لما
نتحدّث عن الشابي "1909 ـ 1934" إنما نتحدّث عن مرحلة من الشعر التونسي
الحديث. وعن مرحلة عدّ النقاد فيها الشابي رائدها الأول، بل رائدها الأوحد.
وذهب عديد النقاد والشعراء وحتّى العامة إلى اعتبار الشابي شاعر تونس
الأوحد. ولولاه لما كان لتونس شاعر/ رمز، على غرار دول المعمورة، كأن نقول
درويش "فلسطين" أو الجواهري "العراق" أو شوقي "مصر.." ولأن تونس لم تنجب
شعراء عظام، فإن الشابي هو العظيم، على صغر سنّ تجربته الإبداعية.
إن هذا التضخيم والأسطرة "من الأسطورة"
على مشروعيته ـ رغم المبالغة المفرطة ـ لا يجعلنا نعتبر الشابي شاعر القديم
والحديث والمستقبل، أي شاعر الكلاسيكية بالقوة وشاعر التحديث بالفعل. مما
يجعل منه مجدِّدا في شعره وسابق عصره في الفكرة والصورة والشكل. بل عدّه
بعضهم كاتب قصيدة نثر.
وإن كنتُ ـ وهذا الموقف شاذا ـ أشك عن
وعْي في عدّ الشابي مجددا، معتبرا أنه صنيعة الوضع الراهن عصرئذ، وصنيعة
بيت شعريّ هو: إذا الشعب يوما أراد الحياة. بل يذهب المنصف الوهايبي إلى
اعتبار نبوغ الشابي مردّه "غياب السلطة الشعرية في نظامنا الثقافي
الراهن""1".
بمعنى أن الساحة الشعرية العربية مشرقا،
كانت زاخرة بأسماء شعرية لافتة في العراق والشام ومصر.. ولم تشهد الساحة
المغاربية عموما تراكما في الأسماء الشعرية، رغم أنها شهدت حضورا لافتا
لمجالات التاريخ والفلسفة والفقه.
إنما تضافرت في هذه الفترة أسباب
وملابسات معقّدة، نجملها في غياب "السلطة الشعرية" في نظامنا الرمزي، وربما
في ثقافة المغرب العربي قديما وحديثا. فقد عرفت هذه البلاد منظّرين كبارا
في شتى المجالات من فقه وفلسفة وتاريخ ونقد أدبي "ابن سحنون، ابن خلدون،
ابن رشد، حازم القرطاجني.." دون أن تعرف مبدعين كبارا.
ولما تُقارن صورة الشابي بصورة أحمد
شوقي مثلا، فإنك لا تجد ما به ترجّح شاعرية الشابي على شوقي، ولا تجد صورا
تُعدّ خروجا عن المعجم اللغوي أو المخيالي أو الخيالي المتداول، عدا شذرات
يمكن أن يظفر بها كل شاعر.
وعلى قياس عودة فقهائنا وعلمائنا للنص
القرآني كلما اكتشف الغرب حدثا علميا أو طبيعيا باهرا .. نعود نحن للتراث
الأدبي والصوفي وحتى الجاهلي، بحثا عما به نسْتر عوراتنا من فجائية اكتشاف
الآخرين. وكأننا بالأخذ عن الحضارات الأخرى علما وتقنية وفنا .. هو ردّة
"وفقا للمعجم الفقهي" واقتداء بالغالب على حد تعبير ابن خلدون.
ونحن لا نخجل أبدا من التهافت المميت على أشكال الحياة الأخرى من لباس ومأكل ومعمار ونظريات في الاقتصاد والسياسة والفنّ ..
والمسألة هنا لا تمسّ الفكر التونسي فحسب، ولكنها تهم كل فكر له عقدة "الهزيمة" و"التآمر" و"تعظيم الآخر".. أو تعظيم الذات.
