الفرد حرية متعيّنة في الحاضر،
وتعي تعيّنها هذا كخصوصية. والوعي بهذه الحرية كخصوصية هو ما ينقل الإنسان
إلى مستوى الفردية. والاعتراف بها من قبل المجتمع وتأسيس العقد الاجتماعي
على شرط حمايتها هو ما ينقله إلى لحظة الحداثة. والخصوصية هنا محدّدة
كاستحقاق وجوديّ للفرد تفيد أنه نواة مستقلة لذاتها، ولا تتحدد إلا بهذه
الاستقلالية.
تطرح الخصوصية الفردية مسألة الهوية. إذ أنّ هوية الفرد ليست هي ما
يذوّبه في جماعة يوجد ضمنها. ولا هي انعكاس هذه الجماعة فيه. إنها ليست ما
يوحّده بالكلّ ويماهيه به. بل هويته تكمن في ما يجعله خاصا جدا لا يمكن
إعادة إنتاجه ومطابقته مع أيّ شيء آخر. إنها ما يفرده عن الجماعة وعن كلّ
عناصرها. لذلك فاللغة والدين واللون والعرق لا تشكّل عناصر هوية بالنسبة
للفرد. وإنّما إمكانات انتماء فقط. أمّا الفرد، فهويته توجد حيث تستحيل
الجماعة أن تكون؛ أي في مجال خصوصيته باعتباره أساس غيريته المحضة، أي
تحقّقه كغير دائم بالنسبة للمجموع.
ومن ثمّة فهوية الفرد هي ما يجعل منه استثناء إزاء الجماعة وليس امتدادا
لها. هذا الاستثناء لا تخلقه الضرورة الطبيعية فقط وإنّما الحرية
المتعيّنة في الحاضر. بصيغة أخرى فعبر الحرية يبسط الفرد هويته كخصوصية لا
تقبل الانتهاك ومتعذّرة الاختزال في الجموع.
الحرية الفردية المؤسّسة لخصوصية الفرد هي التقاطع الكونيّ الذي يجمع
الفرد بباقي الأفراد المكوّنين للمجتمع الإنساني. ومن ثمّة فالكونية هي
السيادة الشمولية لمبدأ الخصوصية الفردية. ويجد أساسه الأنطولوجي في
الواقعة المحدّدة في القضية الآتية : "الفرد نواة حرّة"، بمعنى أنّ الأساس
الأنطولوجي للكونية هو الحرية التي تشكّل الماهية الأكثر جوهريّة لكلّ فرد.
وهذه الماهية تمثّل معطى متساويا بين كلّ أفراد المجتمع الإنسانيّ. وهذا
التساوي هو الذي يعطي للكونية قوّتها من حيث هي شمول مبدأ الحرية.
إنّ سعي الإنسان التاريخيّ لتحقيق ذاته يتجسّد في سعيه إلى تحقيق حريته
عينيا في الحاضر، وتحويلها إلى استحقاق معترف به في كلّ مكان وزمان. وهذا
السعي هو الذي تمثّل الكونية استجابة له. بمعنى آخر فالكونية تشكل التتويج
الأقصى للتوق الأكثر صميمية الذي يحرّك التاريخ، أي توق الإنسان في أن تكون
حريته موضوع اعتراف كونيّ لا يخضع لقسمة العقائد ولا الأديان أو الثقافات
أو الجنس أو اللون أو الوضع الاجتماعي… أي أن يكون العالم بكامله مفتوحا
أمام هذه الحرية التي تمثل أساسا وهدفا لقيام كل أخلاق. (1)
عندما نتحدث عن الكونية باعتبارها شمول مبدأ الحرية أي تلك الحرية التي
تمثل استحقاقا وجوديا لكلّ فرد، وتعين نفسها في الزمان كحاضر متفرد، فهذا
يعني أنّ الحرية الفردية هي ما يجمع بين الفرد والكونية؛ أي تلك النقطة
التي تتقاطع فيها الوجود الفردي من حيث هو تحقق خاص للحرية، بالوجود
الكونيّ الذي هو شمول مبدأ الحرية. وهكذا فالخصوصية الوحيدة التي يمكن أن
تسمح بها الكونية، والتي تعتبر متممة لها، هي خصوصية الفرد التي يتجمّع
فيها حقّه في الميول والذوق والاعتقاد والتعبير.. أمّا خصوصية الجماعة
فتؤول حتما إلى نقض للكونية، لأنها تؤسّس للانغلاق بمختلف أشكاله الاثنية
والدينية والعرقية. مما يحول شمول الحرية إلى استثناء خاص محدود في تحققه
في الزمان والمكان، ويقود إلى تجزيء الوضع الإيطيقي للوجود الإنساني،
واقتطاعه وتحويله إلى انغلاقات متصادمة فيما ببينها، ومن ثمّة تحويل
الكونية إلى استحالة. فالسماح مثلا بقيام جماعة تتأسّس خصوصيتها على عدم
احترام الحرية الفردية ومصادرتها، يحدّ من شمول مبدأ الحرية الذي يجب أن
ينطبق في كلّ فرد مهما كان انتماؤه، لأنه يشكل استحقاقا وجوديا يؤسّس
للنواة الكونية التي تؤول إلى اعتراف يضمن لكلّ فرد التمتع بفرديته وتحقيق
ذاته كحرية تصرف ذاتها في عالم يحترمها.
إذن، فالكونية تنجز نفسها من خلال الفرد، وبشكل جدليّ يصبح الفرد
التحقّقَ المجهريَّ للكونية. ويترتّب على ذلك أنّ النقض العمليّ للكونية هو
تدمير الفردية ونسف الشروط الإيطيقية والاجتماعية والسياسية لتولّدها