معظم الناس في العالم العربي
سجناء تيّارين، تيّار الأصالة وتيّار المعاصرة، وغالبية الشباب العرب
بالتأكيد ليسوا بمفصولين عن هذا الواقع فنراهم موزعين بين تيّار الأصالة
والمحافظة والتمسّك بالتقاليد والهويّة، وتيّار المعاصرة المنفتح على كلّ
الموجات القادمة من الغرب والتي من شأن معظمها زعزعة التقاليد وتكريس
مفاهيم بديلة غريبة عن تلك المألوفة في العالم العربي، والشباب بين هذا
وذاك باتوا مشتتين، متطرّفين، رافضين للطرف الآخر.
مَنْ ينتمي إلى تيّار الأصالة ينعتُ المعاصرين بأنهم خونة لهويّتهم
العربية، منقادين للغرب الفاسد، الفاسق، المُنفلت، اللاأخلاقي، ومَنْ ينتمي
إلى تيّار المعاصرة ينعتُ المحافظين بكونهم جامدين، منغلقين على ذواتهم،
غير منفتحين على الآخر، يعيشون في الماضي الميّت ويقدّسونه.
ولكن لوأخذنا وضعيّة مَنْ يرى الأمور من الأعلى، أوإذا أخذنا دور (الشّخص
الثالث) الذي هوخارج تلك الثنائيّة المحصورة في الأصالة والمعاصرة، سنكون
قادرين على رؤية ما لا يراه المُتموضِع في جهةٍ معيّنة الذي لا يرى نفسه
إنما يرى فقط ما هوموضوع بالنسبة إليه، أي الجهة المقابلة له ويطلق عليها
أحكامه الصّادرة عن نقص في المعلومات لديه. إذن: سنكون هنا شخصاً ثالثاً
يستطيع رؤية السّلبيات والإيجابيات الموجودة في كلّ من الأصالة والمعاصرة.
قبل أن ندخل في التفاصيل لا بد لنا من الإشارة إلى غياب الرأي المستقل لدى
الشباب من كلا التيارين وعلى كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية
والاقتصادية….. بالإضافة إلى الازدواجية في المعايير، والاستغراق في
ازدواجية الظاهر والباطن.
الشباب والأصالة
الشباب الذين ينتمون إلى تيّار الأصالة في الغالب لا يتعاملون إلا مع
أشباههم، ونحن نستطيع أن نشاهد هذا بأمّ عيننا في الجامعات مثلا لنرى كيف
أنّ الشاب المحافظ، المتمسّك بقيم الجماعة أوالطائفة الدينية أوتقاليد
المحافظة التي ينتمي إليها لا يتفاعل إلا مع شبيهه الرّافض والخائف كذلك من
الآخر الخارج عن العادات والتقاليد، وقد نسمع حديثاً يدور بين الشباب
المحافظين ينعتون فيه الفتيات اللواتي يرتدين لباساً يُظهر أجزاءً من
أجسادهن، أوالفتيات اللواتي لا يرتدين الحجاب أوحتى النّقاب وذلك بتفاوت،
أي حسب طبيعة المنطقة التي ينتمي إليها الشاب والتي يتمسّك بقيمها
وأخلاقيّاتها، يسمونهنّ بالسّاقطات، الفاجرات، وكذلك فهؤلاء قد يطلقون
أحكاماً صارمة على الشباب الذكور الذين يلبسون لباساً حديثاً أوعلى الموضة
فينادونهم بالمخنّثين، البعيدين عن قيم الرّجولة العربية وعن نمط الرجل
العربي وصفاته المتوارثة، المتعارف عليها عبر الأجيال.
الشباب الذين ينتمون إلى التيّار المحافظ عادة لا يستمعون إلا إلى
الأغنيات التي تحمل طابعاً تراثيّاً، شعبيّاً، أو دينيّاً، بحيث يكون الشاب
ملتصقاً تماماً بقيم المنطقة التي وُلد وتربّى فيها، وهؤلاء ينتقدون
باستمرار ذوق الشباب المعاصرين الهابط والسّخيف الذي ينساق وراء الأغاني
السّطحية التي تثير الغرائز والكليبات التي يعتبرونها إباحيّة.
أما إذا ما أراد الشّاب المحافظ أن يقرأ فسينصبّ جلّ اهتمامه على كتب
التراث والكتب الدينية، والكتب التي تحثّ على التمسّك بالعادات أوالتي
تقدّم إرشادات بشأن الزواج وكيفية طاعة الزوجة للزوج مثلا أوكيفية حماية
المراهق لضمان عدم شذوذه عن عادات المجتمع وأخلاقه.