بين هذا وذاك ظل الصراع قائما بين
القديم والحديث. قديم يحيل على "أسئلة الوجود الكبرى""2" وحديث ظل في أكثر
نماذجه "مجرد لعبة لغويّة""3" كما يزعم أصحاب الرأي الأول من أمثال الشاعر
القيرواني محمد الغزي الذي لا زال يرفض قصيدة النثر، بل هو لا يكتبها. ففي
اعتقاده"أنّ الطاقة الروحية التي ينطوي عليها شعرنا القديم، لم يتمثلها
شعرنا الحديث. لهذا ظل هذا الشعر الحديث في أكثر نماذجه مجرّد لعبة لغويّة
لا تحيل على أسئلة الوجود الكبرى""4"
ظل الصراع وسيتواصل بين القديم والحديث:
بين قديم قام على "صور عفاها البلى""5" وحديث " يتجاذبه طرفا الأبولونية
"التوازن والتناسب والتناغم" و الديونيزوسية "المصادفة والعشوائية
والغرابة" أو هو يراوح في الفسحة القائمة بينهما، شكلا وصورة ودلالة""6"
كما يزعم أصحاب الرأي الثاني "الحديث" من أمثال منصف الوهايبي الشاعر
القيرواني الذي يراوح في كتاباته بين الشكلين، الموزون والنثر.
وإذا اسْتثنينا الخلاف الحاصل حول
شاعرية الشابي أو حول الموقف من أغراض شعره ـ وهو خلاف مشروع نقبل به طالما
بقي الإبداع في خانة أنأى ما تكون عن العلمية والاتفاق ـ إذا استثنينا ذلك
الخلاف، فإننا لا يمكن أن نقبل بالإسقاطات التي كثيرا ما نُلحقها بظاهرة
ما أو فكرة ما، سياسية كانت أو اجتماعية أو ثقافية/ فكرية .. وهو موضوع
حديثنا الآن.
وهذه الإسقاطات من الخطورة بحيث لا يمكن
السّماح بتنزيلها في غير واقعها. فإن كنا لا نختلف حول اعتبار هذا الشاعر
أو ذاك حداثيا ـ باعتبار أنّ الحداثة هي الأشكال الجديدة، ولكن الثابتة
للحظتنا الراهنة ـ فإننا نختلف حول اعتبار هذا الشاعر أو ذاك كاتب قصيدة
نثر. رغم أنه لم يكتب ذلك الجنس من الكتابة أو لم يقرّ بأنه امتهنه. بل إن
نصوصه تلك كتبت قبل أن تظهر تسمية " قصيدة النثر" إلى الوجود مع مجلة "
شعر".
وقد صرّح أكثر من شاعر وناقد أن بعض
شعرائنا كتبوا قصيدة النثر قبل عشرات السنين من ظهورها مع مجلة "شعر"
اللبنانية، بل حتى قبل ظهور كتاب سوزان برنار سنة 1959 مثل محسن بن حميدة
وأحمد القديدي ومحمد البشروش وأبو القاسم محمد كرو وحتى مصطفى خريّف.. وإن
كان من الممكن أن يكتب مصطفى خريّف قصيدة النثر في ديوانه "شوق و ذوق"
الصادر سنة 1965 وكذلك محسن بن حميدة في "قافلة العبيد" وأحمد القديدي في
"سنابل الحرية".. باعتبار صدور هذه الدواوين زمنيا بعد ظهور مصطلح قصيدة
النثر، خاصة مع تنظيرات أدونيس ابتداء من 1960 وبداية الوعي بهذا الجنس من
الكتابة المأخوذ عن الغرب والمنقول بدوره عن الشعر الأمريكي.
قلنا إن كان من الممكن تقبل هذه
المسألة، فإنه من غير الممكن تقبلها مع بقية الأسماء، فقد جاء عن لزهر
النفطي أنه "وفي تونس نشر أبو القاسم الشابي نماذج من هذا الضرب من الكتابة
الشعرية بجريدة الصواب سنة 1928 كما نشر محمد البشروش بمجلة المباحث التي
أسسها سنة 1938 بعض المحاولات من هذا النمط الشعري ""7" وأضاف لزهر النفطي
بنفس الدراسة" وفي مرحلة الستينات نشر محسن بن حميدة مجموعته الشعرية قافلة
العبيد وأحمد القديدي ديوانه سنابل الحرية في هذا النمط من الكتابة
الشعرية""8".
