** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 الوعي الهرمينوطيقي و ضرورة تجديد الفهم الديني حسـن الخطيـبـي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
يوسف هاشم
مرحبا بك
مرحبا بك
avatar


عدد الرسائل : 44

تاريخ التسجيل : 08/07/2015
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 6

الوعي الهرمينوطيقي و ضرورة تجديد الفهم الديني حسـن الخطيـبـي Empty
09072015
مُساهمةالوعي الهرمينوطيقي و ضرورة تجديد الفهم الديني حسـن الخطيـبـي

تقـديــم
على الرغم من أن الاهتمام بالهيرمينوطيقا يعود الى النصف الثاني من القرن الثامن عشر إلا أنها أصبحت في العقدين الأخيرين تتبوأ الصدارة بين العلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث أصبحت محط اهتمام وتجاذب العديد من المجالات والتخصصات كالنقد الأدبي والانثروبولوجيا والفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ والفلكلور والسميائيات من خلال ما يسمَّى بسيميوطيقا التأويل. ولقد نتج عن هذا الاهتمام الكبير ترقية معتبرة في عدة أسس وركائز المعرفة ومن جملتها مبحث التفسير والتأويل والحقيقة والمعنى الذي يهمنا نحن في هذه المقالة.
وديدننا من عنايتنا بالهيرمينوطيقا هو استئناف النظر في التراث العربي من دون تحيزات مسبقة، لفهم ذاتنا أولاً في علاقتها بالآخر. فهو يقوم على أساس الانفتاح والتفاعل والتواصل مع هذا الآخر، وذلك لإيماننا بأن الآخر من محددات الأنا وداخل في تعريفه. كما نؤمن باستحالة النظر إلى الأنا بمعزل عما يخترقنا من ذات الآخر. إن معرفة الذات تمر لزاماً، في نظرنا، من معرفة الآخر، كما أن إهمال فهم الذات وتجاوز أطرها المعرفية سيؤدي بالاستلزام إلى عدم فهم الآخر. إن الطريق السوي لفهم الآخر لا يتأتى إلا بمصالحة الذات وسبر أغوارها واكتشاف معدنها الأصلي. إننا نجمل ذلك في عبارة تحديث الأصيل وتأصيل الحديث.
والمسألة في كل ذلك ليست هيمنة الآخر علينا، وليست المسألة قراءة التراث من خلال لغة الآخر، ولكن المسألة في عمقها في نظرنا مسألة تفاعل تفرضه اللحظة التاريخية واكراهاتها واشتراطاتها في زمن العولمة وحوار الثقافات وهجرة الأفكار وتداخلها… وتستدعيه في الوقت ذاته حتمية الاستمرار التي تقتضي، من جملة ما تقتضيه، انجاز التأصيل المطلوب من خلال تفاعل خلّاق بين الأنا والأخر، أو من خلال ما سماه فيلسوف التأويل بلا منازع هانز جورج ڠادامر بـ انصهار الأفاق: أفق الماضي وأفق الحاضر لترهين ذلك الماضي وتحيينه… انصهار يجعلنا في موقف تفاعل إيجابي مع صندوق النقد الدولي، وليس في موقف المستهلك النقدي الذي لا يعرف حتى تاريخ انتاج تلك النظرية النقدية أو تاريخ نهاية صلاحيتها مما يجعله عرضه للتسمم الفكري طبعاً.
إن اختيارنا لهذا الموضوع لم يكن بالمرة بدافع الانحياز الأعمى للفكر الغربي، وإنما كان اختيارنا قائماً في عمقه على قناعتنا بضرورة الإسهام، ولو بالقليل، في مد جسور التواصل بين الأنا والآخر، وتجسير الهوة بينهما، كل ذلك في اتجاه التأصيل وليس في اتجاء الاستغناء. خصوصاً وأن النقد العربي يراوح مكانه اليوم، فلا هو استطاع أن يتبنى المناهج الغربية بشكل صرف ولا هو استطاع أن يخلق مناهجه الخاصة انطلاقاًًً من رصيده المعرفي. وفي الحقيقة إن هذه الأزمة هي وليد شرعي لأزمة العقل العربي عامة.
ولعل هذا المبحث هو منبع كل الروافد الأخرى. فالإنسان منذ صيحته الاولى في هذا الوجود الغامض وهو يبحث عن المعنى ويبحث عن الحقيقة ولايزال الطريق طويلا أمامه. فكلما انتهت الطرقات يبدأ السير من جديد دون نهاية. إن كل سرّ يحيل إلى سرّ آخر من دون نهاية للأسرار. والإنسان الأبله هو من يصيح: وجدتها وجدتها. أقصد الحقيقة. إن الإنسان على هذا الاعتبار كائن تأويلي من الدرجة الممتازة.
