المرأة المسلمة.. بين الأصالة والمعاصرةإنّ
أهم العُقد والمفارقات التي تواجهها المرأة المسلمة منذ فُتحت أمامها أبواب
ما يُسمّى بالحداثة والعصرنة ومتطلبات المدنيّة، هي قضية الموائمة
والإنسجام بين لوازم الدنيا والتقيد بالفروض والقيم والواجبات الدينية
والأخلاقية (بين الثبات الرسالي ودواعي الإنفتاح على الواقع المتجدد في كل
شيء)، بدءاً من الموضة، وانتهاء بمفاهيم ومعايير المنظومة القيمية الجديدة
التي ربطت نفسها وأريد لها أن تُربط بالتطور العلمي المادي والتكنولوجي
المشهود والوافد الذي حاول غزاة الفكر والواقع الإسلامي أن يجعلوه شاهد
الحقانية والصواب لدى التيار المهاجم.
هذا حيث لا يوجد أدنى شك في أنه ليس ثمة أي إرتباط من قريب أو بعيد بين
الرقي المادي والسداد الحضاري والأخلاقي.. وإنّ نظرة خاطفة إلى أخلاقية هذا
الصعود المادي وطريقة تعاطيه الإستعماري المتجبر مع الواقع الإنساني من
حوله، تكفي للحكم على حقيقة مضامينه القيمية وتوجهاته ودوافعه المعلنة
والخفية من الهيمنة والإستغلال واستحمار الآخرين على كل الأصعدة الثقافية
والحضارية والسياسية من خلال الإستعمار المباشر بسياسة الغزو والإحتلال
وفرض الإرادة بالهيمنة المذلة القاهرة، ثمّ بالتقسيم، وفرض الوصايات،
وتغيير المناهج، وتنصيب الصنائع والتابعين، وتشجيع جهود الغواة والمخدوعين
لحرف الأمّة عن مسارها، والمرأة خصوصاً، عن جادة الفضيلة والإستقامة،
وجعلها أفضل وسيلة وآلية لتخريب كيان الأمّة الأخلاقي، وجرّها بالتدريج إلى
مستنقع الحضارة المهاجمة، حضارة التحلل والإبتذال بإسم تحرير المرأة،
وإنقاذها من براثن التخلف الذي صرّحوا ولمّحوا إنه من معطيات دينها
وعقيدتها، لا من الممارسات والإجتهادات والنظرات التي ينفذها في حقّها
المحسوبون على الإسلام بإسم تعاليمه.
إنّ مفهوم الأصالة يعني الثبات على المفاهيم والقيم النابعة من العقيدة
والشريعة والأعراف والتقاليد المنسجمة مع روحها، وتعاليمها، وجوهر توجهاتها
وأهدافها وملاكاتها التي تريد أن تصوغ الواقع على أساسها، وتحميه في
إطارها من الضياع والإنهيار، وتبقيه في دائرة أمجاده الحضارية والقيمية
التي جعلت منه ردحاً من الزمن سيد الواقع الإنساني ورائده على طريق السمو
الإنساني والسعادة المثلى في بحبوحة الرفاه المنشود بالخلاص من الربوبيات
الزائفة، ومن طواغيت السلطات والأفكار والرؤى الزائفة التي تسخر الإنسان
خليفة الرحمن إلى رغبات العتاة من الأكاسرة والقياصرة والمستعبدين.
أمّا الحداثة، فهي تعني الأخذ بمعطيات الواقع المتجدد، والإنسجام مع
تداعيات التطور المدني والمادي، ومماشاة الركب الصاعد للقيم والنظرات
الجديدة عن الحياة والمنظومة التنظيرية والتقنينية المرسومة لهذا التحول
المشهود القائم على أسس الإنطلاقة البشرية في شتى المجالات العلمية
والفكرية والثقافية والتكنولوجية.
إنّ هذه الإنطلاقة، وكما هو مشهود للجميع، خالية من أي معنى من معاني
الحضارة الروحية، وهي تكابد الخواء المعنوي القاتل، وتكاد تتمحض بصورة
مطلقة للتوجهات المادية والإلحادية تحت إطار (العلمنة)، وإبعاد الدين عن
الحياة، وجعله إختياراً فردياً مسموحاً به كعلاقة خاصة بين الإنسان وربّه،
ولا شأن له بالأطر التنظيمية التي تدير شؤون الواقع بشتى مناحيه وأشكاله.
ومن هنا، فإنّ هذه الوثبة تحمل في طياتها أخطر أمراض النفس، وأسوأ
المكابدات العصبية المرهقة التي لم تُجدِ معها نفعاً كل هذه المهدئات،
والمسكنات، وألوان البريق والصخب والمظاهر الخلابة التي تشاغل المشاعر،
وتعبث بالأحاسيس، وتستغفل القلوب التي لا يمكن أن تصم سمعها عن نداءات
الفطرة القاضية بالإلتفات إلى الجانب الآخر الذي يصيح في الأعماق: من أين
جئنا؟ وما هو المطلوب؟ وإلى أين نعود؟
نعم، هذه الإنطلاقة تحتوي على الكثير من المكاسب المادية والمدنية التي
بإمكانها أن تكون وسائل للرفاه والراحة المادية التي جعلها الله سبحانه من
زينة الحياة وإمكاناتها المحللة التي لم يُحرِّمها على عباده: (قُل مَن
حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيِّبات من الرزق...)، وقد حثّهم على
إغتنام طاقات الوجود وسننه وإمكاناته لإبداع كل ما يعينهم في مسيرتهم مسيرة
الخلافة له على أرضه، ويخفف عنهم أعباء الحياة وتكاليفها، ويسهل عليهم
أداء ما عليهم في تجربة هذه الدنيا الفانية من تكاليف ووظائف إزاء أنفسهم
وغيرهم من أعمال البر والإحسان، وإعمار النفوس والواقع بالقيم والممارسات
الخيرة القائمة على هدى الوحي العاصم، وتسديدات النبوة الهادية إلى طريق
الرشاد.
إنّ كل ما هو مباح في مبادئ الشريعة من معالم التطور والمدنية في شتى
المجالات، هو من عطاءات الله سبحانه لهذه البشرية بما أتاحه لها من الفكر
الخلاق، وتسخير الواقع بالإمكانات والطاقات والتجارب المتراكمة المبدعة،
ولا ينبغي للإنسانية أن تتجاهل هذه المنن الربّانية التي تخطو بها مع نعم
الله وبركاته التي لا تحصى.. خطوات واسعة نحو الرفاه المادي الذي فتح الله
سبحانه أبوابه أمام البشرية: (وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله
لا تحصوها...)، (وسخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه...).
ويبقى المطلوب الإلهي الأساس من عابديه إزاء نعمه الموفورة هذه هو شكرها
بحسن التصرف فيها في مرضاته جلّ شأنه، وخدمة رسالته وخلقه، وعدم استغلالها
في المنكرات، ومعصية البارئ العظيم، والتجاوز على الآخرين، فما دامت هي
أدوات ووسائل لأداء واجب الخلافة العابدة الشاهدة، فإنها يجب أن تكون
منضبطة بضابطة الورع والقيم الربّانية والموازين الشرعية على مسار تحكيم
رسالة الله سبحانه في بلاده وعباده.