ولا أعرف لماذا يصرّ نقادنا وشعراؤنا
على مثل تلك الإسقاطات؟ وكأنهم بذلك يريدون نفي التأثر بالآخر المتأثرين به
أصلا والآخذين منه كل ما يهم شؤون حياتنا.
ثم
أنّ التثاقف والتواصل الحضاري بين الشعوب لم يكف عن التوادد والسجال منذ
بداية النوع البشري. فقد أخذ المسلمون والعرب عن اليونان والإغريق، ليأخذ
الغرب بعدها من العرب تفاعلا وترجمة، وها نحن الآن نأخذ من الغرب فائض
حاجاتهم المعرفية، ولا شيء يمنع ذلك.
إنّ إصرارنا على النبش في قبور تراثنا
بحثا عمّا لا أصل لنا فيه، يعد بحق مدعاة للسخرية والتهكم. بل انّ البعض
ممن اعتبرهم ناقدنا الجليل لزهر النفطي من رواد من كتب قصيدة النثر
التونسية.. رَفَضَ هذا النمط من الكتابة واعتبر أنّ الشعر لا يحتمل النثر
ولا يمكن أن يخرج عن الوزن والإيقاع.مناقضا بذلك ما ذهب إليه ـ أيضا ـ سوف
عبيد في كتابه "حركات الشعر الجديد بتونس" "سبتمبر 2008" إذ ورد أنّ " محمد
البشروش يحذق اللغة الفرنسية بل ويكتب بها أيضا، حيث كان مطلعا عن كثب على
أدبها الذي ترجم منه إلى العربية، فلا عجب إذن أن يكتب الشعر النثريّ وفي
ذهنه الوعي بمسألة التحرر من النمط الخليلي ""9".
فلماذا كان البشروش واعيا بمسألة التحرر
من النمط الخليلي في ثلاثينات القرن الماضي عندما بدأ ينشر نصوصه بمجلات "
العالم الأدبي""7 نوفمبر 1932" و"المباحث" " جانفي 1938"؟
ثم تنكّر في تسعينات القرن نفسه لمسألة
التنظيرات تلك وقصيدة النثر التي كان يكتبها البشروش واعيا بها، كما قال
سوف عبيد ولزهر النفطي. ففي حوار بمجلة المسار التونسية " أكتوبر 1993"
صرّح البشروش أنه يمكننا أن نجد في اللغة العربية نثرا شعريّا أي مُحلّى
صورا شعريّة ومُشْبعا أحاسيس رقيقة لطيفة، لكن لا يتصوّر أن يكون في اللغة
العربية شعر نثريّ، لأن الشعر إذا نثر فَقَدَ صفة الشعر وأصبح كلاما عاديا
مجرّد تقليد أعمى لقوالب أعجميّة بعيدة كلّ البعد عن روح اللغة العربيّة في
شعرها، لأنّ الشعر العربيّ لا يمكن أنْ يتخلّى عن النغم والإيقاع والوزن
مهما كان نوعه""10".
وهذا ينطبق على عديد الشعراء الذين
كتبوا في الثلاثينات وحتى الستينات والذين كتبوا نصوصا عدّوها " قصائد
نثريّة". و قد تغافل عديد النقاد والشعراء عن أنّ المقصود بذلك هوّ خلوّ
النصّ من الوزن. فكلّ ما خلا من الوزن والقافية سمّي "قصيدة نثريّة" أو
"قصيدة نثر".