إن القضية الأساسية التي تناولتها الهيرمينوطيقا كنظرية تأويلية تحتضن التصورات الذاتية كعوامل لامناص منها في إضفاء المعنى، والدلالة واعطاء الفهم والاستيعاب هي معضلة تفسير النص بشكل عام. سواء أكان تاريخياً أو أدبياً أو دينياً. مع التركيز على علاقة المفسّر بالنص المقروء وحدود هذه العلاقة وتخومها عبر سؤال المعنى. إن أسئلة عميقة جداً تطرحها الهيرمينوطيقا في هذا الموضوع من قبيل:
– كيف يمكن قراءة التراث قراءة أبستمولوجية تتخلص قدر المستطاع من التحيزات المسبقة؟ ولكن هل يمكن للباحث أن يكون موضوعياً في بحثه؟ أليس البحث مرتبطاً بفعل الفهم؟ وأليس الفهم ذاتياً صرفاً؟ أليس وجودنا في العالم، بما فيه من تحيزات وافتراضات مسبقة، هو الذي يجعل الفهم ممكناً؟
– هل يمكن فهم التراث فهماً لائقاً دون النظر إلى مكوناته كوحدة/بنية تتفاعل أجزاؤها وتتبادل الأدوار التأثير والتأثر؟ أليس الثقافي هو الوجه الآخر للسياسي؟ ومتى تخلص الثقافي من الأيديولوجي؟
– كيف نقرأ نصاً معيناً؟ وهل يمكن لنا رصد البعد الثقافي والإيديولوجي في القراءة الأدبية؟ هل يمكن لنا الحديث عن استرتيجية قرائية واحدة وموحدة للنص، بل وصالحة لكل نص؟ لماذا؟ وهل هناك قوانين موضوعية تتحكم في هذه العملية؟ وهل تكون مستويات التلقي ودرجات الاستجابة واحدة أم متعددة ؟ وما السر في ذلك؟ وهل عملية التلقي تتعلق باستجابة القارئ أم بفاعلية النص أم بتوجيه المؤلف أم أنها تقع خارج هذه الأقطاب جميعاً؟
– ما نوع العلاقة التي تربط النص بمؤلفه؟ وهل يمكن أن تتطابق مقاصد المؤلف مع مقاصد نصه؟ وهل يستطيع النص أن يترجم بصدق كبير مقاصد صاحبه؟ وهل الوصول إلى هذه المقاصد أمر ممكن من خلال تحليل نصه؟ أليست اللغة عاجزة على حمل تجارب الإنسان وترجمة مقاصده؟
– وإذا كان الوصول إلى مقاصد المؤلف ونواياه من خلال نصه أمراً بعيد المنال، فهل بإمكاننا أن نتوصل، على الأقل، إلى قصد النص في ذاته وتحديده كما هو ومن ثم تحقيق الفهم الموضوعي الذي لا يختلف عنه اثنان لهذا لنص؟ وكيف يمكن للنصوص أن تراقب تأويلاتها بنفسها. تقبل واحداً وترفض آخر؟ لكن هل يمكن للنص ان يمتلك وجوداً متحققاً من دون تدخل الذات القارئة؟ وهل يمكن الحديث عن معاني النص من دون وجود ذات قارئة لتلك المعاني؟ وهل المعنى موجود في النص كما توجد أضراس العقل في اللثة؟ وهل يمكن الحديث عن وجود ماهية أو هوية أنطولوجية للنص يمكن للذات القارئة أن تدركه كما هو دون أن يكون انعكاساً، أو نتيجة لأفعال الفهم التي تمارسها عليه؟
– هل المعنى موجود ومعطى ومشكّل داخل النص ويجب على القارئ اكتشافه واستخراجه وتوصيله للآخرين، أم أن الذات القارئة والمؤولة هي التي تبنيه وتشيده؟ وهل يمكن الحديث عن المعنى الحرفي للنص؟ هل المعنى ثابت ولازمني ومطلق أم انه متغير وتاريخي ومتعدد ومتغير بتغير زوايا النظر والرؤية للعالم؟ أليس المعنى نتاجاً لفعاليات الذات القارئة؟ وهل هذا يعني أن الفهم ذاتي بالضرورة؟ وفي هذه الحالة، ما حدود تدخل الذات ومشاركتها في بناء المعنى؟ وهل تلتقي الذات مع هذا النص من دون تحيزات مسبقة أو ذاكرة قرائية مسبقة؟ ألم تتعكز الذات القارئة على منهج ما لمقاربة نص معين قصد فهمه وتأويله؟ لكن هل المنهج سابق على الحقيقة/المعنى أم العكس؟ ألم يسهم المنهج في تعميق اغتراب الإنسان إذ ما أن أخرجه من اغتراب حتى ادخله في اغتراب آخر. لأن المنهج قواعد وأدوات استراتيجية تفرضها الذات على الموضوع وبذلك فإن الذات لا تفهم الموضوع كما هو معطى في خبرة مباشرة وإنما تفسر الموضوع وفقاً لما يحدده المنهج من ضوابط وإجراءات؟
– وأخيراً… هل يمكن الحديث عن حدود للتأويل؟ أليس وضع حدود للتأويل هو في حد ذاته عنف ضد الحرية الفردية وتناقض صارخ مع طبيعة روح التأويل وطبيعته، وبالتالي منحناً تأويلاً ناقصاً؟ أليس وضع حدود للتأويل مثل الحديث عن الحرية داخل أسوار السجن؟ هل المعنى مُعطى كمّي حتى نتحدث عن تحديده، أم أن المعنى أثر يمكن معايشته وليس موضوعاً يمكن تحديده؟
1. إشكالية المفهوم أو ذاكرة المصطلح
«Herméneutique»
الهيرمينوطيقا من الكلمات التي اختلف الباحثون العرب في ترجمتها أيضاً إلى لغة الضاد، كما اختلفوا في ترجمة مصطلحات عديدة أخرى وتفرقوا حولها زرافات ووحداناً، ومشكلة توحيد المصطلحات المترجمة قضية تحتاج إلى وقفات متأنية، حيث نجد لهذه الكلمة مقابلات عدة منها: فن التأويل، التأويليات، الهيرمينوطيقا، التأويلية، علم التأويل.(1)
ولكن إذا كان الاختلاف حاصلاً في الترجمة، فإنه ليس كذلك في الإجماع على دلالة هذه الكلمة عن التفسير والشرح والتأويل، أي في ما يمكن تسميته بـ تمكين الفهم(2)، فالاتفاق والإجماع حاصلان في النظر إلى الهيرمينوطيقا كآلية من آليات التحليل والشرح والتأويل، أي البحث عن المعنى في النص.
لقد ذهب شلايرماخر إلى اعتبار الهيرمينوطيقا تعني «فن إمتلاك كل الشروط الضرورية للفهم»، قصد تبيان البنيات الداخلية للنص واستكشاف الحقائق المضمرة والمسكوت عنها فيه، بل والمطموسة «لاعتبارات قد تكون إيديولوجية وتاريخية في الغالب»(3).
كما أن شلايرماخر اعتبر الهيرمينوطيقا بوصفها فن الفهم، وحاول أن يؤسس هيرمينوطيقا عامة بدل كثرة الإفراع الهيرمينوطيقية المنفصلة، لذلك كان هدفه الأساسي «تأسيس هيرمينوطيقا عامة بوصفها فن الفهم»(4).
أما پول ريكور في كتابه القيِّم، (من النص إلى الفعل)، فإنه يعرّف الهيرمينوطيقا رواية عن ڠادامر: «هي الكشف عن شيء النص غير المحدود، لا عن نفسية المؤلف»(5)، وهي «فن كشف الخطاب في الأثر الأدبي»(6).
إن الهيرمينوطيقا ممارسة قديمة قدم الكائن البشري، ويمكن لنا ربط بداياته الأولى بتفسير أعمال هوميروس والشعراء الإغريق في العصر الكلاسيكي(7)، من أجل إدراك مغازيها خصوصاً بعد ما أصبحت لغة هذه الأعمال تتمنع عن الفهم البسيط وتبتعد عن الإدراك القريب، وذلك نتيجة المسافة التاريخية والثقافية التي أصبحت تفصل وقت الإنتاج عن وقت التلقي، وما يصحب ذلك من تغييرات وتبدلات على أصعدة عدة.
