحوار تشترك فيه الحواس (حتي الأنامل والشفاه
التي يفترض أن تكون بعيدة أو غير مسموح لها بالحوار الذي طقسه اللمس أو
اللثم أن تمارس فعل المشاركة)، وترهف الأذن لهفهفة الساقين وهما يخطوان،
وتحصد صداهما في استنطاق الأرض التي تتلذذ بالضربات المموسقة بينما يروح
الأنف بطريقة الفضول في أعلي درجات تحفزه يصطاد الرائحة غير المرئية
المنبعثة من مسامات تبث شذا لغة الجسد بأكمله فترتفع آهات الإعجاب، مويجات
تطلقها الأفواه الفاغرة ذهولاً.
الساق تستند علي القدم.. القدم لها
خاصية منح الساق صفته المظهرية... حين يجعل القدم بتقوسه ثقل الساق علي مشط
الأصابع يتمثل الساق في مظهر جمال، وحسن صورة، وإثارة دهشة... هذا التمثل
أدركه مظهرو فتنة الساقين بانتعال القدمين حذاءً ذا كعب عالي تباري صانعو
الأحذية في جعله قطعة فنية ساحرة وأخّاذة.... ففي تطلعنا لساقين ممتلئين
ولقدمين ينتقلان علي إيقاع تمايس بباصرة يصاحبها المرح وتهبها المتعة يكون
عقلنا الظاهر أو وعينا المترجل في حالة من النشاط، تاركاً الشفاه تتلاصق أو
تنفرج بأسلوب التمتمة أو بطريقة الفغر دلالة أننا في قمة المفاجأة أو في
أوج اللذة.. وفي تطلعنا للساقين والقدمين بطريقة التحديق والتفرس وسط عجز
عقلنا الظاهر علي امتلاك أو حتي تصديق أن ما يتجلي أمامه هو من عِداد
اللاواقع ننسحب منهزمين إلي مملكة عقلنا الباطن أو لاوعينا القادر علي
التعامل مع ما نعجز عن تجسيده واقعاً، إذ من صفات العقل الباطن تمتعه بقدرة
خلاقة ليس لها مديات. قدرة تتجاوز حالة العجز إلي مرتبة الخلق.
يتولي
الساقان بتآلفهما مع انتقالة القدمين مهمة عرض الحال وكشف أوراق المزاج
الداخلي / النفسي. ففي المزاج الرائق تأخذ حركة المشي إيقاعاً وتوازناً
يظهرهما الساقان مفعماً بالحياة الرائقة الفاعلة. وفي تعكره تتعثر القدمان
ويطوح الساقان فينوءان بحمل الجسد الذي يبدو أكثر ثقلاً من وزنه المعتاد.
الساقان عضوان عامران بمقدرة منح الجسد حركة في صورة الغنج فيجعلانه يتمايل
دعابةً : يهتز الكتفان، يضيق الخصر، ويترجرج الكَفَل فتنثر الغواية عطرها
في الفضاء طائحة بهيبة المتزنين، وسالبة عقل المتدينين، ومعلنة انتصاراً
يكشف زيف الأدعياء المتوارين خلف الكرامة المصطنعة.
بين السينما والسرد
رشاقة الساقين علي قاعدة القدمين تهب الجسد
اتزاناً، تمنحه ثقةً، تصنع مشهداً يرشق أنظار المارة أو الجالسين علي
الأرائك أو عبيد الأرصفة بموسيقي الجسد البشري الفائر(إذا تحركت السيقان
غنّت). لا تبالي العيون المتطلعة بأجزاء الجسد العليا، بل تركز علي انتقال
القدمين وسحر انتصاب الساقين. تروح تتابع فعل الحركة والانتقال. ويصبح
التطلع إلي الوجه وترجمة هيمنة الصورة آخر ما تنتجه الدهشة ومتعة التحديق..
وإذ يغيب الساقان ويتلاشي وقع القدمين وتنعطف أو تختفي مملكة الجسد تَعلَق
الصورة في لاوعي المتطلعين. تموت كلمات الإعجاب التي انسكبت من أفواههم.
فقط الصورة تبقي عالقة في أذهانهم .. يظلون يفكرون فيها - كصورة - وينسون
الكلمات. فالصورة هي التي تبقي أما الكلمات فتتساقط مع حركة الشفاه وتغدو
أداة تعبير آن الرغبة في التكلم..((أنا لا أفكر بالكلمات ؛ أنا أفكر
بالصور.)) هكذا أجاب توماس اديسن عندما سئل يوماً عن كيفية ترجمته لعبقريته
الخلاقة إلي فعل.. إذ الصورة تستحيل مُنتِج سحر يستحيل حقيقةَ أنَّ ما
نراه ويُسحرنا لاحقاً ما هو إلا أمنيةٌ أردناها تتكينن واقعاً لنقر
اعترافاً بامتلاكها. نتركها للعقل يجسدها خلقاً، وللأيام تحيلها واقعاً...