وهذا ما ذهب إليه عز الدين المناصرة
بقوله "يرى الكثيرون أنّ مصطلحات "الشعر المنثور" أو "النثر المشعرن" أو
"قصيدة النثر" هي مسمّيات لإسم واحد تعني النصّ الذي يخلو من الوزن
والقافية بشكل عام وهو يحتمل درجات من الشاعرية "الصورة واللغة" حسب النصّ
المكتوب""11" لهذا كانت تُكتب تلك النصوص "الخالية من الوزن والإيقاع"
باعتبارها قصيدة نثر، بميكانيزمات تتطابق مع القصيدة الحرّة أو العمودية.
بمعنى أنها تتوفّر على تقفية وإيقاع متواتر ومكثف شبيه بالإيقاع الوزني في
القصيدة الحرّة والعمودية،" فكانت نصوص الشابي منشدّة إلى الوزن والقافية،
تتوسّل بهما خلق موسيقاها وغنائيتها.
إذن، فإنّ قصيدة الشابي لم تبلغ الأوج
الذي بلغته التجارب الحديثة في صياغتها لإيقاعاتها الجديدة. صياغة اسْتعاضت
عن الوزن والتقفية بأبعاد جديدة كإيقاع الصور الشعرية في تجاوزها
وتوالدها. وإيقاع الشخصيات في تصارعها وتماثلها وتقابلها وإيقاع الأزمنة في
تناوبها وتعاضدها" "12."
وإن كان صاحب هذا القول غير مقتنع بهذا
الكلام الذي يأتي في سياق تفسيره لآراء محمد لطفي اليوسفي حول الشابي، الذي
يحوصلها باعتبار الشابي ـ وهو يرسم ما اعتبره النقاد والشعراء قصيدة نثرـ
إنما يرسم فلتات نثريّة موقّعة لا علاقة لها بقصيدة النثر وشروطها. ولم
يتوفر للشابي مفهوم " القصديّة " باعتبارها ذلك " التعمّد في الإبداع
الأدبي وتعطيل دور العبقريّة والإلهام""13".
فكأنّ اليوسفي أراد أن يقول بل هوّ
يصرّح علنا أنّ الشابي في علاقة بقصيدة النثر "لم يكن واعيا بها إطلاقا".
لهذا يجب أن لا نخلط في علاقتنا بالفكر النقدي بين العبقريّة وشروط النصّ
الإبداعي. بمعنى أن عبقريّة شاعر "إذا توفّرت العبقريّة في الشابي" لا تجعل
منه كائنا له القدرة على كتابة كل الأجناس الأدبية السابقة واللاحقة والتي
لا زالت في علم الغيب" فالخطابات التي حرص أصحابها على تضخيم منجزات
الشابي وإعلائها وتمجيدها إنما تمثّل عودة للقدامة" "14"
وإن كان "التضخيم" حسب محمد لطفي
اليوسفي لا يُعلي من قيمة الشابي ولا يقلل من قيمتنا. ولكن اعتبار الشابي
كاتب "قصيدة نثر" منذ ثلاثينات القرن الماضي، تعدّ محاولة إيديولوجية سافرة
ومشبوهة، الغرض منها الالتفاف على منجزات الحداثة والتمسك "بهويّة" مصطنعة
و مأدلجة.
إنّ فراغ الساحة الثقافية التونسية من
الأصوات الشعرية في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، جعل الشابي يتربع على
عرش مملكة الشعر التونسي. وبنيت حوله هالة من عظمة وفخامة مكنته من أن
يكون نصّه أحد رموز الحركة الوطنيّة قبل الاستقلال. ولأن نصوصه "الثورية " ـ
منذ إذا الشعب يوما أراد الحياة ـ ظلت لفترة طويلة لازمة في كل خطابات
الساسة والمناضلين وفاتحة القول لتهييج الجماهير ورصّ صفوفهم... لأنه كذلك
ظل الشابي ذلك الرمز الذي لا يمكن التشكيك في شاعريته، كما لا يمكن التشكيك
في وطنية فرحات حشاد.
وتواصلت معنا قداسته طوال القرن الماضي
وبداية القرن الحالي " وأننا لا نأتي بجديد حينما نقول أنّ الشابي مثّل ولا
يزال يمثّل هرما شعريا لا يرتقي إليه أحد في مسيرة الكتابة الشعرية
التونسية "..." ولربما سيظل هكذا متربعا على مملكة الشعر التونسي لقرون
أخرى قادمة " "15".