هذا الارتباط بمحاولات تفسير أعمال هوميروس وغيره من الشعراء الاغريق جعل الهيرمينوطيقا وثيقة الصلة بالفيلولوجيا (علم اللغة)، ثم انتقلت فيما بعد إلى تفسير وشرح النصوص الدينية اللاهوتية، منطلقة من إشكالية وجود «تواز أو موازنة بين معنيين: المعنى الحرفي وهو العهد القديم، والمعنى الروحي وهو العهد الجديد. وقد تجاوز هذه الثنائية إلى ثلاثية فرباعية، وهي أن النص يحتوي على المعنى الحرفي أو المعنى التاريخي، والمعنى الحرفي والتمثيلي والخلقي والغيبي»(8).
إن البعد، بكل تجلياته، عن العمل الإبداعي يجعل النتاج غريباً في عصر استهلاكه وتداوله، غرابة ناجمة عن البعد الثقافي الحاصل بين الزمنين، زمن الإنتاج وزمن الاستهلاك، زمن الكتابة وزمن القراءة، لذلك يحتفظ التأويل هنا بخاصية الملاءمة التي يعترف له بها شلاير ماخر ودلتاي وبولتمان… أقصد بالملاءمة ان تأويل نص من النصوص يتم في تأويل ذات لذاتها ستفهم منذئذ بشكل أحسن، بشكل مخالف، أو ربما بفهم ذاتها… يمر «فهم الذات من ناحية، عبر خفايا فهم علامات الثقافة، التي فيها (العلامات) تتوثق الذات بالمستندات وتتشكل»(9)، أي أن «تشكل الذات وتشكل المعنى في التأمل الهيرمينوطيقي، او في الهيرمينوطيقا التأملية متزامنين»(10).
«إن من مهام الهيرمينوطيقا إخراج النص من الغرابة ودسّه في الإلفة. لأنه مهما اختلفت التأويلات، فإن أصل نشأته (التأويل) وسيرورته وإجرائه يرجع إلى مقولتين؛ أولهما غرابة المعنى عن القيم السائدة، القيم الثقافية والسياسية والفكرية، وثانيتهما بث قيم جديدة بتأويل جديد، أي إرجاع الغرابة إلى الإلفة، ودس الغرابة في الإلفة»، كما يقول محمد مفتاح(11).
ولعل هذا الكلام هو عينه ما قال ريكور حين اعتبر أن من سمات الملاءمة كذلك «إن واحداً من أهداف أي هيرمينوطيقا هو مقاومة المسافة الثقافية، يمكن لهذه المقاومة بنفسها أن تفهم بعبارات صرف زمنية على أنها مقاومة ضد المباعدة الجيلية، أو بعبارات أحق هيرمينوطيقية، على أنها مقاومة ضد المباعدة إزاء المعنى نفسه، اي إزاء نظام القيم الذي يقوم عليه النص […] بهذا يقرب التأويل، يساوي ويصير معاصراً ومتشابهاً، بمعنى أنه يصير في الحقيقة ما كان غريباً، خاصاً»(12).
بهذا المعنى، فإن الهيرمينوطيقا تقوم بمهمة تجاوز الاغتراب التاريخي للنص عبر عملية الملاءمة أو المواءمة (appropriation)، فعندما يدخل هذا النص في سياق غريب عليه ولا يستوعب فيه، على المؤول أن يجعل ذلك النص الغريب عليه ملكاً له. أي أن يجعل المفسر/المؤول النص منتمياً إلى ما أسماه هوسرل العالم المعاش life world، أو إلى ما أسماه هيدغر الوجود في العالم(13) being in the world، أي نجعل ذلك النص يعيش عصراً غير عصر المؤلف، أو بعبارة ريكور جعل النص حالياً(14).
ويرى ڠادامر هو الآخر أن الحاجة إلى الهيرمينوطيقا تنبع من حال الغربة التي تنشأ بين العمل الأدبي ومتلقيه، فهذه الغربة تجعل فهم النص أمراً صعباً على القارئ، وهي غربة ناجمة عن الفجوة التاريخية بين العمل الأدبي ومتلقيه، إذ لكل منهما أفقه الخاص. هذه الصعوبة يحاول القارئ تجاوزها عبر فعل التأويل، فيأتي هذا الجهد التأويلي لكي يساعده في فهم النص، فتزول الغرابة بين الطرفين، ومن هذه الحاجة إلى إزالة الغربة، وتحويل الغريب إلى مألوف، سيسمتد علم التأويل مسوّغاته ومشروعيته(15).
لهذا فـ «عمل الهيرمينوطيقا الأساس يكشف عن عزم عميق للتغلب على البعد والتباعد الثقافي. كما يكشف عن عزم لجعل القارئ معادلاً لنص أصبح غريباً، وكذلك لدمج معناه في الفهم الحاضر الذي يستطيع الإنسان أن يأخذه من نفسه بالذات»(16)، لأنه ليست هناك حقائق ثابتة، بل هناك تأويلات فقط كما يقول نيتشه(17)، أي إن كل معنى، إنما هو «معنى متعلق بوجود تاريخي عيني محدد، معنى مرتبط بتاريخية معينة، منسوب لها، محمول عليها، مسند إليها»(18)، وبالتالي ليس هناك قراءة دائمة، هناك فقط قراءة تاريخية، ليس هناك معنى دائم أو مثالي، هناك فقط معنى وجودي، أي معنى كما يبزغ خلال فهم القارئ التاريخي للنص التاريخي(19).
ويمكن لنا أن نقف على بعض جذور الفكر الهرمينوطيقي في أصلين كبيرين: الهرمسية والغنوصية.
