2010
بقلم:
عادل حدجامي شارك هذه الصفحة:
تناقلت صحف العرب قبل أيام خبرا
غريبا : هيئة "الأمر المعروف والنهي عن المنكر" في كبرى دول الشرق المتوسط
تحكم، بمعيّة "قاض شرعيّ"، على امرأة بالسجن أربعة أشهر وبالجلد أربعين
جلدة والطرد من البلاد، وعلى شابّين بالسجن ستّة أشهر وبالجلد ستّين جلدة.
قد يبدو هذا الأمر مثيرا، ولكنّ المثير أكثر هو علّة الحكم، فليس السبب هو
أن الأظنّاء ضبطوا متلبّسين بجريمة سرقة أو نصب، أو حتى بدعارة و"العياذ
بالله"، بل العلّة كانت أنهم ضبطوا في حالة "خلوة"؟ والخلوة معناها، حتى لا
تشكل علينا التسمية ونسرح بعيدا، أنهم كانوا جالسين ثلاثتهم يتحادثون،
بكامل الاحترام وبكامل ملابسهم، في مكان ما، دون أن يكون مع المرأة "محرم"،
إذ يكفي في بعض البلدان أن تحادث امرأة "لوحدها" (حتى ولو كنتم مائة رجل)
ليعدّ ذلك جريمة. غير أن العجب يزداد درجة أعلى ليصير أشبه بالكوميديا
السوداء حين نعلم أنّ المرأة تبلغ من العمر 75 سنة، وأنّها في سنّ الجدات،
وأنها قد "بلغت من الكبر عتيّا"، وأنّ الشابين لم يتجاوزا العشرين وبعض
السنين، بل إنّ أحد الشابّين هو في الأرجح ابن العجوز من الرضاعة، وأنه جاء
إليها وزميله ليحضرا لها الخبز لأنّها عجزت عن جلبه، وأنّ زميله لم يدخل
البيت قطّ. لكنّ شيب ناظري المرأة، وسنّها وعجزها ووقارها، وكلّ مبادئ
العقل السليم (والذوق السليم أيضا) لم تشفع لجدّتنا والشابين في شيء عند
رجال الهيئة، ليتصوّروا إمكانا آخر في العلاقات الإنسانية بينهم أرقى من
"التسافد" البهيميّ؛ فكان ما كان من اتهام، وهكذا هي الأمور في شرقنا
المتوسّط.
والحقيقة أنّ الأمر عندي هو، وعلى غرابته وطابعه الهزليّ الأسود، مدعاة
للتأمّل والتدبّر، لأنّ هذا الحدث، ورغم وقوعه في بلد بعينه، يطرح أسئلة
عميقة ومبدئية، تمسّنا نحن جميعا كعرب.
أوّل ما يثيرني شخصيا حين أنظر في الحادث ليس أن تطرد امرأة في مثل هذه
السنّ وبتهمة كهذه، أو أن يجلد شباب صغار على الملأ، بل ما يثير استغرابي
هو أن توجد مؤسّسة "قانونية" أصلا باسم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"،
وأن تصدر بمعيّتها ورعايتها أحكام في حقّ الناس، لأنّ في هذا الأمر خرقًا
لأبسط قواعد الدولة بمعناها الحديث، وفي مستواها المبدئيّ.