كيف إذن نتحدث عن الحداثة الشعرية، وبعض
كتابنا ونقادنا لا زالوا في كهوف القدامة يقتاتون من أصنام الشعر بمثل ما
يقتاتون من أصنام الساسة.
وهذا
ما يجعل مثل هؤلاء يشككون في مسألة التواتر و الصيرورة التاريخية التي تفرض
حتما ـ لا نقول هدما أو إلغاء ـ بل بناء على ما هو كائن بحثا عن المنشود.
لهذا يرى بعض الجهلة، أنّ أغلب الذين جاؤوا من شعراء "لم ينطلقوا مما بلغه
الشابي شعريا" "16" وهذا ما يدفعنا إلى القول أنّ الساحة الشعرية التونسية
هي ساحة الشابي، وأنّ ما سبقه وما لحق به ليس شيئا آخر غير تشويه الذائقة
وقتل الشعر على حدّ تعبير عمّار العوني وهو يصف حالة التسعينات الشعريّة.
وأعتقد أنه منذ 1974 بدأت نسبة قصيدة
النثر للشابي مع كتاب "في الأدب التونسي المعاصر" لأبي زيان السعدي. حيث
عرّج على ظهور قصيدة النثر العربية منذ جماعة المهجر الأمريكي مع جبران
والريحاني وصولا إلى حديثه عن ظهور قصيدة النثر التونسية منذ الثلاثينات
حيث " يبرز أبو القاسم الشابي مجربا لهذا اللون وممارسا له في أكثر من قطعة
واحدة وقد امتازت بإشراقة ومتانة التراكيب وتدفقها بأحاسيس النفس الفياضة
وما توشّحت به من أردية الأحزان وانقباض الآمال وسط عالم يمتلئ شرورا
وآثاما، نفس النغمات الشجيّة التي كثيرا ما طالعناها في قصائد الشابي
المنظومة""17".
وتواصل هذا المدّ التاريخي لقصيدة النثر
التونسية و ريادتها عند الشابي مع دراسات وكتب أخرى، لعلّ أهمها كتاب "
حركات الشعر الجديد بتونس" لسوف عبيد، حيث توفّر على كثير من التهافت و
الاعتباطية وجهل بالفروقات بين قصيدة النثر والقصيدة الخالية من الوزن.
لهذا عدّ سوف عبيد أبو القاسم محمد كرّو من كتاب قصيدة النثر، إضافة
للبشروش والشابي طبعا.
فقد " عُرف أبو القاسم محمد كرو بأعماله
النقديّة في الأدب والتاريخ، فهو إلى الكتابات الدراسية أقرب منه إلى
الكتابات الإبداعية. غير أنّ هذه القصائد تضعه ضمن روّاد قصيدة النثر في
تونس على الأقل، حيث أنّ قصيدته "نجوى الليل" تعود إلى سنة 1946 ""18".
وبين بدايات " في الأدب التونسي المعاصر
"1974" لأبي زيان السعدي، وصولا لكتاب سوف عبيد "2008" تواترت جملة من
الدراسات والمقالات الصحفية حول قصيدة النثر التونسية ونسبة ظهورها للشابي
في ثلاثينات القرن الفارط مع أبو زيان السعدي ومحمد البشروش و كرّو وربما
مصطفى خريف.
وربما ستمطرنا الأيام القادمة بدراسات
وكتب ومواقف أخرى عن ظهور قصيدة النثر ومدى صحّة نسبتها للشابي أو بالأحرى
لمرحلة الثلاثينات مع الأسماء التي ذكرناها.