أ. الهرمسية
لا يختلف جل الباحثين على الأصول الدينية المحضة للهيرمينوطيقا، حيث أملتها الحاجة إلى شرح الكتاب المقدس الذي أصبح فهمه أمراً ليس في إمكان الكل، نظراً للفجوة الثقافية والتاريخية الحاصلة بين أفقه وأفق قراءته. «وهكذا أفضى الخوض في تأويل الكتاب المقدس في تاريخ الثقافة الأوربية إلى بلورة نظرية التأويل، الهيرمينوطيقا، التي تمَّ نقلها من مجال دراسة النصوص الدينية الى مجال دراسة النصوص الأدبية في النظرية النقدية المعاصرة»(20)، ونشأة التأويل هاته بين أحضان المجال الديني جعلته مفهوماً إشكالياً يثير الكثير من المحظورات، حيث ظلّ يتراوح بين الفوز بثقة المؤسسة الدينية تارة، وسخطها وغضبها تارة أخرى، وسبب هذا راجع إلى أن الفكر الديني أراد للتأويل أن يكون فكرة جمعية توسع احتمالات الفهم المقدس للخطاب، كما تحفز فاعلية تقبل هذا الخطاب الى الالتحاق بمسيرة هذا الفهم(21).
هذا التأرجح في قبول المؤسسة الدينية، طوراً للتأويل حين يقدم خدمة لها، وعدم قبوله طوراً آخر حين تعارضه مع أهدافها، هو الذي عبّر عنه نصر حامد أبو زيد، وهو يقارن بين التفسير والتأويل في الثقافة العربية الإسلامية ليقول: «إننا نجدهم يعلون من شأن التفسير لموضوعيته كما يزعمون، ويحطون من قيمة التأويل لذاتيته»(22)، حيث صار شائعاً أن «التأويل جنوح عن المقاصد والدلالات الموضوعية في القرآن الكريم ودخول إثبات عقائد وأفكار، أو بالأحرى ضلالات من خلال تحريف عمدي لدلالات ومعاني المفردات والتراكيب القرآنية»(23)، وأصبح التأويل صنو الفتنة، والمؤول في قلبه مرض الشيطان الرجيم. وذلك طبعاً حفاظاً على مكتساب وامتيازات كما سنحلل لاحقاً.
الهيرمينوطيقا، من الفعل اليوناني، hermeneuein ويعني يفسّر، والاسم hermeneia ويعني تفسير، ويبدو أن كليهما يتعلقان لغوياً بالإلٓه هرمس(24) Hermes، رسول آلهة الأولمب الرشيق الخطى، والذي كان ـ بحكم وظيفته ـ يتقن لغة الآلهة ويفهم ما يجول بخاطر هذه الكائنات الخالدة، ثم يترجم مقاصدهم وينقلها إلى أهل الفناء من بني البشر(25).
إن هرمس، هذا الذي اشتقت منه الهيرمينوطيقا، مرتبط اسمه بوظيفة معقدة هي ترجمة ما يتجاوز الفهم الإنساني إلى شكل أو صورة يمكن للعقل الإنساني إدراكها، مما يعني أن الصورة المختلفة للكلمة تقترح عملية تحويل الشيء أو الموقف خارج نطاق الفهم إلى مجال الفهم(26).
لقد كان هرمس، كما يقول امبرتو إيكو، «كائناً متقلباً، وغامضاً، فقد كان أباً لكل الفنون، وأباً لكل اللصوص في الوقت ذاته، ولقد كان شيخاً وشاباً في ذات الوقت»(27)، إنه «إلٓه الطرق والمفارق والعتبات وعابر الحدود، ويترأس جميع الصفقات التي تعقد على الحدود»(28).
وهذا التقلب، والاختلاف يظهر شغف الحضارة الإغريقية بفكرة التعدد والتنوع واللانهائية، حيث نجد في أسطورة هرمس، والفكر الهرمسي ما يقوض العديد من الأسس العقلية والمنطقية التي تأسست عليها العقلانية الإغريقية من أفلاطون إلى أرسطو. وهي عقلانية، كما نعلم، نهضت على أسس معلومة مثل :
– مبدأ الهوية: (أ) =(أ)، وهو مبدأ فلسفي تعبر عنه ضرورة منطقية بعينها، فهي تؤكد أن الموجود هو دائماً ذاته، لا يلتبس بما ليس هو، فهو عين ذاته، فالشخص هو الشخص مهما اعترته من تغيرات(29).
– مبدأ الثالث المرفوع: (أ) إما صحيحة وإما خاطئة. حيث لا يوجد حل ثالث بينهما، فالقضية (أ) عند ارسطو، إما هي (ب) أو هي ليست (ب)، ولا يوجد احتمال ثالث.
– مبدأ عدم التناقض، ووفقه يستحيل أن يكون الشيء (أ) ولا (أ) في نفس الآن.
إن هذه الأسس هي جوهر العقلانية الإغريقية، التي انبنت على مبدأ مفاده أن المعرفة هي إمساك بالسبب، ولكن إلى جانب هذه العقلانية، فإن العالم الإغريقي كان على الدوام فريسة لفكرة اللانهائي. إن اللانهائي هو الذي لا يملك حدودا، إنه ينزاح عن القاعدة، و«لأن الحضارة الإغريقية كانت مهووسة بفكرة اللانهائي، فإنها بلّورت، على هامش مبدأيْ الهوية وعدم التناقض فكرة المسخ الدائم مرموزاً إليها بـ هرمس»(30).
وإذا كانت الصلة الإيتمولوجية بين الهيرمينوطيقا وهرمس تثير الشكوك، فإن «الصلة بين خصائص الهيرمينوطيقا وخصائص الإلٓه هرمس هي صواب مؤكد ويقين لا شك فيه»(31)، فالهيرمينوطيقا هرمسية قلباً وقالباً من حيث هي فن الفهم وتأويل النصوص.
الهرمسية التي سادت في القرن الثاني الميلادي كانت تبحث عن الحقيقة المجهولة لديها، وكانت تقول «إن الأشياء كثيرة يمكن أن تكون صحيحة حتى لو تناقضت فيما بينها»(32)، لأن «الحقيقة شيء ينتمي إلى حياتنا اليومية منذ بدء الخليقة، إلا أننا نسيناها»(33)، لذلك فرحلة البحث عنها غير معلومة وسيرورة تأويلها بدون نقطة وصول.
بل إن هرمس ذاته «لا ينتمي إلى موضع بعينه، وليس له محل إقامة دائم فهو دائماً في الطريق بين هنا وهناك»(34). أي ليس له محطة إقامة، أو بداية معلومة ونهاية معلومة. وهو لذلك «أصلح مًن يكون إلها لتأويل النصوص لأن حل مشكلة تفسيرية ما قد يأتي بتوفيق هرمسي»(35).
