عادت
أجهزة الأمن المصرية وألقت القبض على ١٥ من قيادات جماعة الإخوان
المسلمين، بينهم الدكتور محمود عزت، نائب مرشد الجماعة، والدكتور عصام
العريان، والدكتور عبدالرحمن البر، عضوا مكتب الإرشاد، كما شملت قائمة
المعتقلين مجموعة من القيادات الوسيطة للجماعة فى القاهرة، والجيزة،
والشرقية، وأسيوط، والإسكندرية، والغربية.
وبدت هذه الحملة هى الأقوى التى تعرض لها الإخوان طوال عهد الرئيس
مبارك من زاوية استهدافها لثلاثة قيادات فى مكتب الإرشاد بينهم نائب مرشد
الجماعة، وأعقبت حديثاً تصالحياً للمرشد الجديد تجاه النظام القائم عبر
فيه عن استعداده لقبول التوريث فى حال إذا جاء بوسائل ديمقراطية، وتحدث عن
أن دور الإخوان هو النصح والإرشاد، وأنهم لا يعارضون بغرض المعارضة، ودعا
الحكم للحوار معهم وأدان حوادث العنف الطائفى.
والمفارقة أن هذه الاعتقالات جاءت فى أعقاب سيطرة التيار الدعوى
المحافظ على مفاصل الجماعة، واستبعاد من تبقى من رموز التيار الإصلاحى بعد
انتخابات شكك كثيرون داخل الإخوان وخارجها فى نزاهتها، وبعد أن خرجت
مؤشرات تقول إن الإخوان لن ينخرطوا فى العملية السياسية ولن يحرصوا على
المشاركة بقوة فى الانتخابات التشريعية، خاصة بعد أن راجت فكرة داخلهم
تقول إنهم دفعوا ما يزيد على خمسة آلاف معتقل بسبب نشاطهم السياسى
والبرلمانى، وإنه حان الوقت لكى يعودوا إلى بناء التنظيم والنشاط الدعوى.
ولم يشفع هذا الانسحاب الجزئى للجماعة من ساحة العمل السياسى، عند
الحكم من توجيه ضربة أمنية جديدة تكرس خيار «الأمن فوق الجميع» كوسيلة
وحيدة للتعامل مع أى تيار سياسى منظم بصرف النظر عن توجهه السياسى: إصلاحى
أو محافظ، ديمقراطى أو غير ديمقراطى.
والمؤكد أن هذه الاعتقالات التى تعرضت لها جماعة الإخوان المسلمين ليست
جديدة، ولم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، وهى تأتى فى إطار استراتيجية
أمنية محكمة تقوم على «المواجهة المحسوبة» التى تستهدف إضعاف الجماعة
وربما إخراجها من المجال السياسى دون الوصول إلى الاستبعاد الكامل من
المجال العام، أو تفكيك التنظيم وإنهاء وجوده عبر الدخول فى مواجهة
استئصالية تكلفتها باهظة ونتائجها غير مضمونة، خاصة فى ظل اتباع الحكم
استراتيجية تقوم على تجاهل مطالب المعارضة وتركها تتحرك فى بيئة مليئة
بالفخاخ ويغيب عنها أى معايير قانونية أو سياسية فتضطر أن تخطئ حتى لو لم
تكن ترغب أو تنشق على نفسها إذا نما عودها أو خرجت عن الطوع، لأنه لا توجد
قاعدة قانونية تحكم العملية السياسية، وحركة الأحزاب إنما مناخ عشوائى فيه
كثير من الفوضى وقليل من القواعد.
ومن هنا فإن استراتيجية «المواجهة المحسوبة» تأتى بالضبط على مقاس حالة
الجمود والفشل السياسى الذى تعانى منه مصر، فهى «تلصم» الأوضاع القائمة
وترحل المشاكل إلى حين فرج الله، وتقضى على أى فرصة أمام تطور التيارات
الشابة والإصلاحية داخل جماعة الإخوان المسلمين وباقى القوى السياسية فى
اتجاه مزيد من الانفتاح الديمقراطى والمدنى، لأن الرسالة واضحة: مهما
فعلتم، وسواء كنتم إصلاحيين أو محافظين، ديمقراطيين أو ظلاميين، جهلاء أو
متعلمين فالنتيجة واحدة أنه ليس هناك أى أمل أو أفق للإصلاح عبر العمل
السياسى المنظم.