تذكرنا (آفا جاردنر) في فيلم ((القتلة)) التي يشاطرها بطولته (برت لانكستر)
وهي تخطو من أمامه بحذاء ذي كعب عالي بهيمنة الساقين وانتقال القدمين علي
إيقاع غواية متنامية هي إحدي تقليعات عرض الجمال لا من خلال الوجه أو الصدر
أو الردفين إنما عبر الساقين الطويلتين مفجرتي الإثارة. ساقان تميزت بهما
فوظفتهما (شركة مترو جولدن ماير) المتعاقِدة معها أفضل توظيف نفعي منتجة
صورَ دعايةٍ قالت عنها جاردنر نفسها أنها - أي الشركة - (التقطت لها عدداً
من الصور الساخنة ما يكفي لإذابة القطب الجنوبي). ذلك المشهد تمثل بترك
الكاميرا الجزء العلوي من قوام جاردنر لتهبط ساحبة الساقين وانتقالة
القدمين مالئةً بهما العين الزجاجية بأمر (روبرت سيودماك)، المُخرج الذي
أدرك بفنيته العالية فتنة الساقين المثيرين وتأثيرهما علي العين الباصرة...
وفي رواية ((شهادة وفاة)) للكاتب الروسي " يفدو كيموف " يتساءل الراوي
(بصوت الشخص الثالث) : ((ما هو أجمل عضو في جسد الإنسان ؟)) فيأتي الرد من
فمه : ((إنه ليس الوجه ولا أي عضو آخر، بل هما الساقان والقدمان. إنهما
يمنحان الجسد كلَّه قوامَه وجماله.)) الروائي يجعل من هذا الإفضاء
استهلالاً لوضع المتلقي بمواجهة صانع الأحذية ((ماتفي)) الذي يتولي صناعة
حذاء عرض جمال الساقين بذائقة حالم يتمني لساقيه الذين بترا في الحرب أن
يعودا.. وإذا كان صانع الأحذية أداة صنع وسيلة عرض الجمال فإن العامل الذي
يلبي حاجات ومتطلبات النساء في معارض بيع الأحذية هو أكثر البشر مشاهدة
لسيقانهن ومعرفة أحجام أقدامهن وتحبيب اقتناء الحذاء المناسب جمالياً لقدم
هذه أو تلك. هو المتميز الذي يكاد يكون الوحيد مَن يمتلك بفضل وفعل الحرفة
فنيةَ تقييمِ ّجمال السيقان ومطواعية الأقدام في إظهار ذلك الجمال. إذ
بيديه يدخل الأحذية في أقدامهن ؛ وبعينيه يقيّم نسب حجم بطة الساق لديهن إن
كانت ممتلئة أم ضامرة، طويلة أم متوسطة ، لها قوام الفتنة أم مبعث
لامبالاة لحظة التطلع إليها، هل تستحق جمالية الحذاء أم لا ؟..
بين الموسيقي والتشكيل
بمنظور الخلق المتناغم الذي يعتمد علي عين
تتابع وذائقة تُميز يترجل الفن في أبهي تواجده وحمي اندفاعه لتقييم الماثل :
بفصل الانتظام عن الفوضي، والمتحرك الراهص عن الجامد المتكتل. يترجم الفن
براعته ويبدي تحركه علي أرضية النغم واللون اعتماداً علي مواهب تقدم
للبشرية نشيداً هارمونياً رخيماً أساسه الجسد والحركة وهمس الطبيعة
الغنّاء.