لقد قادنا امبرتو إيكو، وهو يبحث عن أصول الهيرمينوطيقا، إلى دهاليز التاريخ والأساطير والفلسفة والمنطق والحركات الصوفية والباطنية، وكانت الهرمسية واحدة من تلك الأصول، والهرمسية تيار كان يستند إلى فكرة اللانهائي، والى فكرة السر كما أسلفنا، فكل كلمة وكل جملة ليست سوى سر يحيل على سر آخر، وكلما اقتربنا من هذا السر وجدنا أنفسنا أمام سر آخر يحتاج إلى سر آخر والأغبياء وحدهم هم الذين ينهون السيرورة قائلين: لقد فهمنا(36). أو يقول: لقد وجدتها، لقد وجدتها، أي الحقيقة.
وبذلك فالتأويل عند الهرمسية لا يروم حداً، ولا يبتغيه لنفسه، لا يريد الوصول الى غاية بعينها، وإنما غايته الأسمى هي إطالة السيرورة عبر توالد الإحالات، «لأن اللذة كل اللذة هي ألا يتوقف النص عند الإحالات، وألا ينتهي عند دلالة بعينها»(37).
ونجد محمد عابد الجابري يرى أن الهرمسية، أسطورة هرمس، لم تكن خاصة بفيلسوف دون غيره في ذلك العصر، أي القرن الثاني الميلادي. بل كانت ظاهرة للعصر كله، بل يمكن القول، بصورة عامة، إن العرفان كان هو النظام المعرفي الذي ساد العصر الهلنستي بمراحله الثلاث، التي تمتد من أواخر القرن الرابع قبل الميلاد الى منتصف القرن السابع بعد الميلاد.(38)
ويضيف الجابري أيضاً في كتابه (تكوين العقل العربي) على أن أوفى دراسة عن الهرمسية هي تلك التي قام بها الباحث الفرنسي فيستوجيير(39) Festugière، الذي حقق النصوص الهرمسية وترجمها إلى الفرنسية في أربعة مجلدات ثم أردفها بدراسة عامة للفكر الهرمسي في أربعة مجلدات أخرى(40). عنوانها الكبير (أفول العقلانية اليونانية لأسباب تاريخية واجتماعية عديدة)، حيث انتشرت أطروحات الشك مما جعل العقل اليوناني يبدو وكأنه يلتهم نفسه(41).
إن هذه الهرمسية التي كانت ظاهرة تميز ذلك العصر كله، كانت تسند النموذج التأويلي القائم على فكرة اللامحدود، حيث، إن «الاحالات حرة وعفوية ولا تحكمها أية غاية ولا تسير نحو أي دليل بعينه»(42)، فكان هدفها هو توالد هذه الإحالات وتناسلها في اتجاه اللانهائي، الى درجة ان كل الأفكار صحيحة حتى لو تناقضت، وكل المدلولات ممكنة حتى لو كانت عبثية.
ويرى إيكو إن من الخصائص الرئيسية للمتاهة الهرمسية قدرتها على «الانتقال من مدلول إلى أخر، ومن تشابه إلى أخر ومن رابط إلى أخر دون ضابط أو رقيب»(43)، وغياب هذا الضابط أو الرقيب يجعل السيرورة التأويلية متنوعة ومتعددة ومشرعة على اللانهائي.
هذا التدفق الهرمسي القائم على العفوية والانسيابية لا يقف عند حد، «لأن كل شيء، كما يرى إيكو، سواء كان أرضياً أو سماوياً، يخفي داخله سرّاً. وكلما تمّ الكشف عن سرّ ما، فإن هذا السرّ سيحيل على سرّ آخر، ضمن حركة تصاعدية موجهة نحو سرّ نهائي»(44)، هذا السر النهائي موجود، لكنه، سر يخفي سرّاً. «ذلك أن الذي يزعم انه قادر على الكشف عن هذا السرّ لم يأخذ بعد حظه الكافي من الاستئناس، ولم يتجاوز حدود المعرفة السطحية للسرّ الكوني»(45).
إن الفكر الهرمسي لم يختفِ، ولن يختفي، فهو بقي، حسب إيكو مع أعمال الخيماويين والقبالين(46) اليهود في القرون الوسطى الذين يقولون بوجود ظاهر وباطن للنصوص الدينية، ولا يمكن لغير الخاصة فَك غوامض مغلقة، ويمكن الاستدلال هنا بأعمال موسى الليوني الذي عاش على تخوم الغرب الإسلامي في قشتالة في النصف الثاني من القرن الثالث عشر في مؤلف (سفر هَزُّهَرْ)(47). فالمتصوف القبالي الممارس للتأويل يرى في النص ظاهراً وباطناً.
بل إن الهرمسية تجلّت في عصرنا الحاضر في الفكر التفكيكي القائم هو الآخر على التقويض والهدم وإعادة البناء، وعلى التشتت والتأجيل واللانهائية، أليست قولة پول ڤاليري الشهير، «لاوجود لمعنى حقيقي للنص»، قولة هرمسية بامتياز كما يقول إيكو(48)، ثم نجد تحليلات هوسرل وهيدغر وبارت ودريدا وڠريماص ونيتشه، كلها تحليلات ترى في التأجيل الدائم لدلالة النص، وغموض النص وتمنعه عن تقديم كل ما يملك من معاني ودلالات إلى قارئه، ترى في كل ذلك ثراء لهذا النص.
إن الحياة، في نظر العديد من الهرمسيين المعاصرين لا تبلغ أقصى اكتمالها إلا في اللحظة التي تبدو فيها كل الأشياء قد فقدت دلالتها، فالكل يسعى إلى توسيع مدى اللادلالة واللامعنى. حتى أصبحنا نعيش بلا دلالة وبلا معنى، حتى أن نيتشه نادى بعدمية تعني «قلب كل القيم القائمة حتى الآن»(49)، لأن «الخضوع للأخلاق ليس في ذاته أخلاقاً» كما يقول في جينالوجيا الأخلاق.
إن النص في العرف التفكيكي إشارة بلا شيء يشار إليه، ودال بلا مدلول، وكلمات بلا قصد، وأن كل قراءة هي إساءة قراءة، وبأن الحقيقة هي أنه لا وجود لحقيقة، وبأن أصل الأثر هو الآخر أثر يبحث عن أصل، و«أن تثبيت معنى باعتباره المعنى الحقيقي للنص يمثل عملية اختزال، حسب التفكيكيين، مخلة للنص الأدبي لأنها تحرم النص قدرته على تعدد الدلالة وتفجر المعنى… لأن النص عملية إنتاج مستمرة للدلالة، وأننا كلما ثبتنا معنى ما للنص، يفاجئنا النص أو علاقة التفاعل المستمر بين النص والقراءة، بقدرته على إنتاج نص جديد… إن كل قراءة هي إساءة قراءة»(50).