ولأن استبعاد أى تيار فى نظم التعددية المقيدة يكون عادة على أساس قربه
أو بعده من التوجه العام للدولة، وإذا قلنا إن الإخوان ببرنامجهم المعادى
للمواطنة وبفكر التيار القطبى المسيطر على الجماعة لا يمكن قبولهم فى ظل
أى نظام ديمقراطى إلا إذا راجعوا مثل هذه الأفكار، فالسؤال هل يستبعدهم
الحكم بسبب بعدهم عن الديمقراطية أم لكونهم كياناً منظماً يتسم بالكفاءة
ولو النسبية فى الأداء،
وإذا كانت الإجابة هى الأولى فلماذا لم يقبل النظام السياسى حزب الوسط
كحزب سياسى شرعى بعد أن حسم إيمانه بالديمقراطية والمواطنة وضم فى عضويته
عدداً يعتد به من الأقباط، أو حزب الكرامة الذى لديه ثلاثة نواب فى
البرلمان، وهو حزب ناصرى جاد وليس إسلامياً، وأخيرا لماذا لم تتح الفرصة
لأحزاب المعارضة الأربعة الرئيسية ( الوفد، والغد، والجبهة الديمقراطية،
والتجمع) للحركة فى الشارع السياسى دون القيود والمضايقات المعروفة حتى
يمكن حصار الإخوان بالسياسة وليس الأمن.
والحقيقة أن كثيراً من المجتمعات التى تطورت نحو الديمقراطية الكاملة
بدأت بنظام التعددية المقيدة الذى وضع آلية للتنافس وتداول السلطة بين
القوى، التى اختار النظام بمحض إرادته، أن يعطيها الشرعية ( وهو ما لم
يحدث فى الحالة المصرية)، ثم بعد ذلك فتح الطريق أمام القوى «غير الشرعية»
لكى تطور من نفسها أولا حتى يتسنى لها أن تندمج فى المنظومة السياسية
القائمة، وقواعد النظام الديمقراطى كما جرى فى تركيا وغيرها من دول أمريكا
اللاتينية.
والمؤكد أن الإخوان لم يقوموا بواجبهم نحو إصلاح أحوالهم فلايزال هناك
إصرار على التمسك بصيغة الجماعة التاريخية التى تمزج بين الدعوى والسياسى
ولايزال هناك عدم فهم، وأحيانا عدم رغبة فى فهم تعقيدات الواقع السياسى
المحيط، وميل إلى التصورات المبسطة وأحيانا المسطحة لكثير من الأمور
السياسية، بل وكثيرا ما تحدث بعض أعضائها «بفخر» عن التضحيات التى قدموها
والمحن التى عرفوها والمعتقلات التى دخلوها، وكأن مهمة أى تيار أن يفتخر
بمآسيه الممتدة منذ ٨٠ عاما، دون أن يمتلك القدرة أو الرغبة على طرح
السؤال: هل كل هذه النظم أخطأت بحق الإخوان وهم كانوا ملائكة وضحايا؟،
ألم يوجد فى فترة من الفترات تنظيم خاص قتل أبرياء وحاول اغتيال جمال
عبد الناصر عام ١٩٥٤، ألا يوجد برنامج أرسله الإخوان منذ أكثر من عامين
للنخبة السياسية وفيه من الكوارث فى الشكل والمضمون مايستلزم المراجعة ولم
يجر عليه أى تعديل، ألم تجر انتخابات مكتب الإرشاد بصورة غير شفافة،
واستبعد فيها كل من خالف أوامر حكام الجماعة التى بدت فى وضع مقلق أمام
الرأى العام والنخبة المصرية بعد أن تقدمت خطوات فى المجال السياسى سرعان
ما أجهضت ما بنته هى نفسها؟!
ولعل هذا يفسر الحياد اللافت للجماهير أمام أى اعتقالات يتعرض لها
الإخوان، فرغم اتساع رقعة التنظيم وقوته فإن المواطن العادى شعر بأن هذا
التنظيم ملك للإخوان وليس له، وأنه مهما كان رفضه لتلك الاعتقالات، فإنه
لن يتحرك لنصرة من ذهبوا إلى السجون، لأن لديه شعوراً بأن الجماعة تتحرك
من أجل أجندة نصفها علنى ونصفها سرى، هدفها الأساسى الحفاظ على وحدة هذه
الجماعة بصرف النظر عن حصيلة هذه الوحدة.
ستظل مسؤولية النظام السياسى عن حالة الفشل والتعثر التى أصابت كل
القوى السياسية المصرية مؤكدة، وسيظل اعتماد الخيار الأمنى كخيار وحيد
للتعامل مع أى تيار سياسى خيارا فاشلا لا يبنى أمة ولا يصنع مستقبلاً،
وأنه لا بديل لحل معضلة الإخوان التاريخية، إلا بفتح أفق سياسى أمام تيار
بداخلها للقيام بعملية جراحية تفصل بين الدعوى والسياسى وتؤسس لحزب مدنى،
مازال الإخوان لا يرغبون فى ظهوره ولا يحتملون حتى الآن استحقاقاته، تماما
مثل الحكومة التى ليست لديها ساحة للعمل السياسى والديمقراطى تشجع أحداً
على الدخول فيها.
السبت أكتوبر 30, 2010 1:26 pm من طرف هشام مزيان