تنبني الدولة الحديثة، كما يعرف حتى تلامذة المدارس الثانوية، على
احتكار حقّ استعمال العنف، وعلى وحدة مصدر الأحكام والعقوبات، فلا حقّ لأيّ
كيان أو جهة أو جماعة في الدولة الحديثة أن تستقلّ بقوّة ما أو سلطة ما
بموازاة الدولة، تسمح لها أن تصدر أحكاما أو تطبّقها خارج إطارها، وإلا صار
وجود هذه الدولة نفسها مهدّدا، وصار العقد الاجتماعي منحلا عمليا، إذ إنّ
أساس التعاقد، كما قرّر فلاسفة العقد الاجتماعي وفقهاؤه منذ قرون، هو تخلّي
الناس عن "حقوقهم الطبيعية" (حقّ استعمال القوّة) وحق التصرف فيه، بتفويته
إلى سلطة أعلى هي سلطة الجماعة التي تجسّدها الدولة، فالحقّ المدنيّ
(المواطنة وما تكفله من حقوق) لا يقوم إلا على أنقاض الحقّ الطبيعيّ
(التصرّف وفق ما تتيحه الطبيعة من قوى وإمكانيات)(1). وتنبني هذه الدولة
أيضا على أنّ هذا العنف ينبغي أن يكون "مؤطّرا" بمؤسسة القانون، وألاّ
يتعلق بما يمسّ الكرامة، ولهذا استبدل الجلد والضرب، بالسجن والغرامات. بل
حتى هذا السجن يشترط فيه أن يكون حافظا للكرامة، وموفّرا لشروط الإنسانية،
وأن تكون الغاية منه هي تحسيس المذنبين بخطئهم ودفعهم لإصلاحه لإعادة
تأهيلهم اجتماعيا، فالسجن ليس انتقاما كما قد يفهم البعض، لأنّ الدولة لا
تقيم عدالتها على الانتقام (2)، بل هو إصلاح، ولهذا سمّيت السجون
بـ"الإصلاحيات".
ثم إن هذا العنف لا ينبغي أن ينصبّ مطلقا على الجسد، لأنّ الجسد حرمة في
الدولة الحديثة، فلا يحقّ لأحد أن يلحق جسد غيره بـ"خير" أو بأذى بدون
رغبته، وإلا سمّي في الحالة الأولى اغتصابا، وفي الحالة الثانية تعذيبا،
وألاّ يلتجأ إلى استعماله بشكل مباشر إلا اضطرارا، وفي حالات استثنائية
جدا، مثل أحداث الشغب التي يكون فيها تهديد الأمن العام وسلامة الناس
والممتلكات حاصلا. وحتى هذه ينبغي أن تكون مقنّنة ومحدودة، وإلا عدّت
تعسّفا(3). ولعلّنا ما زلنا نتذكّر الضجّة التي أثيرت في أمريكا في بدايات
هذه الألفية، وفي مدينة "سياتل" خصوصا، حين تدخلت قوات محاربة الشغب بقوّة
في حقّ المتظاهرين الذين سدّوا الطرقات والمنافذ على الرؤساء والوفود
المبعوثة لحضور مؤتمر لمنظمة التجارة العالمية، فاضطرّت القوّة للتدخّل،
إلا أنّ تدخّلها كان من نتائجه إسقاط حاكم المدينة ورؤساء الشرطة والأمن
جميعا، تحت مبرّر "الاستعمال المفرط، وغير المبرّر للقوّة ضدّ المتظاهرين".
الدولة إذن لا يمكن أن تقوم أو تستمر ما لم تراع هذه الشروط، لأنّ العقد
الاجتماعي هشّ بطبعه، ودعوة شخص أو جماعة إلى أن يشارك الدولة في واحدة من
خصائصها المذكورة، معناه تهديد الجميع بالعودة إلى حالة المشاعة البدائية.
وغير خافٍ أنّ القبض على أناس من طرف منظمة "غير حكومية" بهذه الطريقة
وتحت يافطة "النهي عن المنكر"، ومعاقبتهم بالجلد العلنيّ، وإهانتهم وانتهاك
أجسادهم، هو النقيض المطلق لهذه المبادئ الأولية والبسيطة، ومسّ عميق
بآدمية الإنسان، وانتهاك مباشر لحرمته، ودعوة مباشرة للشعب للعودة إلى حالة
المشاعة البدائية.
قد يعترض معترض ويقول إنّ هذه الهيئة مخصوصة ببلد بعينه، وأنّ أكثر
بلدان العرب لا توجد بها هيئات من هذا النوع، وبالتالي فالأمر خاص ومتعلق
بالدينامية الاجتماعية والسياسية لذلك البلد الذي استطاع أن يدمجها في
صيرورته، وأن يقنّنها عمليا، وبالتالي فالأمر لا يهمّنا لأنه مخصوص في
الصفة والسياق. ولكنني شخصيا أعتقد أنّ القضية ليست كذلك ولأسباب عديدة.