إذا كانت الهرمسية تنهض على مقولة اللانهائية، فإن التفكيكية تؤمن بلانهائية التأويل هي الأخرى، هذه اللانهائية تعني، «في الفكر التفكيكي انزلاق أو انجراف المعنى إلى ما لانهاية بحيث لن يكون بإمكاننا أن نتوقف عند معنى معين لنقول أنه معنى النص»(51)، أي النص يمكن أن يقول أي شيء، والمعنى الحقيقي له هو لامعناه، أو هو فراغه من المعنى.
يقول ميشل ريڤاتير معرّفاً القصيدة بأنها نص «يقول شيئاًً ويعني شيئاًً آخر»(52)، ويزيد هانز جورج ڠادامر بقوله «الشعري يحتفظ دائماً بخاصية غير محددة على نحو غريب، وهو أنه من خلال الشمولية الفعلية للغة، يقدم الشعر شيئاً يظل مفتوحا على جميع أنواع القول التخييلي»(53).
إن الاعتراف بكون المؤلف لا يعرف معاني نصه كلها، وبكونه يعجز عن إدراك دلالاته فتح المجال واسعاً أمام القارئ ليشارك المؤلف بناء النص وتشييد عوالمه، لقد قال الشاعر براوننج: «حينما كتبت القصيدة كان إلٓه وأنا فقط نعرف معناها أما الآن فالله وحده يعرف»(54).
لذلك كله، فإن إيكو يعتبر أن الفكر الهرمسي لا زال يسري بيننا بإخراج معاصر، وبمسميات جديدة كالتفكيكية مثلا. لأنه «ليس من العسير كما قال إيكو، العثور في النقد ما بعد الحداثي على مفاهيم كثيرة تحيل على فكرة الانزياح الدائم للدلالة. فالفكرة التي عبر عنها پول ڤاليري القائلة «لا وجود لمعنى حقيقي للنص، هي فكرة هرمسية»(55)، بل إن الفكر المعاصر بمجمله يغلب عليه النفس الهرمسي كما ذهب جلبير دوران، وقد تجلى ذلك في أعمال سينغلر، بولي، ديلتي، نيتشه، هوسرل، أنشتاين، باشلار، ليڤي ستراوس، فوكو، دريدا، بارث، تودوروف، تشومسكي، ڠريماص، دولوز.(56)
إن التواصل الأدبي أصبح يوسم بالخاصية التأجيلية التي ينظر إليها على أنها صانعة غنى النصوص بطريقة أو بأخرى، فالنص ينفتح على تعدد التأويلات حينما يتلقى خارج إطاره الأصلي، فكل قارئ جديد يحمل معه تجربته وثقافته وقيم عصره، فـ پيار باربريس يمكنه أن يؤول روايات بالزاك على ضوء الماركسية، وشارل مورون يعييد قراءة مالارميه من خلال التحليل النفسي(57). إن القراءة والتأويل حق مكفول لكل قارئ، لا ينازعه فيه أحد، فالنص بَصْلَةٌ ضخمة، بلغة محمد مفتاح، لا ينهي تقشيرها، وأن السياق العام للنص لا أهمية له في التأويل، لأن المقصود ليس الوصول إلى حقيقة ما يتحدث عنها النص، وإنما الهدف تحقيق المتعة(58)، أو هو «التأويل التوليدي الذي تتضاعف معه مقولات النص ودلالاته وتتشعب، فالمدلول النهائي سرّ يستعصى على الإدراك»(59)، كما يقول إيكو.
إن السيميوزيس الهرمسية «تبحث في كل نص، كما في النص الكبير للعالم، عن امتلاء المدلول لا عن غيابه، ومع ذلك فإن العالم الذي تغزوه الذاتيات ويحكمه مبدأ الدليل الكوني، ينتج انزلاقات دلالية لا تتوقف. ومن ثم فهو يحيل على أي مدلول»(60). وهذا ما جعل الهرمسية تعد في بعض الحالات مزلزلة للعالم، فهي تحدث،كما قال هيدغر «تحولاً في الفكر»(61). إن هذه الانزلاقات الدلالية نتيجة ما اسماه إيكو بمبدأ الانتقال المزيف(62)، حيث وفق هذا المبدأ، فإن أي تشابه بين شيئين يمكن أن يتم الانتقال منه إلى علاقة أخرى، فالنبتة لا تتحدد انطلاقاًً من خصائصها المرفولوجية والوظيفية، بل تتحدد انطلاقاًً من تشابهها مع عنصر آخر داخل الكسموس. حتى ولو كان هذا التشابه تشابهاً جزئياً، فإذا كانت هذه النبتة تشبه، بشكل عام جزءاً من الجسم الإنساني، فدلالتها آتية من كونها تُحيل على الجسد، وهذا الجزء من الجسم له دلالة لأنه يحيل بدوره على نجم، وهذا النجم له دلالة لأنه يحمل على تراتبية ملائكية، وهكذا إلى ما لانهاية(63).
ووضع إيكو معادلة لهذا المبدأ، الانتقال المزيف، كما يلي: اذا كانت (أ) لها علاقة بـ (ب) ولـ (ب) علاقة (ع) بـ (ج)، فإن (أ) سيكون لها علاقة (ع) بـ (ج).(64)
ب. الغنوصية
لقد اعتبر إيكو، الغنوصية واحدة من الأصول الهامة والرئيسة للهيرمينوطيقا زيادة على الهرمسية، فهو يعتبر «أن الهرمسية، هذا المنهج الذي حاد عن المعيار العقلاني الإغريقي واللاتيني، سيظلّ ناقصاً إذا نحن لم نستحضر ظاهرة أخرى عرفت النور في نفس الفترة التاريخية. فتحت تأثير رؤى صاعقة، بلور إنسان القرن الثاني الميلادي، وهو يتلمس طريقه في بحر الظلمات وعياً عصابياً يتعلق بدوره داخل عالم غير قابل للفهم، هذه الظاهرة أو هذا التعبير الثقافي عن هذه الحالة النفسية هو الغنوصية»(65).
