مازالت الديمقراطية من بين
المفردات الأكثر تداولاً ورواجاً في الكتابات العربية المعاصرة، لكنّها
تبدو في الوقت عينه، الأغمض والأشدّ التباساً في أذهان كثيرٍ من الكتّاب
والسياسيين والمثقّفين "الديمقراطيين" العرب. يستند هذا القول إلى ما تشي
به أفكارهم وتصوّراتهم التي تصلنا من خلال كتاباتهم ومقالاتهم أو أحاديثهم
المنشورة، سواء في الصحافة الورقية والمواقع الإلكترونية أو على القنوات
الفضائية.
ويعود جانب كبير من ذلك الغموض والالتباس، حسب ما نرى ونعتقد، إلى طغيان
نزعةٍ "سياسوية" تبدو مسيطرةً إلى حدٍّ كبير لدى العديد منهم، وبشكلٍ خاصّ
من كانوا "مناضلين سابقين". أولئك الذين ينحدرون من (أو المنشقّين عن)
جماعاتٍ وأحزابٍ سياسيّة معارِضة لا تختلف عنهم كثيراً في "السياسوية" وضيق
الأفق، تارة بذريعة "التوازنات والتحالفات" وأخرى بسبب "التكتيكات
والأهداف المرحلية"، وبالتالي لا ينقص أدبيات تلك الأحزاب التخبّط
والارتباك حين تتحدّث عن الديمقراطية وتتشدّق بها.
وغالباً ما تُختصر الديمقراطية، لدى عددٍ غير قليلٍ من دُعاتها في
المنطقة العربية، إلى جانبٍ من أدواتها الإجرائية، أو إلى واحدٍ من مبادئها
ومفاهيمها النظرية. يتمّ ذلك حسب المصلحة الخاصّة لهذه الفئة أو تلك، سواء
كانت فئة سياسية أو عرقية أو دينية أو حتى اقتصادية، بحيث تعمل على تضخيم
الجزء الذي ترى فيه مصلحتها وتعلي من شأنه وتجعله على رأس الأولويات،
فتُغفل أو تُقلّل من شأن باقي الإجراءات والمفاهيم التي غالباً ما لا تنسجم
معها، حتى أنّها قد ترفض القبول بها أو ببعضها على الأقلّ. والنتيجة تكون
التضحية بمقوّمات الفكر الديمقراطي الحديث على مذبح المصالح السياسية
الآنية والمتبدّلة. يعود ذلك بالطبع إلى قِصَرِ النظر السياسي، وعدم تبلور
وعيٍ حقيقيّ بثقافةٍ ديمقراطية متبنّاة بعمق وجدّية، عدا عن رواسب وتأثيرات
المنابت السياسية والاجتماعية، ذات البنى والمفاهيم الشمولية والقمعية
لتلك الفئات.
والفهم السياسوي للديمقراطية ذو أوجه عدّة لكنّها تشترك جميعاً في
النظرة الاختزالية. سنحاول تناول بعضٍ منها يمكن اعتبارها الأوسع انتشاراً.
لعلّ الشكل الأكثر تعبيراً عن اختزال الديمقراطية في جانب من آليّاتها
الإجرائية، نجده عند من يكادون لا يرون منها غير (صندوق الاقتراع)، الأمر
الذي يحيلنا إلى "قانون العدد" أو سيادة الأغلبية العددية عوضاً عن سيادة
الحقّ، وصولاً إلى منطق (الغَلَبة) واحتمالِ سيطرة الكثرة على القلّة.
من هنا فإنّ تيّارات الإسلام السياسي المختلفة تعدّ بجدارة الممثّل
الأهمّ والأبرزـ إن لم يكن الأوحد ـ لهذا التوجّه، حيث ينسجم مع ظروف
صعودها وانتشارها الحالية، مستغلّةً تعبئتها الدينية الشعبويّة، في مجتمعات
ذات غالبية مسلمة بالأساس، ويشغلُ الدّين حيّزاً هامّاً من وعيها. كما
أنّه لم يعد خافياً نهج هذه التيّارات التي لا تقيم وزناً في خطابها ولا في
سلوكها لاحترام التعدّد والتنوّع وحريّة الاعتقاد، وغير ذلك من بداهات
الثقافة الديمقراطية. (كنّا قدّ توسّعنا في بيان ذلك ضمن مقال بعنوان (في
الثقافة المضادّة للديمقراطية->
http://www.alawan.org/%D9%81%D9%8A-…]" منشور على موقع الأوان بتاريخ 9 كانون الأول/ ديسمبر 2009).
والأمثلة الواقعية تبيّن تدخّل السلطة الدينية لدعاة تلك التيارات
واستخدام نفوذهم "الرّوحي" بغية التأثير على خيارات "المؤمنين" من
الناخبين، سواء من خلال "الفتاوى" و"التكاليف الشرعية"، أو حتى "التكفير"
الذي يُمارَس ضدّ الخصوم السياسيين والفئات الأخرى، ممّا يفرغ عملية
الانتخاب من مضمونها الديمقراطي ودورها الحقيقي.
إنّ الانتخابات وحدها لا تعبّر عن الدّيمقراطية ولا تصنعها، ولا يمكن
لأيٍّ كان أن يدّعي أنّ (أدولف هتلر) ونظامه النازي مثلاً، كان ديمقراطيّاً
لمجرّد أنّ وصوله إلى الحكم قد تمّ عبر صناديق الاقتراع!
في مقابل ديمقراطية الأغلبية أو"الديمقراطيّة الصندوقيّة" تلك، نجد لدى
معظم الأقلّيات، وما أكثرها في بلداننا، نزوعاً متنامياً نحو التركيز بشكل
رئيسي يكاد يكون حصريّاً على مبدأ (احترام الأقلّيات) ومراعاة "الخصوصيّة".
تستوي في هذا التوجّه الأقليات العرقيّة والدينية والطائفية على حدٍّ
سواء.
ولإضاءة هذا الجانب، نرى من المفيد والضروري الإشارة إلى التحليل الهامّ
الذي يقدّمه (آلان تورين) في سياق حديثه عن المخاطر التي تتهدّد
الديمقراطية: "يتجلّى الخطر هنا في المساعدة، تحت اسم احترام الفوارق، على
تشكيل سلطات طائفية، تفرض داخل وسط معيّن، سلطة معادية للديمقراطية. عندئذ،
لا يغدو المجتمع السياسي غير سوق للصفقات التي تُسوّى بشكل غامض بين طوائف
منغلقة داخل الهوس بهويتها وتجانسها" (آلان تورين، ما الديمقراطية، ترجمة
عبّود كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 2000، ص25). لا شكّ أنّ النتيجة
التي تحدّث عنها (تورين) تنطوي على مخاطر جمّة، ليس أقلّها تعميق
الانقسامات العمودية في المجتمع، وإعاقة أيّ إمكانيّة للاندماج الوطني على
قاعدة المواطنة، ولا يُستبعدُ في حالة كهذه احتمال تفجّر الحروب الأهليّة
الكامنة، أو حتّى تفتت الكيان الوطني للدولة وزواله.
في أحسن الأحوال ينشأ عن أوضاع كهذه، نظام توافقٍ طائفيّ لا يمتّ
للديمقراطية الحديثة بصلة، خلا بعض الجوانب الشكلية. في حين أنّ الثقافة
الديمقراطية "ترفض استحواذ الهوية التي تحبس كلّ واحدٍ داخل طائفته وتقصر
الحياة الاجتماعية على مجال من التسامح، وهذا ما يفسح المجال حرّاً، في
واقع الأمر، أمام الفصل العنصري والتعصّب الطائفي والحروب المقدّسة"
(المصدر السابق ص27).
بالانتقال إلى توجّهٍ اختزاليٍّ آخر يكشف مدى البؤس السياسويّ للعديد من
الأحزاب السياسيّة العربية، نجد أنّ عملية التغيير الديمقراطي تتمحور لدى
بعض قوى المعارضة في التخلص من نظم الحكم الاستبدادية القائمة، وهي رؤية
أحادية الجانب بل ولا تخلو من طابع "انتقاميّ" أحياناً، وتعكس قراءةً
تبسيطيّة ميكانيكية تكاد تفترض الشروع تلقائيّاً ببناء نظام ديمقراطي
بمجرّد انهيار الأنظمة العربية القمعية الحالية. وتُساق المسوّغات
والمبرّرات لأيّة أفعالٍ تدفع في اتجاه زعزعة تلك الأنظمة، سواء كان منشأ
تلك الأفعال داخلياً أو خارجياً. وحتى عندما ينطوي الفعل على العنف،
فالتبرير يكون جاهزاً لتحميل الاستبداد مسؤولية توليد العنف، دون إعطاء
اهتمام يُذكر للبنية الثقافية التي تنتج العنف وتشرّعه وتستخدمه، مع ادّعاء
ذلك (البعض) نبذ العنف وتبنّي وسائل النضال السلمي لتحقيق أهدافهم.
إنّ زوال الاستبداد بشكله القائم حاليّاً ـ على أهميته ـ ليس كلّ ما
نحتاجه لبناء نظام ديمقراطي عصري، وكأنّ الباقي تفاصيلُ تُبحث في حينها،
حيث أنّ طرحاً من ذلك القبيل يتجاهل حقيقةً تاريخيةً أساسيّة، تؤكّد أنّ
الأهمّ بل والأصعب ليس التحرير فقط، وإنما تنظيم الحريات التي ستنتج عن
عملية التحرير. التنظيم الذي لا بدّ من فهمه واستيعاب آلياته في سياق العمل
للتحرّر. الأمر الذي لا يستقيم دون العمل على نشر المفاهيم الديمقراطية في
أوساط المجتمع وليس فقط بين النُّخب، بل لا بدّ من محاولة توطينها ما
أمكن كثقافة شعبية قولاً وممارسة، لتغدو خياراً نهائياً يقطع مع الاستبداد
ويمنع احتمالات عودته في المستقبل بأشكال أخرى قد تكون أشدّ فتكاً وظلماً.
أخيراً وليس آخراً، نشير إلى وجود تيّارٍ يُنظّر باتجاه تحرير التجارة
وفتح الأسواق و"لبرلة" الاقتصاد والاندماج بالاقتصاد العالمي، ليكون ذلك
مقدّمة قد تدفع الأنظمة المستبدّة نحو القيام بإصلاحاتٍ سياسيّة تنحو
باتّجاه الديمقراطية تحت وطأة متطلّبات "اقتصاد العولمة". يتساوق طرحٌ من
هذا القبيل مع وصفات (صندوق النقد الدولي) وغيره من المؤسسات الماليّة
العالمية، والتي نعلم مدى كارثيّة نتائجها على المستوى الاجتماعي
والاقتصادي في العديد من دول العالم المسمّاة "الدول النامية".
(اقتصاد السوق) وإن كان الشكل السائد في النظم الديمقراطية الحديثة إلاّ
أنّه يُعدّ نتيجةٌ أكثر من كونه سبباً. والتجربة المصرية في هذا المجال ـ
تمثيلاً لا حصراً ـ تشهد بأنّ الخصخصة وفتح الأسواق لم تغيّرا من بنية
النظام السياسي المستبدّ شيئاً، حتّى أنّهما لم تُخفّفا من وطأة قانون
الطوارئ والأحكام العرفية المسلّطة على رقاب المصريين منذ ثلاثة عقود،
ناهيك عن تدهور الأوضاع المعيشية لغالبية أفراد الشعب المصري. ونجد ذلك
منطقيّاً جدّاً عندما ندرك أنّ المستفيد من "لبرلة" اقتصادٍ منهك في ظل
أنظمة الاستبداد، لا يخرج عن قلّةٍ مسيطرة، هي بالأصل بطانة الحكّام
المستبدّين وأعوانهم وأزلامهم، الذين يرتبطون ارتباطاً عضوياً بنظمٍ
مستبدّةٍ فاسدة، نهبوا وكدّسوا الثروات بفضلها ورعايتها، ولن يتوانوا لحظةً
في الدفاع عن بقائها في سبيل حماية امتيازاتهم ومصالحهم.
إنّ أنماطاً من التفكير والتناول الاختزالي للديمقراطية كالتي أوردنا،
ليست إلاّ مظاهر تؤكّد ما بدأنا به من القول بغموضٍ وارتباكٍ يعتريانها في
التعاطي العربي معها. ويعكس ذلك في مستوىً آخر حقيقةَ التهرّب من متطلّبات
الإقرار والتأكيد الجادّ على أساسيات الفكر الديمقراطي (على تنوّع نماذجه
السياسية التطبيقية)، المتمثّلة بالفعل العقلاني، والتزام حقوق الإنسان
كقاعدة وجذع تنطلق منه كافّة المطالبات والسياسات الأخرى، وبالعلمانية التي
نؤكّد جازمين أنّه لن تقوم قائمة لديمقراطيةٍ صحيحة بدونها، على عكس ما
يثرثر الكثيرون ويسفسطون.
نستطيع بعد كلّ ما تقدّم القول بأنّ الديمقراطية ليست مجرّد مفاهيم
جامدة أو إجراءات معيّنة أو مجموعة من المؤسسات فقط، بل هي بالدرجة الأولى
ثقافة مجتمع وفاعليّة اجتماعيّة، تصيغ جملةً من القواعد والعلاقات التي
تُمكّن الأفراد أو الجماعات من العيش سويّةً وهم مختلفون ومتماثلون في نفس
الوقت، بحيث لا يتعارض اختلافهم مع انتمائهم للجماعة الأكبر ذاتها.