في الأداء الهارموني لرقصة (الفلامنكو) الاسبانية يتحدث الجسد
بلغة الساقين وهما يدخلان في توافقية تؤديها القدمان علي إيقاع ضربات
الحذاء ذي الكعب العالي مانحاً عضلة الساق امتلاءاً يترجم شموخاً يبعث علي
إثارة متعة الناظر، وأبهة تثير لديه محفزات الهيام... تنشد العيون إلي ما
قد نطلق عليه (النص الحركي) في عملية قراءة الأداء الباعث علي نشوةٍ تخلق
هوية فعلية تتراجع كل النصوص الحركية عن تجاوزها أو حتي الدنو منها بينما
لا تعدو الأداءات التمثيلية التي يقوم بها الجزء العلوي من الجسد (اليدان
وحركة الرأس والصدر) إلا مكملات تجميلية للغة الساقين... وهل تغيب عن
الذاكرة سيمفونية (بحيرة البجع) كتجسيد ساحر علي المسرح لسيقان فتية تتهادي
علي أوتار حزمة آلات (كمان) تنتج غيوماً من المتعة تهمي رذاذاً من حبور
يتسلل إلي النفوس فيحيلها أطفالا يمرحون، وهوائيات أبطالها (الفلوت)،
و(البوق) ؛ و(المزمار) في تحاوره مع مفردات الطبيعة كونه الأقرب إلي فهم
دواخلها وانفعالاتها فتتعالي أصابع السعادة تؤمي لكل مسرات الأرض أن تمر
عليها بغية ترجمتها طمأنينة ورفاه للبشر، وسلاماً أيضاً يصافح الجميع، يجعل
الأعماق تهتف بلسان الزهو والإعجاب ثناءً علي جايكوفسكي لخلقه عوالم جذل
لا يكف بنو البشر عن استعذابها بشهية فائقة السعة والمديات.
وفي الفن التشكيلي توجه ادغار ديغاس في تعامله الفني لخلق اتجاه خاص به
إلي راقصات الباليه. فقد حدس هذا القادم من مدرسة الانطباعية والغارق في
بحر ألوانها الراقصة وضيائها المتوهج بحسه الفني أن الدخول إلي فضاء
الباليه يعمق نظرته في مسؤولية الفن في استنطاق الجمال ويؤكد اتجاهه الخاص
كانطباعي يري في أيقونة الجسد تعبيراً لمفردات الطبيعة لا تقل أهمية عن
جمال الشجر، وسحر النهر، وفتنة السماء. أطلق لذائقته الفنية العنان لأن
تسوح في عالم الراقصات وهن ينعمن بزهو الشباب ويحلقن علي سيقان تنهض بحبور
أخاذ وأداء فاتن علي أطراف أصابع بلغة (ساقيّة) لا يبلغ إتقانها إلا من
اتخذ من الجمال ديناً وديدناً. سيقان حين التحدث تصبح غابة تعرض للناظر
فاكهة مستلة من فراديس الجنان.
وإذا طرقنا الباب علي سلفادور دالي فإن
أول ما يلفت انتباهك من كل خلقه الفني واستنباطات تيار اللاوعي بعد
استقباله لك لوحة (فتاة النافذة)، تلك التي لا يختلف اثنان في اختيار عنوان
محتمل لها إلا أن يكون فتاة النافذة.. سلفادور يجعلها تستقبلك - من بعده -
استقبالاً غير معهود، شأنها شأن تقليعاته الغريبة في تقديم أعماله. فأنت
لن تر وجهاً وملامح ؛ ذلك انك تفاجأ بقوامها من الخلف وقد اتكأت علي
درابزين نافذة تطل علي بحيرة تاركة ساقيها الممتلئين يبوحان بجمال آيروتيكي
تنسي بفعل سطوته كل المفاصل والأشياء التي تضمها اللوحة ؛ إذ يتركز نظرك
علي الهيمنة الجمالية التي خلقها هذا العابث بالألوان والمواضيع فيجعلك
تشعر وأنت تغرق رويداً رويدا في بحيرة الانشداد إلي فتنة الساقين ينسكبان
علي قدمين ألبسهما حذائين خفيفين كحذائي راقصات الباليه قصدَ سحب البساط من
حسبانك أو ظنك أن تمثُّل سحر الساقين متأت من الحذاء إن جعله بكعب عالٍ.
وأنا
أختم هذا المد التدويني لتناول تاثير الساقين في عين الناظر وجذب تركيز
العيون المتطلعة إلي قوام نحو انتقالة القدمين بدرت مني حركة رأس إلي أعلي
فتصمغت عيني علي شاشة التلفاز وهي تعرض مشهد وصول ألأمير البريطاني الشاب
وليم وزوجته الدوقة (كايت ميدلتون) إلي لوس أنجلس. أظهرتهما الكاميرا
يبتسمان ويمدان يديهما لمصافحة مستقبليهم. وكما لو أن المصور غمز لي من خلف
الكاميرا التي يحملها ليقول سأجعل عملك يحظي بالمصداقية طفقَ يوجه كاميرته
إلي وجه الأميرة ثم يهبط شيئاً فشيئاً ببطء وانسيابية علي القوام
بـ(الكوستم) الأخضر. حتي إذا بلغ ساقيها المنتصبين ثبت عين الكاميرا بقدر
ما يتسع الوقت لسرقة ما تشتهيه عين المشاهد دون أ