في الجواب على الاعتراض الأوّل يمكن أن أقول إنّ "الهيئة" إن غابت في
باقي البلدان؛ فإنّ الروح والمنطق الذين تشتغل وفقهما يظلانّ قائمين، ففي
كثير من دول الخليج الأخرى هناك دعاوى "حسبة" ترفع ويحاكم فيها أناس،
وتصدر في إطارها أحكام. ومبرّر"الحسبة" هو عينه مبرّر "الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر"، بل وفي مصر وسوريا أيضا يوجد هذا الأمر، فأغلب
المحاكمات التي تعرض لها المفكّرون المصريون والسوريون التنويريون كانت في
إطار دعاوى "الحسبة"، ومنها محاكمات صادق جلال العظم ونصر حامد أبو زيد
وسيد القمني.
ثم إنّ في بلداننا العربية أناسا وجماعات تتبنّى رسميا هذا "النموذج"
الاجتماعي والسياسي الذي يسمح بمثل هذه الأفعال، وتعتبره ملاذ خلاصنا من
"كفرنا"، كما أنّ في البرامج الدراسية لمعظم هذه الدول موادّ مقرّرة تحثّ
الناس على "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" باعتباره عنصرا جوهريا في
الدين، كما هو حاصل عندنا هنا في المغرب في مادة "العقائد والعبادات" التي
تدرّس بالابتدائي، ناهيك عن شيوع هذه الثقافة بين الناس في الإعلام
والخطابات، حتى الرسمية منها، وهو ما يبرّر ويقدّم الغطاء الأخلاقيّ لبعض
الجماعات الدعوية، ليخرج أعضاؤها في الأحياء الهامشية والمداشر النائية،
جماعات وفرادى، "ليغيّروا المنكر"، فيترصّدوا "أصحابه" من الناس بالعنف
اللفظي أحيانا أو بالمادي أحيانا أخرى، بل وأن يطبّقوا الحدود بأيديهم، كما
حصل في حادث الذبح الشهير لمواطن في مدينة الدار البيضاء المغربية قبيل
سنوات.
في الجواب على الاعتراض الثاني يمكن أن نقول إنّ الدولة الحديثة ومجتمع
التعاقد لا يمكن أن تقوم لهما قائمة ما لم نفهم بأنّ هذه الدولة هي دولة
مؤسسات، وليست نظام "أخلاق"، وما لم نفهم أنّ هذا "التصوّر المؤسّسي" لا
يمكن أن يتوافق أبدا مع "التصوّر الأخلاقي"، لأنّ كلا منهما ينفي الآخر،
تماما كما ينفي الحقّ المدنيّ الحقّ الطبيعيّ، وأنّ البحث عن تأسيس نظام
"قضاء" معاصر، يتعايش مع ثقافة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" أو دعاوي
"الحسبة"، هو بحث عن تربيع الدائرة، فلا سبيل أبدا للتوفيق بين الأمرين لا
في هذه الدولة ولا غيرها، وإلا صرنا أمام مواقف هجينة وغريبة مثل هذه التي
ذكرنا، وهذا أمر ينبغي أن يستوعبه كلّ دعاة الإسلام السياسي الذين يستغلون
مكاسب الدولة الحديثة وإمكانياتها لإضفاء الشرعية على خطابهم أمام الناس
(الدفاع عن "المواطن" وعن حقه في الحرية والعدالة والمساواة) واستغلال
مؤسساتها (الانتخابات والأحزاب والبرلمان)، ليروّجوا في العمق لقيم تنفي
وتجبّ أسس هذه الدولة وهذه المؤسسات، فلا إمكان لأن تدافع عن الحرية
والمواطنة، التي هي مفاهيم سياسية تنتمي للمجال العمومي، بقيم المعروف
والمنكر والتقوى، التي هي مفاهيم أخلاقية وعقدية "دينية" تقع خارج مجال
التدبير السياسي والمدني.
في الدولة الحديثة لا وجود لـ"لأمر بالمعروف" ولا لـ"لنهي عن المنكر"،
بل هناك القانون والقضاء، وكل محاولة للتوفيق بينهما هي "خرط قتاد"، وبحث
لتمرير "الجمل في سم الخياط".