والغنوصية بحسب الجابري هي جملة التيارات الدينية التي يجمعها كونها تعتبر أن «المعرفة الحقيقية بالله وبأمور الدين هي تلك التي تقوم على تعميق الحياة الروحية واعتماد الحكمة في السلوك، مما يمنح القدرة على استعمال القوى التي هي من ميدان الإرادة. فالعرفان يقوم على تجنيد الإرادة وليس على شحذ الفكر، بل يمكن القول أنه يقوم على جعل الإرادة بديلا عن العقل»(66).
إن الجابري يعلن منذ البداية أن الغنوصي كائن روحاني لاعضوي، يهتم بالروح أكثر من الجسد، يفكر بالقلب أكثر من العقل، وذلك قصد التخلص من عالم المادة المدنس، ومعرفة الغنوصي أسمى من معرفة العوام والمؤمنين البسطاء، وأرقى من معرفة علماء الدين الذين يعتمدون النظر العقلي. لأنه يتجاوز حدود الواقع وتخوم المعقول، فمعرفته تدعي أنها مشيدة على نوع من المعرفة فوق المعرفة العقلية، وأسمى منها، معرفة باطنية، ليس بأمور الدين فحسب، بل أيضاً بكل ما هو سرّي وخفي، كالسحر والتنجيم والكيمياء.(67)
وهذا يعني أن الغنوصي أساس معرفته الوجدان والقلب وليس العقل، معرفته عرفانية حدسية، معرفة يتم التوصل إليها بنوع من الكشف، حيث أن هذه «المعرفة تلقى في النفس إلقاء فلا تستند على الاستدلال أو البَرْهَنَة العقلية»(68)، ويحدث هذا بعد ما تتخلص النفس من وجودها الفيزيقي المادي عن طريق ضروب الرياضات والمجاهدات الصوفية التي تمكن النفس من السيطرة على نوازعها الشريرة، وتتحد الذات العارفة بموضوع المعرفة وتحل فيها.
إن الغنوصي «ينظر إلى نفسه باعتباره كياناً منفياً وضحية لجسده الخاص، معتبراً هذا الجسد قبراً ومنفى، لقد قذف به الله إلى هذا العالم، وعليه أن يجد مخرجاً منه»(69)، ولعل المخرج هو تعذيب هذا الجسد بحرمانه من كل ملذات الحياة الدنيوية، وعن طريق حرمان العقل من ممارسة آليات القياس والبرهنة والاستدلال والاستنباط وغيرها من ركائز العقلانية اليونانية التي أرسى أسسها أرسطو.
إن العقل، بلغة الجابري، مع الفكر الغنوصي استقال، استقالة العقل(70)، وشيء طبيعي، فإنه عندما يغيب العقل تحضر الخرافة، ويحضر اللامعقول، «إن الوحي الغنوصي يقول، بطريقة أسطورية، إن الألوهية ذاتها، الغامضة، وغير المعروفة، تحتوي مسبقاً على الأصل المولد للجنون وعلى الغنوصية، وهو ما يجعلها كياناً متناقضاً منذ البداية، لأنها لا تتطابق مع نفسها… إن العالم الذي خلق خطأ هو كون مجهض، فالزمن، تلك المحاكاة المشوهة للخلود، يعد أحد مظاهر هذا الإجهاض»(71).
لقد استقال العقل مع الغنوصية، وبدأ يستمد العون من قوى غيبية طالباً منها الإلٓهام أو الوحي، أي أن هذا العقل بدأ يعتمد على مصدر آخر للمعرفة خارج الحس والعقل، إن الغنوصي يتعكز على المعرفة الحدسية الباطنية، ويتواصل مع الحقيقة من خلال بصيرته الداخلية ذوقاً وكشفاً وإلهاماً، هذه المعرفة هي التي تحرر الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع لتعود إلى مصدرها حيث كانت قبل الهبوط(72)، فالغنوصية معتقد خلاصي، وكل مفاهيمها وتصوراتها تدور حول فكرة الخلاص والتحرر والانعتاق.
إن الإنسان بدأ رحلته الشاقة لإعادة التواصل مع الإلٓه وقهر الانفصال والعودة للعالم الذهبي منذ أن غضب الإلٓه لسبب ما على هذا الإنسان الذي كان معه شركاء في عالم واحد، فاعتزل الإلٓهي الإنساني تاركاً إياه وحيداً يواجه مصيره بنفسه، ومنذ تلك الغضبة، وذلك الطلاق، والإنسان يبحث عن كل السُبُل، وبكل الطرق لكسب رضى الإلٓه الغاضب، وإعادة الصداقة الأولى كما كانت، وإن كان من تلك الطرق، ومن تلك السُبُل قهر النفس وتعذيب الجسد، هذا ما تقوله الأسطورة.
إن الخلاص هنا يعني التحرر من قيود الواقع الفيزيقي، المادي، ويكمن ذلك في تعلم الأسرار الخفية ومعرفة أصل الروح ومصدرها الحقيقي، وجعل الروح الخيرة في مواجهة الجسد الشرير، وذلك بإتباع سياسة التقشف وتعذيب الجسد. فالغنوصي يقول إن البشر محاصرون في أجسادهم، رهائن أجسادهم، فالجسد يغلفهم ويحد من ليبراليتهم، لذلك عليهم، أولاً وأخيراً، الخلاص من هذا الجسد السجن، ليعرفوا أنفسهم طبقاً للحكمة الشهيرة القديمة المنقوشة على جدار معبد (دلفي) في اليونان والمؤلفة من كلمتين اعرف نفسك.
إن الجسد في الفكر الغنوصي ثوب نرتديه لمدة معينة ثم نخلعه ونتخلص منه إلى الأبد، والروح لا تتخلص من هذا الثوب المؤقت إلا عبر الغنوص، الذي يحتقر الجسد الذي يمثل الفقر المدقع مقابل هذه الروح التي تمثل الثروة العظيمة! فمن لم يتخلص منه فهو في ظلمات الجهل، والذي تخلص منه يتلاشى عنده الظلام أمام نور الصباح، وهذا هو حال العرفان جميعاً بمن فيهم العرفان الإسلامي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

الوعي الهرمينوطيقي و ضرورة تجديد الفهم الديني حسـن الخطيـبـي :: تعاليق

فالإنسان الغنوصي، حسب إيكو، «هو إنسان كلي»(73)، في مقابل ضحايا المادة. إن الذين ينتمون إلى الروح هم وحدهم القادرون على الوصول إلى الحقيقة، وبالتالي إلى الخلاص(74)، وبذلك فالغنوصية «دنيا للأسياد وليست دنيا للعبيد مثل المسيحية»(75)، وعليه يمكن لنا نحن القول وفق هذا الفكر: ليس كل فكر عقلاني هو بالضرورة فكر صحيح، وليس كل فكر مناهض للعقل بالضرورة فكراً خاطئاً.