كما أننا نلحظ الحرص الدائم لدى الشباب المحافظين على عدم مخالطة الجنس
الآخر، بل والخوف والفزع منه والتقليل من شأنه، فالشّاب يعتبر الأنثى
كائناً شرّيراً، مخيفاً، خائناً، ناقصاً في العقل والدين، والشابة يملؤها
حسّ المؤامرة تجاه الشاب الذي حملت له في رأسها صفات الغدر فهو من سيغدر
بها ويستغلّ جسدها وبالتالي عليها أن تكون حذرة منه، وفي كثير من الأحيان
تكون علاقتها به فيها الكثير من المكر من أجل اصطياده كزوج، وبالمقابل
فالشاب المحافظ يكون هدفه الأول في الحياة هو إكمال نصف الدين بالزواج
والإنجاب، فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا، وقد يكون لدى هؤلاء علاقات
سريّة مخالفة للعادات والتقاليد التي يظهرون حرصاً على عدم تجاوزها
وبالتالي يعيشون ازدواجية، في الخفاء يعيشون وجهاً مختلفاً عن الوجه الذي
يظهرونه في العلن.
وإذا ما تساءلنا عن كيفيّة تعاملهم مع التقنيّة سنشهد تناقضاً مضحكاً، إذ
أننا من الوارد جداً أن نسمع آية قرآنية كنغمة يختارها الشاب المحافظ
لجهازه المحمول، وإذا ما شاهد التلفاز سينشدّ إلى تلك القنوات التي تحرص
على عرض كلّ البرامج ضمن إطار دينيّ أو برامج تحثّ دوماً على التمسّك
بالعادات والتقاليد الأصيلة، أوالقنوات الإخباريّة التي تسيّس الدين.
ويتدرج رفض الشاب المحافظ للآخر المعاصر، ولعلّ أخطر مرحلة يصل إليها
الشباب المحافظون في رفضهم للآخر هي تلك التي تصل حدّ التكفير والسعي
لإلغاء الآخر وما ينجم عن ذلك من منظمات إرهابيّة أو جماعات تكفيريّة.
الشباب والمعاصرة
أما الشباب الذين ينتمون إلى تيّار المعاصرة فهؤلاء يرفضون القديم بكلّ
أشكاله وبشكل تعسّفي في كثير من الأحيان. يتابعون الموضة أولاً بأ ول،
يريدون أن يلبسوا لباساً يقلدون فيه صرعات الرّاب مثلا، يصففون شعرهم كما
يفعل الشباب في الغرب، يرغبون بالذهاب إلى الدّيسكو والرّقص على موسيقى
(الماتليكا) على سبيل المثال، يستمتعون في مشاهدة الكليبات ويصرّون على
معرفة آخر ألبومات هذا المغنّي أوذاك، ويمعنون النّظر في لباس وتسريحة شعر
المغنّين والمغنّيات، لا يهمّهم الكلمات ولا الألحان فالمهم هوالصّورة
والإيقاع الصّاخب الذي يثير أجسادهم الجّامحة للحركة المفرطة والتي تأخذ
قسطاً وافراً من حصّة العقل في الحركة والتفكير، ونشاهد هذا أكثر ما نشاهد
في الجامعات بحيث يعيش الشباب هاجس (الشلّة) وما يحمله مفهوم الشّلّة من
رغبةٍ في التمرّد السّلبي على الواقع وبالتالي السّخرية من الآخرين
المحافظين بحجة أنهم متخلفون ولا يواكبون الموضة.
وإذا ما أراد هؤلاء أن يعلنوا عن أنفسهم أنهم شباب الثورة والحماس
والتغيير، وأنهم مثقفون فهذا أمر بمنتهى السّهولة، إذ ما عليهم إلا ارتداء
(تيشيرت) تحمل صورة "تشي غيفارا" وإذا ما رغبوا في التعبير عن تضامنهم مع
أشقائهم في فلسطين فما عليهم سوى تزيين أكتافهم "بالكوفيّة".
أما العلاقة بين الجنسين فتكون انتهازيّة، وصوليّة، وفي كثير من الأحيان
يكون الجنس خلاصة الشعور بالتمرّد على العادات والتقاليد والرّغبة في تقليد
الغرب في كل شيء وبالتالي سيكون الجنس بهذه الحالة ليس أكثر من موضة طارئة
والشباب غير مهيئين لها، فيصبحون عند ارتدائها كما المُسوخ، وتتحوّل
العلاقات إلى علاقاتٍ انتهازيّة هدفها اصطياد جسد الآخر تحت شعارات الحريّة
الجنسيّة، إذ لا قيمة للحبّ والمشاعر الصّادقة في هذه الحالة، وفي الغالب
سينجم عن هذا الاستهتار الكثير من المشكلات منها الاستهانة بقيمة الجسد
ورمْيه في أيّ مكان يعرض عليه الجنس، وقد يُستعمل الجسد بهذه الحالة كسلعة
يُدفع مقابلها المال.
والغريب في الأمر أن الشاب الذي يتشدّق بالحريّة الجنسيّة ليل نهار سوف
يتخلى عن كلّ تلك التبجّحات إذا ما أراد الزواج وسيكون شديد الحرص على أن
يكون هو أول رجل في حياة مَنْ يختارها للزواج، وبالمقابل فالشابة كذلك
حينما تتزوج ستجد نفسها مضطرّة إلى التخلي عن كل القوة التي أعلنتها عن
نفسها كونها حرّة من كلّ العادات والتقاليد وستلجأ إلى عملية تستعيد من
خلالها شرفها (المهدور)، هكذا ندرك مدى التشويش الذي يحياه الشاب العربي
الشّرقي، ومدى التخبّط فيما يتلقاه من أفكار مستعارة لم يكن مستعداً لها
ولا دخلت في نسيج تربيته أصلا، فيصبح الجنس حالة مرضيّة غير نابعة من توازن
نفسي يستطيع الشاب من خلاله أن يمارس حقاً من حقوقه الطبيعية.
كما أننا في كثير من الأحيان نرى أنّ اهتمامات الشباب الذين يميلون إلى
المعاصرة ينصبّ على قراءة المجلات التي تُعنى بآخر صيحات الموضة والماكياج
وبكتب الأبراج وأخبار الفنّانين والفنّانات، أوقد يعنون بقراءة كتب تحمل
أفكاراً مستقاة من الغرب، معروضة بشكل سريع وغير منهجي، مؤدلج وبالتالي
ترضي نهم هؤلاء الشباب في رفض واقعهم الذي يعتبرونه متخلفاً فينساقون وراء
كلّ ما يُعرض عليهم من أفكار غربيّة حديثة، يتلقفونها دون تحليل أوتفكير.
أما فيما يخصّ التكنولوجيا فنراهم يتابعون كلّ جديد بالنسبة إلى الهواتف
المحمولة وفي الغالب يكون جلّ اهتمامهم منصبّ على تحميل الأغاني والصّور
دون فهم لمبدأ التقنيّة وضروراتها، والحاسوب سيكون مخصّصاً من أجل الألعاب
في أغلب الأحيان أوالدّردشة على النت والبحث عن كلّ ما يسلّي ويملأ وقت
الفراغ بأشياء استهلاكيّة، أومشاهدة البرامج التلفزيونيّة التي تقدّم
نموذجاً عصريّاً للشاب كبرنامج (ستار أكاديمي) أومتابعة الفضائيّات
المخصّصة لعرض الكليبات مثل (روتانا) فالرّفاه هوالهاجس الأساسيّ عندهم.
هكذا نرى أنّ الشباب من التيّارين شبابٌ قلقٌ، بائس، فالشاب المعاصر يفهم
الانفتاح على الآخر أنّه استلابٌ وتقليدٌ له في كلّ شيء. وبالمقابل فالشاب
المحافظ أيضاً يجهد من أجل استعادة ماضٍ لا يعود إلا على نحو مهزلة، لا
يدرك أنّ للزمن أبعاد ثلاثة ولا مجال لإهمال الحاضر وبالتالي المستقبل.
الشاب العربي ضائعٌ، يبحث عن نفسه فلا يجدها، فينكص إلى الماضي علّه يجد
هويته الضّائعة فيه، أو يلجأ إلى الآخر الحديث (الغرب) علّه يجد هويته
الضائعة فيه أيضاً، وبين حدّي الأصالة والمعاصرة تلاشى الوسط الأهم،
الواقع، الحاضر، رُدم في فجوة عميقة، وبات الشباب ممزّقاً، مغترباًس عن
ذاته، لا يمتلك حاضره وواقعه كي ينطلق منه صوب الحياة.
الشاب العربي يعيش في تناقضاتٍ مرعبة، فالشاب الذي يدّعي العصرنة، يحمل
أحدث أجهزة الهواتف المحمولة في يده وبنفس التوقيت يحمل أشدّ الأفكار
تخلفاً في رأسه. والشاب المحافظ الذي يحمل مثلا كتاب قرآن في يده اليمنى،
يحمل هاتفاً محمولا في يده اليسرى، يتمسّك بهويّته وتقاليده وتراثه ويحارب
العولمة والغرب في يده اليمنى، وفي يده اليسرى لا يستطيع التخلي عن الهاتف
المحمول والتكنولوجية عموماً والتي هي من صنع الغرب شاء أم أبى.