و
بمثل ما يحدث في الساحة الثقافية التونسية، يزعم بعض شعراء قصيدة النثر
المصريّة أنّ هذا الجنس من الكتابة وجد ما يشبهه في التراث المصريّ القديم،
بل ذهب بعضهم إلى "إرجاع قصيدة النثر المصريّة إلى العهد الفرعوني "
وهو
تعنّت الغرض منه سحب البساط من تحت الحداثة الشعريّة العربية، وإعادة مدّ
البساط الشعري العمودي والموزون. والبحث عن الآباء الشرعيين في سجع الكهّان
وإشارات التوحيدي و إشراقات المتصوّفة ومخاطبات النفري وكتابات نقولا فياض
ونثر الرافعي وحسن عفيف،و ربما الإنجيل والنص القرآني.
وإذا استثنينا القلة "أحمد طه ـ ميلاد
زكريا ـ وائل غالي .." فإن أغلب الشعراء المصريين والعراقيين والسوريين، بل
أغلب النقاد والشعراء العرب يقرون بأسبقيّة قصيدة النثر البيروتية
ويعدّنها بداية قصيدة النثر العربية وبداية انتشارها.
ونحن هنا "كمثل علماء الدين الذين ـ
وبمجرّد أن يكتشف الغرب حدثا علميا ـ يعودون ليفرّوا وينبشوا في النصّ
القرآني ليسْتدلوا على أن القرآن هو الأول والأسبق" "19" بل أنّ بعضهم لا
زال يغط في كهف القدامة، ولم ينتبه بعد إلى أنّ قصيدة النثر قد افتكّت
اعترافا من الساحة الثقافية العربية و تموقعت كأحسن ما يكون التموقع داخل
نسيج هذه الساحة. و أنّ التشكيك في شرعيّة وجود هذا الجنس من الكتابة، إنما
هو شبيه بالتشكيك في الحداثة. ولا أزعم ـ هنا ـ أن قصيدة النثر هي
الحداثة، بل هي جزء من كيانها أو هي أحد تجلياتها.
ومثل هؤلاء كمثل الذين شككوا في وجود القصيدة الحرّة وحاربوها. وعدّوها خروجا عن الجماعة وفق المعجم الفقهي.
غير أن القصيدة الحرة افتكت شرعية وجودها وانتصرت في النهاية على خصومها الكلاسيكيين.
غير أنّ الفرق هنا، أنّ شعراء العمود لم
يعودوا للتراث الشعري ليبرروا عداواتهم للقصيدة الحرة، بل حاربوها
باعتبارها تفسخا شعريا وضربا للغة العربية.
في
حين أنّ خصوم قصيدة النثر ـ من أمثال عبد المعطي حجازي الجاهل أصلا بمفهوم
قصيدة النثرـ اعتبروا أنّ " النصوص النثرية المشتبهة بالشعر قديمة في
آدابنا. و لقد ظن الجاهليون أنّ القرآن شعر وأن الرسول شاعر، وذلك لأنّ في
لغة القرآن مجازات وإيقاعات نجهلها أقرب إلى لغة الشعر منها إلى لغة النثر
".." وكذلك في لغة التوراة وفي المزامير ونشيد الإنشاد ومراثي إرميا وفي
لغة التصوّف نفس شعريّ عميق ""20".
إنّ الساحة الثقافية العربية ـ
والتونسية خصوصا ـ تعيش حالة من الفوضى والارتباك جعلتها إلى الآن غير
قادرة على أن تحسم مسألة التسمية أو حتى شرعية الوجود... وجود نصيّ منذ
1960 لا زال محلّ شكّ وريبة، في حين أن أشكالا حديثة أخرى من التعبير لم
تلق نفس الرفض والتعنت، على غرار المسرح والفن التشكيلي، وهذا مردّه ـ ربما
ـ كون الشعر ديوان العرب وأنّ مجرد التفكير في افتكاك الأسبقيّة منهم
يجعلهم يفقدون كل شيء. و نحن الذين لا سبق لنا غير الشعر الذي افتُكّ منا،
وبات الشعر العربي في مراتب متأخرة بسبب عوامل لا علاقة لها دائما
بالإبداع، ولكن لعوامل حضارية وسياسية ودينية.