إن الغنوصية كنتاج فكري، تتأسس تأسيساً راسخاً في الفعل الإنساني العام المتمثل في التفكير في الوجود. لقد كان الغنوص يطرح أسئلة معاصرة مثل التي طرحتها الفلسفة المعاصرة: الوجود في العالم/الدازين، بمعنى من نحن؟ ومن أين أتينا؟ وإلى أين نتجه؟
ورغم أن هذه الأسلة توحي لنا بأن سبب ظهور الفكر الغنوصي ديني بامتياز، فإن الحقيقة تقول إن أسباب ظهوره كثيرة وليست دينية فقط. فهناك أسباب إيديولوجية وسياسية واجتماعية واقتصادية، كما هو الحال عندما نتحدث عن عوامل ظهور التصوف في الإسلام، فالغنوصية يمكن النظر إليها كحركة تمرد على هذه الأوضاع جميعها وضد مسبباتها، ورفض الخطاب الديني الرسمي الذي يختزل العلاقة بين الإنسان والله في النص المقدس فقط بغرض الفصل بين الإلٓهي والإنساني، ويحتكر تأويل النص لما يخدم الحكم الاستبدادي المطلق.
إن الغنوصي يطالب بعلاقة مباشرة بينه وبين ربّه، علاقة متواصلة بدون وسائط، بهدف خلق عالم مفتوح، تغيب فيه سلطة الإكراه وسلطة التوجيه المضبوط بقواعد مسبقة صاغتها نخبة معينة قصد تطويع العامة ونفي كل أشكال الاختلاف بين الرعية، لذلك فإننا نقول ما قاله الجابري حين اعتبر أن للظاهرة العرفانية جانبين متمايزين: «العرفان كموقف من العالم، والعرفان كنظرية لتفسير الكون والإنسان»(76).
وعلى الرغم من أن الجانبين معاً يبدو وكأنهما متداخلان ومترابطان ومتلازمان، فإن الغنوصي ابتدأ بالغنوصية كموقف، كرؤية لهذا العالم أكثر من ابتدائه بأمور الدين. موقف نفسي وفكري ووجودي. بل، موقف عام من العالم يشمل الحياة والسلوك والمصير. موقف يتأسس على الانزواء والهروب من العالم والتشكي من وضعية الإنسان، وبالتالي الجنوح إلى تضخيم الفردية والذاتية، أي «تضخيم العارف لأناه»(77).
إن الوعي، حسب الغنوصية، قائم على الحدس، وهذا ما سيشرع باب التأويل على مصراعيه، حيث أن الحدس خاص وليس عام، مرتبط بالذات العارفة لا بسواها، إذ من المستبعد أن يلتقي غنوصيان في القضية الواحدة، هذا هو عين ما قاله الجابري: «إن الحقيقة العرفانية سواء على مستوى التأويل أو مستوى الشطح ليست حقيقة عامة كلية، بل هي حقيقة ذاتية وظرفية، تخص الشخص الواحد تستمد كل صدقها من قراره واختياره»(78).
وبذلك، فالغنوصية فكر يتأسس على لانهائية التأويل، وهذا هو ما تؤكده الهيرمينوطيقا المعاصرة حين تعتبر أنه «لا يوجد تأويل صحيح للنص، مطلقاً، وإنما توجد تأويلات متعددة»(79)، كما يقول هيرش، متعددة بتعدد العارفين/المؤولين. وعليه، فالحقيقة الهيرمينوطيقية/الغنوصية «حقيقة إمكانية لا تخضع للمبادئ المنطقية، أي أنه لا يمكن أن نميز بين تأويل صحيح وتأويل غير صحيح»(80)، فالأفق التأويلي رحب جداً لا تخوم له، وأن فهم الشيء، مهما كان هذا الشيء، لن يكتمل.
نخلص بعد هذا، إلى أن الهيرمينوطيقا، في بدايتها، ارتبطت بالنص المقدس، إذ أن نشأتها الأولى نشأة دينية محضة، ويمكن لنا اعتبار ماتياس فلاسيوس أول الثوار على احتكار المؤسسة الدينية سلطة التأويل وتفسير النص المقدس، حيث ثار على سلطة الكنيسة على تفسير وتأويل النص المقدس، واحتكارها لتلك السلطة، ولقد اقترح فلاسيوس أولوية التراث في تأويل بعض المقاطع الغامضة من النص وطابع الاستقلالية في فهم محتوياته بمعزل كل إكراه أو توجيه قسري.
لقد رفض فلاسيوس توجيه فعل التأويل بقواعد سابقة على عمليات التأويل نفسها، سواء أكانت هذه القواعد والموجهات إيديولوجية أو غيرها، وهو بذلك يعود له كامل الفضل في تأسيس حلقة فن التأويل.
إن فلاسيوس تنبه إلى أهم أسس فن التأويل، وهو ضرورة التخلص من الموجهات الأيديولوجية لفعل التأويل، فالتأويل غير خاضع لقوانين ثابتة ومساطر دقيقة لا يجب الزيغ عنها، إنه ملكة ملازمة لكل فعل إدراكي يقصد الفهم، وبذلك فهو متغير بتغير المؤولين، فهو طاقة ذهنية مرتبطة بقدرات الذوات وتفاعلاتها مع المقامات وسياقات التواصل والمعارف الخلفية، وهو بهذا المعنى تحقق فردي أكثر منه جماعي.
ولكن فلاسيوس أغفل عوامل أخرى، وهي قراءة كل كتاب في ضوء مختلف الظروف التاريخية والاجتماعية والسياقات والاستعمالات اللغوية ما يقول محمد شوقي الزين.(81)
 

الوعي الهرمينوطيقي و ضرورة تجديد الفهم الديني حسـن الخطيـبـي

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» الإصلاحات الجذريّة لا تجديد الخطاب الديني..
» في ضرورة الإصلاح الديني .. عود على بدء عبد الله بن عمارة
» التماهي بين عـدم الفهم... وسوء الفهم
» هل الوعي حقيقي؟ محاولة جديدة من الفيلسوف دانييل دينيت لتفسير الوعي
»  2013-07-21 نقد الفكر الديني، اللاهوت العربي وأصول العنف الديني نموذجا

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: